|
مقدمة في دلالة القلب الماركسي للسيستام الهيغلي
محمد جغواض
الحوار المتمدن-العدد: 4777 - 2015 / 4 / 14 - 08:53
المحور:
اليسار , التحرر , والقوى الانسانية في العالم
هاجس مقدم للتجاوز
أي ضمانة قد تمنح لذواتنا وهي تحاول طرق أبواب موضوع، لطالما كان و لايزال يقدم لنا نفسه على أنه اليقين التام أو لنقل البداهة التي تلتف حول كل محاولة للنقاش أو المساءلة ــــ تعمد على تحييده وفي أحسن الأحوال تؤجله إلى حين مايلبث يتجدد ــــ في بقائها على الحالة التي كانت عليها قبل امتطاء أمواج المخاطرة "النظرية"، متشبثة بمرجعياتها الفكرية و تصوراتها السياسية وكذا التزاماتها النضالية، خصوصا وأنها تجد نفسها في مواجهة مباشرة يومية لمؤشرات ومعطيات موضوعية حالة في الواقع، وأخرى نظرية دالة في مجموعة من النصوص – المراجعة – كان مدونوها قبل إعلان بدايات السقوط من أشد المدافعين عن قيم التحرر وقضايا الثورة الاشتراكية،وموضاعات أخرى ماركسية "الحزب الثوري، ديكتاتورية البروليتاريا..."- أي غواية تمارسها هذه النصوص و أي قدرة للمفاهيم و الألفاظ الموظفة فيها على تطويع القراء بمختلف تصنيفاتهم هواة أو محترفين- فلطالما كان الخوف من فعل الفقدان مثلا " ملكيتنا لشيء ما أو هوية ما ... " في عز شباب الجسد و عنفوانه، و نظارة العقل و قوة الذاكرة من أكبر الهواجس النفسية و الاجتماعية التي لا تدر أي مجال لا حراز أي تقدم في المعرفة النظرية الممارسة لصراعها الطبقي في مجالاتها الخاصة، أو ليس عينه هاجس كل المتمترسين خلف كل نظرة " مدرسية"، أو جمود عقائدية رغما عن أنف كل حيوية و ثورية في الفكر، و رغم كل جدة ملازمة للواقع الصائر في طبعه، الدائم التدفق ... ......................................................
سنحاول قدر الممكن، ملامسة بعض معاني القراءة الماركسية، القالبة للفلسفة الهيغلية " كفلسفة مستوعبة لما سبقها أو تقدمها من فلسفات". لابد أن نسجل أولا و قبل أي شيء أن "ماركس"و معه "انجلز" ومن بعدهما "لينين" قد اعترفوا جميعا بالمكانة المتميزة التي حضي بها "هيغل" في تكوينهم النظري و الفلسفي، كيف لا وفلسفة هيغل كانت تعد المحور الدوار للفلسفة الكلاسيكية الألمانية بمجملها، التي تشكل بدورها بالنسبة ل "إنجلز" مصدرا أساسيا من بين المصادر الثلاثة للماركسية، إلى جانب الاقتصاد السياسي الإنجليزي "سميث و ريكاردو..."و الإشتراكية الطوباوية الفرنسية "سان سيمون، فورييه..."، و قد تلقف " لينين" هذه الإشارة المهمة من إنجلز و خصص لذات الموضوع كراسة موسعة ومعمقة عنونها ب "المصادر الثلاثة للماركسية و أقسامها". لن نجد من بين النصوص أو الكتابات الماركسية أرقى و أغنى و أشهر تعبير حول علاقة ماركس و إنجلز وكيفية تعاملهما والفلسفة الهيغلية من قول ماركس التالي :"...