|
حروب على الحضارة والتاريخ
معتز حيسو
الحوار المتمدن-العدد: 4848 - 2015 / 6 / 25 - 11:41
المحور:
مواضيع وابحاث سياسية
ما زالت شعوبنا محكومة بمنطق الوحدانية المطلقة، والوعد بالخلاص الإلهي. يقابله في سياق مترابط أشكال من سياسات حزبية، قومية، عرقية، دينية، أحادية، وإن بأشكال ومستويات مختلفة. ويتساوق ذلك بمستوى ما مع حداثة شكلانية منفكّة من عقالها العقلاني والإنساني. فكان ذلك بمثابة مقدمات إلى تعميق التخلف والاستبداد والنهب. ولم يكن غريباً أن يقود ذلك إلى ما نشهده من دمار شامل وعميق. ويشكّل داعش في السياق المذكور أحد حلقات سلسلة الدمار والخراب. فهو دخل من أبواب الوحدانية المطلقة والتخلف والقهر المعمم. فكان أحد الحالات التي يتم من خلالها نبش أسوء ما في تراثنا من تخلف وقهر. ويندرج في إطار تلك الوحدانية المجزرة التي ارتكبتها الحكومة التركية بدوافع قومية شوفينية ضد مواطنيها من الأرمن، وقد أودت بحياة أكثر من مليون إنسان. وتم استكمالها بعمليات تطهير عرقي أدى إلى طرد ملايين من غير الأتراك المسلمين من ديارهم الأصيلة« ثلاثة ملايين من الأرثوذكس الناطقين باليونانية، مئات الآلاف من الأقليات الآشورية والسريانية والكلدانية والمسيحيين العرب». في ذات السياق تم الاستيلاء على أراض سورية كانت في عهد الدولة العثمانية تابعة لولاية حلب. وكانت آخر تلك المناطق لواء الاسكندرون وأنطاكية التي أهدتها فرنسا للدولة التركية قبيل الحرب العالمية الثانية. أما تنظيم «داعش» فإنه يستكمل مسلسل طمس التراث العراقي الذي بدأه الاحتلال الأميركي. فهجرة المسيحيين تزداد، فيما الإيزيديون كانت لهم حصة كبيرة من المأساة التي لحقت بالعراق. في ذات السياق دمّر داعش حوالي 42 كنيسة، و25 معبداً يعود إلى الإيزيديين، وأعداداً كبيرة من المساجد والحسينيات ومراقد الأنبياء والأولياء، وأكثر من 46 موقعاً اثرياً« مدينة النمرود، رأس الثور المجنّح، قلعة تلعفر، مقام الخضر، موقع الكرابلة، المتحف في مدينة الموصل» وكشفت اللجنة المالية في مجلس النواب العراقي، أن «داعش» باع قطع أثرية عراقية بقيمة مليار و200 مليون دولار. وفي ذات السياق، أوضح خبير الآثار عامر عبد الرزاق أن «تنظيم داعش سيطر على ما يقارب أربعة آلاف موقع أثري بعد احتلاله لمحافظات نينوى وصلاح الدين وديالى وكركوك»، وأضاف« في نينوى فقط، نحو 1700 موقع آثري نهبها داعش وفجر أغلبها» وأضاف أن «الآثار أصبحت مصدراً لتمويل داعش من خلال بيعها بعد تهريبها عن طريقين، الأول تركيا، والثاني من مدينة الرقة السورية، ومن ثم إسرائيل، وبعدها قبرص ودول العالم الأخرى»، وأشار إلى أن «سرقة وتدمير الآثار العراقية جاءا باتفاق دولي ...». إن ما يقوم به داعش من تهجير وقتل وتدمير لا ينفصل بدلالاته عن المجزرة التي تم ارتكابها بحق ألاف الأكراد في حلبجا، وأيضاً يندرج في سياق ما قامت به قوات التحالف عام 2003 أثناء غزوها للعراق من عمليات إبادة ضد العراقيين. فحصار العراق أودى بحياة أكثر من مليون طفل، هذا دون احتساب عدد ضحايا قصف قوات التحالف آنذاك. وكان ذلك يتم تحت يافطة « الديمقراطية ». أيضاً كان تجلياً لأحادية دينية وأخرى سلطوية سياسية حزبية إضافة إلى أحادية دفعت السياسة الغربية إلى تفكيك أوصال العراق، تمهيداً إلى تشكيل دويلات سنيّة وشيعية وكردية، ما أدى عملياً إلى استشراء إرهاب «القاعدة» الذي كان من أسباب إفراغ البلاد من أقلياتها كافة. أما في فلسطين ومنذ 1948 يقوم الصهاينة بعمليات التطهير العرقي ضد العرب كافة وضد من لجأ إلى فلسطين. وقد صرّحت ﻏﻮﻟدا مائير، رئيسة وزراء حكومة العدو عندما قام يهوديّ مُتطرّف بإحراق ﺍﻟﻤﺴﺠد الأقصى في الـ21 