|
دكتاتورية -الله- في القرآن – 2
هشام آدم
الحوار المتمدن-العدد: 4762 - 2015 / 3 / 29 - 14:49
المحور:
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني
نواصل في هذا المقال سرد دلائل دكتاتورية "الله" حسب النص القرآني، والذي يؤمن به المسلمون تسليمًا دون أن يشغلوا أذهانهم بالسؤال حول الصفات التي يتصف بها إلههم، وتجعل منه دكتاتورًا حتى بمقاييسهم هم أنفسهم فيما لو انطبقت على شخص ما، ولا تكون كذلك عندما يتصف بها "الله"؛ لنعلم يقينًا كيف أنَّ العقل النقدي في العقلية الدينية معطَّل أو موجه دون حياد، تمامًا كما كانت بعض ردود الأفعال (المتوقعة) على الجزء الأول من هذا المقال، من قِبل بعض المُغيبين الذي لا يرون أي إشكالية على الإطلاق في أن يكون الإله متكبرًا؛ فالنسبة إليهم إذا لم يتكبر "الله" فمَن يحق له أن يتكبر؟ ويشعر المسلم بالزهو وهو يقولها صراحةً دون خجل بأنَّ إلهه متكبر متعالٍ؛ ليُعبَّر لنا بذلك عن مدى أزمة العقل الديني في أسمى تجلياتها. وفي مقالنا السابق تناولنا الآية (38) من سورة البقرة {وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوُا لآدَمَ فَسَجَدُوُا إِلَّا إِبْلِيِسَ أَبَى وَاَسْتَكْبَرَ وَكَاْنَ مِنْ اَلكَافِرِيِن} وناقشنا دلائل الدكتاتورية الواضحة في تلك الآية، وفي هذا المقال سوف نناقش الآية (16) من سورة الإسراء، والتي تقول: {وَإِذَا أَرَدْنَا أَن نُّهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُواْ فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا} لاشك أنَّ المسلم قد قرأ هذه الآية مرارًا وتكرارًا؛ وحيث أنها آية قرآنية فإنه لا يفعل شيئًا أمامها سوى أن يُحرك رأسه في خشوع، وهو يردد في سره: "سبحان الله" أو أي عبارة تبجيلية أخرى، دون أن يتوقف عند المفارقة الدكتاتورية الواضحة جدًا في هذه الآية، ولكننا سوف نجبر المسلمين في هذا المقال أن يتوقفوا طويلًا عند هذه الآية، وأن يُفكروا فيها علَّ وعسى أن تتغلَّب إنسانيتهم على إيمانهم الأعمى.
هذه الآية تقول بصريح العبارة إنَّ "الله" إذا أراد أن يُهلك أي قرية فإنه يسلط أغنياءها ليفسدوا، فيكون إفسادهم ذلك ذريعة له لتدمير القرية كلها، وقد ناقش كثير من المسلمين الجدد هذه الآية؛ فحاولوا أن يخرجوا من مأزقها الواضح؛ فادعوا أنَّ مفتاح هذه الآية يكمن في عبارة {أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا} وأحالوا (الأمر) هنا إلى آية أخرى تقول {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاء ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ} وربما إلى آية أخرى تقول: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤَدُّواْ الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُم بَيْنَ النَّاسِ أَن تَحْكُمُواْ بِالْعَدْلِ} وقد تكون الآية الأولى أنسب من حيث العمومية؛ إذ أنَّ استخدام ضمير الجميع المخاطب في الآية الثانية يجعل (الأمر) متعلقًا بالتعاليم أكثر منها صفة