بيد أنه عندما كنت منهمكا في كتابة المجلد الأول من "رأس المال"شرع المقلدون، الصاخبون المتصنعون، و التافهون للغاية، الذين يلعبون الدور الأول في ألمانيا المعاصرة المثقفة يستهينون بهيغل، مثلما كان المقدم "موزيس مندلسون" في عهد ليسنغ يستهين بسبينوزا ك "كلب ميت"،و لذلك أعلنت عن نفسي بصراحة أنني تلميذ لهذا المفكر العظيم، و حتى أنني عهدت في بعض مواضع الفصل المتعلق بنظرية القيمة إلى محاكاة طريقة هيغل في التعبير. و أن الطابع الصوفي َّ ارتداه الدياليكتيك على يدي هيغل لم يحل إطلاقا دون أن يكون هيغل بالذات أول من قدم تصويرا شاملا وواعيا للأشكال العامة لحركته. فالدياليكتيك يقف على رأسه عند هيغل، بينما ينبغي إيقافه على قدميه بغية الكشف عن اللب العقلاني تحت القشرة الصوفية." وكذا قول إنجلز - للتعبير عن الدور شبه الحصري الذي قام به رفقة ماركس دون بقية الهيغليين الشباب: "نكاد نكون ماركس و أنا، الشخصين الوحيدين اللذين أنقدا الدياليكتيك الواعي من الفلسفة الألمانية المثالية و نقلناه إلى الفهم المادي للطبيعة و التاريخ..." إن مسعانا في هذه المحاولة للوقوف على التناول الماركسي- القالب - للنسق الفلسفي الهيغلي، ليجد سبيله و إن بشكل مكثف في الفقرتين المقتبستين، غير أنه يظل يستشكل ذاته على الأذهان ويتيه عن كل دروب الإقناع، ما لم يعضد بتحليل مشخص، شارح لما تكثف من القول و موضح، مساعد لما استعصى عن الفهم – الهضم – يفتح باب إمكانية استخلاص ما يشي به القول من أقوال، النص من نصوص، الفقرة من فقرات... و سنعتمد في هذا الصدد قراء تين – موقفين- مختلفتين حد التناقض في فهم عملية القلب الماركسي للفلسفة الهيغلية: 1- قراءة اختزالية تنفي كل جدة في الفلسفة الماركسية و بالتالي ثوريتها، سنظهر حدودها. 2- قراءة أصيلة لمساهمة معلمي البروليتاريا في عملية قلب الفلسفة الهيغلية، وأكثر من ذلك، الدعوة لقلب العالم – تغييره –من خلال الأطروحة 11 ضد فيور باخ، مادام الفلاسفة لم يعملوا إلا على تفسير العالم بطرق مختلفة فقط .
يبدو لنا بشكل متفاوت في الوضوح في الفقرتين أعلاه، أن هناك إمكانية للتمييز بين مستويين في فلسفة هيغل يظهران بجلاء في قول إنجلز، يجعلان من كل إستراتيجية للنقد أو القلب، شأن القلب الماركسي، يتدخل فيهما أو يعمل من خلالهما، يصفي و يقضي نهائيا على الطالح " المثالية"، يقوّم و يعمق الصالح "الجدل"- المستوى الأول : يتعلق بالمذهب المثالي الهيغلي ، أي نظرة هيغل للعالم المثالية، و هو الجانب الذي توجه إليه الماركسية سهام نقدها و نقضها، فهيغل يرى أن الفكر هو الشرط الأساسي، و المبدأ الأول للوجود أو العالم، و لهذا المبدأ بالنسبة له، مسميات عديدة – لعله مصدر ما يكتنف فلسفة هيغل من غموض- المطلق، العقل، الفكرة أو الفكرة الشاملة، الروح...و هو يحظى بأسبقية منطقية و تاريخية على الطبيعة و المجتمع و بصفة عامة على الوجود أو العالم. من المعلوم أن الماركسية ترفض هذه النظرة المثالية و تنبذها. المستوى الثاني : يتعلق بالمنهج أو الطريقة، أي الجدل الهيغلي و هو الجانب الثوري في فلسفة هيغل، فهو المعبر عنه " بالنواة العقلية المغلفة بقشرة صوفية" في قول "ماركس"، إذ لايخامرنا أدنى شك في أن ّمصدر القشرة الصوفية المحجبة للجدل الهيغلي يعود إلى مثالية مذهبه الفلسفي . إن النسق الفلسفي الهيغلي كما تقدمه "موسوعة العلوم الفلسفية" عبارة عن عرض متصل للروح أو الفكرة الشاملة من لحظة بدئها كفكرة خالصة يتكفل المنطق بعرضها و شرحها ، ثم لحظة تخارجها أو سقوطها في الطبيعة وتقوم بعرضها في هذه اللحظة