من شهر آب (أغسطس) 1969، «بأنها لم تنم ﻟﻴﻠﺘﻬﺎ ﻭتخيلت أن ﺍﻟﻌﺮﺏ سيدخلون إسرائيل أفواجاً ﻣﻦ كلِّ حدب وصوب، ﻟﻜن عندما طلع ﺍﻟﺼﺒﺎﺡ ولم يحدث أيّ شيء ﺃﺩﺭﻛﺖ ﺃنّه باستطاعتهم ﻓﻌﻞ ما يشاؤون، فهذه أمّة نائمة». ويتزامن ظهور «داعش» وتسارع سيطرته على مساحات واسعة من سوريا والعراق، إضافة إلى اشتغاله على توسيع نفوذه في دول أخرى مثل اليمن وليبيا والسعودية ومصر .. . مع تجاهل التحالف الغربي - العربي لما يقوم به من عمليات تطهير وإبادة للأقليات، وتدمير معالم الحضارة العربية والإسلامية. وعلى الرغم من إصدار مجلس الأمن القرار 2199 الذي يطالب بالمحافظة على الآثار في العراق وسوريا، لكنه لم يجد له حتى الآن طريقاٌ إلى التنفيذ. بدليل أن عمليات التحالف تنحصر في «صد داعش» عن المناطق الكردية، في وقت يتجاهل ما يقوم به«داعش» من عمليات تستهدف الجيشين السوري والعراقي، ومصادر الطاقة، وبشكل خاص المناطق الأثرية. وتجلّى ذلك بشكل واضح عندما تقدمت جحافل داعش لاحتلال مدينة تدمر التي يعود تاريخها إلى أكثر من ألفي عام. أما «النصرة» وفصائل معارضة مسلحة أخرى، فإنها عاثت فساداً وتدميراً بالآثار الآرامية ـ السريانية في صيدنايا ومعلولا وقلعة الحصن. وتزامن ذلك مع تدمير التماثيل والأضرحة والمقامات وكل ما له علاقة بذاكرة الإنسان وتاريخه في سوريا. تلك الوحدانية بكافة تجلياتها وتلوناتها تقتلع جذور تعددية حضارية تطورت على مدى خمسة آلاف سنة، ومنها نهل الإغريق والعرب ثم الأوروبيين في عصور النهضة. ودمّرت ما عجزت عنه الحروب الصليبية وحملات التتار. فهل من عجب أن تقوم الرياض وهي منبع الوهابية والأحادية، بما تقوم به في سوريا بعد أن سلَّمت زمام أمورها للغرب الإمبريالي. ويتقاطع ذلك مع ما تقوم بها حكومة أردوغان المدافعة عن الأخوان في مصر وعن داعش والأخوان المسلمين في سوريا. وذلك ليس طارئاً على السياسات العثمانية التي اشتغلت على إعاقة نهوض المجتمعات العربية حتى مطلع القرن الماضي. وبعدها استكمل الغرب الاستعماري إغلاق آفاق مستقبلنا وربطه وظيفياً بالرأسمالية المعولمة. أما ما نشهده في اللحظة الراهنة، فإنه يمثل منعطفاً تاريخياً يشارك في صنعه أطراف متشابهة ومتناقضة بآن واحد: فكر غيبي عدمي، معسكر الوهابية، زعامات سلطوية شمولية، ورأسمالية غربية حداثوية مأزومة. والأخيرة تشتغل على إنتاج واستهلاك التسلط والعدمية الجهادية التكفيرية في سياق صراع ترسم أبعاده وحدوده من الخارج. والهدف من ذلك تدمير حضارة وتاريخ الشعوب، وصولاً إلى تدمير الإنسان والبيئة والجغرافيا السياسية والطبيعية. ويُعبّر ذلك بشكل ملحوظ عن تقاطع أهداف وسياسات غربية أحادية مع الوهابية وأنظمة أحادية. وهذا يؤكد مجدداً على أن الصراع المحتدم في المنطقة يخدم مصالح الغرب الاستعماري، ويضمن استمرار أنظمة وممالك ترتعش خوفاً على عروشها المأزومة والمهزومة. لكن أن تسعى دول عربية إلى التصنيع وبناء بنية بشرية وتقنية متطورة. فإنه بالنسبة للغرب أمر يهدد مصالحها. لذا تسعى إلى كبح سياق تطور دولنا، وأفضل سبيل إلى ذلك، هو تحويل بلداننا إلى مواطن للإرهاب والتطرف، وذلك سيكون مدخلاً إلى تهديم مقدمات وعوامل نهوضنا الاقتصادي والمعرفي واستقرارنا الاجتماعي. ويؤبّد ارتهاننا ويعمق من تبعيتنا السياسية والاقتصادية والعسكرية والمعرفية. لذلك تشتغل استخبارات الدول الغربية ومراكزها البحثية المتخصصة على مراقبة التقدم العلمي والتقني والاقتصادي في الدول النامية، وتضع الخطط لإجهاضه. ويعود ذلك إلى إدراكها أن انفتاح شعوب المنطقة العربية على التطور سوف ينعكس على استثماراتها وتوظيفاتها، وعلى حركة رساميلها العابرة للحدود والجنسية. ومن منطلق