|
عالم جديد مدخل
خليل كلفت
الحوار المتمدن-العدد: 4822 - 2015 / 5 / 30 - 01:51
المحور:
مواضيع وابحاث سياسية
فيديريكو مايور بالاشتراك مع چيروم بانديه
عالم جديد ترجمة: خليل كلفت و على كلفت
بمساعدة جان ـ إيڤ-;---;-- لو سو، رانيار جيدماندسون، وفريق مكتب اليونسكو للتحليل والتقديرات المستقبلية
هذه ترجمة لكتاب
Un Monde Nouveau par Federico Mayor Avec la collaboration de Jérôme Bindé
صدرت الطبعة العربية الأولى عن دار النهار للنشر، بيروت بالتعاون مع منظمة اليونيسكو 2002
ترجم خليل كلفت المدخل والفصول من 1 إلى 6 والفصول من 13-16 والفصول من 18-20 والخاتمة وترجم على كلفت الفصول من 7-12 والفصل 17
المحتويات مدخل ........................................................................ 1. نحو عقد اجتماعي جديد .......................................... 1: السكان: قنبلة زمنية؟ ......................................................... 2: فضيحة الفقر والحرمان ...................................................... 3: تغيير المدينة يعني تغيير الحياة ............................................... 4: مستقبل وسائل النقل الحضري: أكثر أمانا، أكثر نظافة، أكثر قربا .............. 5: النساء يحركن العالم .......................................................... 6: النضال ضد المخدرات: التعليم والتنمية والبحث عن معنى ..................... 2. العقد الطبيعي للمستقبل: العلم والتنمية والبيئة ................................................. 7: أن ننمو مع الأرض .......................................................... 8: الصحراء تنمو ............................................................... 9: هل ستظل المياه جارية؟ ...................................................... 10: هل سيكون الطعام كافيا للجميع؟ ............................................ 11: إطعام البشرية بفضل البيوتكنولوجيات؟ ....................................... 12: نحو "ثورة فعالية الطاقة" ..................................................... 3. نحو عقد ثقافي: من مجتمع المعلومات إلى مجتمع المعرفة ........................... 13: ثورة التكنولوجيات الجديدة: المعلومات والاتصالات والمعرفة .................. 14: أيّ مستقبل ينتظر الكتاب والقراءة؟ .......................................... 15: تراث مهدد بالانقراض: اللغات ............................................... 16: التعليم على مشارف 2020: عن بُعْد أم بدون بُعْد؟ .......................... 4. نحو عقد أخلاقي جديد ............................................ 17: هل ستحدث "المعجزة الأفريقية"؟ ............................................. 18: عائدات السلام والأمن العالمي .............................................. 19: أيّ مستقبل لمنظومة الأمم المتحدة؟ ......................................... 20: من أجل ثقافة سلام ......................................................... خاتمة: في سبيل أخلاق للمستقبل ..................................... إشارات ...................................................................... فريق إعداد "عالم جديد"................................................... شكر وتقدير...................................................................
-;---;-- مدخل
"نحن لا نستطيع أن نتكهن بالمستقبل، لكننا نستطيع إعداده"، كما يلاحظ إيليا بريجوجين Ilya Prigogine، الحاصل على جائزة نوبل، أحد أعظم عقول عصرنا، عالم الفيزياء، وعالم الكيمياء، والفيلسوف. وهو يضيف: "كما قال پول ڤ-;---;--اليرى Paul Valéry: ’المستقبل بناء‘. ويتوقف عملنا على ذكرانا للماضي، وتحليلنا للحاضر، واستباقنا للمستقبل"(1). ونحن لا نستطيع أن نتكهن بالمستقبل، لأن الآتي لن يكون أبدا ما كان من قبل. ونحن نستطيع إعداده، حيث إنه ـ بعيدا عن أن يكون مكتوبا في كتاب كبير ـ هو عدم اليقين، التشعب، إبداع المحتمل. ولهذا فإنه أيضا بين أيدينا، لأنه الحرية: سيكون، بجانبه الأكبر، ما سنفعله به. ونحن نستطيع إعداد الآتي، ولكن هل نحن مستعدون للقرن الحادي والعشرين(2)؟ وهذا الكتاب، الذي أعددته بالتعاون مع جيروم بانديه Jérôme Bindé، وبمساعدة جان ـ إيڤ-;---;-- لو سو Jean-Yves Le Saux، ورانيار جيدماندسون Ragnar Gudmundsson، وفريق مكتب التحليل والتوقع باليونسكو، يهدف على وجه الدقة إلى إعدادنا بصورة أفضل للعقود المقبلة، وللاستجابة في الوقت المناسب لتحديات المستقبل. ذلك أن الغد سيأتي دائما بعد فوات الأوان. والحقيقة أن القرن الحادي والعشرين قد قطع، هنا والآن، خطوته الأولى إلى الأمام، ودخلنا فيه دون أن ندرى. وكما أشار أحد المؤرخين الرئيسيين في هذا الزمن إيريك هوبسباوم Eric Hobsbawm (3)، فإن القرن العشرين الذي لم ينطلق إلا في 1914، انتهى مختصرا مدته، في وقت ما حوالي 1989. وقد بدأ القرن العشرون، الذي كان قرن الحدود القصوى، في سياق صخب وعنف الحرب العالمية الأولى، وانقضى تحت صدمات ضربات المعاول التي جعلت سورا ينهار، وفي الوقت نفسه أدى انقلابان طويلا الأمد إلى التغيير العميق لنظرتنا إلى العالم ولبنية مجتمعاتنا ذاتها: -;---;-- الثورة العلمية لعصرنا، التي نقلتنا من عصر يقين وعقائدية إلى محيط من الحيرة والشك: منذ عهد ما يزال قريبا، كان لدينا إيمان، بثقة ساذجة، بقابلية التوقع لظواهر تحكمها قوانين علم يقيني وسائد. ومن الآن فصاعدا، تسلّم النزعة الحتمية القياد لتصور عن الطبيعة والتاريخ مطبوع بطابع الاحتمال. ولهذا فإنه لا يمكن تشبيه القرن الحادي والعشرين بمنتزه مصمم على الطريقة الفرنسية بقدر ما يمكن تشبيهه بـ "حديقة الممرات المتشعبة" تلك الأثيرة على بورخيس Borges: غير أنه في الوقت نفسه، وأمام النماذج الجديدة التي تتمثل في التعقيد، والاتجاه الواحد، والعولمة، وعدم اليقين، تغدو الحرية والإبداعية البشرية هما اللتان تعودان إلى واجهة المشهد. ووفقا لعبارة أميناتا تراورى Aminata Traoré(4)، "الإبداعية أملنا، بما في ذلك، وقبل كل شيء، الإبداعية السياسية". والتاريخ، بعيدا عن أن ينتهي، يتواصل ـ حتى إذا كانت المسرحية لم تعد تكتب سلفا، وحتى إذا كانت شخصياتها تبحث من الآن عن مؤلف. "إن رمية نرد لن تلغي الحظ أبدا". -;---;-- الثورة الصناعية الثالثة(5) التي تحول مجتمعاتنا تحويلا جذريا. وهذا الانقلاب تم رده بتسرع شديد إلى العولمة، أو بالأحرى إلى أحدث أطوارها. ولا شك في أن هذا كان يعنى الخلط بين السبب والنتيجة. ذلك أن الثورة الصناعية الثالثة، المرتكزة على عصر المعلومات والإدخال المتسارع لتكنولوجيات جديدة في كافة مجالات حياة البشر، هي التي تغير العالم الآن، وتصنع منه عالما عالميا. والحقيقة أن الثورة الصناعية الثالثة، المستندة إلى الثورة السيبرنطيقية، ونظام الرموز، وهي ثورة كمبيوتر إلى اليوم وثورة علم الوراثة غدا، تقوم بإخضاع مجتمع الإنتاج المادي لإمبراطورية جديدة، لا مادية، هي إمبراطورية علامات "المجتمع المبرمج"(6). ويتسارع مجيء هذا المجتمع نتيجة للانتشار السريع المندفع للشبكات العالمية، الخاصة أو العامة، وهي الأداة الرئيسية للعولمة وهي التي تقوم بتسريع نموها. وإذا كانت العولمة هي اليوم قبل كل شيء عولمة أجهزة الكمبيوتر، والاتصالات السلكية واللاسلكية البعيدة المدى، والأسواق المالية، ومشهد وسائل الإعلام، والشبكات، فإنما يرجع هذا إلى أن العولمة هي أولا وقبل كل شيء محصلة الثورة الصناعية الثالثة. ووفقا لدانييل كوهن Daniel Cohen فإننا، بعد الثورة الصناعية الأولى، ثورة السكك الحديدية، بقرنين، وبعد الثورة الصناعية الثانية، التي انطلقت مع السيارة والطائرة والكهرباء، بقرن واحد، نواجه من الآن فصاعدا حتى داخل النسيج الاجتماعي النتائج المنطقية لثورة معلوماتية "تجعل من كل واحد منا المحرك الذي لا يتحرك لكمية لا متناهية من التحركات الافتراضية"(7). كل واحد منا؟ نعم. لأن العولمة التي تصحب الثورة الصناعية الثالثة تقوم الآن بشق العالم إلى قسمين: في الوقت الذي يحتفل فيه كوكب "المعولِمين" (فاعلي العولمة) globalisateurs بانتصاره، انتصار المجتمع الذي لا يشكل سوى "خُمْس" البشرية وتسوده "طبقة فائقة" واثقة بنفسها ومهيمنة، هل ننسى كوكب "المعولَمين" (مفعولي العولمة) globalisés، هؤلاء الذين يشكلون أربعة أخماس البشرية الذين يتم تحريكهم أكثر مما يحركون؟ غير أن هذا ليس كل شيء: وكما يلاحظ أحد المؤلفين المشاركين لهذا العمل، هل نبقى سلبيين، في فجر القرن الحادي والعشرين، إزاء "نشأة مجتمع لا معقول تقوم فيه الصلة الاجتماعية بصورة غريبة على تمزيق هذه الصلة الاجتماعية نفسها؟ هناك شبح يسكن العالم: المجتمع المنفصم ... ومن الآن فصاعدا يقوم عصر جديد من العزل والفصل بتفتيت المجتمع، والعمل، والأسرة، والمدرسة، والوطن(8)". وقد لاحظ أغلب المحللين هذه المفارقة، دون أن يفسروها حقا: إن الثورة الصناعية الثالثة والعولمة التي تصحبها ـ بعيدا عن أن تؤديا إلى التجانس، المرغوب فيه أو المستهجن، للمجتمع العالمي أو إلى تقارب الأمم ـ تخضعان المجتمعات لمنطق تفتيتي. وفي العمل، تحل في هذه المجتمعات محل فوردية الثورة الصناعية الثانية، محل آلة الدمج التي كانت مصدر المجتمع الاستهلاكي ولكن أيضا دولة الرفاهية، رأسمالية مرنة تفكك القيم القديمة للعمل وتحل محلها منطقا مزدوجا: منطق العرضية والأجل القصير جدا، ومنطق "التقسيمات التمييزية الانتقائية" appariements sélectifs(9). وهذا المنطق التفتيتي يوسع الفجوة بين المهنيين المؤهلين والعمال الأقل تأهيلا، ولكن أيضا بين أعضاء مهنة واحدة، من ذوي الكفاءة المتساوية تقريبا. وتتحلل قيم الثقة، والأمانة، وضمان التعاقد، بالإضافة إلى الطابع الزمني ذاته للنشاط البشري(10). ولم يعد العمل يجلب الخلاص: ومنذ وقت ما يزال غير بعيد، كان العمل يخلق الصلة الاجتماعية، وها هو الآن يصير أحد أقوى عوامل تفسخ هذه الصلة، بكل ما يلازمه من الإقصاء، والتهميش، وسهولة التكيف والتغير، وعدم الاستقرار. والواقع أن هذا المنطق، منطق التقسيمات التمييزية الانتقائية، والتجمعات المنغلقة، والانفصال والتفتت، والانسحاب (الذي يعنى أنه في كل قطاعات النشاط، لم يعد "الأفضل" يريدون أن يلعبوا اليوم إلا مع "الأفضل"، كما كان الحال بالفعل في المنافسة الرياضية الممتازة أو في صناعة التسلية والاستعراضات show-business)، يحرّك أيضا الهوية القومية، وهيكل الأسرة، والمدرسة. كما أن المؤسسات تنهار وتعيد تأسيس نفسها وفقا لحركة متسارعة. وتتشظى البلدان أو تغدو عرضة لقلاقل طاردة عن المركز تجردها من تركيبتها الإثنية المتنوعة. ولم يعد الأغنياء يريدون أن يدفعوا للفقراء. وتقوم السوق العالمية بتقطيع أوصال الأسواق الوطنية وتفكيكها، ولم تعد الانفصالية جناية تستحق العقاب: لقد صارت السوق العالمية تفضّلها بالأحرى، في حالات عديدة؛ وصارت "المدن العالمية" الجديدة تدير ظهرها للأراضي الداخلية لبلدانها الوطنية لكي تلعب لعبة المنافسة أو التعاون مع مدن عالمية أخرى. وفي كثير جدا من الأحيان، تنهار الأسرة، تحت ضغط نفس التقسيمات التمييزية الانتقائية، ويغدو الأزواج والزوجات المرايا المؤقتة لتقسيمات تمييزية اجتماعية ثقافية واقتصادية هشة، ويصير الزواج عديم الاستقرار، وتتضاعف الأسر التي تضم أحد الوالدين فقط. وتتفكك المدرسة ذاتها. ويبقى من عشرين إلى ثلاثين في المائة من التلاميذ أو أكثر، وفقا للمجتمعات، واقعين في شرك الممرات الفرعية للتعليم وهم مستبعدون من الناحية العملية من المجتمع الجديد القائم على المعرفة والتعليم. وعلاوة على هذا فإن الأبارتهيد المدرسي والجامعي، وهو الآن في حالة من التوسع السريع، يصيب من الآن فصاعدا كل الفئات الاجتماعية الثقافية، ويهدد، إذا لم يتم اتخاذ إجراءات ملائمة في الوقت المناسب، بأن يفرغ من معناه مشروع التعليم للجميع مدى الحياة الذي وضعته اليونسكو في مركز إستراتيجيتها. وكان من المأمول أن يقدم التعليم إسهاما حاسما في سبيل إعادة توزيع الفرص والمهارات، وفى سبيل تشجيع انطلاق المجتمعات التي تقوم على اقتصاد المعرفة. غير أنه يبدو أن