فلسفة الطبيعة، ثم اللحظة الأخيرة التي تعود فيها الروح أو"الفكرة الشاملة" إلى ذاتها في عالم الروح – حياة الإنسان بصفة عامة- و تتصدى فلسفة الروح لمهمة العرض بدورها. يظهر لنا من خلال هذه الفكرة المبسطة لفلسفة هيغل أنها تعرض نفسها بشكل مثالي ومقلوب، و لا شك أن الفكرة التي تقفز لتقدم ذاتها كحل هي عبارة عن عملية لعكس المسار، و قلب العلاقة أي أن كل بداية إنما هي من جهة الفاعل أو الصانع لا من جهة صفته، وهذه البداية هي الواقع الفعلي و مايعتمل داخله من صراعات، وهي حالة المجتمعات الطبقية التي تنفى فيها الحرية التي تعتبر قيمة مكتسبة وواقعا لايتحقق إلا بثورة البروليتاريا الحاملة للفكر أو الوعي الثوري(لنسميها الصفة المهيمنة للفاعل المهيمن في عملية الإنتاج المادية ) و قيام النظام الإشتراكي ، في حين نجد لدى هيغل على النقيض من ماركس أسبقية الصفة "الفكر المجرد أوالعقل الخالص" على مجال تعينه و تحققه، وهو"الواقع العيني أو الملموس"، و إذا شأنا أن نوضح هذا الموقف الهيغلي أكثر ينبغي أن نعود مجددا لبعض شذرات أو فقرات كتاباته، ولن نجد ما يروي ظمأنا في هذا المجال غير فقرة يوردها في مستهل كتابه عن" فلسفة الحق" يقول: "أساس الحق هو الروح بصفة عامة ومجاله الخاص ونقطة بدايته هي الإرادة، و الإرادة هي التي تكون حرة، بحيث تشكل جوهر الحق و غايته في آن معا، في حين أن نسق الحق هو مملكة الحرية وقد تحققت بالفعل ،أو هو عالم الروح وقد خرج من ذات نفسه على أنه طبيعة ثانية" ، ومعنى هذا كله أن مدار فلسفة "هيغل" بأكملها هو فكرة الحرية، و هي نفسها الفكرة الجوهرية والثاوية خلف حركة الروح أو الفكرة أو الفكرة الشاملة... - بحسب الترجمات – من بداية سيرورتها إلى تحققها في عالم الروح أي مجال حياة الحيوان السياسي و الخير السياسي، ثم مجال الدين و الفن و الفلسفة، بمعنى آخر مجال القوانين، والأخلاق والتنظيم الاجتماعي والسياسي، و لنقل بعبارة أخرى للتوضيح و التأكيد إن إمكان تحقق الحرية في الوجود الفعلي –عالم المؤسسات الاجتماعية –مرتبط بقوة دافعة، تدفع الإمكان والوجود بالقوة للحرية إلى التحقق و الوجود بالفعل ،وهذه القوة الدافعة هي الإرادة ، أي فاعلية الإنسان بما تحمله الكلمة من معنى. بهذا الفهم إذا نستطيع استشفاف جوهر العلاقة المركبة التي يربط فيها هيغل الإرادة بفكرة الحرية، بحيث لا يفتح أي مجال يمكننا من الفصل بينهما، ،"فالحرية عنده خاصية جوهرية للإرادة شأنها في ذلك شأن الثقل بالنسبة للأجسام المادية" ،فلا توجد مادة بلا ثقل، فالثقل يشكل الجسم فهو نفسه الجسم ،ونفس الأمر في علاقة الإرادة بالحرية مادام الكائن الإنساني هو الإرادة،و" الإرادة بدون حرية هي كلمة فارغة جوفاء، في حين أن الحرية لا تكون موجودة بالفعل إلا بوصفها إرادة، بوصفها ذات بالفعل" . إن الغاية من استحضار هذه الشذرات الهيغلية لاتدخل في خانة من خانات الترف الفكري، أو ضمن تكتيك من تكتيكات أخرى للهروب إلى الأمام أمام تعقد المهمة و جسارتها- دلالة القلب الماركسي-...