مُلازمة للإله كما في الآية الأولى، التي يوحي نصها أنَّ ذلك جزء من "طبيعة" الإله، وعلى أية حال فإنَّ من يقولون بذلك يرون أنَّ مراد الآية هو أنَّ "الله" يأمر أغنياء القرية بأمره المعتاد (العدل والإحسان وإيتاء ذي القربي) ولكن إذا فسق الأغنياء بألا يقوموا بأمر الله فإنهم سيكونون عندها مخالفين لتعاليم الإله، ومعتدين على حرماته؛ وبالتالي يقعون تحت طائلة العقوبة، فهل هذا التبرير صحيح بأي شكلٍ كان؟
الحقيقة أنَّ هذه المحاولة التبريرية السطحية قد تكون مُقنعةً لخاملي الاجتهاد ممن يسعون فقط لتبرئة الإله من تهمة العنف والدكتاتورية، ليشعروا بالراحة ويطمئنوا على إيمانهم، وفيما يلي سوف نفند هذا التبرير لنرى أنه لا علاقة له بنص الآية، وليعرف المسلمون الجدد أنهم هم من يحرفون القرآن وفقًا لأهوائهم، ولكن بالنسبة إليهم فلا بئس بالأمر لأنهم يرون القرآن موافقًا لأهوائهم طالما أنَّ أهواءهم موجهة لخدمة القرآن(!) فطالما كان التأويل يخدم فكرة أنَّ القرآن كتاب هداية ورحمة وسلام وإنسانية ففي ظنهم أنَّ التحريف لا يقع، لأنَّه بلا شك هو التأويل الصحيح، فالتحريف لديهم هو أن تحمل الآيات القرآنية على محمل غير إنساني أو غير أخلاقي، حتى وإن دل ظاهر الآية على ذلك، عندها ستكون المشكلة في تأويلك وليس في نص الآية، وهنا يضعون –كعادتهم- النتائج قبل المقدمات، حتى وإن كان ذلك على حساب الصياغة اللغوية، والفهم اللغوي البسيط؛ بل وحتى المنطق التاريخي، فأصبح القرآن بذلك نصًا مستعصيًا، كيف لا وهم يتحججون بأنَّ القرآن لا يحتاج إلى قراءة؛ بل إلى تدبر مستشهدين بآية {أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ} مطالبين الناس بضرورة "تدبر" القرآن، وكأن التدبر هنا يعني النظر والفحص والتمحيص العقلي والربط بين الآيات واستنكاه المعاني الباطنية، في حين أنَّ التدبر في النص القرآني لا يعني أيًا من ذلك على الإطلاق، ولو رجعنا إلى تمام الآية، كما هي في سورة محمد لقرأنا {أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا} فالتدبر هنا بمعنى الإيمان، أي أن يؤمنوا بالقرآن عند قراءتهم له، والآية جاءت في سياق تناول القرآن لجماعة المنافقين الذين في قلوبهم مرض ممن لا يؤمنون بالقرآن، ولا يؤثر في "قلوبهم" فلا تخشع عند قراءته فيؤمنوا ويصدقوا به، وبالنسبة إلى القرآن فكل من لا يصدق القرآن أو يؤمن به فهو –بالضرورة- مشكوك في عقله إلى الحد الذي قد يصل به إلى مرتبة البهائم التي لا تفقه، وفي مكان آخر تكررت العبارة بمعنىً آخر في سورة النساء؛ إذ نقرأ {أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُواْ فِيهِ اخْتِلافًا كَثِيرًا} وإذا تغاضينا عن كون الآية لا معنى لها في سياق الآيات التي قبلها أو التي بعدها، فإنَّ التدبر هنا لا يعني أيًا من المعاني التي يُريدها المتفلهمون؛ فالتدبر هنا يعني معرفة الناسخ والمنسوخ، لأنَّ معرفتهما تنفي التناقض والاختلاف الظاهري بين أحكام الآيات لمن لا علم له بالناسخ والمنسوخ من القرآن.