التعليم ذاته هو الذي يفسده المنطق الذي يدفع الطبقات المرفهة إلى عزل أطفالها في "مدارس متميزة"، و"معاهد متميزة"، و"جامعات متميزة"، وإلى عولمة فرصهم عن طريق مسيرات مدرسية وجامعية عبر قومية، مطبوعة بطابع النخبوية الفائقة والنزعة الاستهلاكية الفائقة في مجال التعليم. وفي الوقت ذاته، صار يُسند إلى التعليم القومي المهمة البائسة المتمثلة في إدارة الفشل التعليمي، أو توزيع الشهادات التي لا قيمة لها في سوق العمل. وبالتالي فإن الثورة الصناعية الثالثة والعولمة التي تصاحبها تحملان في حد ذاتهما الإقصاء كما تحمل السحابة الرعدية الإعصار. لقد استسلمنا لقيادة ما اعتقدنا أنه الميزة الذاتية التنظيم "للسوق". وقد أخطأنا. وينبغي علينا دون إبطاء أن نستعين بالحكمة والتجربة البشريتين. ينبغي علينا أن نتعلم من جديد فن ريادة وتنظيم المجتمعات، حيث اعتقدنا أن سياسات السوق الحرة كافية وحدها. وفي اللحظة التي تزعزع فيها ديناميات الثورة الصناعية الثالثة أغلب المؤسسات بعمق، تقوم موجة حضرنة لم يسبق لها نظير بإيقاع الاضطراب في نظام المجتمعات(11)، وبصورة خاصة في الجنوب حيث أنه، في غضون فترة جيل واحد، سوف تضطرب المجتمعات في عالم الميجابولات [المدن العملاقة] Mégalopoles. غير أن المدينة ذاتها يُعاد تشكيلها بصورة كاملة على أساس منطق الأبارتهيد الحضري، الذي، شأنه في هذا شأن العمليات الأخرى للتقسيم التمييزي الانتقائي، يقوم بالإقصاء في ذات اللحظة التي يقوم فيها بالانتقاء. وهذا الأبارتهيد، الذاتي التنظيم، الذي يرتدي صورة المدن الجديدة المحاطة بالأسوار بإقامة معاقلها وحصونها في أغلب مناطق العالم، يطرح لإعادة النظر فكرة الحيز العام، هذه الفكرة الجوهرية للديمقراطية، ويقوض أسس ووعود العقد الاجتماعي، كما جرى التشديد على هذا في محاورات القرن الحادي والعشرين التي نظمها مكتب التحليل والتوقع التابع لليونسكو(12). وهناك تهديد آخر يضغط بقوة على الديمقراطية: إن "المجتمع المبرمج"، الذي تنبأ به ألان تورين Alain Touraine منذ حوالي عشرين عاما، يشكل من الآن فصاعدا الثقافة بوسائل صناعية، ويبدأ في التأثير على الإنسان، "مع خطر استحواذ خاص على الحياة وإعادة إنتاج البشر. وقد بدأ الانتشار الخارق، الخاص بجانبه الأكبر، للصناعات المعلوماتية، والثقافية، والبيوتكنولوجية، في إحلال تقنيات جديدة لإدارة وحكم المجتمعات البشرية التي من المحتمل أن تتخلص من الدولة، وبالتالي أيضا من الديمقراطية محل الأنماط الكلاسيكية للسيطرة الاجتماعية"(13). والحقيقة أن العقد الاجتماعي الذي يطرحه الآن لإعادة النظر منطق التقسيمات التمييزية الانتقائية من المحتمل أن يلغيه مرة أخرى نموذج جديد، يفرض على المواطنين أطرا تقنية خاصة، تتخلص من رقابة المنتخبين والسيادة الديمقراطية. كما أن الهياكل الحكومية الجرانيتية للقطاع العام في طريقها إلى أن تحل محلها ـ نتيجة للتحرير الاقتصادي، وتفكيك التأميمات، والتركيز الذي يؤدي إلى اندماجات عملاقة ـ اتحادات خاصة ضخمة "بلا وجه"، لا يمكن الوصول إليها بصورة مماثلة(14). ومنذ قرن ونصف، كان توكڤ-;---;--يل Tocqueville، الذي كان أحد أنبياء الليبرالية، قلقا إزاء ظهور استبداد صناعي جديد(15): فهل سيشهد القرن الحادي والعشرون ظهور طبعة مستقبلية من هذا السيناريو؟ وكان فرويد قد كشف عن "اختلال في الحضارة". فهل يمكن اليوم أن نشخص، مثل بعض الخبراء، "اختلالا في العولمة"؟ وقد تحدث بعضهم عن "طلاق بين المعنى والقوة". واستدعى آخرون فقدان المرجعيات، وتآكل المبادئ، وتيه الخواء الذي يمكن أن يستحوذ على المجتمعات التي تعيش في مرحلة انتقال إلى الألفية الثالثة، فهل ينبغي أن نتنبأ بغسق للقيم؟ والتاريخ Histoire، كما حوله إلياس كونيتى Elias Conetti بصورة تهكمية إلى افتراض، هل كف، ابتداءً من نقطة بعينها، عن أن يكون تاريخا فعليا؟ والمعركة بين المدافعين عن "نهاية التاريخ" وأنصار "تواصل التاريخ"، ألن يعود لها معنى أكثر من شاشة مهجورة تنكمش أمام مشاهدي التليفزيون الذين يداعب النعاس جفونهم؟ وهل يمكن أن تكون نهاية اللعبة قد حدثت دون أن ندري؟ وهل نحن مقبلون على أن نمثل محاكاة ساخرة لفترات إضافية عديمة الجدوى ولا طائل تحتها؟ والمجتمع بأسره، هل يتخبط في سياق المنطق القاسي للمحاكاة بالصور؟ وهل يمكن أن تكون إمبراطورية العلامات قد قامت بامتصاص دم إمبراطورية الواقع، وقامت بتصفية تاريخ Histoire البشر من دمه؟ ولا مناص من أن نلاحظ زيادة "أمراض الروح" في قلب المجتمعات الأكثر رخاءً والفئات الاجتماعية التي يبدو أنها الأكثر حماية من الشقاء. ويبدو أن القلب ذاته صار فريسة خواء غريب، ويتفاقم عدم المبالاة والسلبية، وتمتد الصحراء الأخلاقية ذاتها، وتضعف قوة العاطفة والوجد، وتخبو النظرات، وتتحلل التضامنات. وتمتد المناطق الرمادية، وتتسلل المافيات إلى قلب الدول والأسواق المالية(16)، ويسود قانون الغابة. ويتفشى فقدان الذاكرة، ويبدو المستقبل غير مفهوم. ونشهد الطلاق بين الإسقاط والمشروع، وتغدو النظرة الطويلة الأجل فاقدة للاعتبار؛ ويفرض هاجس الأجل القصير، والوقتية، وطغيان العاجل الملح إمبراطوريته، ويبدو أن القرن الحادي والعشرين قد انتهى إلى الوقوع تحت ضغط حاضر من التقليب (التصفح) المتواصل، الذي يبدأ دائما من جديد. وتنشغل حكومات البلدان الأكثر غنى بمسائل اقتصادية على وجه الحصر تقريبا؛ وهي تخفض بصورة تدريجية المساعدة الرسمية للتنمية وكذلك مساهماتها لمنظومة الأمم المتحدة؛ وباستثناءات قليلة فإنها لا تفي بالتعهدات التي قطعتها على نفسها بتخصيص 0.7% من ناتجها القومي الإجمالي للمساعدة الرسمية للتنمية. وكانت لدينا إمكانية بناء السلام على أساس تقاسم أفضل وعلى أساس تطبيق برامج دولية للتعاون الكوكبي. والحقيقة أن هذا الجهد، الذي تم البدء فيه في إطار المؤتمرات الكبرى للأمم المتحدة التي انتظمت خلال العقد الماضي، يتراجع الآن. وتمسك القوى العظمى بزمام الأمور. فهل نرى لهذا السبب النظام الدولي والسلام يسودان؟ وقد شهدت التسعينيات تكرار الإبادات الجماعية وكأن هذه النهاية للقرن أباحت جعل ويلات الرعب أمرا عاديا مألوفا. غير أن هذه المآسي تقدم، في عصر العولمة، سمة جديدة. إذ يبدو أن الدول التي فقدت مرجعياتها تجدّ في البحث عن أعداء، غير أن هذا العدو صار من الآن فصاعدا منتشرا ولا يمكن العثور عليه، دائم التنقل، موجودا في كل مكان وغير موجود في أي مكان. وفي بعض الأحيان، يستحوذ علينا النفور: هل سيكون القرن الحادي والعشرون قرن الفراديس الوهمية، والجحيم الفعلي، والكساد الذي تثبت كل الإحصائيات تفاقمه الذي لا يقاوم، وعدوى المذابح، والفوضى، والعنف، والأوبئة العامة الكبرى، وعالم الكابوس الذي توقعه فيليپ ك. ديك Philip K. Dick في فيلم Blade Runner وهل ستظل الطفولة معرضة للعنف ولوحشية الإفساد الافتراضي؟ وهل ما زلنا نستطيع تجنب "الجريمة الكاملة" التي استدعاها جان بودريار Jean Baudrillard، هذا الإحلال لعالم المحاكاة بالصور محل العالم الواقعي، وهو ما يخشى أن يكون قد حدث بالفعل(17)؟ وهل ينبغي أن يتم بسرعة إيداع القرن الحادي والعشرين مخزن فوائض التاريخ؟ هل ينبغي بيعه بثمن بخس في سوق البراغيث التي صارت في زوايا النسيان؟ غير أنه يبقى الأمل. وإذا كان يبدو أنه لم يعد هناك شيء يضمن معنى للتاريخ مرهونا بمستقبل مشرق، إذا كانت فكرة خلاص علماني لم تعد مربحة تقريبا، وإذا كان يبدو أن فكرة التقدم ذاتها تتلاشى أمام إمكانية التراجع و"النكوص"، فإن إمكانية الأمل تظل قائمة. والواقع أن علم التعقيد science de la complexité، هذا العلم الذي كان بريجوجين أحد مبتكريه والذي عبر إدجار مورين Edgar Morin الجسور التي تربطه بالعلوم الإنسانية، يهتم بأوضاع غير خطية. وفي الوقت الذي يقوم فيه هذا العلم الجديد بتجريد فكرة أن المستقبل سيكون معطى جاهزا من كل مصداقية فإنه، بفضل فكرة مؤشر الزمن والحرية التي يسمح بها، يعيد الإبداعية البشرية والخيال إلى قلب التاريخ. ولأن اختيارات وطرقا متشعبة متاحة لنا، ولأننا نستطيع أن نتخيل التاريخ، فإن إمكانية التقدم تظل قائمة، ليس كحقيقة يقينية، بل كمجرد افتراض. وقد اعتدنا القول أن المستقبل ليس مكتوبا في أي مكان. ووفقا لبريجوجين فإن "التقلبات المحلية المقترنة بعدم الاستقرار يمكن أن تلعب دورا أساسيا في تطور مجموع النسق". ومن الجائز أننا غير مستعدين للقرن الحادي والعشرين. غير أن القرن الحادي والعشرين لم يعد مستعدا لنا: لا هو مستعد لأن نضطلع بمسئوليته ولا هو مستعد لأن نفكر فيه. بل ينبغي تخيله، وتصميمه، وتشكيله، والحلم به، والتفكير فيه، وبناؤه، وعمله، وإنقاذه، وتعويضه. إنه كثرة من المسارات والمشروعات. وكما يكرنا پيير پاولو پاسولينى Pier Paolo Pasolini في نقش في فيلمه ألف ليلة وليلة فإن المستقبل لا يعيش في حلم واحد بل في كثرة من الأحلام. وفي مواجهة قوة الأقوياء، ترتدي الأهمية قوة واحدة: قوة الشعب. وإذا نجحنا في إعادة حق القول إلى الملايين والملايين من الصامتين، إذا أعطيناهم إمكانية حقيقية لممارسة حريتهم في الاعتقاد والتعبير، إذا استعاد أولئك الذين صاروا اليوم بلا أصوات أصواتهم، عندئذ سنشهد تحول اتجاه القرارات. وعندئذ فإن أولئك المحسوبين أو غير المحسوبين في التعدادات، أو استطلاعات الرأي، أو الانتخابات، سوف يكتسبون حقا أهميتهم في اللحظة التي يرسمون فيها مستقبلهم. ويتمثل أملنا في صوت الشعب: الديمقراطية. ليس الديمقراطية من أجل قلة، بل الديمقراطية للجميع. وخلال العقود الأخيرة، لا مناص من الإقرار بأن البشرية قد تقدمت. ومنذ خمسة عشر عاما كان لا يزال سبعون في المائة من سكان الكوكب يعيشون تحت نير الاضطهاد، والعناء، والحرمان من الحقوق المدنية. ومع ذلك كسبت الديمقراطية المزيد من الأرض؛ وصار صوت الشعب يُسْمع حيث لم يكن يوجد من قبل سوى الصمت. والسلام، عندما كان يسود، كان سلام الأمن. واليوم يبدأ أمن السلام في الانتصار، وبالتدريج تتفوق قوة العقل على عقل القوة. ومع ذلك فإن الواقع الذي يحجبه هذا الانتشار الواسع للديمقراطية يستحق تقييما دقيقا، وليس المدائح المغتبطة للعولمة التي يتلوها علينا في المنتديات الرواة المبتسمون عن نهاية للتاريخ Histoire، الذين تشكل تقاريرهم التي تحض على الفضيلة طبعة جديدة من المكتبة الوردية. كما سجل النضال ضد التخلف بعض الإنجازات، سجل بياناتها التقرير العالمي عن التنمية البشرية: -;---;-- خلال الـ 36 عاما الماضية، ارتفع العمر المتوقع عند الولادة في البلدان النامية 16 سنة، مرتفعا من 46 عاما إلى 62 عاما(18). -;---;-- تقلص معدل وفيات الأطفال في البلدان النامية بما يزيد على النصف منذ 1960(19). -;---;-- بين 1970 و1995، ارتفع معدل تعليم الكبار في البلدان النامية بحوالي النصف، مرتفعا من 48% إلى 70%. وازداد تعليم النساء بأكثر من الثلثين خلال العشرين سنة الأخيرة(20). -;---;-- خلال العقود الثلاثة الأخيرة، ارتفع عدد الأفراد الذين يعيشون في بلدان ذات مستوى مرتفع من التنمية البشرية من 429 مليون إلى 1.2 مليار، وتراجع عدد الأفراد الذين يعيشون في بلدان ذات تنمية بشرية ضعيفة من 1.9 مليار إلى 1.7 مليار(21). ومع ذلك يتواصل الحديث دائما عن إخفاقات الأمم المتحدة. غير أننا ننسى أن نحتفي بالنجاحات التي حققتها، رغم الافتقار، المتكرر جدا والمنتشر جدا بصورة مؤسفة، إلى الإدارة السياسية. وهل ينبغي التذكير هنا بالقضاء على الجدري أو القضاء على شلل الأطفال، الذي أعلنت منظمة الصحة العالمية تحقيقه في المستقبل القريب؟ وهل يمكن أن نتجاهل الإنجازات المتحققة في مجال التطعيم وارتفاع العمر المتوقع عند الولادة، الذي صار يحيط به الشك بصورة مأساوية منذ عدة أعوام نتيجة لظهور الإيدز في عدد من البلدان الأفريقية ونتيجة للبؤس، أو الشروط السيئة للحياة في بلدان عديدة في العالم، مثل الاتحاد الروسي؟ وهل يمكن التقليل من شأن النجاحات السياسية التي تمثلها نهاية الأبارتهيد (سياسة الفصل العنصري) كمؤسسة في جنوب أفريقيا وناميبيا؟ ونهاية الحرب في السلفادور، أو في جواتيمالا، أو في موزمبيق، أو في كمبوديا؟ وهل يمكن أن نتخلى عن الأمل الذي يمكن أن يمثله استتباب السلام في أولستر، أو عودة وعده الهش إلى الشرق الأدنى؟ وهل يجب أن ننسى ـ وكأنها بديهيات غنية عن القول ـ الإنجازات التعليمية التي فعلت اليونسكو من أجلها الكثير، تلك الإنجازات التي تمت ترجمتها إلى انخفاض ملموس جدا في معدل الأمية(22)، تحقق رغم الزيادة الكبيرة في عدد السكان؟ وكيف يمكن الاستهانة بالإنجازات في مجال الحرية الشخصية، رغم أنها كانت الأروع في مجتمعات كان فيها مجرد مفهوم الاختيار الفردي ما يزال غير قابل للتصور تقريبا منذ أربعة عقود، وكانت فيها حرية النساء، التي هي اليوم في كامل ازدهارها، ما يزال الواقعيون يودعونها منذ عهد قريب في متحف اليوتوبيا والأوهام؟ وكما نعلم: لا يتحدث المرء عن الجنرالات إلا عندما يكسبون أو يخسرون المعارك، وليس أبدا عندما يتفادون خوضها. إن ما استطاع المرء أن يتفاداه، ما لم يحدث مطلقا، لا يراه أحد. ونحن لا نرى السلام، ولا نرى بعد النظر، ولا نرى الحب، ولا نرى الأمل(23). ونحن لا ندرك ما خرجنا منه سالمين. والحقيقة أن كل تحليل مستقبلي يجب أن يحمي نفسه ضد أوهام الإدراك التليفزيونى cathodique في مجتمع تسيطر عليه وسائل الإعلام إلى أبعد حد: في أكثر الأحيان، لا يظهر على الشاشة إلا السلبي أو التافه. وفي مقدمة المشهد، نرى اللاجئين الشاحبين شحوب الموتى يتقاطرون؛ وبعد هذا مباشرة، نرى الأسرة، والابتسامات المغتصبة للاحتفال، وأصباغ المهرجين، ونرى العنف الذي يشتد عليه الإقبال، وسراب القدرة على شراء السعادة، وهذه الحكاية، مثل حكاية شكسبير، يبدو أنه يرويها أبله ولا معنى لها. أما السعادة، والسلام، والصحة، والمعرفة، والذكاء، والكرم الحقيقي، وعلى وجه الخصوص الحب العميق، دنيويا كان أو روحيا أو مقدسا، فإنها إن جاز القول لا وجه لها على الشاشة: إنها تظل لا تكاد تُرى، وتُلمح بسرعة خاطفة. وهى تبقى في الخلفية، أو خلف البلاتوه، أو خارج مجال الكاميرا. وإلا فإنها تغدو صورا وأخيلة في صناعة الحلم. وبصورة مماثلة، لا يمكن اختزال العولمة إلى عولمة أجهزة الحاسوب (الكمبيوتر)، والاتصالات السلكية واللاسلكية البعيدة المدى، والأسواق المالية، والجريمة المنظمة: إذ أنها ليست فقط عولمة في "الوقت الفوري"، أي الوقت الافتراضي، بل هي أيضا عولمة في الأجل الطويل، وإدراك العلاقات في المكان بين الأفراد والأمم. ومنذ اثنين وعشرين قرنا، كان المؤرخ القديم پوليب Polybe، وهو أول من قام بتنظير العولمة، قد لفت الأنظار في ذلك الحين إلى أنه من قبل "كانت الأحداث التي تجري في العالم تكاد لا تكون لها صلة فيما بينها: أما الآن فإنها جميعا تشكل أجزاء من كل واحد مترابط". والحقيقة أن العولمة، من حيث هي إدماج في العالم وانتشار للاعتماد المتبادل، تفضي إلى عولمة أخرى، تتمثل في الإحساس بالانتماء إلى العالم وباعتمادنا المشترك. ويخلق التفاعل علاقة، حتى في السياق الذي تظل فيه الصلة غير متكافئة، كما في كل نظام تسيطر عليه هيمنة. وفي ذلك الحين، في سياق العهود القديمة، فكر الفلاسفة الرواقيون، قبل كانط Kant بقرون، حتى في داخل الإمبراطورية الرومانية، بحس حاد بالاستباق، في مفهوم المواطنة العالمية (الكوسموپوليتية) cosmopolitisme، حيث يمكن أن نرى سلف العالمية universalisme الحديثة. وإذا كان يبدو أحيانا أن العولمة الراهنة تطرح العالمية الكلاسيكية لإعادة النظر، فإنها تفضي أيضا إلى عولمة الضمير، الذي يعبر عن نفسه في الشبكات، البالغة الكثرة اليوم، التي تربط بين مواطني الكوكب رغم الحدود. إن عولمة الأحداث تحفز عولمة الإرادات، وأوضح مثال على هذا هو الانتشار الواسع للمنظمات غير الحكومية وحركات التضامن الدولية، ولكن أيضا الظهور الذي ما زال خجولا لأشكال من الإدارة العالمية، الأمر الذي يشهد عليه تنظيم قمم الأمم المتحدة إلى الجمع بصورة متزايدة بين الحكومات، والفاعلين الرئيسيين في المجتمع المدني، وخبراء المستقبليات، والقطاع الخاص، والمنظمات غير الحكومية. كما يحفز الانتشار الواسع للاعتماد المتبادل عالمية للمجتمع، تتميز بالانتشار الذي ما يزال هشا لمجتمع مدني دولي ولشبكات مهنية عبر قومية: على هذا النحو تتحقق الفكرة النبوئية لتوينبي Toynbee، التي تشمل الثقافة وفقا لها ثلاث دوائر ـ العالمي، والقومي، أو المحلي، والمتعدد المجالات/التقنيات le transversal. وفى مواجهة مآسي وويلات هذه النهاية للقرن (المذابح الطائفية، والانتشار السريع للجريمة المنظمة، والأزمات المالية، واتساع نطاق الفقر، والفوارق، والإقصاء)، تحفز العولمة علاوة على هذا مقدمات "عولمة للقانون"، كانت ميريل ديلماس ـ مارتي Mireille Delmas-Marty(24) من أوائل من توقعوا مجيئها. وتشكل أول علامة تبشر بها الاتفاقية الدولية بشأن إنشاء محكمة جنائية دولية، إذا أسرعت الدول الأطراف في هذه الاتفاقية بالتصديق عليها في غضون الأشهر المقبلة. وتدعم العولمة أخيرا انتشار فكرة كبرى، كانت ما تزال بالأمس يوتوبية، ومع هذا تتوافق مع المواطنات المتنوعة: فكرة مواطنة كوكبية، حدد إدغار مورين بصورة ممتازة خطوطها العريضة عندما قدم فكرة "الأرض ـ الوطن"(25). وعلى هذا النحو تتحقق النبوءة القديمة للفلاسفة، تلك النبوءة التي وفقا لها يشترك كل البشر في العقل العام، الذي يفرض عليهم وحدة المصير، والحقوق المشتركة، ولكن أيضا المسئوليات المشتركة. ووفقا لحقيقة من حقائق هذه الحكمة القديمة، "في كل مكان على الأرض، يجد الإنسان النبيل وطنه"(26). وفي فجر القرن الحادي والعشرين تتيح لنا بعض دلائل التحسن، الوقتية والهشة والعابرة ولكن الأكيدة، أن نرفض الفرضية التي دحضها كانط من قبل، والتي وفقا لها تتطور البشرية بصورة دائمة نحو الأسوأ. ولكي يدحض هذه الموضوعة عن "الإرهاب المعنوي"، قدم كانط هذه الحجة المفحمة عندما قال: لو كانت البشرية تتطور دوما نحو الأسوأ لكانت قد فنيت بالفعل منذ عهد طويل من تلقاء نفسها(27). على أن الإمكانية الوحيدة لمستقبل أقل قتامة تغدو أساسية، إذ ماذا يمكن أن نعرف، وماذا يمكن أن نفعل، وماذا يتاح لنا أن نأمل، إذا يئست البشرية من البشرية؟ ونحن نعتقد أن القوة المستمدة من هذا الأمل لن تكون زائدة عن الحاجة إذا نحن أردنا أن نواجه التحديات الأربعة(28) الرئيسية الماثلة في قلب إشكالية هذا العمل، والتي ينبغي علينا أن نواجهها إذا كانت البشرية تريد البقاء بعد القرن الجديد. أول هذه التحديات، هو السلام، الذي يشكل الشرط المسبق لحل كل التحديات الأخرى، كما ذكرنا بطرس بطرس غالي Boutros Boutros-Ghali في أحاديث القرن الحادي والعشرين التي نظمناها في اليونسكو. لقد طويت صفحة الحرب البادرة، غير أن ما نعيشه اليوم ـ وهذا تخفيف من وطأة الحقيقة ـ "سلام ساخن". ومنذ انهيار سور برلين، تتواصل عشرات الحروب أو اندلعت، وتستمر قرابة ثلاثين نزاعا، تدور غالبيتها الساحقة داخل دول، في الفتك بأجزاء شاسعة من العالم. وتبخر وهم أن نهاية الحرب الباردة ستؤدي في الحال إلى انطلاق آلية السلام الدائم، وإلى المجيء بنهاية التاريخ وبعهد من التنمية المتصلة التي تكفلها مزايا السوق الحرة. وعلى المشهد الدولي ظهرت فئة رابعة للدول أضيفت إلى البلدان الصناعية والبلدان النامية والبلدان التي تمر بمرحلة انتقال: البلدان التي اندلعت فيها حرب أو التي نجت من نزاع. وتعاود الظهور ظاهرة منسية: الانهيار أو التحلل العنيف لعدد من الدول، التي تغوص في الإبادة الجماعية، والمذابح فيما بين المجتمعات المحلية أو في حروب بعيدة عن أن تكون أهلية civiles بحيث ينبغي أن نسميها حروبا غير أهلية guerres inciviles. التحدي الثاني: هل سيشهد القرن الجديد تفاقم فقر لا مثيل له يطل ضحاياه، كظلال شبحية ليلية، على الجانب الآخر من ستائر نوافذ الأبارتهيد الاجتماعي والأبارتهيد الحضري، على ثروة لم يسبق لها مثيل، مغلقة وراء الجدران العالية للفراديس المباعة عن طريق الكتالوجات؟ هل سيكون القرن الحادي والعشرون مرادفا لعدم المساواة المتزايد الذي يصيب بالدوار؟ وهل سيؤدي انتشار الإقصاءات إلى تدمير ذات مفهوم الحيز الاجتماعي، مقوضا ذات أسس الديمقراطية، داخل البلدان وعلى المستوى الدولي؟ ولنُلْقِ نظرة مباشرة على معطيات المشكلة: -;---;-- بين 1980 وأزمة 1997-1998، عرف خمسة عشر بلدا نموا اقتصاديا قويا أدى إلى ارتفاع لمتوسط الدخل، ولكن بتوزيع يتميز جدا بعدم المساواة، بالنسبة للجانب الأكبر من مليار ونصف من السكان الذين يعيشون فيها، أيْ حوالي رُبْع البشرية. -;---;-- في نفس الفترة من الزمن، عانى مائة بلد من هبوط أو ركود اقتصادي، مما أدى إلى انخفاض لمتوسط الدخل بالنسبة لمليار وستمائة مليون شخص، أيْ أكثر من رُبْع سكان العالم. -;---;-- في آسيا، ولكن أيضا في روسيا، وأمريكا اللاتينية، وفي عدد من بلدان العالم، أدت سلسلة من الأزمات المالية إلى تراجعات ذات عواقب سلبية هائلة على سكان بلدان كان يجري الاستشهاد بها منذ عهد قريب على أنها أمثلة للنجاح. -;---;-- عند مدخل القرن الحادي والعشرين، يعيش أكثر من مليار وثلاثمائة ألف فرد في حالة من الفقر المطلق (أقل من دولار واحد في اليوم)، ويستمر عددهم في الارتفاع(29). بل يقدر عدد من الخبراء المشهورين هذا الرقم بـ 2 مليار فرد. ويعيش أكثر من ثلاثة مليارات شخص، أيْ أكثر من نصف البشرية، في حالة من الفقر، بأقل من دولارين في اليوم. -;---;-- ووفقا لبرنامج الأمم المتحدة للتنمية، فإن "الـ 20% من الأفراد الأكثر فقرا في العالم يتعين عليهم اليوم أن يتقاسموا النسبة البائسة 1.1% من الدخل العالمي، مقابل 1.4% في 1991 و2.3% في 1960"، في حين أن نصيب الـ 20% من الأفراد الأكثر غنى ارتفع من 70% في 1960 إلى 85% في 1991. و"اليوم، يصل صافي رصيد أضخم عشر ثروات إلى 133 مليار دولار، وهو ما يعادل الدخل القومي الكلي لمجموع البلدان الأقل تقدما مرة ونصف المرة". وقد ارتفع نصيب الـ 20% الأكثر غنى من الدخل بالمقارنة مع نصيب الـ 20% الأكثر فقرا من 30 مقابل 1 في 1960 إلى 61 مقابل 1 في 1991، وإلى 82 مقابل 1 في 1995(30): إننا نشهد إذن توطد مجتمع "الخُمْس" الذي وصفه هانز پيتر مارتن Hans Peter Martin في Le Piège de la mondialisation [شرك العولمة](31). -;---;-- أكثر من 800 مليون شخص يعانون من الجوع أو سوء التغذية، ويعانى 2 مليار شخص من نقص الغذاء. -;---;-- أكثر من مليار فرد لا يحصلون على خدمات صحية. -;---;-- 880 مليون شخص في العالم أميون، منهم 866 مليون في البلدان النامية. -;---;-- أكثر من مليون وأربعمائة ألف شخص لا يتمتعون بالحصول المباشر على مياه صالحة للشرب. -;---;-- 2 مليار شخص لا يرتبطون بشبكة كهرباء. -;---;-- 80% من سكان الأرض ـ أيْ أكثر من أربعة مليارات ونصف فرد ـ لا يتمتعون بالوصول إلى وسائل الاتصالات الأساسية، وبالتالي إلى الوسائل التي تفتح الباب إلى التكنولوجيات الجديدة التي ستكون مفتاح التعليم عن بُعْد والاقتصاد الجديد: اقتصادي اللامادي. -;---;-- ثلثا سكان العالم الذين يعيشون في حالة من الفقر المطلق لم يبلغوا الخامسة عشرة من العمر، و70% منهم من النساء. -;---;-- وكما يعلق أحد المؤلفيْن المشاركيْن لهذا العمل فإننا "نتباهى اليوم برواج الإنترنت، غير أننا سوف نظل نعيش لوقت طويل في عالم من الطرق السريعة للمعلومات inforoutes والممرات الفرعية للمعلومات infosoutes، من الطرق السريعة الإلكترونية electronic highways والممرات الفرعية الإلكترونية electronic subways المسدودة. ويبدو أن المستقبل ذاته هو المعرض للخطر. المستقبل الغائب، أو المتراجع، أو غير المقروء في الشمال الذي لم تعد غالبية البلدان الغنية فيه تنجب الأطفال إلا نادرا. المستقبل الضائع أو المرهون الآن في الجنوب إذ أن الأطفال، بالإضافة إلى النساء، هم الذين يعانون من أشد البؤس"(32). ووفقا لدراسة(33) لمؤتمر الأمم المتحدة للتجارة والتنمية (الأونكتاد) فإنه نظرا لزيادة سكان العالم التي تتوقعها الأمم المتحدة، سوف يتضاعف الناتج المحلي الإجمالي العالمي خمس مرات خلال خمسين عاما ليرتفع دخل الفرد بمعدل 3% في السنة في البلدان التي تسير في طريق التنمية، مما يقتضي زيادة كبيرة ومتصلة خلال نصف قرن. وسيكون من الضروري أن تكون هذه الزيادة كبيرة بصورة خاصة في تلك المناطق التي يكون فيها البؤس هو الأكثر خطورة في الوقت الراهن، بحيث تبدو هذه الزيادة فرضية هشة في مناطق عديدة من العالم، وبصورة خاصة في أفريقيا جنوب الصحراء. وينتج بوضوح من هذه التقديرات أنه لا يمكن الاطمئنان إلى سياسات السوق الحرة وحدها للتغلب على البؤس والفقر وكذلك أن استراتيجيات التنمية البشرية، التي تُولى الأولوية للتعليم وللرعاية الصحية الأولية، تكون أكثر أساسية كلما أتاحت، حتى في سياق تنمية اقتصادية هزيلة، تحسينا كبيرا لنوعية حياة السكان(34). التحدي الكبير الثالث: التنمية المستديمة، والإدارة السليمة لبيئة الكوكب. ووفقا لدراسة كندية، يحتاج الأمر إلى ثلاثة كواكب مثل الأرض إذا وصل كل سكان العالم إلى نمط التنمية والأساليب الاستهلاكية السائدة في الوقت الحالي في أمريكا الشمالية. ونماذجنا للتنمية التي تقوم على الاستخدام المسرف وبلا قيود للموارد غير المتجددة ـ ألا تعرض للخطر سلفا، وربما حتى بصورة نهائية، تنمية أجيال المستقبل التي ننكر عليها، بأنانيتنا وقصر نظرنا الزمني، حقوقها، في حين أن الرومان القدماء كانوا قادرين على إقرار حقوق الأطفال الذين لم يولدوا بعد في تشريع المواريث؟ ألم يأت الأوان لنقول بصوت عال وواضح: كم يكفي؟ كم يكفي لإشباع شراهتنا(35)؟ ففي كل مكان يستنفد الإنسان اليوم النسغ الذي يمكن أن يغذي الإنسان غدا. ولأن البشرية تملك القدرة التقنية على الانتحار الجماعي كنوع، فإنها تدرك من الآن فصاعدا أنها محكوم عليها بالفناء. فمن ذا الذي سيوقف هذه الدوامة؟ من ذا الذي سيعلمنا الحكمة الإيكولوجية؟ من ذا الذي يدلنا على طريق تنمية أخرى، أكثر اقتصادا، وأكثر ذكاء، وأكثر تضامنا؟ من ذا الذي سيعلمنا وفقا لعبارة الفيلسوف ميشيل سير Michel Serre "السيطرة على السيطرة"؟ وأية قوة ديمقراطية هي التي ستوقف أيدي مَنْ يطلقون الجن من القمقم؟ التحدي الرابع: "متلازمة القارب السكران"(36). وكما كتب سنيكا Sénèque، وكما يقول البحارة المهرة، "لا توجد مطلقا ريح مواتية لمن لا يعرف إلى أين يذهب". غير أنه لا توجد ريح طيبة لقبطان لا يستطيع فك شفرة خريطة، أو لربابنة حطموا دفة المركب. فهل أقلعنا موجهين مقدم سفينتنا نحو المستقبل؟ هل لدينا اتجاه أو مشروع طويل الأجل؟ هل ما زال لدينا دفة ومعدات الملاحة للاحتفاظ بهذا الاتجاه؟ نعتقد أن من المسموح به أن نشك في هذا. ونتيجة للعولمة، يبدو أن عددا كبيرا من الدول قد أضاعت الخرائط والبوصلات وأدوات إرشاد الملاحة وحتى إرادة الاتجاه نحو أفق. وإذا كانت ما تزال عائمة الآن، وإذا كانت لا تغرق إلى الآن، فما ذلك إلا لأن الأمواج تتقاذفها، وكأن التاريخ قد سقط في أيدي "سادة مجهولين"(37)، تجريدات لم يعد أحد يسيطر عليها، تُسَمَّى الأسواق المالية، وأسعار الصرف، وأسعار الفائدة، وأسعار المواد الخام المنجمية أو الزراعية، والأرقام القياسية والوقائع الإحصائية من كل نوع. وفي نفس اللحظة التي يبدو فيها في كثير من الأحيان أن سلطة الدول قد تآكلت، في حين أن هذه ربما كانت ذات طبيعة وظائفها التي تكون بسبيلها إلى التحول، فماذا يمكن أن نكتشف؟ إن أغلب المشكلات تتجاوز الحدود، وتتحول إلى قضايا دولية. فهل يمكن أن نقول اليوم إن قضايا المياه، أو الطاقة، أو التغير المناخي للكوكب، أو التلوث بكل أشكاله، أو الأمن الغذائي، أو التنمية ذاتها، يمكن حلها على النطاق القومي وحده؟ إن معاملات الأسواق المالية، أو غسيل الأموال القذرة، أو الجريمة المنظمة، أو المخدرات، أو الأوبئة، أو العوامل التي تؤدي إلى تدهور بيئة الكوكب لا تتوقف بحكمة عند الجمارك أو عند مواقع الحدود. وكذلك السحب المشعة. والحقيقة أن مشكلات هذه النهاية للقرن العشرين، التي ستصير، إنْ لم تعالج في الوقت الملائم، الجروح المفتوحة للقرن القادم، مترحلة، عديمة الجنسية، بدون جوازات سفر. إنها منذ الآن عالمية، أو سرعان ما ستغدو كذلك، كما يوضح الانتشار البالغ السرعة لوباء الإيدز أو عدوى الأزمات المالية في 1997-1998. وقد قال جان بودريار إن القرن الحادي والعشرين سيكون ڤ-;---;--يروسيّا. وإذا كان هذا صحيحا، فإن التوقع سوف يجب أن يقود إلى الوقاية، وإلى اختراع "أمصال سياسية" على النطاق الوحيد الذي يمكن فيه إيقاف هذا الشر: نطاق العالم. فما هي السياسات ذات النطاق الكوكبي التي سيكون علينا تنفيذها في سبيل إعطاء كل الفعالية المطلوبة لمبادرات التعاون التي تم طرحها على المستوى الدولي؟ والواقع أن سلسلة المؤتمرات الرئيسية التي عقدتها منظومة الأمم المتحدة خلال العقد المنصرم، مثل قمم ريو، أو ڤ-;---;--يينا، أو القاهرة، أو كوبنهاجن، أو بكين، أو إسطنبول، أو قمة كيوتو بشأن خفض غاز الدفيئة، كانت تمثل خطوات أولى. وكان الجنرال ديجول يقول: الدولة سوف تتابع الإشراف على الاقتصاد. غير أن الدولة، واأسفاه، لم تتابع، والمتابعة لم تتابع. وتتمثل مسئولية مواطني الكوكب في مطالبة حكوماتهم بهذه المتابعة، مدركين تماما أن هذا لن يكفي. إذ أنه يوجد نقص في العمل، ولكن أيضا نقص في الرؤية، وفي الشجاعة السياسية: إننا نمتنع عن طرح المشكلات على أنفسنا بكل ضخامتها. وغدا، هل سيكون على الأمم أن تطلب محاسبة قادتها السابقين على القرارات التي لن يكونوا قد اتخذوها أو التي سيكونون قد اعتمدوها بعد فوات الأوان، تماما كما يطالب اليوم مواطنو الولايات المتحدة بالتعويض من شركات صناعة التبغ على الأضرار التي أصابت بها صحتهم العامة؟ ألا يمكن أن يكون من الحكمة، من الآن، تطبيق القرارات المتخذة على المستوى العالمي؟ وخلال عشر سنوات من الآن على أكثر تقدير، وخلال عشرين سنة من الآن دون شك، ألن ينبغي المضي أبعد كثيرا؟ أبعد كثيرا من ريو، أو كيوتو، من ڤ-;---;--يينا، أو من القاهرة، أو من إسطنبول، أو من بكين؟ ومع ذلك فإنه إذا احترمت الدول من الآن فصاعدا التعهد الذي قطعته على نفسها في كوبنهاجن بالقضاء على الفقر، فعندئذ سيكون بوسعنا أن نقول أننا بدأنا بصورة نهائية الاستعداد للقرن الحادي والعشرين. وهنا وهناك، جرى تقديم بعض الأعذار المربكة ذات المظهر الحزين: آسفون، يقول أولئك الأكثر فقرا، نحن لا نملك الوسائل للتصرف. ويستديرون إلى أولئك الأكثر غنى. ويردد هؤلاء الصدى: آسفون، نحن لا نملك الوسائل للتصرف، نحن لا نسمح لأنفسنا بترف التصرف. وعلى هذا النحو، تختار حكومات كثيرة جدا اتخاذ موقف سلبي. على أن هذا الأخير ليس موقفا قدريا لا فكاك منه. وقد بدأ عدد كبير من البلدان في أن تجعل من التعليم أولوية، وفي أن تحرر من داخل ثروتها القومية وسائل لتمويله. وقد التزمت بعض البلدان، مثل الهند، برفع النصيب الذي تخصصه من ناتجها المحلي الإجمالي للتعليم إلى 6%. وسيكون التغلب على السلبية أحد الرهانات الرئيسية على مشارف 2020. ذلك أن الوسائل موجودة. وفي حين أن المساعدة الرسمية للتنمية لم تكف عن الانخفاض، إلى حد الهبوط، في بلدان منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية، إلى 0.22% من الناتج القومي الإجمالي(38)، مع أن البلدان الصناعية التزمت رسميا في مؤتمرات عديدة للأمم المتحدة إلى رفعها إلى 0.7%، فإننا نواصل الاستثمار ضد التنمية. ومع أن الحرب الباردة قد انتهت من الناحية الأساسية منذ حوالي عشرة أعوام، فإننا نواصل الاستثمار بصورة مكثفة في عدم الأمن، بدلا من التمويل، كأولوية وبطريقة وقائية، لبناء السلام. وعلى المستوى العالمي، فإن النفقات العسكرية، رغم انخفاض غير متكافئ خلال التسعينيات، تمثل دائما 700 إلى 800 مليار دولار، وتعاود الميزانيات العسكرية لبعض القوى العظمى الارتفاع. والحقيقة أنه لا يمكن في آن واحد دفع ثمن الحرب وثمن السلام. وكما شدد والي نداو Wally N’Dow، عندما كان الأمين العام لقمة إسطنبول بشأن المدينة، فإن الموارد المتوفرة كافية لتزويد كل شخص "بمسكن، ومياه صالحة للشرب، ومرافق صحية أساسية، بتكلفة أقل من مائة دولار للشخص". ومن أجل 1.3 مليار فرد يعيشون في حالة من الفقر المطلق، سوف يمثل هذا الاستثمار مائة وثلاثين مليار دولار. من جهة مائة وثلاثون مليار دولار لا تتم تعبئتها، ومن جهة أخرى، 700 إلى 800 مليار دولار، تتم تعبئتها. إذن، ميزانان، مكيالان؟ فلنقلها بوضوح: هذه المسألة لا تتعلق بالبلدان الصناعية وحدها. إنها تتعلق أيضا بعدد كبير من البلدان النامية، وبعض البلدان بين تلك الأقل تقدما، التي يوجه حكامها جزءا كبيرا من الميزانية القومية(39) إلى النفقات العسكرية، على حساب التعليم والتنمية البشرية. وسوف تكون مواجهة التحديات الأربعة التي طرحناها المهمة الكبرى للنصف الأول من القرن الحادي والعشرين، وعلى وجه الخصوص الأعوام العشرون الأولى منه. وها هي تأتي ساعة الحقيقة: خلال عقد أو عقدين من الزمان، ربما كان مصير الجنس البشري هو الذي سيتعرض للمخاطرة ـ وسوف يلقى اجتماع عدة أخطار عبئا ثقيلا على المستقبل. والرهان واضح. وقد صاغه البروفيسور إيثان كاپشتين Ethan Kapstein، عضو مجلس العلاقات الخارجية بنيويورك، بهذه العبارات: "يتجه العالم بصورة محتومة نحو إحدى تلك اللحظات المأساوية التي سوف يتساءل مؤرخو الفترات اللاحقة فيما يتعلق بها عن السبب في أنه لم تتم محاولة عمل شيء ما قبل فوات الأوان. ألم تفهم النخب الاقتصادية إذن نحو أيّ هاوية يسرع التحول الاقتصادي والتقني؟ وما الذي منعها من القيام بالمساعي التي لا غنى عنها من أجل تفادي أزمة اجتماعية عالمية؟"(40). وكما كان يقول ألبرت آينشتين Albert Einstein، "في لحظات الأزمة، يغدو الخيال أهم من المعرفة". وقبل هذا العالم العظيم الذي تمثل اكتشافاته عبقرية القرن المنصرم، كان لدى الأنبياء والشعراء حدس مماثل. كتب هولدرلين Hö-;---;--lderlin: "حيث يتفاقم الشر، يوجد أيضا ما ينقذ منه". ويتمثل الشرط الأول لهذا الإنقاذ عن طريق الخيال في التوقع وبُعْد النظر في الأبحاث والتقديرات المستقبلية، التي يجب أن تتم ترجمتها إلى فعل واحتياط ووقاية. سيقول بعضهم: "المستقبل بالغ التعقيد وعدم اليقين، وينبغي أن نكتفي بالحاضر. لنتوقف عن التوقع، ولنترك أنفسنا للرياح والتيارات تأخذنا إلى حيث تشاء". وسأردّ على هؤلاء بأن من السهل جدا إخفاء الوجه، وانتظار ظهور الصعوبات لمحاولة تقديم حلول لها لن تكون بالأحرى سوى مسكنات، ولن تكون إلا ردود أفعال في سياق من التعجل والارتجال. وقد أدى منطق الأجل القصير هذا، هذا الطغيان للطارئ الملحّ، هذا الضمور للزمن حيث يقوم الحاضر بإلغاء الماضي ويظل أعمى إزاء المستقبل، إلى ما نشهد اليوم من نتائج فادحة الخطورة تذكرنا من جوانب بعينها بعجز أسلافنا خلال ثلاثينيات القرن العشرين في مواجهة صعود الأخطار. وتحكم علينا ديكتاتورية "الوقت الفوري"، وقصر النظر، والغياب، الفريد في التاريخ Histoire، للفكر والرؤية، بعدم استعداد مزمن، وبحماس محتدم عقيم، وباستحالة توريث الأجيال المقبلة، وبمفاجآت مأساوية. والحقيقة أن مثل هذه الهيمنة للمكسب القصير الأجل وقصر النظر الزمني لا يترك للأفراد خيارا آخر سوى خيار الاستسلام للمرونة الحديدية لطغيان اللحظة، أو خيار التكيف مع التطورات بعد فوات الأوان دائما. ولكي لا نكون تحت رحمة الظروف في مستقبل معقد وغير يقيني، ولكي نستعيد السيطرة على مصيرنا، ولكي نتخلص من الروتين والبلى، أو من إغراءات إدخال تقنية لا سيطرة عليها تقودنا بصورة عمياء إلى مصير وحشي، يجب أن نستعيد الزمن الطويل. ويجب أن نمد أنظارنا إلى الأمام إلى أبعد مدى ممكن. ويجب أن نتوقع الاتجاهات، وان نكتشف في الحاضر "الحضانات" التي ينشأ فيها المستقبل، وأن نحتاط للتطورات للتتوافق معها أو التحول عنها. فهل يمكن أن نقبل أن يلومنا أطفالنا على أننا كنا قباطنة سيئين، وعلى أننا، بدلا من أن نكون على مستوى تحديات الزمن، قذفنا سفينة البشرية إلى صخور دلت عليها الخرائط البحرية بوضوح؟ وكان ثيوسيديد Thucydide يقول: "القائد السياسي لا يجب فقط أن تكون له يدان نظيفتان، بل يجب أيضا أن تكون له عينان صافيتان". وينبغي علينا، كما يفعل هنود أمريكا، تقريب آذاننا من الأرض للإصغاء من بعيد إلى الزلزال الوشيك، أو الخطوة الخفيفة للمسافرين، الذين ربما كانوا رُسُلا يحملون أخبارا. وسيكون على الحكومات، والمؤسسات الدولية، ومعاهد الأبحاث، والجامعات، التي لم تقم بهذا بعد، أن تعزز بصورة كبيرة خلال السنوات القادمة قدراتها على التوقع والأبحاث المستقبلية، ومن المدعوين للقيام بهذا أيضا التجمعات الإقليمية والمحلية، والمؤسسات الرئيسية للمجتمع المدني، وبطبيعة الحال القطاع الخاص الذي ربما كان، من خلال الشركات الكبرى عبر القومية، الأكثر تقدما في هذا المجال. ومنذ 1994، أجرت اليونسكو بدورها هذا الإصلاح، من خلال التجديد الكلي لبرنامجها الخاص بالمستقبليات، ومن خلال إنشاء مكتب للتحليل والتوقع، ومن خلال تعزيزها في برنامجها لوظيفة الرصد ومنتديات التوقع العلمي والفكري، وبصورة خاصة عن طريق تنظيم أحاديث القرن الحادي والعشرين ومحاورات القرن الحادي والعشرين. وبطبيعة الحال فإن التوقع السليم يتيح التعرف على التحديات، والمخاطر، والاتجاهات الواعدة، والمؤشرات والمتغيرات الرئيسية، وكذلك ـ وفقا للتطورات المتوقعة أو السيناريوهات التي يمكن إجمال خطوطها العريضة ـ تحديد الحلول التي يكون من الملائم تطبيقها، إن شئنا الاقتراب، عن طريق سلسلة من المشروعات والأعمال، من مستقبل مفهوم ليس على أنه حتمي لا مفر منه بل على أنه مرغوب فيه. وهنا تكتسب كلمة هولدرلين التي سبق الاستشهاد بها كل معناها: إنما في مواجهة صعود الأخطار، وتضاعف المخاطر، تتزايد القدرات على التوقع كما تتزايد وسائل طرد شبح الخطر. وخلال العقود الأخيرة، تزايدت بصورة ملحوظة جدا القدرات على التوقع وسط المجتمعات العلمية ـ ويكفي أن نفكر في الأبحاث المستقبلية المتصلة بتغير مناخ الكوكب، أو بالطاقة، أو بالمياه. كما أنها تزايدت أيضا على مستوى الإدارات الوزارية، والقوى الفاعلة الرئيسية في المجتمع. ومن الآن فصاعدا، نعرف أن الحلول موجودة وأن إدراك المشكلات قد ازداد حدة. وهناك حقا افتقار إلى الإدارة السياسية وحدها، حيث صارت سجينة لقوى الأجل القصير جدا، وللخوف من خسارة الانتخابات التالية، ولتلاعب جماعات الضغط التي تضغط بكل ثقلها، من وراء الكواليس في كثير من الأحيان، على حساب المنفعة العامة، والمصلحة العامة. وقد شددنا على أن العولمة لا ينبغي أن تظل عولمة الشبكات، والاتصالات السلكية واللاسلكية، وأجهزة الكمبيوتر، والمحيط الإعلامي، والأسواق. إنها يجب أن تستند إلى توطيد حيز عام ديمقراطي على نطاق العالم، وإلى تجديده على النطاق القومي. كما يجب أن ترتكز العولمة على تصور مستقبلي للعقد الاجتماعي والمقتضيات المتعاقبة للمسئولية إزاء الأجيال المقبلة ونقلها إليها. والحقيقة أن العولمة، إذا استطاعت أن تدمج هذه العناصر، سيكون بمستطاعها أن تفضي إلى ديمقراطية دولية أوسع، سيتم فيها التوفيق بين الحرية والمساواة، هاتان الأختان العدوتان، وفقا لعبارة برجسون Bergson، عن طريق الإخاء ـ أيْ عن طريق التضامن. فما هي أحجار الزاوية في هذا الوضع الجديد للقرن الحادي والعشرين؟ وما هي مقدمات هذا المنطلق الجديد؟ إننا مقتنعون بأن العولمة لن تتوافق مع العالم l’universel الذي تميل في الواقع إلى أن تحل محله، إلا إذا نجحنا، كما كان هذا هو الحال في 1945 مع إنشاء الأمم المتحدة، في تعزيز الاتحاد بين الشعوب وبين البلدان من أجل منع العنف والحرب. "نحن شعوب الأمم المتحدة، عاقدين العزم على حماية الأجيال المقبلة من ويلات الحرب ..." هكذا يبدأ ميثاق الأمم المتحدة. كان هذا في 1945 في سان فرانسيسكو. والرعب في أعماق العيون، فكرت شعوب الأرض في أطفالها وفي ذريتها، وقررت أن تجنبهم التمزقات التي عاشتها هي. مجرد مصادفة؟ شهد العام 1945 أيضا انطلاق حركة جبارة للعولمة mondialisation (كانوا يقولون في ذلك الحين: التدويل internationalisation). والحقيقة، كما أوضح إيتان كاپشتاين(41)، أن هذه الدينامية لعولمة فترة ما بعد الحرب [العالمية الثانية] كانت تعني، بالنسبة لعمال بلدان عديدة، مخاطر وتحديات جديدة. غير أن حكومات ذلك العهد اخترعت في ذلك الحين، تحت ضغط الرأي العام ولكن أيضا في كثير من الأحيان ببُعْد نظر كبير، دولة الرفاهية l’É-;---;--tat-providence (welfare state)، التي قامت، مستكملة مزايا الأجور المرتبطة بالفوردية، بتعريف عقد اجتماعي جديد يقوم على التفاوض، والضمان الاجتماعي، والأمن، وعلى تصور بعيد النظر عن دولة الخدمات l’É-;---;--tat-service. وإلى حد كبير، كان هذا العقد الاجتماعي تحقيقا للنظرة المستقبلية العبقرية لتوكڤ-;---;--يل الذي توقع، قبل قرن، انتصار دولة الرفاهية في كتابه De la démocratie en Amérique [الديمقراطية في أمريكا]، عندما تنبأ بانتشار الدولة الاجتماعية الديمقراطية démocratique ـ l’É-;---;--tat-service ـ التي رأى فيها، كليبرالي مقتنع، شبح استبداد ناعم يمكن، مدفوعا إلى حدوده القصوى، يغنينا عن "مشقة التفكير وعناء الحياة"(42). وكما نعرف جميعا فإن العقد الاجتماعي القديم لعام 1945 قد شاخ حقا. وقد ارتفعت تكلفته بصورة كبيرة، وصارت فعاليته موضع شك، وهوجمت مبادئه بلا انقطاع أو مهادنة من جانب أنصار سياسات السوق الحرة. وعقد المبشرون بالعولمة المشرقة و"نهاية التاريخ" آمالهم على حدوث تطور: تعزيز التكنولوجيات الجديدة لديناميات اقتصادات السوق. كما عوّلوا على يوتوبيا جديدة، أو بالأحرى على وهم قديم من القرنين الثامن عشر والتاسع عشر: مجتمع السوق مع تحديثه على أيدي دكاترة جدد على شاكلة الدكتور پانجلوس Pangloss يبشرون بالتفاؤل السعيد. واستندت هذه اليوتوبيا إلى فكرة أن المجتمع سيصل في نهاية المطاف إلى الإدارة الذاتية، عن طريق نوع من انتشار اقتصاد السوق في العلاقات الاجتماعية le social وعن طريق سياسة نشطة لتذويب، أو اختزال، أو تفكيك، كل الوساطات السياسية أو الاجتماعية أو الثقافية وكل تراث غير ملائم للتاريخ (الصراعات الاجتماعية والقومية والدينية، الثقافات، التقاليد، إلخ). وكانت هذه اليوتوبيا هي النسخة الأصلية المسالمة وفوق الليبرالية لتلك اليوتوبيا السياسية الماركسية: اضمحلال الدولة. ولم تر يوتوبيا مجتمع السوق سوى مزايا في تراجع الدولة وفي تآكل السيادة الديمقراطية: لقد عقدت آمالها بصورة خاصة على ذوبان أشباح الشعبية في سيولة السوق وديمقراطية للزبائن، بحيث تستندان إلى الصفقات المباشرة. وفى الوقت نفسه الذي احتفظت فيه هذه اليوتوبيا بهيبتها العقائدية في أقسام الاقتصاد في عدد كبير من الجامعات فإنها تواجه اليوم حدودها، ويبدو بصورة متزايدة أنه يتم في كثير من الأحيان إحالتها، حتى من جانب الاقتصاديين المرموقين، الذين كانوا ما يزالون حتى وقت قريب أنصارا للسوق الحرة والوصفات الليبرالية الجديدة، إلى متحف الأيديولوجيات. ذلك أن أزمة 1997-1998 دفعت إلى إعادة اكتشاف ضرورات التنظيم. وتحت وطأة تجربة الأزمة المالية العالمية والانتكاسات، تزعزع من كل جانب ذلك الإيمان المغتبط بالمبادئ التي أثارت الشكوك حول العقد الاجتماعي لعام 1945. وفيما يتعلق بفكرة أن المجتمعات المبرمجة الجديدة، المشهورة بأنها غير قابلة للغرق، يمكن، حالما يتم إنجاز خصخصتها وحالما يتم تفكيك كل خدماتها العامة (التعليم، الصحة، إلخ.)، أن تستغني عن العقد الاجتماعي وعن كل شكل للتنظيم ـ فإنها تحطمت من الآن فصاعدا على صخرة التاريخ Histoire(37). ولهذا فإننا لا نعتقد في آن معا لأسباب اقتصادية ولكن أيضا لأسباب ثقافية واجتماعية ترتبط بالتحول الكبير للمجتمعات خلال العقود الأخيرة ـ أن من الممكن إحياء العقد القديم لعام 1945 كما هو. وفيما وراء العقبات الاقتصادية والسياسية، يمكن أن توجد عقبة بشرية: كيف لا نرى أن ظهور الفردية والمطالبة بالاستقلالية والحرية الشخصية والذي يتفق مع ظهور مجتمع الشبكات والثورة الصناعية الثالثة، يتعارض بعنف مع استعادة مثل ذلك العقد؟ إن العالم الذي يتعولم هو أيضا عالم يطبعه الطابع الفردي بصورة متزايدة، تعود فيه الذات، وفقا لعبارة ألان تورين، من خلال كثرة من المسارات الشخصية، والمشروعات، ومسيرات الحياة الشخصية، تجمع بين الذاكرة والعقل والخيال، في اتجاه كل من الماضي والمستقبل. ومع ذلك ـ وكان هذا من جهة أخرى أحد الموضوعات الرئيسية لمحاورات القرن الحادي والعشرين التي نظمتها اليونسكو في أيلول/سبتمبر 1998 ـ تبدأ في فرض نفسها فكرة أن الثورة الصناعية الثالثة والعولمة التي تصاحبها لم تعثرا بعد على العقد الاجتماعي الجديد الذي تحتاجان إليه. وسيكون على مجتمعات القرن الحادي والعشرين أن تسارعا دون إبطاء إلى اختراعه، حيث أن عقد الثورة الصناعية الثانية وعقد 1945 ـ الفوردية في المجال الاقتصادي ودولة الرفاهية في المجال الاجتماعي ـ يواصلان التحلل أمام أعيننا. وفي 1989، أدى انهيار سور برلين ثم انفجار المنظومة السوڤ-;---;--ييتية إلى استشراف العديد من آفاق التغيير. كان الستار الحديدي قد تآكل: مستندا إلى فكرة المساواة، كان قد قام بتنحية الحرية جانبا. ونحن نشهد اليوم النجاح الاقتصادي لمنظومة تستند إلى مفهوم الحرية، الذي نسي المساواة، وكذلك التضامن: غير أن هذا النجاح المحاسبي ينطوي بالقوة على إخفاق سياسي، لأنه يقترن بإفلاس أخلاقي، وبافتقار مطلق إلى الغايات. إن قوة العولمة خالية من المعنى. ويتمثل الاتجاه الذي نريد أن نقترحه على القرن الحادي والعشرين في أنسنة [إضفاء الطابع الإنساني على] العولمة، وتحويلها إلى وَعْد ومشروع عالميين حقا. وفيما يتعلق بالتنمية، تبدأ الاعتراضات الجذرية في التلاشي، كما يلاحظ عدد متزايد من الخبراء. وترتسم خطوط التقارب. وتبرز، كما يلاحظ أمارتيا سين Amartya Sen، فكرة أن التنمية في القرن الحادي والعشرين سوف تقوم على الذكاء أكثر مما على المادة، وعلى التعليم والمعرفة أكثر مما على "الدم"، و"العرق"، و"الدموع"(44)، وأكثر مما على التضحية بجيل أو بعدة أجيال. وعلاوة على هذا فإنه، وفقا لاقتصادي آخر، "لأن السوق والدولة تصلان على السواء إلى حدودهما، سيكون من الأفضل الجمع بين وليس الاعتراض على منطقهما. للدولة القرارات الاستراتيجية، وللسوق دور التخصيص اليومي للسلع التي لا تلتزم بأيّ خيار اجتماعي. وتثبت التجربة أن "الدولة وحدها" تقود إلى الفشل، وأن "السوق وحدها" تنتهي إلى حدود جلية فيما يتعلق بالعمل (البطالة والفوارق)، أو بالمال (دور المضاربة المنطوي على احتمال زعزعة الاستقرار)، أو أيضا بالبيئة (ضرورة الضوابط الجماعية). وتثبت النظريات الاقتصادية الجزئية الشروط المحددة التي يكون توازن السوق في سياقها هو الوضع الأمثل، ويرد تحليل التقدم التقني الداخلي الاعتبار لأهمية التدخلات العامة بالنسبة للتنمية (التعليم، التجديد)، ويوضح الاقتصاد السياسي الجديد أن الدولة ليست مطلقا مجرد أداة بالنسبة للتنمية. كما أن تناوب الإستراتيجيات التدخلية والليبرالية ليست قدرا لا فكاك منه. والحقيقة أن الأزمة المكشوفة التي دخلتها البلدان الآسيوية في 1997 تدعنا نتطلع بأمل إلى تركيب أصيل بالنسبة للقرن الحادي والعشرين: البحث عن علاقات تكاملية بين الدولة والسوق، في صميم الترتيبات المؤسسية الغنية لأشكال أخرى من التنسيق، باعتبارها أساس التنمية"(45). لأنه، كما يقر چوزيف ستيجليتس Joseph Stiglitz، النائب الأول للرئيس والباحث الاقتصادي الأول في البنك الدولي، "ألقت الأزمة، في آسيا ولكن بصورة خاصة في روسيا، الأضواء على الأهمية التي تتمتع بها، بالنسبة للتنمية، مسائل مثل المؤسسات المالية، والفساد، وقانون الإفلاسات. وقد أعلن "إجماع واشنطن" [اقتصاديو البنك الدولي وصندوق النقد الدولي]، أن مفتاح النجاح يكمن في التوازنات الكبرى، وتحرير التجارة، والخصخصة. والواقع أن البلدان اتبعت هذا البرنامج غير أنها لم تعرف النجاح. وقرر الصينيون، من ناحيتهم، أن كل هذا ليس ضروريا. وبدلا من الخصخصة، ركزوا جهودهم على المشروعات الجديدة؛ وبدلا من أن يحرروا التجارة، استبسلوا في التركيز على التنافسية. وتبرز الصين باعتبارها البلد الذي يتمتع بأفضل النتائج الاقتصادية! فقد انخفض معدل الفقر هناك من 66% إلى 22%! ولا أحد يمكن أن ينكر هذه النتائج. ومن الناحية النظرية، كان ينبغي أن تؤدي الخصخصات إلى الحد من الفساد، غير أننا نشهد أنها استطاعت، على العكس، زيادة الفساد ... وقد تعلمنا أن الإصرار على التحويل بسرعة بالغة لبلد يمكن أن يدمر العقد الاجتماعي، ويقوض الثقة، ويثري النخبة، ويفقر الآخرين ... ويؤدي كل هذا إلى خسائر يحتاج تعويضها إلى وقت طويل جدا"(46). أجل، ينبغي أنسنة العولمة. وينبغي أيضا تعميمها. سيزعم الشكاكون والساخرون أن هذه أماني ورعة ويوتوبيات لا يضمنها شيء. والحقيقة أنه لا شيء يضمن حدوث هذا النسق من الغايات، إلا الرغبة، والحب، والإرادة، والشجاعة، التي هي موجودة داخل كل منا، والتي يمكن أن تمنح من جديد، إذا قررنا هذا فحسب، معنى للمغامرة البشرية. ولا يتوقف إلا علينا تكذيب النبوءات القاتمة التي تتنبأ بالعبودية الطوعية. ولا يتوقف إلا علينا إعادة بناء سلسلة من المشروعات الوسيطة والأنشطة، لردم الهوة القاحلة التي تفصل الواقعية عن اليوتوبيا. والحقيقة أن مسئولية السياسة أساسية هنا. وكثيرا جدا ما ننسى هذا اليوم: كما شدد ماكس ڤ-;---;--يبر Max Weber فإن مهمة السياسة تتمثل في تنظيم وإدارة الوقت، في منح أفق للإطار الزمني للعمل. ولنتأمل أيضا هذه العبارة العبقرية لڤ-;---;--يبر: "لن يتم تحقيق الممكن مطلقا إذا لم نحاول، في هذا العالم، بصورة دائمة وبلا انقطاع تحقيق المستحيل"(47). وكما سوف يلاحظ خبراء المستقبليات فإننا لم نقم في هذا المدخل بتقديم سيناريوهات، ولن نطرح سوى القليل جدا منها في سياق "عالم جديد": حقا إن هذه الممارسة ليست غريبة على العمل المستقبلي لمكتب التحليل والتقديرات الذي سبق إقناعه، في إطار بعض ممارسات التوقع التي اقترحها شركاء اليونسكو، بأن يقترح، بكل الاحتياطات المعتادة، عددا من السيناريوهات. وعلى كل حال فإننا لم نأخذ بهذا المنهج في "عالم جديد". وكثيرا جدا ما يكون للسيناريوهات المستقبلية نزوع إلى التورط في عالم المستقبل. إنها مسألة فرضيات أكاديمية، أما الواقع التاريخي فإنه كان يتمثل دائما في مجموعة عملية من السيناريوهات، في "كوكتيل" من طبعات المستقبل. وبالمقابل، أوجزنا بعض صور المستقبل الممكنة، وأيضا بعض صور المستقبل المرغوبة. وما يهم هو أن نستبق، برؤيتنا وعملنا، المخاطر والفرص في عالم غير يقيني. ويتمثل هذا في اكتشاف ماذا سيكون تكوين كوكتيل الميول التي يمكن أن تطور إمكاناتها الكامنة في القرن الحادي والعشرين. فماذا ستكون هيراركية مبادئ المستقبل؟ وهل سيكون التعاون خاضعا للمنافسة؟ أم أنه، دون أن يلغيها، سيقوم بأنسنتها؟ وشبكات الجريمة المنظمة، هل ستقوم بالسيطرة على صالة الماكينات؟ أم سيتم احتواء تأثيرها ثم الحد منها بصورة تدريجية، بل القضاء عليها، بدون التعدي على الديمقراطية؟ وهل سيتم تضييق الفوضى إلى الحد الأدنى؟ أم أنها سوف تنتقل إلى كل مكان على ظهر الكوكب؟ والأبارتهيد الحضري والاجتماعي، هل سيتم وقفه ومكافحته بل حتى تدميره؟ أم أنه سوف ينشر منطقه الشامل إلى مجموع الإطار الاجتماعي؟ وبطبيعة الحال فإن التوقع يمكن علاوة على هذا أن يساعدنا في توضيح السياسات بشأن التدابير التي ينبغي اتخاذها من أجل تشجيع أولية الميول والمبادئ والقيم التي يبدو لنا أن من شأنها أن تقلل المخاطر والأخطار إلى حد أدنى، وأن تحقق أشكالا للمستقبل معترف بها على أنها مرغوبة. وإنما عند هذه النقطة لا نستطيع أن نتفادى إعادة تأسيس للمجتمع الكوكبي؛ وإنما عند هذه النقطة تتدخل الفرضية الضرورية لعقد اجتماعي جديد، من أجل أنسنة الثورة الصناعية الثالثة والعولمة التي تصاحبها. ذلك أن البحث المستقبلي لا يمكن أن يكتفي بتحديد بعض الميول، وبتقديم بعض الفرضيات، وباكتشاف بعض مصاعب المستقبل في الحاضر، وبتقديم بعض السيناريوهات. والاستباق هو فن المأمول والمرغوب. إنه فن تحويل الخيال إلى تاريخ، عن طريق تحديد مقياس ملموس ـ لمشروعات وعمل. وهو يتحرر بهذا المعنى من شرك اليوتوبيا وكذلك من شرك السخرية الكلبية. إنه رؤية وذاكرة المستقبل. إن بُعْد النظر واجب وقصر النظر جريمة. وفي الوقت الحالي تظل عولمة أجهزة الكمبيوتر، والأسواق، والاتصالات السلكية واللاسلكية، والفيروسات، قاربا سكران. وسوف يكون لا غنى عن ديمقراطية دولية أوسع، حتى من وجهة نظر اقتصادية خالصة، إذا أردنا أن نتفادى الهلاك، وأن نواجه التحديات الأربعة التي تناولناها، لكي نعيد منح اتجاه للعولمة وأفق لمشروع ومعنى المغامرة البشرية، ولكي نحل في الوقت الملائم المشكلات الملموسة للبشرية، بدلا من السوق الحرة وانتظار الأزمات من أجل محاولة التكيف، بلا نجاح، معها. وسوف تشكل أربعة عقود أعمدة هذه الديمقراطية الدولية الجديدة، التي يطرح "عالم جديد" على نفسه استكشاف بعض منطلقاتها الملموسة، دون تظاهر بالاستنفاد. وسوف تعود اليونسكو، أو يعود غيرنا، إلى بعض المشكلات الرئيسية التي لم نستطع تناولها، أو التي لم نقم بمعالجتها إلا بسطحية: مستقبل العمل في ضوء الثورة الصناعية الثالثة، أو مستقبل المحيطات، أو التهديد المتعدد الأشكال للتلوث وبصورة خاصة التلوث غير المنظور والكيميائي، أو المشكلات البيولوجية الأخلاقية في مواجهة فتوحات العلم والصناعة، أو النهوج المستقبلية الخاصة بالتنمية. وكل هذه الموضوعات هي الآن أو ستكون في قلب التفكير المستقبلي لليونسكو. وإذا عبرنا عن معنى عند شكسبير Shakespeare بكلمات أخرى فإنه توجد في هذا العالم أشياء أكثر من أن يحتويها [كتاب] "عالم جديد". والحقيقة أن القرن الحادي والعشرين، إذا أراد أن يوطد تحالفا جديدا بين الأمم، وبين الشعوب، وبين المواطنين، من أجل منع العنف والحرب، فإنه يجب، في نظرنا، أن يستند إلى أربعة عقود: عقد اجتماعي، وعقد طبيعي، وعقد ثقافي، وعقد أخلاقي. وكأساس للعقود الأربعة التي نطرحها لدخول القرن الحادي والعشرين، دون أن نعود القهقرى، بل بأعين مفتوحة وقدم ثابتة، حاولنا أن نطرح الأسس الأولى لعقد اجتماعي جديد من أجل القرن الحادي والعشرين. وعندما نأخذ في اعتبارنا التوقعات الديموجرافية والزيادة المستمرة في عدم المساواة، فإن الأولوية الأولى تتمثل في إعادة بناء التضامن عن طريق القضاء على الفقر والحد من الفوارق المخزية التي تؤدي إلى اليأس والحرمان. فما هي سياسات الأجل الطويل التي يجب تحديد معالمها الأولى دون إبطاء، إذا أردنا القضاء على الفقر، بما يتفق مع التعهد الذي جرى قطعه في قمة كوپنهاجن بشأن التنمية الاجتماعية؟ وكيف يمكن النضال ضد الأبارتهيد الحضري، وكيف يمكن تغيير المدينة وبالتالي تغيير الحياة؟ وكيف يمكن السيطرة على الثورة الصناعية الثالثة وإضفاء الطابع الإنساني عليها قبل أن يفوت الأوان؟ وكيف يمكن إعادة توزيع عائدات العولمة، من أجل التخلص من مجتمع "الخُمْس"، الذي يطرح للنقاش أسس الديمقراطية ذاتها؟ وكيف يمكن النضال ضد لا أخلاقية المخدرات والجريمة المنظمة اللتين تهددان مستقبل البشرية، لأن الشباب هو الذي يدفع الضريبة الأشد فداحة لهاتين الآفتين؟ وكيف يمكن إرساء أسس عقد اجتماعي جديد يقوم، ليس على إقصاء جزء متزايد من البشرية، بل على احترام أكبر لكرامة كل فرد ولطموحاته المشروعة؟ وكيف يمكن إعطاء النساء كل المكانة التي يملكن الحق في الحصول عليها، وإرساء التساوي والتكافؤ الفعليين في كل مجالات النشاط البشري؟ وبهذا الخصوص، يوجز "عالم جديد" بعض منطلقات التفكير والعمل، حتى تتم ترجمة هذا العقد الاجتماعي الجديد إلى التزامات فعلية، فيما وراء التعابير الطنانة القومية والدولية واختلافات وجهات النظر حول السياسة والاقتصاد. والعقد الكبير الثاني الذي نقترح مجملا له في "عالم جديد" هو العقد الطبيعي، الذي يجب أن يقوم على تحالف العلم والتنمية والمحافظة على البيئة. فكيف يمكن أن توضع موضع التنفيذ بصورة ملموسة الالتزامات التي تم تبنيها في ريو في قمة الأرض وفي كيوتو، بمناسبة القمة الخاصة بالحد من انبعاثات غازات الدفيئة؟ وكيف يمكن التوفيق بين المحافظة على المحيط الحيوي وتنمية المحيط الاجتماعي؟ وكيف يمكن المضي فيما وراء العقد الاجتماعي، المتفاوض عليه بين المعاصرين، من أجل التوصل إلى عقد طبيعي للتنمية المستديمة والتنمية المشتركة مع الأرض، التي تقوم على مفهوم أخلاق المستقبل وتوريثها للأجيال التي سوف تولد في المستقبل؟ وكيف يمكن السيطرة على السيطرة، وتحرير العلم من عقدته البروميثية المتمثلة في السيادة على الطبيعة، وكيف يمكن تعبئة متخذي القرار والرأي العام من أجل إيجاد الحلول عن طريق التعاون والتفاوض للمشكلات التي تستدعي استجابات منسقة على المستوى الكوكبي والإقليمي؟ وكيف يمكن حل مشكلات التصحر وتحات التربة؟ وكيف يمكن تفادي أن يصير القرن الحادي والعشرون قرن حروب المياه، كما كان القرن العشرون في أغلب الأحيان قرن حروب البترول؟ وما العمل من أجل أن يوجد ما يكفي لإطعام الجميع ومن أجل أن يكون هذا الغذاء صحيا وذا نوعية جيدة، وكيف يمكن تحقيق الأمن الغذائي من زاوية كمية مثلما هي صحية؟ وكيف يمكن السيطرة على ثورة البيوتكنولوجيات الزراعية؟ وكيف يمكن السيطرة على الطاقة وتنويعها، والسير قدما نحو تلك الثورة الخاصة بالفعالية الإيكولوجية والتنموية التي قام بتنظيرها نادي روما في تقرير العامل الرابع Factor Four؟ وكيف يمكن وضع التعليم والبحث في خدمة التنمية المستديمة؟ وما هي البنية الأساسية التي سيكون علينا أن نشيدها حتى تكون المدن ليس فقط قابلة للسكنى والعيش، بل لكي تكون مستديمة؟ وما العمل لكي تكون الأرض من جديد "زرقاء مثل برتقالة"، وفقا للكلمة النبوئية للشاعر پول إيلوار Paul É-;---;--luard؟ إننا نملك بيتا ووطنا مشتركين: الكوكب. ومن الآن فصاعدا يمثل تعلم المحافظة عليه وصداقته مع إدارة موارده بطريقة صحية وذكية ضرورة مطلقة. وهناك أيضا، يقدم "عالم جديد" بعض المنطلقات الملموسة للتفكير والعمل لكي يؤدي "العقد الطبيعي" إلى التزامات فعلية، تفاوضية، ومحددة بالأرقام، ومدرجة في جدول زمني، فيما وراء المجادلات والاختلافات الدولية بشأن هذه المسائل. والعقد الثالث: العقد الثقافي. ويرتبط هذا العقد بصورة لا تنفصم بالعقدين السابقين، وسيكون التعليم للجميع مدى الحياة أحد محاوره الأساسية. وهذا عمل ضخم، سيكون من الواجب أن يمثل المشروع الكبير للقرن الحادي والعشرين، ولن يكون من الممكن على الأرجح بلوغ أفقه النهائي إلا مع اقتراب عام 2100. وسوف يتعين أن يمثل هذا الهدف أولوية الأولويات بالنسبة للحكومات، ولكن أيضا للمجتمع ككل، وللقطاع الخاص، ولفاعلي "الاقتصاد الرابع" الذي بسبيله إلى التنظيم، ولكل مواطن لن ينتهي أبدا، مثل سقراط Socrates، من تعلمه وتعلم تعلمه. غير أن هذا الأفق يظل بالضرورة بعيدا، حتى إذا كان تصوره المسبق ماثلا الآن في قلب المجتمعات الصناعية، كما أن تعميمه سيكون مليئا بالعقبات والفخاخ. وعلاوة على هذا فإن الأمر لا يتعلق أبدا بحل سحري. والواقع أنه لن يكفي، لتحقيقه، تحرير الموارد التقنية والبشرية والمالية التي لا غنى عنها. كما سوف ينبغي جعل التعليم للجميع مدى الحياة رهانا ديمقراطيا حقيقيا، وبالتالي تدمير الأبارتهيد المدرسي والجامعي الواسع الانتشار وإعادة هيكلة التعليم كمشروع للمواطنة للتدريب المدني والمساواة الفعلية للفرص للجميع. وفي غياب إرادة سياسية حازمة ومشروع تعليمي حقيقي طويل الأجل، فإننا يمكن أن نشهد حقا تجزئة التعليم للجميع مدى الحياة وفقا لمنطق تجزيئي تصل به أقلية من المختارين إلى "فراديس المعرفة"، ويحكم على ملعوني المعرفة الجدد بجحيم الجيتوات التعليمية الجديدة، وعلى كتلة كبيرة من المتوسطين بالمطهر العقيم. وفي قلب العقد الثقافي، تشكل ثورة التكنولوجيات الجديدة تحديا أساسيا ولكن أيضا وسيلة نجاح حاسمة: فكيف يمكن الانتقال من مجتمع المعلومات إلى مجتمع المعرفة؟ وكيف يمكن التغلب على الأمية وشبه الأمية؟ وكيف يمكن تعميم تعليم ثانوي مرتفع النوعية، يستفيد منه النساء والرجال على أساس من التكافؤ؟ وأمام التطور السريع للمعارف والتقنيات، ماذا ستكون المناهج الجديدة للتعليم التي سوف تشجع تحديث وتجديد المعارف؟ فماذا سيكون شكل مدرسة المستقبل، وماذا سيتم تعليمه في القرن الحادي والعشرين؟ وكيف يمكن إضفاء قيمة جديدة على التعليم الفني والمهني؟ وكيف يمكن إجراء إصلاح التعليم العالي بصورة كلية، حتى يكون الحصول عليه متاحا بصورة فعلية للجميع على أساس الجدارة، وحتى يتحول إلى أداة تعليم للجميع مدى الحياة؟ وكيف يمكن تحويل وعد الطرق السريعة للمعلومات والمعرفة إلى حقيقة فعلية متاحة للجميع؟ وكيف يمكن تشجيع تنمية البنية الأساسية لهذا المجتمع للمعرفة في الجنوب، الذي ما يزال فيه التليفون ترفا؟ وكيف يمكن تشجيع انطلاق نمو العلم وتطبيقات التكنولوچيا في مجتمعات هي ضحايا لهجرة العقول؟ وما هي الأخطار التي تشكلها التكنولوچيات الجديدة على مصير المجتمعات والثقافات؟ وكيف يمكن أن تسهم هذه التكنولوجيات ذاتها في تعزيز التعليم، والبحث العلمي، وتطبيقات المعرفة، والحوار بين الثقافات، والتداول الحر للمعلومات والمعارف؟ وماذا سيكون مستقبل الكتاب والقراءة؟ وماذا سيكون مستقبل تنوع اللغات ـ هذا التراث الذي يعيش في قلب كل فرد؟ وعلى مشارف 2020 هل سيحول التعليم عن بُعْد المؤسسات التعليمية إلى عوالم افتراضية؟ وهل سيكون بالمستطاع تأسيس التعليم بدون بُعْد [= بدون مسافة]، الذي سوف يدمج أولئك الذين تم إقصاؤهم والذي سيكون بمستطاعه أن يصل إلى "منبوذي" المعرفة؟ وهل ستكون لدينا الحكمة الكافية للتوصل إلى العقد الثقافي الذي يشجع التعددية والتآلف الثقافي، بدلا من تعزيز الامتثال الثقافي؟ وهل سنتجه نحو تهجين الثقافات أم نحو صدام الثقافات؟ وهل سيكون بمستطاعنا أن نعبر الفجوة الثقافية التي تفصل، في قلب المجتمعات ذاتها، بين المرفهين والمحرومين، واضعين، كما أوصى تقرير دولي، برنامج عمل يقوم بصورة خاصة على استعانة مكثفة بالتكنولوجيات الجديدة وعلى استخدام مراكز الاتصال والتبادل التي يجب أن تتمثل في المدارس، والمسارح، والمتاحف، والمراكز الثقافية، وشبكات عمل المواطنين، والمشروعات(48)؟ وهل سيكون بوسعنا تأسيس الثلاثية اللغوية المعممة منذ التعليم الابتدائي، في العمر الذي يكون من السهل فيه للغاية تعلم لغات وثقافة الآخر، من خلال تبادلات ضخمة لمدرسين يتم التفاوض عليها على المستوى الإقليمي أو الدولي؟ وهل سيكون بوسعنا، أخيرا، إدخال البعد الثقافي في التنمية؟ وتعزيز السياسات الثقافية التي ستكون قادرة، من خلال مضاعفة عرض البرامج الثقافية، على حفز الطلب على الثقافة عن طريق التعليم والتدريب الفني والجمالي؟ وهل سنكون قادرين على أن نربط بصورة أفضل بين المجالات الثلاثة للثقافة، الثقافة الكوكبية، والثقافة القومية أو المحلية، والثقافات المتعددة المجالات/التقنيات transversales التي هي الآن في أقصى حالات التوسع في عصر الشبكات؟ وكيف يمكن التوفيق بين الابتكارات، والتقاليد، والتنمية؟ وهل سنكون قادرين على أن نمنح روحا للتنمية، وأن نعيد إلى قلبها الكائن البشري الذي كثيرا جدا ما يكون اليوم عبدا لها؟ العقد الرابع: العقد الأخلاقي الذي سوف يجب في القرن الحادي والعشرين أن يعيد منح المعنى والأفق للمغامرة البشرية. ويجب أن يستند هذا العقد إلى ثلاثة جوانب. كيف يمكن، في المقام الأول، تعزيز انطلاق نمو ثقافة سلام وتنمية ذكية يمكن، بدلا من سحق الكائن البشري، أن يكون مرادفا لازدهار يقوم على المعرفة ووضع المعارف أو الكفاءات في الشبكات، هذه المعارف أو الكفاءات اللامادية بحكم التعريف؟ وكيف يمكن الانتقال من منطق لإعادة البناء يقوم على جراحة تتم بعد النزاع إلى منطق وقائي يقوم على أساس توقع النزاعات وعلى أساس التقدير المسبق للأزمات؟ وكيف يمكن تشجيع ظهور ثقافة سلام تقوم على الحط من قيمة العنف، وعلى التطبيق الفعلي لكل حقوق الإنسان، وعلى الدعم النشيط للتعددية والحوار بين كل مكونات المجتمع، وعلى التعليم الأخلاقي للسلام، والديمقراطية، واحترام الآخر؟ وكيف يمكن تشجيع تقدم تطبيق حقوق الإنسان، بالبدء بالإلغاء الكامل، في كل البلدان، لعقوبة الإعدام؟ وكيف ـ وهذا جانب ثان ـ يمكن تعزيز تعميق الديمقراطية، بإعادة إدخال الأمد الطويل في التنمية وفي الحيز العام للمدينة؟ وسوف ينبغي بالفعل تعميق الديمقراطية في الزمان، بأن نرسخ في قلب المؤسسات والمجتمع، جذور هذا التصور الاستباقي والمستقبلي(49) للمواطنة citoyenneté كمشروع شددنا على ضرورته. وسوف يجب أن توفق هذه الديمقراطية المستقبلية الطابع المعاصر بصورة جوهرية للعقد مع ضرورة التقسيم في الأجل الطويل والمسئولية إزاء الأجيال القادمة. وسوف ينبغي أيضا تعميق الديمقراطية في المكان، عن طريق إدخال أشكال ملائمة من الديمقراطية الدولية. وكما تم التشديد على هذا في "أحاديث القرن الحادي والعشرين"، فإن المسائل الأساسية للتنظيم والإدارة سوف تكون في قلب النقاش العالمي خلال العقود المقبلة. وأمام ضخامة التحديات التي سبق ذكرها والواقع الحديث للتدخلات العسكرية التي تم اتخاذ قراراتها بدون موافقة مجلس الأمن وخارج منظومة الأمم المتحدة، هل يمكن، أم لا، أن نفترض أننا نحث الخطى نحو ديمقراطية كوكبية؟ وفي مواجهة انتشار اقتصاد سوق عالمي، هل ينبغي أن نبتكر ذات يوم، كما اقترح جاك أتالي Jacques Attali(50)، "ديمقراطية، كالسوق، لا تكون مقيدة بمنطقة، ديمقراطية بلا حدود في المكان والزمان"؟ وهل يمكن أن نبتكر أنماطا للاندماج الدولي مماثلة لنمط النموذج الأوروبي أم أن هذا وهم؟ وفي مواجهة المشكلات التي صارت من الآن فصاعدا عبر قومية، بدون جنسية، بدون جواز سفر، هل يمكن أن نستغني عن مثل هذه النماذج؟ إننا مقتنعون، كما كان حال الدول القومية في فترة التكوين، بأن مشكلات الإدارة، والتحكيم، والتنظيم، والقدرة على تطبيق القانون على المستوى العالمي، ستكون في صدارة جدول أعمال القرن الحادي والعشرين. وسوف تعبئ هذه المسائل الاهتمام المتزايد للدول، بل أيضا المجتمع المدني الدولي وشبكات المواطنة الكوكبية التي هي اليوم في حالة توسع كامل. وهي ستجعل من غير الممكن مطلقا الاستغناء عن تفكير وعمل المنظمات الدولية بعد تحويلها بعمق: هذا هو السبب في أننا، بعد فصل مخصص لمشكلات الأمن الكوكبي وعائدات السلام، نوجز في "عالم جديد" بعض منطلقات التفكير والعمل بشأن الإصلاح الذي لا غنى عنه لمنظومة الأمم المتحدة. كما سوف تتم ممارسة تعميق الديمقراطية على المستوى العالمي في مجال الثقافة، عن طريق انتشار ثقافة جديدة للديمقراطية ستقوم بتسوية النزاعات بتجاوز المعضلات المنطقية التي ينطوي عليها الاندماج وتفسخ الهوية؛ وفي سبيل ثقافة مشاركة association جديدة، تتيح تجاوز التناقضات التي تضع الدولة والسوق في مقابلة من خلال إعادة اكتشاف أساس الديمقراطية ذاته: المشاركة، هذا المفهوم التأسيسي عند روسو Rousseau كما عند توكڤ-;---;--يل(51). على أن هذا العقد الجديد للأخلاق لا يمكن إبرامه بدون التضامن والتقاسم، وبالتالي بدون إعادة التوزيع لمكاسب العولمة، التي يجب أن يستفيد منها الجميع وليس خُمْس السكان. ومن جهة أخرى، كان إنجاح العولمة لصالح الجميع الهدف الذي حددته لنفسها مجموعة الثمانية في أحد قممها الأخيرة(52). ويجب إنجاز هذا الوعد في الواقع الفعلي للتاريخ. وكما شدد إيثان كاپشتين في "محاورات القرن الحادي والعشرين"، فإن إعادة التوزيع "يجب إجراؤها داخل كل مجتمع، أول كل مجموعة من المجتمعات، وعلى النطاق العالمي ... مما يفترض ’تنظيما عالميا للنظام الضريبي‘، من المحتمل بدونه أن يكنس منطق السوق كل مشروع لإعادة التوزيع على النطاق القومي. ولابد من أن يشمل مثل هذا التنظيم على الأقل مستويات دنيا للتكليف الضريبي والضرائب في الأجل القصير على التدفقات الرأسمالية مماثلة لتلك التي طبقتها تشيلي. ويمكن أن يتلقى تماسك السياسات الاقتصادية والاجتماعية العون من جانب منظمات دولية متعددة الأطراف بصورة حقيقية ومعتمدة من جانب جميع الفاعلين"(53). كما ستكون إعادة توزيع مكاسب العولمة ضرورة لا غنى عنها إذا أردنا أن نساعد أفريقيا في القيام ببداية جديدة: هذا هو السبب في أننا تناولنا، في الجزء الرابع من هذا العمل، هذه المسألة الحاسمة بالنسبة للعقود القادمة: هل ستحدث المعجزة الأفريقية؟ ولا يمكن أن يتم تعميق الديمقراطية بصورة دائمة، ما لم نُرجع إلى المواطنين حب الرفاهية العامة والرغبة في ممارسة حقوقهم السياسية، مع إرجاع إحساس بالمشاركة participation. وعلى هذا فإن "كوجيتو" cogito ergo sum ["أنا أفكر، إذن أنا موجود"] مواطن القرن الحادي والعشرين يجب أن يُصاغ على هذا النحو: "أنا أشارك، إذن أنا موجود"(54). لأننى إن لم أشارك، فإننى محسوب في التعدادات والاستطلاعات، مشطوب في الانتخابات، ولكن هل أنا محسوب حقا؟ وأنْ يكون المرء محسوبا في القرن الحادي والعشرين، سوف يعني أن يشارك. ويجب أن يدرك كل فرد الهوة الواسعة التي تفصل اليوم الديمقراطية عن هذا المثل الأعلى، نتيجة للتخلي أو عدم الاكتراث الذي يمكن أن نلاحظه في عدد كبير من البلدان، والذي تتم ترجمته إلى تغيُّب عن الانتخابات وإلى نقص النشاط الديمقراطي داخل المجتمعات المدنية والحركات السياسية. وسوف ينبغي حقا الاختيار بين المشاركة المدنية كمواطنين وهيمنة ديمقراطية محترفة تشكل القرار فيها مجموعات الضغط وتتخذه قلة(55). ويرتبط الجانب الثالث لهذا العقد الجديد للسلام والإدارة على النطاق العالمي ارتباطا مباشرا بالجانب السابق، ويسهم في إنجاز "عالم جديد": إنه المجال الواسع لأخلاق المستقبل، هذا المجال الذي يتم استكشافه بمبادرة من المجلس الدولي للعلوم الاجتماعية ومكتب التحليل والتوقع. فما هي المرجعيات السياسية والأخلاقية التي سوف ينبغي علينا أن نرسخها في التخلص من طغيان طابع الإجراء الملحّ العاجل، الذي جعلنا نستثمر في مشروعات محكوم عليها بالفشل، وفي كثير من الأحيان بأفضل النوايا على الإطلاق؟ وكيف يمكن استعادة أفق الزمن الطويل وتحرير أنفسنا من هيمنة الأجل القصير؟ وكيف يمكن، في هذا المنظور، تعزيز قدرات التوقع والتفكير المستقبلي؟ وما هي السياسات التي ينبغي اعتمادها وتطبيقها حتى نجعل علما في حالة من التحول الكامل يكف عن الانفصال عن الضمير، الذي يتعرض هو ذاته للتطور السريع؟ وما العمل حتى يكون بالمستطاع في سياق العمل السياسي الراهن أن تكف قرارات اليوم عن تجاهل كل رؤية طويلة الأجل، باسم براجماتية عمياء وتكيف يتم رفعه إلى مستوى عقيدة، باسم موازنات ملائمة دائما تقريبا للحاضر وللأقوياء، باسم قِصَر نظر زمنى يستأثر لنفسه، دون إعلان، بحقوق الأجيال المقبلة؟ وكيف يمكن إدخال أخلاق المستقبل du futur، وهي ليست الأخلاق في المستقبل au futur، مؤجلة إلى أجل غير مسمى، بل هي أخلاق الحاضر من أجل المستقبل pour le futur، في تعليم أطفالنا منذ بدء السنة الدراسية، المدرسية والجامعية، المقبلة؟ وقد حاولنا الإجابة على هذه الأسئلة في خاتمة هذا العمل. وفي فجر القرن الحادي والعشرين، نقترح سبعة مبادئ للحكمة على تلاميذ وطلاب المستقبل: ثق بالناس Trust the people، ما لم يكن لديك الدليل على أن ثقتك قوبلت بالخيانة: ليس هناك مستقبل قابل للاستمرار يمكن بناؤه على عدم الثقة. حافظ على الكوكب Care for the Planet، ليس لأنه ملكك، بل لأنه عُهد إليك به على سبيل حق الانتفاع، ولأن عليك، كما استلمته، أن تنقله إلى أطفالك، وأطفال أطفالك. الذكي جميل Smart is beautiful، لأن مستقبل الجنس البشري هو العالم اللامادي للروح؛ سوف تقوم التنمية في القرن الحادي والعشرين على المادة الرمادية [= النسيج الرمادي للمخ والحبل الشوكي] la matière grise، وعلى انطلاق نمو الذكاء، وعلى ازدهار الروح والحكمة. قم بالإعداد للسلام إذا كنت تريده، لأنك إذا أعددت للحرب ستحصل على الحرب. أعطِ للغير إذا أردت أن تتلقى، لأنه، وفقا للمثل الأفريقي، الحب هو الشيء الوحيد الذي يزداد باقتسامه. في عالم عالمي، في سوق عالمية، لابد من ديمقراطية عالمية: لن تكون هناك "قرية عالمية" ما دامت لا توجد مواطَنة une citoyenneté للوطن الأرض، تتضامن مع وتحترم المواطَنات citoyennetés القومية والثقافات المحلية. مستقبلنا ليس مكتوبا في أي مكان: إنه بين أيدينا جميعا. وسوف يسأل بعضهم: هل قمتم بتقدير نفقات هذه العقود التي تقترحونها للقرن الحادي والعشرين؟ ونحن نقدم في سياق هذا العمل مؤشرات ملموسة بشأن عدد من التدابير ذات الأولوية. فهل ستكون الفاتورة مرتفعة جدا؟ فلنتذكر أن النفقات العسكرية العالمية تمثل 700 إلى 800 مليار دولار في السنة، وأن بمستطاعنا تحقيق مدخرات كبيرة من خلال خفض النفقات غير المنتجة، وتحسين إنتاجية الخدمات العامة، وترشيد الإدارة، وإلغاء عدد من الإعانات الباهظة وغير الفعالة، والنضال بصورة فعلية ضد الفساد. ولنتذكر أن برنامج الأمم المتحدة للتنمية يقدر بـ 40 مليار دولار فقط في السنة تكلفة تحقيق واستمرار تعميم للتعليم الأساسي، وغذاء كاف، ومياه صالحة للشرب، وبنية أساسية صحية أولية، بالإضافة إلى تقديم خدمات الرعاية الصحية والتوليد للنساء. ويمثل هذا المبلغ اقل من 4% من المجموع الكلي لأضخم مائتين وخمس وعشرين ثروة في العالم. فهل هذا أغلى من أن ندفعه ثمنا للسلام؟ هل هذا أغلى من أن ندفعه ثمنا للتنمية؟ هل هذا أغلى من أن ندفعه ثمنا للديمقراطية؟ وكما يقول جابرييل جارثيا ماركيث Gabriel Garcia Má-;---;--rquez "لا تتوقعوا شيئا من القرن الحادي والعشرين. إن القرن الحادي و العشرين هو الذي يتوقع منكم كل شيء"(56).