و إنما لنقف على الفكرة الأولى التي يضعها هيغل في بداية التاريخ و هي فكرة الحرية التي ينبغي تأصيلها في نظرية للدولة العقلانية، بعد أن تتبع أديستها من الحضارات الشرقية القديمة، ثم اليونانية، وصولا للمسيحية، فالجرمانية "هذا الموقف الهيغلي يعد قلبا للتصور الأنواري للحرية، و قد يصح أن نعتبر القلب الماركسي قلبا للقلب"، فالحرية الذاتية لفلسفة الثورة الفرنسية حرية سطحية و سلبية لأنها لم تتجسد في أي تنظيم سياسي أو اجتماعي لذلك نجد هيغل يربط الحرية بقيام الدولة العقلية الضامنة الوحيدة لحرية الفرد بحسب تعبيره، في حين نجد الحرية حسب ماركس و كما أسلفنا الذكر لاتتحقق إلا بالقضاء على مايضمنها لدى هيغل أي الدولة. لنعد إلى "رودس" هيغل" التي تركناها و لنحاول أن نمرح" إذا كان مذهب هيغل المثالي هو سبب التناول المقلوب للعالم، وداء كل الصوفية الملففة للجدل الهيغلي. هل رفضنا للمذهب واحتفاظنا بالمنهج الهيغلي يعني إنهاء مهمة القلب؟ هذه النتيجة لابد أن تولد قدرا مهما من الريبة و التوجس و بالتالي أسئلة مشروعة من بينها سؤال تندغم فيه بجلاء روح الاستفهام بأخرى للاستنكار من قبيل: إذا كانت هذه النتيجة فعلا صحيحة أو مشروعة، فطلاق أو انفصال "ماركس" و" انجلز" عن الهيغلية – الفلسفة الرسمية للدولة البروسية – سببه اختلافهما في نظرتهما للعالم – ماديتهما على نقيض مثالية هيغل- أما المنهج أي الجدل الهيغلي فلم يكن من بين المقاطعات التي كانت تدور فيها رحى الحرب التي أعلنها ماركس على هيغل، ليظل بذلك براءة اختراع هيغلية، و كفت السطحية على الماركسيين في هذا المجال شر نقاش أو جدال؟؟ إن دلالة هذا القول – النتيجة – تتبدى في كون" ماركس" و" إنجلز" قد شيدا فلسفتهما من خلال الجمع أو التوفيق بين مادية "فيورباخ" و الجدل الهيغلي، فمادية فيورباخ تعد إلى حد ما قلبا للمذهب الفلسفي الهيغلي من خلال نزعته الأنطروبولوجية التي يحل فيها الجوهر الإنساني مكان "الفكرة الشاملة" الهيغلية، (إذ الكائن عنده هو الفاعل و الصفة هي الفكرة )، و هذا هو أول عمل عظيم قام به فيورباخ حسب ماركس، و معلوم أثره التحريري على "الشباب الهيغليين"فيما بعد، لكن المسألة التي تثير اهتمامنا هنا هي أن هذا النقد الفيورباخي هو من شأنه إذا تماهينا و الموقف – النتيجة- الذي أشرنا إليه مسبقا أن يزيل القشرة الصوفية للجدل الهيغلي،باعتباره يرفض النظرة المثالية ل "هيغل"، رغم أن هذا النقد الذي بين "ماركس"و "إنجلز" حدوده سواء في "الإيديولوجيا الألمانية أو الأوطروحات و أيضا لودفيج فيورباخ و نهاية الفلسفة الألمانية الكلاسيكية..." نقد جارف و أعمى لم يحتفظ حتى بالمكسب النوعي لفلسفة "هيغل"و هو النواة العقلية كما تحدث عنها ماركس، لنقل بتعبير آخر، إنه نقد "رمى بالطفل و الماء العكر"، و ما على ماركس – المصور كخياط بارع - لبناء تصوره النظري غير إعادة هذا الطفل المقصود هنا "الجدل الهيغلي" الملفوض و كذا المنبوذ و المرفوض فيورباخيا بعد أن نظف كذلك فيورباخيا من كل بطانات الكهنوتية و غشاواة الصوفية و المثالية... إذا كان كذلك و الحال هو نفسه بالنسبة لذلك الموقف الضحل و الفظ في توفيقيته و نظرته الاختزالية لمساهمة ماركس الخلاقة، وتلقيه النقدي الدائم لمصادر فكره النظري- و هي نظرة تلقى رواجا لدى أعداء الفكر الثوري- فما نفع كل النقد و النقض الذي و جهه كل من ماركس و انجلز لفلسفة هيغل "وهي أصل و محور كل نقد فلسفي انذاك" من جهة، و من جهة أخرى إلى الهيغلين الشباب بما فيهم "فيورباخ"؟؟ إن المأزق الذي أوصلنا إليه تتبع مسار هذه القراءة، أو التصور الخاص المبتذل لمساهمة "ماركس" النظرية، من خلال لقمه أو جمعه و فقط بين مادية فيورباخ و الجدل الهيغلي، يعود بالأساس على إقامة الفصل فيما لا يفصل في الفلسفة الهيغلية بين المذهب و المنهج - و الأمر يسري كذلك على الماركسية – فتصور هيغل المثالي للعالم، و المعروض بطريقة جدلية، يشكل ذروة ما وصلت إليه الفلسفة المثالية، و لاشك أن هذه المكانة المتميزة التي حضيت بها تلك الفلسفة تعود بالضرورة إلى منهجها الجدلي أو الدياليكتيكي، الذي يعتبر قلبها و روحها النابض وبتعبير أدق حجر الزاوية الذي يقوم عليه بناء المذهب، لذلك نجد هيغل يتولى في "المنطق الكبير"و" المنطق الصغير"، شرح منهجه الجدلي الذي يشيع الحياة في باقي( العلوم الفلسفية الأخرى) ،و تتكشف من خلاله فيها، وهذا القول إن دلّ على شئ، فإنما يدل على أن الدائرتين الثانية " فلسفة الطبيعة"، والثالثة "فلسفة الروح " للنسق الفلسفي الهيغلي، تقومان على ما تم شرحه في الدائرة الأولى، التي هي دائرة المنطق، أو " دائرة العقل الخالص"، و نجد لهذه الفكرة قولا لدى هيغل يؤكدها و يعبر عن مضمونها في التصدير الذي وضعه لكتابه "أصول فلسفة الحق"، يقول "لما كنت قد عرضت بتوسع لطبيعة المعرفة النظرية في كتابي علم المنطق، فإني لم أضف في هذا الحالي إلا بعض توضيحات و شروح، هنا و هناك، حول المنهج و طريقة السير...و أن عرض الفكرة كلها ، مثله مثل بناء الأجزاء، يعتمد على الروح المنطقية" . و نفس الأمر يسري على الماركسية، التي لاينفصم فيها المذهب بالمنهج، فلا معنى للمادية بدون دياليكتيك. إن المادية حسب "إنجلز"، ليست سوى التفسير العلمي للكون-- بنية المادة المشكلة للعالم-- بدون إضافات غريبة، و هذه النظرة المادية للمعرفة، يطبقها انجلز في كل مجال و بلا استثناء، في الطبيعة، المجتمع والفكر، ضدا على "دهرينغ" وتمثلاته الهيغلية، نورد على سبيل المثال لا على الحصر، في هذا الصدد عبارة دالة ل "إنجلز" يقول "إن التفكير لايستطيع أبدا أن يستمد، و يستخلص أشكال الوجود من نفسه بالذات، و إنما فقط من العالم الخارجي، و بهذا تنقلب العلاقة تماما، فالمبادئ ليست نقطة البدء في البحث، و إنما نتيجته الختامية." و هي نفسها النظرة، التي يتشبت بها "لينين" ضد تصورات "إرنست ماخ" المثالية الذاتية ، و أتباعه من الروس "بوغدانوف"، "لوناتشارسكي"... المعادين للمادية. إلا أن المادة لاتوجد إلا في حركة دائمة، فهذه الأخيرة تشكل ماهيتها، أو التعبير الضروري عن و جودها، و هذه الخاصية هي نفسها التي يؤكد عليها الجدل المادي الدياليكتيكي، إذ لايمكن أن نعتبره إبداعا هيغليا، و إنما اكتشافا لما هو ماثل، و حال في الطبيعة، و المجتمع في إطار عمليات مستمرة للكون و الفساد، وهكذا فمذهب ماركس و انجلز، يتحد اتحادا و ثيقا لافكاك فيه ومنهجه الدياليكتيكي، لذلك سميت فلسفتهما بالمادية الجدلية، و هذه الميزة تتقاسمها مع المثالية الجدلية ل "هيغل إن صح التعبير.