تمسّكها باستمرار سيطرتها، فأنها تعمل على ضبط آليات وأشكال وميول التطور في بلداننا وفق أشكال تتناسب مع مصالحها. لهذه الأسباب وغيرها يجرى تدمير العراق وسورية وليبيا واليمن. ولا ينفصل عن ذلك استهداف العلماء السوريين والعراقيين والليبيين واليمنيين. وهناك معلومات تؤكد قيام داعش وجبهة النصرة وآخرين، بقتل العلماء في حلب وحمص والموصل وبغداد. ومن البداهة أن ذلك يندرج في سياق إعاقة العرب وتدمير مقدمات التطور التي تساهم في بناء قوة عسكرية واقتصادية ونهضة علمية بشرية وتنموية مستقلة تمكِّنها من المشاركة والتأثير في صناعة التاريخ. أما تدمير معالمنا الحضارية، فإنه يُعبِّر عن نوازع وميول واشنطن وإسرائيل وآخرين يفتقدون إلى الحضارة والتاريخ. ومن المعلوم أن نشأة وتطور الكيان الصهيوني والولايات المتحدة اقترن بارتكاب المجازر، وتدمير حضارات إنسانية عريقة. وما يجري في منطقتنا يندرج في سياق يهدف إلى تدمير حضارة وتاريخ شعوبنا التي تعود جذورها إلى أعماق التاريخ الإنساني. وفي ذلك تتقاطع توجهات داعش وأخواتها مع ميول إقليمية ودولية تعمل على إعادة شعوب المنطقة إلى أحط مراحلها تخلفاً.
#معتز_حيسو (هاشتاغ)
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
من تجليات الأزمة السورية
-
المشهد السوري في سياق التحولات العالمية
-
مقدمات أولية إلى نهضة
-
في سوريا: دافعوا الضرائب هم الأفقر
-
الترابط بين اليمن وسائر الإقليم
-
تحولات عربية: اليمن ليس وحيداً
-
خرائط تُرسم بدماء السوريين
-
أربع سنوات من الصراع السوري: الحداثة التخلف
-
سوريا: في النموذج الطائفي؟!
-
في أسباب وتجليات انخفاض سعر النفط
-
المرأة السورية... سنديانة في لهيب الصراع
-
آفاق المشروع الطائفي في سوريا
-
الهدم الديموقراطي: قراءة في المشهد السوري
-
الأسرة السورية بين تآكل قيمة الدخل وارتفاع قيمة الاستهلاك
-
السياسة بين العصبية والعقائد الأيديولوجية
-
في مأزق الحوار السوري
-
ماذا يحمل أطفال سوريا إلى المستقبل؟
-
من جنيف إلى موسكو: ما جديد الأزمة السورية؟
-
ماذا يعني تحرير سعر المحروقات في سوريا؟
-
الاقتصاد السوري في نفق مظلم
المزيد.....
-
روبيو يحذر: على أمريكا التخلي عن جهودها إن لم تنته حرب أوكرا
...
-
دولة جزرية نائية في المحيط الهادئ تحصل للتو على أول أجهزة صر
...
-
بعد 4 أشهر من هجوم ماغديبورغ الدامي.. السلطات الألمانية تتبا
...
-
أرمينيا تؤيد والولايات المتحدة ترفض قرارا في الجمعية العامة
...
-
ارتفاع حصيلة ضحايا الغارات الأمريكية على منشأة رأس عيسى النف
...
-
ميلوني تدعو ترامب إلى -إعادة العظمة- إلى الغرب
-
أوزبكستان تناقش مع SpaceX إطلاق قمر صناعي خاص بها
-
روبيو: الأيام المقبلة حاسمة لمسار السلام في أوكرانيا.. وإلا
...
-
واشنطن تتهم شركة أقمار صناعية صينية بدعم هجمات الحوثيين على
...
-
حماس ترفض -الصفقات الجزئية وتسليم السلاح-، ووزراء إسرائيليون
...
المزيد.....
-
فهم حضارة العالم المعاصر
/ د. لبيب سلطان
-
حَرب سِرِّيَة بَين المَلَكِيّات وَالجُمهوريّات 1/3
/ عبد الرحمان النوضة
-
سلطة غير شرعية مواجهة تحديات عصرنا-
/ نعوم تشومسكي
-
العولمة المتوحشة
/ فلاح أمين الرهيمي
-
أمريكا وأوروبا: ملامح علاقات جديدة في عالم متحوّل (النص الكا
...
/ جيلاني الهمامي
-
قراءة جديدة للتاريخ المبكر للاسلام
/ شريف عبد الرزاق
-
الفاشية الجديدة وصعود اليمين المتطرف
/ هاشم نعمة
-
كتاب: هل الربيع العربي ثورة؟
/ محمد علي مقلد
-
أحزاب اللّه - بحث في إيديولوجيات الأحزاب الشمولية
/ محمد علي مقلد
-
النص الكامل لمقابلة سيرغي لافروف مع ثلاثة مدونين أمريكان
/ زياد الزبيدي
المزيد.....
|