(1) Ilya Prigogine, Avant-propos, La Nouvelle Page, 1994 (F. Mayor, avec la collaboration de T. Forstenzer) éd. du Rocher/éd. UNESCO. (2) Jérôme Bindé, “Prêts pour le XXIe siècle ?”, article publié dans Le Monde, 29 juillet 1998, et dans plus de 80 périodiques de référence des différentes régions du monde. (3) Eric J. Hobsbawm, Age of Extremes: the Short Twentieth Century 1914-1991, Abacus, 1995. (4) Aminata Traoré, ministre de la Culture du Mali, UNESCO, juin 1999. (5) Cf. Daniel Cohen, Richesse du monde, pauvretés des nations, Paris, Flammarion, 1997. (6) Alain Touraine, Critique de la modernité, Paris, Fayard, 1992. (7) D. Cohen, op. cit. (8) J. Bindé, “Quelle société pour le XXIe siècle ?”, préface du Bilan du Monde, édition 1999, Le Monde, Paris, 1999. Version intégrale à paraître dans Futuribles. (9) D. Cohen, op. cit. (10) (10)Voir notamment Richard Sennett et Roger Sue, communications aux Dialogues du XXIe siècle, UNESCO, 16-19 septembre 1998. انظر الفصل "تغيير المدينة يعني تغيير الحياة".(11) (12) J. Bindé, “Vers un apartheid urbain ?”, communication aux Dialogues du XXIe siècle, septembre 1998, à paraître dans Futuribles. (13) J. Bindé, “Quelle société pour le XXIe siècle ?”, loc. cit. (14) Anaisabel Prera Flores, El poder sin rostro, UNESCO, mai 1999. (15) Alexis de Tocqueville, De la démocratie en Amérique, 4e partie, chap. v, Paris, 1835-1840. (16) Cf. Business Week, “The Mob on Wall Street”, 16 décembre 1996. (17) J. Baudrillard, Le Crime parfait, Paris, Galilée, 1995. (18) Rapport mondial sur le développement humain, Programme des Nations Unies pour le développement (PNUD), New York, 1998. (19) Ibid. (20) Ibid. (21) Rapport mondial sur le développement humain, PNUD, New York, 1996. انظر الفصل "التعليم على مشارف 2020: عن بُعْد أم بدون بُعْد؟".(22) (23) Federico Mayor, “Le devoir de mémoire”, article publié par El Paí-;---;--s , 22 avril 1999, et dans plusieurs dizaines de périodiques des différentes régions du monde. (24) Mireille Delmas-Marty, Trois défis pour un droit mondial, Paris, Seuil, 1998 --;-- Vers un droit commun de l humanité. Conversation avec Philippe Petit, Paris, Textuel, 1996 --;-- Pour un droit commun, Paris, Seuil, 1994. (25) E. Morin, “La terre comme patrie”, Le Courrier de l UNESCO, novembre 1995. استشهد بهذه الحكمة للفلسفة الرواقية، التي تستبق منذ العصور القديمة فكرة مواطنة العالم والعالمية (26) الكوسموبوليتانية: Péter Coulmas, Weltbûrger: Geschischte einer Menschheitssehnsucht, Rowolt Verlag, 1990 . (27) Emmanuel Kant, Le Conflit des facultés (1798), Paris, Vrin, 1998. (28) Le développement qui suit s inspire des analyses développées lors de la troisième séance des Entretiens du XXIe siècle par J. Bindé et synthétisées dans les articles “Prêts pour le XXIe siècle ?”, loc. cit., et “Quelle société pour le XXIe siècle ?”, loc. cit. (29) Nations Unies, Rés. A/51/178. (30) Rapport mondial sur le développement humain, PNUD, Nations Unies, 1996, 1997, 1998. (31) H. P. Martin et H. Schumann, Le Piège de la mondialisation, Paris, Solin, 1997, The Global Trap: Globalization and The Assault on Prosperity and Democracy, Londres, Zed Books, 1997. (32) J. Bindé, “Prêts pour le XXIe siècle ?” loc. cit. (33) CNUCED, 1994, étude citée par Jacques Decornoy, “Inquiétants nuages audessus de la FAO”, Le Monde diplomatique, octobre 1995. انظر الفصل "فضيحة الفقر والحرمان".(34) (35) Alan Durning, “Asking how much is enough”, State of the World 1991, World Watch Institute, Washington, 1991. (36) J. Bindé, ibid. (37) Marc Ferro, “Médias et intelligence du monde”, Le Monde diplomatique, Paris, janvier 1993. (38) Rapport du Comité d’aide au développement 1998, OCDE, Paris, 1999. انظر الفصل "عائدات السلام والأمن العالمي".(39) (40) Cité dans “Prêts pour le XXIe siècle ?”, loc. Cit. (41) E. Kapstein, communication aux Dialogues du XXIe" siècle, UNESCO, 16-19 septembre 1998. (42) Alexis de Tocqueville, op. cit, 4e partie, chapitre vi (43) Anaisabel Prera Flores, ¿-;---;--Sociedad de mercado? No, gracias”, El Paí-;---;--s, Madrid, août 1998. (44) Amartya Sen, “Development thinking at the beginning of the 21st Century”, in Economic and Social Development into the 21st Century, --dir--. pub. Louis Emmerij, Banque interaméricaine de développement (BID), Washington, D.C. 1997. (45) Robert Boyer, “É-;---;--tat, marché, développement: une nouvelle synthèse pour le XXIe siècle?”, communication à la conférence “Au-delà du consensus de Washington”, organisée par l É-;---;--cole des hautes études en sciences sociales en coopération avec l UNESCO, Paris, UNESCO, 16-17 juin 1999. (46) Joseph Stiglitz, “Un hérétique à la Banque mondiale”, Libération, Paris, 25 juin 1999. Voir aussi J. Stiglitz, “Towards a new paradigm for development: strategies, policies and processes”, 1998, conférence à la CNUCED. (47) Max Weber, “Le métier et la vocation d homme politique”, Politik als Beruf, 1919. (48) Cf. rapport du groupe de Lisbonne-limit-es à la compétitivité, 1995. وهذا التصور عن الديمقراطية صوره بصورة خاصة: (49)Mihajlo Mesarovic, Ré--union-- des conseillers spéciaux, UNESCO, 11 mars 1998. (50) Jacques Attali, intervention aux Entretiens du XXIe siècle, 6 avril 1998, cité dans Le Monde du 28 avril 1998. (51) Roger Sue, Communication aux Dialogues du XXIe siècle, UNESCO, 16-19 septembre 1998. قمة برمنجهام لمجموعة الثمانية، 15-17 آيار/مايو 1998. (52) (53) J. Bindé, “Quelle société pour le XXIe siècle ?”, loc. cit. (54) Federico Mayor, Allocution d ouverture de la 29e session de la Conférence générale, UNESCO, 21 octobre 1997. (55) Cf. Michael Walzer, Entretiens du XXIe siècle, “Quel avenir pour la démocratie ?”, UNESCO, 13 novembre 1997. (56) Gabriel Garcia Marquez, allocution lors du forum “La Vision de la prochaine génération: l Amérique latine et les Caraïbes au seuil du nouveau millénaire” organisé par l UNESCO et la Banque interaméricaine de développement (BID), Paris, 8 mars 1999.
#خليل_كلفت (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
الكاتب-ة لايسمح
بالتعليق على هذا
الموضوع
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
حدود الحروب الجوية
-
سوريا: اللغز الكبير
-
اليسار والجماهير والثورة
-
مسارات تراجُع اليسار الماركسى
-
الأبنودى معجزة لا تموت
-
حروب الدمار الشامل
-
أخيرا عاصفة الحزم
-
صعود جِدُّوكاب وصعود النوبة للروائى يحيى مختار
-
العراق إلى أين؟
-
بورخيس كاتب على الحافة 11: بورخيس والأدب الأرجنتينى (فى فصول
...
-
بورخيس كاتب على الحافة 10: اليوتوپيا والطليعة: الجديد كأساس
...
-
نحن والإخوان المسلمون
-
بورخيس كاتب على الحافة (فى فصول) 9: الطليعة وبوينوس آيرس وال
...
-
بورخيس كاتب على الحافة 8: مسألة النظام
-
بورخيس كاتب على الحافة 7: أبنية خيالية
-
مصر والدولة الإسلامية داعش
-
ثورة يناير الشعبية فى مصر ناجحة أم فاشلة؟
-
بورخيس كاتب على الحافة 6: مجازات الأدب الفانتازى
-
إحباط ما بعد الصدمات
-
بورخيس كاتب على الحافة 5: التراثات وصراعات التجديد عند بورخي
...
المزيد.....
-
السعودية تعدم مواطنا ويمنيين بسبب جرائم إرهابية
-
الكرملين: استخدام ستورم شادو تصعيد خطر
-
معلمة تعنف طفلة وتثير جدلا في مصر
-
طرائف وأسئلة محرجة وغناء في تعداد العراق السكاني
-
أوكرانيا تستخدم صواريخ غربية لضرب عمق روسيا، كيف سيغير ذلك ا
...
-
في مذكرات ميركل ـ ترامب -مفتون- بالقادة السلطويين
-
طائرة روسية خاصة تجلي مواطني روسيا وبيلاروس من بيروت إلى موس
...
-
السفير الروسي في لندن: بريطانيا أصبحت متورطة بشكل مباشر في ا
...
-
قصف على تدمر.. إسرائيل توسع بنك أهدافها
-
لتنشيط قطاع السياحة.. الجزائر تقيم النسخة السادسة من المهرجا
...
المزيد.....
-
المجلد الثامن عشر - دراسات ومقالات - منشورة عام 2021
/ غازي الصوراني
-
المجلد السابع عشر - دراسات ومقالات- منشورة عام 2020
/ غازي الصوراني
-
المجلد السادس عشر " دراسات ومقالات" منشورة بين عامي 2015 و
...
/ غازي الصوراني
-
دراسات ومقالات في الفكر والسياسة والاقتصاد والمجتمع - المجلد
...
/ غازي الصوراني
-
تداخل الاجناس الأدبية في رواية قهوة سادة للكاتب السيد حافظ
/ غنية ولهي- - - سمية حملاوي
-
دراسة تحليلية نقدية لأزمة منظمة التحرير الفلسطينية
/ سعيد الوجاني
-
، كتاب مذكرات السيد حافظ بين عبقرية الإبداع وتهميش الواقع ال
...
/ ياسر جابر الجمَّال
-
الجماعة السياسية- في بناء أو تأسيس جماعة سياسية
/ خالد فارس
-
دفاعاً عن النظرية الماركسية - الجزء الثاني
/ فلاح أمين الرهيمي
-
.سياسة الأزمة : حوارات وتأملات في سياسات تونسية .
/ فريد العليبي .
المزيد.....
|