استخلاصات: ـــ إن القلب الماركسي للسيستام الفلسفي الهيغلي، لايقوم على السير عكس المسار الذي سلكه هيغل، بل على رفض و نبذ المذهب بكامله، ثم قلب المنهج الجدلي، و إعادة صياغته،إذ بمثل هذه العملية لابغيرها، تكف حركة الفكرة الشاملة الهيغلية عن صياغة الوجود الطبيعي و الإجتماعي، فتصبح مع الماركسية، حركة أو جدل الفكر انعكاسا لجدل الواقع، أي اعتبار الفكر جزء من الواقع و نتاجا له، لا جوهرا أو روحا مفارقة له. ومن مهمة النظرية المادية للمعرفة، أن تحدد و تفسر الأساس المادي للفكر، عبر تتبع حركة الواقع، و دراسة تطوراته، من خلال الكشف عن قواه المحركة أو المتصارعة، و مايعتمل فيها من تناقضات – تشكل علة حركتها- ــــ إذا كانت الماركسية، كما قيل قد احتفظت بمنطق هيغل الجدلي بكامله في بنائها النظري، ولم تعمل إلا على تطبيقه في مجالات جديدة ــ الاقتصاد السياسي، الطبيعة... ــ فكيف لوحدة المنهج المزعومة بين الماركسية الهيغلية، أن توصلهما إلى نتائج متناقضة نظريا وعمليا. لقد انتهى الجدل مع هيغل، وخصوصا في فلسفته السياسية إلى إقرار ضرورة ـ عقليةـ إقامة الدولة باعتبارها التحقيق الفعلي للحرية. أليست عنده بمثابة الحكم الأعلى والمرجع الأول والأخير في فك النزاعات، والغاية العليا التي قد تدفع أو تطلب على أساسها الفرد التضحية بنفسه من أجلها. وفي مقابل هاته الخلاصة الهيغلية، نجد الجدل الماركسي، قد انتهى بالدعوة إلى رفض، وتحطيم الدولة، واعتبارها جهازا طبقيا يخدم مصالح الطبقات الحاكمة و المالكة لوسائل الإنتاج من البرجوازية في ضمان إعادة نفس علاقات الإنتاج الطبقية، ووجودها دليل ملموس على أن التناقضات الطبقية لا يمكن التوفيق بينها، يقول "إنجلز": الدولة ليست بحال قوة مفوضة على المجتمع من خارجه. والدولة ليست كذلك"واقع الفكرة الأخلاقية"، "صورة وواقع العقل" كما يدعي هيغل. الدولة هي نتاج المجتمع عند درجة معينة من تطوره، الدولة هي إفصاح عن واقع أن هذا المجتمع قد تورط في تناقض مع ذاته لايمكنه حله،و أنه قد انقسم إلى متضادات مستعصية هو عاجز عن الخلاص منها..."
. طبيعة الجدل الماركسي مناقضة تماما لنظيره الهيغلي
ـــ الجدل الهيغلي جدل تماثلي أو تصالحي،و سنفتح قوسا لشرح هذا الحكم. إن كل فكرة أو إدراك ذهني إلا و يتضمن سلبه، أو نفيه، و كل تحديد حسب "هيغل" هو نفي، ووحده "الفهم" حسبه هو من يعجز عن إدراك العلاقة الضرورية في تولد التوسط " اللحظة الجزئية" عن المباشرة "اللحظة في الكلية"، ووحدتهما في مركب "الفردية". مثال: الفكرة الشاملة في المنطق تمثل لحظة" الكلية المجردة"، التي تجزئ نفسها في الطبيعة لذلك تمثل "لحظة الجزئية"، ثم تتحول من خلال التوفيق بين اللحظتين في "مركب الفردية أو الكلية العينية" في فلسفة الروح. وهكذا فالحل الذي يقدمه هيغل للتناقض في إطار "نفي النفي" لا يعدو أن يكون غير نتاج عملية لرفع التناقضات و الاحتفاظ بها في وحدة عليا، فيها يتماثل و يتصالح الضدان أو النقيضان، و هذه الوحدة أو المركب الذي يشكل التصور الجديد ما يلبث أن يظهر تناقضا أ و نفيا لمباشرته، ثم يتحدان بعد ذلك في وحدة جديدة، عن طريق عملية كما أشرنا سابقا للاستبعاد من أجل المحافظة، و هكذا دواليك... سنورد في هذا الصدد مثالا لعله يجسد ما تجرد من القول، و يقرب ما ابتعد عن الإدراك، و يحل ما عقد على الأفهم، و لن نجد