وعلى أي حال؛ فهذا ليس بغريب على المتفلهمين الذين يستشهدون بالآيات التي تحتوي على لفظ (تفكُّر) ومشتقاتها اللغوية، ليستدلوا بها على أنَّ القرآن يحث على (التفكير) معتبرين أنَّ (التفكير) و (التفكُّر) بمعنىً واحد، والتفكُّر لا يعني سوى التأمل: أي أن تتأمل في الكون ثم تربط بين الكون وبين من يدعي أنه خالقه، ثم تقول: "سبحان ربنا وتعالى"، ولم يرد ذكر (التفكير) في القرآن بمعناه الذي نعرفه من إعمال العقل إلا في معرض الذم؛ إذ نقرأ { إِنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ * فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ} وحسب المفسرين فإنَّ المقصود بها كان الوليد بن المغيرة، الذي لم يتدبر القرآن ولم يتفكَّر فيه؛ بل فكَّر فيه وتوصل بناءً على فعله العقلي المحض إلى خلاصة مُفادها {إِنْ هُوَ إِلَّا قَوْلَ البَشَر} وهذا ما يقود إليه "التفكير" في القرآن؛ بينما التفكَّر والتدبر في القرآن لابد أن يقودا إلى الإيمان لأن التفكُّر والتدبر لا علاقة لهما بإعمال العقل؛ وإنما إعمال الإيمان "القلبي" الذي يقوم مقام العقل في القرآن، كما ورد في مواضع كثيرة كقوله في سورة الأعراف{لَهُمْ قُلُوبٌ لاَّ يَفْقَهُونَ بِهَا} وكما جاء في سورة الحج {أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا} فاستخدام العقل غير وارد في القرآن، والقرآن لا يحث على استخدام العقل، لأنَّ استخدام العقل يورد موارد الكفر والضلال كما حدث مع الوليد بن المغيرة.
على أية حال، نعود للآية {وَإِذَا أَرَدْنَا أَن نُّهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُواْ فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا} فنقول إنَّ (أمر) "الله" هنا لا علاقة له أبدًا بما ورد في آيات أخرى (الإحسان وإيتاء ذي القربي والنهي عن الفحشاء والمنكر والبغي أو الأمر بتأدية الأمانات إلى أهلها) لأنَّه لو كان ذلك صحيحًا فالأمر هنا لا معنى له حين يرتبط بالأغنياء فقط، لأنَّ "الله" من المفترض أنَّه يأمر (الجميع) بهذه الخصال، وليس فقط الأغنياء، وحتى وإن أصر المتفلهمون على تأويلهم، فإنَّ فسق الأغنياء قد يؤدي إلى إهلاك "الله" للأغنياء وليس للقرية بأكملها، ثم إنَّ نيَّة إهلاك القرية سابقةٌ أصلًا على أمر المترفين، وإلا لاحتاجت الآية إلى إعادة صياغة ليتم المعنى الذي يُريد المتفلهمون تحميله للآية، كأن يقول مثلًا: "وكذلك أمرنا مترفي القرية فلما فسقوا حق عليها القول فدمرناها تدميرًا" ولكن إتيان عبارة {وَإِذَا أَرَدْنَا أَن نُّهْلِكَ قَرْيَةً} في بداية الآية يدل دلالة واضحة على نيَّة مُسبَّقة على الإهلاك، كما أنَّ قوله {فَفَسَقُواْ} بعد قوله {أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا} مرتبط به وغير منفصل عنه، لأنَّ حرف الفاء في فعل {فَسَقُواْ} يدل على ارتباط الفسق بالأمر، وذلك كقولنا: "أمرته فنفذ!" والمعنى أنه نفذ ما أمرته به، لا أنه نفذ أمرًا مخالفًا لما أمرته به، هذه مغالطة صياغية. وإن كان المراد أو المعنى أنَّه نفذ أمرًا مخالفًا لكانت الإحالة واضحة كأن تكون صياغة الآية على النحو التالي مثلًا: "أمرنا مترفيها ولكنهم فسقوا ..." أو كأن يقول: "أمرنا مترفيها فلم يمتثلوا وفسقوا ...." أو ما يشابه ذلك.