لتحقيق هذه الغاية أفضل من تصور هيغل لفكرة الدولة. ليست الدولة كفكرة عند هيغل غير وحدة الاختلاف الذي يمثله المبدأ الكلي للأسرة، و المبدأ الجزئي للمجتمع المدني أو البرجوازي، لا بد أن ننوه هنا بعبقرية هيغل من خلال اكتشاف ما ينخر المجتمع من تناقضات تجعله ينزع نحو لتذرر و التفكك -"لابد أن هيغل يستحضر الوضع السياسي المفكك بروسيا""، ذنبه الوحيد أنّه جعل من دولته المنشودة عقليا الحل التاريخي لتلك التناقضات المعتملة في المجتمع المدني، الذي يمثل عند هيغل لحظة الجزئية للفكرة الشاملة، و هي لحظة اختفاء عنصر الكلية، التي كانت مجسدة من قبل في الأسرة. لقد عوض الجانب الوجداني للأسرة، الذي يجعل منها الغاية العليا و الوحيدة التي يصارع و يكافح من أجلها الفرد، و حل محله عنصر الذاتية، أو الذرية للمجتمع المدني أو البرجوازي، بحيث ينظر كل فرد فيه إلى نفسه على أنه غاية في ذاته، و بقية الأفراد مجرد وسائل لتحقيق غاياته الخاصة، و لا يرأب هذا الصدع "التناقض" بين كلية الأسرة و جزئية المجتمع المدني و يوحد بينهما إتحادا كاملا إلا الدولة، التي تشكل لحظة الفردية، و هي فردية "الكائن الحي، المستقل و القائم بذاته"،و هو المستوى الذي تظهر فيه ومن خلاله عملية" الرفع الهيغلية"، عبر رفع التناقضات بغية الحفاظ عليها في وحدة تتماثل، و تتصالح فيها تلك التناقضات. ـــ تجاوز التناقضات في الجدل الهيغلي، لا يتحقق عن طريق القضاء على أحد الطرفين المتناقضين أو المتصارعين،و تحرير الآخر، و إنما يتم ذلك عن طريق طرف ثالث، هو نفي النفي الهيغلي ، يوفق بين النقيضين " الدولة في توفيقها بين الأسرة و المجتمع". ـــ الجدل المادي الماركسي يقوم كذلك على السلب أو التناقض، لكن هذه السلبية كامنة في الطبيعة، وخاصية مميزة للحياة الإنسانية في المجتمعات الطبقية، و حركة الصراعات بفعل تناقضات الطبقات الاجتماعية، لا تحل أو تفك عن طريق ظهور طرف ثالث للتوفيق والمصالحة بينها، كما هو الشأن لدى "هيغل"، إذ أن هذه التناقضات الأساسية، ومن ثم الرئيسية تكتسي حسب الماركسية طابعا عدائيا لا تصالحينا، و عملية تجاوزها أوفكها، لا تتم إلا بإلغاء أحد الطرفين "القديم الرجعي "، وتحرير الآخر "الجديد الثوري"، عن طريق ثورة سياسية و اجتماعية، و بهذا الفهم لا بغيره يتم تجاوز تصور هيغل للدولة التي يعتبرها حكما أعلى يصالح بين تناقضات المجتمع، و قوة مفروضة من خارج تقوم بموضعه نفسها فوق طبقات المجتمع و مصالحها، إلى جهازا ناتج عن استعصاء التناقضات الطبقية، التي لايمكن التوفيق فيما بينها، و "بما أن الدولة قد نشأت من الحاجة إلى فرملة تناقضات الطبقات، وبما أنها نشأت في الوقت نفسه ضمن الصدامات بين هذه الطبقات. فهي كقاعدة عامة دولة الطبقة الأقوى السائدة اقتصاديا، والتي تصبح عن طريق الدولة الطبقة السائدة سياسيا أيضا و تكسب على هذه الصورة وسائل جديدة لقمع واستغلال الطبقة المضطهدة،و هكذا كانت الدولة القديمة قبل كل شئ دولة ملاكي العبيد لقهر العبيد، كما كانت الدولة الفيودالية أداة خاصة للنبلاء لقمع الأقنان، فكذلك الدولة التمثيلية الحديثة هي جهاز لاستغلال العمل المأجور من طرف الرأسمال." ــ إذا كان الجدل الهيغلي قد انتهى بإضفاء كل صفات التقديس و التبجيل للدولة –هي روح الأمة المقدسة حسب هيغل-، فإن نظيره الماركسي قد انتهى إلى إرسال جهاز الدولة بأكمله إلى حيث ينبغي أن تكون آنذاك: "إلى متحف العادات بجانب المغزل البدائي و الفأس البرونزية.." كما صرح ذات يوم "إنجلز". . ــــ قد يقال أن الاختلاف بين الجدل الماركسي و الهيغلي يعود بالأساس إلى اختلاف مجالات استعماله و "تطبيقه"، حسب المفكر المصري "إمام عبد الفتاح إمام" لكن هل نملك فعلا مجالا لحرية الاستخدام مادمنا نتحدث عن قوانين تستمد علميتها من الحركة الجدلية للطبيعة و المجتمع،التي لا يشكل جدل الفكر من خلالها إلا انعكاسا لها. إن خطورة هذه القراءة تتمثل في طمسها للحد المعرفي، و السياسي الطبقي، الفاصل بين الفكر البرجوازي الرجعي و الفكر الماركسي الثوري، و لاداعي لذكر كل تلك الأسماء التي دعت لقراءة هيغل ماركسيا و ماركس هيغليا، منذ ".1902-1968الدعوة المشهورة لأحد الهيغليين الروس المعاصرين و هو "ألكساندر كوجيف "
.1 ك.ماركس. كتاب. "رأس المال" – ص 27.28 2. ف.إنجلز. كتاب "ضد دهرينغ". ص 1 4 .3. ف.هيغل. كتاب "أصول فلسفة الحق"ترجمة إمام عبد الفتاح إمام. فقرة 4. ص107 .4 Hegel, "la raison dans l’histoire", traduction et introduction et . . notes par kostas PARRAIOANNOU.P75
. 5 :ف.هيجل أصول فلسفة الحق، ترجمة إمام عبد الفتاح إمام ص107 . 6 .Ibid. p72 7 .ف.إنجلز. كتاب:"ضد دهرينغ". ص 41. 8 . Marx et Engels." Œuvres choisies".Tome3. P340. . 9. Ibid. p342. . 10. إمام ع.الفتح إمام. كتاب "المنطق الجدلي عند هيغل" .الفصل الأول من الباب الرابع. . 11. مجاهد. ع.المنعم مجاهد.كتاب"هيغل قلعة الحرية". ص 75
#محمد_جغواض (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
المزيد.....
-
-حالة تدمير شامل-.. مشتبه به -يحوّل مركبته إلى سلاح- في محاو
...
-
الداخلية الإماراتية: القبض على الجناة في حادثة مقتل المواطن
...
-
مسؤول إسرائيلي لـCNN: نتنياهو يعقد مشاورات بشأن وقف إطلاق ال
...
-
مشاهد توثق قصف -حزب الله- الضخم لإسرائيل.. هجوم صاروخي غير م
...
-
مصر.. الإعلان عن حصيلة كبرى للمخالفات المرورية في يوم واحد
-
هنغاريا.. مسيرة ضد تصعيد النزاع بأوكرانيا
-
مصر والكويت يطالبان بالوقف الفوري للنار في غزة ولبنان
-
بوشكوف يستنكر تصريحات وزير خارجية فرنسا بشأن دعم باريس المطل
...
-
-التايمز-: الفساد المستشري في أوكرانيا يحول دون بناء تحصينات
...
-
القوات الروسية تلقي القبض على مرتزق بريطاني في كورسك (فيديو)
...
المزيد.....
-
قراءة ماركس لنمط الإنتاج الآسيوي وأشكال الملكية في الهند
/ زهير الخويلدي
-
مشاركة الأحزاب الشيوعية في الحكومة: طريقة لخروج الرأسمالية م
...
/ دلير زنكنة
-
عشتار الفصول:14000 قراءات في اللغة العربية والمسيحيون العرب
...
/ اسحق قومي
-
الديمقراطية الغربية من الداخل
/ دلير زنكنة
-
يسار 2023 .. مواجهة اليمين المتطرف والتضامن مع نضال الشعب ال
...
/ رشيد غويلب
-
من الأوروشيوعية إلى المشاركة في الحكومات البرجوازية
/ دلير زنكنة
-
تنازلات الراسمالية الأميركية للعمال و الفقراء بسبب وجود الإت
...
/ دلير زنكنة
-
تنازلات الراسمالية الأميركية للعمال و الفقراء بسبب وجود الإت
...
/ دلير زنكنة
-
عَمَّا يسمى -المنصة العالمية المناهضة للإمبريالية- و تموضعها
...
/ الحزب الشيوعي اليوناني
-
الازمة المتعددة والتحديات التي تواجه اليسار *
/ رشيد غويلب
المزيد.....
|