يأتي السؤال الكبير ليطرح نفسه بقوة: "لماذا أراد (الله) تدمير القرية منذ البداية؟" أي قبل أن يأمر مترفيها سواء بالفسق أو بالعدل؟ وما ذنب القرية بأكملها ليأخذها "الله" بذنب مترفيها الذين فسقوا؟ هذه النقطة بالذات تذكرنا بالقصص التي يسردها القرآن عن إهلاك "الله" لأمم وقرى كاملة بسبب ذنوب البعض، كما في قصة ثمود الذي أهلكهم "الله" كلهم بالصيحة (إلا صالحًا والذين آمنوا معه طبعًا)، رغم أنَّ الذي عقر الناقة هو شخص واحد فقط وتذكر كتب التفاسير أنَّ اسمه قدار بن سالف والذي وصفه القرآن بأنه أشقى قومه {إِذِ انبَعَثَ أَشْقَاهَا}، ولا نعرف ما الذي حلَّ بأطفال القوم "الكافرين" الذين لم يؤمنوا بصالح، هل أنجاهم "الله" مع جماعة صالح من المؤمنين أم أنهم هلكوا كما هلك الكافرون أيضًا؟ على أننا نجد في هذه القصة أيضًا افتراض اتباع أمر غير منطقي، والمعاقبة على عدم الالتزام به، فقد كان في قتل الناقة منفعةً للقرية وأهلها، لأنَّ وجودها أوشك أن يجلب الخراب والدمار لأهل القرية كلها، ولكن لكي يُظهروا إيمانهم بنبوءة صالح كان عليهم أن يظلوا تحت قمع الأمر الإلهي المجحف، وأن يتحملوا خطر الجفاف، وما قد يلحق بهم وبأطفالهم وبهائمهم مستقبلًا إن عاشت الناقة على ما هي عليه.
وفي القرآن الكثير جدًا من الأوامر غير المنطقية وغير المعقولة التي يعتبرها "الله" الطريقة الوحيدة للتعبير عن الإيمان أو التوبة كما جاء في سورة البقرة على لسان موسى؛ إذ نقرأ {وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنفُسَكُمْ بِاتِّخَاذِكُمُ الْعِجْلَ فَتُوبُواْ إِلَى بَارِئِكُمْ فَاقْتُلُواْ أَنفُسَكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ عِندَ بَارِئِكُمْ} فأي إلهٍ هذا الذي يعتبر قتل الإنسان لنفسه شرطًا للتوبة؟ وأنا بصدد إعداد مقال بعنوان (اللامعقولات الإلهية) أنوي أن أستعرض فيه عددًا من اللامعقولات الواردة في القرآن ويعتبرها المسلمون من دلائل حكمة "الله" البالغة والمتجاوزة لفهم الإنسان "القاصر" بطبيعة الحال!
ونعود مرَّة أخرى إلى دكتاتورية "الله" في القرآن؛ إذ يتكرر الأمر ذاته في قصة قارون الذي خسف "الله" به وبداره الأرض، وذلك فقط لأنه رفض الاعتراف بفضل "الله" في حصوله على المال، وبمعنى آخر: إمَّا أن تعترف أنَّ "الله" هو من منحك هذا المال، وإلا فسوف يخسف "الله" بك الأرض(!) وربما المدهش فعلًا في قصة قارون هو قوله {إِذْ قَالَ لَهُ قَوْمُهُ لا تَفْرَحْ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ} ولا نعلم لماذا لا يحب "الله" الفرحين(؟) ولكننا عندما نقارن هذه الآية بقوله {وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّث} نفهم تمامًا أنَّ الفرح بالنعمة يجب أن يرتبط بذكر كونها من "الله" أي أنك يجب أن تذكر فضل الله عليك في الحصول على هذه النعمة؛ وإلا فالويل لك، وكأن "الله" لا يمنح النعم إلا ليشكره الناس عليها، ولا تستعجبوا فهذا ما ذكره "الله" عن نفسه في القرآن، فهو دائم التذكير للناس بنعمه، وفي حين نعرف جميعنا أنَّ تذكير أحدنا بفضله على الآخرين مذمة وخصلة غير حميدة، إلا أنَّ المسلمين لا يرون في ذكر "الله" فضله على الناس إلا مدعاة لتسبيحه وحمده وشكره، وهي لعمري من صفات الطغاة الذين يحبون أن يشكرهم الناس ويذكروهم دائمًا؛ وإلا اعتبرهم خونة ومارقين، وهو في كل ذلك يمن على العصاة أنه هداهم إلى الإسلام(!)
ولهذا نقرأ في سورة الحجرات قوله:{يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُل لّا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلامَكُم بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلإِيمَانِ} فإذا كان فعل البشر بالتمنن على الله بالإسلام مذمة وأمرًا معيبًا؛ فهل يُصبح الفعل القبيح ذاته فعلًا يليق بالإله؟ لماذا لم يقل في هذا السياق مثلًا "بل الله غني عنكم" هل بالضرورة أن ينزل الإله إلى مستوى مجاراة أفعال العباد بالمثل؟ وهي كثيرة في القرآن كما في سورة البقرة {وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُواْ إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِؤُونَ * اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ} وكذلك في سورة الأنفال إذ يقول: {وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ} والأغرب من هذا كله، أن يقرأ المسلمون هذا الكلام ولا يُثير فيهم شهوة السؤال أو التساؤل: كيف يكون الله مستهزئًا أو ماكرًا؛ بل ولماذا يدافعون عن هذه الصورة البشعة لهذا الإله بالتحايل على المعنى الواضح في سياق الآيات ذاتها؟ ولهذا فإننا عندما نقول إنَّ الإيمان يُعطِّل العقول فإننا لا نكون مُبالغين أو مُجحفين في حق المؤمنين أبدًا، وهو كلام ينطبق على أتباع كل الأديان دون استثناء، فجميعهم يقف أمام نصوص كتابه "المقدس" لا حول ولا قوة لعقله إلا بالقدر الذي يهبه الطمأنينة على إيمانه وعقيدته ورسوخهما، وليذهب العقل إلى الجحيم. ثم لا ننسى أنَّ رجلًا غنيًا ومقتدرًا كقارون، لاشك أنه كان يملك في بيته طاقمًا كاملًا من الخدم والحشم والعبيد، هذا بالإضافة إلى زوجاته وأبنائه؛ فما الذي حلَّ بهم يا ترى عندما قرر "الله" أن يخسف داره؟ وقد يقول البعض إن شكر النعمة قد لا تكون فقط بالشكر اللفظي وإنما بدفع حقها للآخرين، أي بمعنى الصدقة، ولاشك طبعًا أن الإحسان إلى الآخرين أمر جيد ومستحسن، ولكن هل الامتناع عن ذلك جريمة تستحق العقاب فعلًا؟ ما الذي قد يحصل إذا سنت أي دولة قانونًا يُجرِّم عدم الصدقة والإحسان بأن يُعاقب الذين لا يتصدقون على الفقراء؟ وهل الخسف كعقاب مُتناسب مع عدم دفع الصدقات كجريمة؟
وهكذا نرى أنَّ "الله" في القرآن يعرض صورة شديدة الوضوح لإله قمعي دكتاتوري، ينهى عن الشيء ويأتيه، وقد قيل من قبل كما هو منسوب لأبي الأسود الدؤلي: "لا تنه عن خلقٍ وتأتيه مثله * * * عارٌ عليكَ إذا فعلتَ عظيم" وقد رأينا كيف أنه ينهى عن المن ويمن، وينهى عن التكبر ويتكبر ويُسمي نفسه (المتكبر)، وينهى عن قهر الآخر {فأمَّا اليتيم فلا تقهر} ويُسمى نفسه (القهار). إله يريد أن يشكره الناس ويحمدوه على نعمه التي منحهم إياها دون أن يطلبوها، في الوقت الذي يقول فيه إنه غني عن العالمين، وفي الوقت الذي يعتبر فيه المن مذمة {الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ لاَ يُتْبِعُونَ مَا أَنفَقُواُ مَنًّا وَلاَ أَذًى}. إله يتسلط على الضعفاء (والخلق كلهم ضعفاء أمام قوته) فيعاقبهم ويخسف بهم الأرض ويأخذهم بالصيحة أو بالريح أو بالإغراق وفوق كل ذلك يعدهم بعذاب الجحيم الذي أعده خصيصًا لعقاب الناس الذين لم يُرد هدايتهم كما ظل يُكرر بنفسه: • {وَلَوْ شَاء اللَّهُ مَا أَشْرَكُواْ} • {وَلَوْ شَاء اللَّهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدَى} • {وَلَوْ شَاء رَبُّكَ لآمَنَ مَن فِي الأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا} • {وَلَوْ شَاء لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ} • {وَلَوْ شَاء اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِن يُضِلُّ مَن يَشَاء وَيَهْدِي مَن يَشَاء} • {وَلَوْ شَاء اللَّهُ لَجَعَلَهُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِن يُدْخِلُ مَن يَشَاء فِي رَحْمَتِهِ}
وقد نتساءل هنا –ويحق لنا ذلك-: "ترى لماذا لم يشأ "الله" أن يهدي الناس أجمعين؟" لتأتينا الإجابة منه في القرآن واضحة وجلية؛ إذ يقول: {وَلَوْ شِئْنَا لَآتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا وَلَكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِين} إذًا فقد سبق السيف العذل، فهو إله رحيم أراد أن يهدي الناس أجمعين، ولكن للأسف كان قد قطع وعدًا على نفسه بأن يملأ جهنهم من الناس والجن، ولهذا فهو لم يشأ أن يهديهم، لأنه إن فعل وقع في ورطة، فماذا يفعل بجهنم؟ وماذا يفعل بالوعد الذي قطعه على نفسه؟ ولكن ترى متى قطع هذا الوعد على نفسه أقبل أن يخلق الناس أم بعد ذلك؟ ولو يدري المسلمون كم هي صعبة هي الإجابة على هذا السؤال؛ فأي إجابة تعد ورطة أكبر من أختها، فإن قيل إنَّه قطع وعده قبل خلق الناس فهذا يعني أنه أضمر تعذيب الناس حتى قبل خلقهم، وفي هذا تجنٍ وظلم وانتقاص من عدالته، وإن قيل إنَّه إنما قطعه بعد خلقه للناس فهذا يعني أنه لم يكن يعلم من قبل أنَّ ثمة مِن خلقه مَن سوف يعصيه، فجاءته فكرة خلق النار لاحقًا، وفي هذا انتقاص من علمه وحكمته. إنه لمن المخزي فعلًا للعقل البشري أن يقبل بمثل هذه الصفات في الإله، والأبشع من ذلك أن يرى الأمر أكثر من اعتيادي أن يكون الإله متكبرًا ومتعاليًا، وأن يرى مثل هذه الصفات (المذمومة عند البشر) لائقة بالإله كما جاء في أحد تعليقات الأخوة على الجزء الأول من هذا المقال، وقد بدأ تعليقه بضحكة استنكارية واستهزائية، ولعمري إنها ضحكةٌ تدل على مدى الغيبوبة التي يعشها هؤلاء المؤمنون، هؤلاء أعتبرهم "عبيدًا" بالمعنى الحرفي للعبودية التي تعني الذل والصغار وامتهان النفس، وهو تمام معنى العبودية لله والتي يفخر بها المسلمون، وإن لم تتخلص البشرية من فكرة العبودية للإله، فلن تعتاد على معرفة معنى الحرية، ومعنى أن يكون الإنسان حرًا وممتلكًا لقرار نفسه، وهذا ما لا تريده الأديان، فالأديان تريد لنا -كشعوب "متدينة"- أن نظل مستشعرين بالعبودية لقوىً فوقية مسيطرة ومتسلطة حتى تسهل السيطرة علينا، وبرمجتنا كما يريدون، في حين نقع نحن (مع مرور الزمن) في أزمة ما يُسمى بمتلازمة ستوكهولم Stockholm syndrome التي تتعاطف فيها الضحية مع جلادها بطريقة تثير الاستغراب حقًا، بحيث يشعر المؤمنون بالرضا التام عن صفات وأفعال هذا الإله، ولا تعود قادرة على رؤيتها بشعة أو قاسية أو حتى غير منطقية؛ بل يكون الأمر –بالنسبة إليهم- أمرًا اعتياديًا مُسلَّمًا به تمامًا، وعندما ينعتق الإنسان من قيود العبودية الخرافية هذه يُصبح عقله حرًا، وعندها فقط يُبدع ويحقق التطور، وهو ما نراه في كل الدول المتحررة من قيود الدين، فبدأت تُنتج وتتطور وتتقدم مخلفةً إيانا في ذيلها ما نزال نتصارع حول مخلفات التاريخ والتراث كالبلهاء.
#هشام_آدم (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
دكتاتورية -الله- في القرآن – 1
-
الكوزمولوجيا الدينية
-
هل تذكرون كاجومي؟
-
النار كأداة تعذيب
-
كشف أكاذيب برنامج الدليل (الأخيرة)
-
كشف أكاذيب برنامج الدليل 8
-
كشف أكاذيب برنامج الدليل 7
-
كشف أكاذيب برنامج الدليل 6
-
كشف أكاذيب برنامج الدليل 5
-
كشف أكاذيب برنامج الدليل 4
-
كشف أكاذيب برنامج الدليل 3
-
كشف أكاذيب برنامج الدليل 2
-
كشف أكاذيب برنامج الدليل
-
في الرد على إسلام بحيري 3
-
في الرد على إسلام بحيري 2
-
في الرد على إسلام بحيري
-
رسالة إلى الدكتور سيد القمني
-
المسلمون الجدد - 4
-
المسلمون الجدد - 3
-
المسلمون الجدد - 2
المزيد.....
-
المقاومة الاسلامية بلبنان تستهدف قاعدة حيفا البحرية وتصيب اه
...
-
عشرات المستوطنين يقتحمون المسجد الأقصى
-
مستعمرون ينشرون صورة تُحاكي إقامة الهيكل على أنقاض المسجد ال
...
-
الإعلام العبري: المهم أن نتذكر أن السيسي هو نفس الجنرال الذي
...
-
ثبتها فوراً لأطفالك.. تردد قناة طيور الجنة 2024 على نايل سات
...
-
الجنائية الدولية تسجن قياديا سابقا في أنصار الدين بمالي
-
نزع سلاح حزب الله والتوترات الطائفية في لبنان.. شاهد ما قاله
...
-
الدعم الأميركي لكيان الاحتلال في مواجهة المقاومة الإسلامية
-
إيهود باراك يفصح عما سيحدث لنتنياهو فور توقف الحرب على غزة
-
“ألف مبروك للحجاج”.. نتائج أسماء الفائزين بقرعة الحج 2025 في
...
المزيد.....
-
مأساة العرب: من حزب البعث العربي إلى حزب الله الإسلامي
/ حميد زناز
-
العنف والحرية في الإسلام
/ محمد الهلالي وحنان قصبي
-
هذه حياة لا تليق بالبشر .. تحرروا
/ محمد حسين يونس
-
المرحومة نهى محمود سالم: لماذا خلعت الحجاب؟ لأنه لا يوجد جبر
...
/ سامي الذيب
-
مقالة الفكر السياسي الإسلامي من عصر النهضة إلى ثورات الربيع
...
/ فارس إيغو
-
الكراس كتاب ما بعد القرآن
/ محمد علي صاحبُ الكراس
-
المسيحية بين الرومان والعرب
/ عيسى بن ضيف الله حداد
-
( ماهية الدولة الاسلامية ) الكتاب كاملا
/ أحمد صبحى منصور
-
كتاب الحداثة و القرآن للباحث سعيد ناشيد
/ جدو دبريل
-
الأبحاث الحديثة تحرج السردية والموروث الإسلاميين كراس 5
/ جدو جبريل
المزيد.....
|