|
أضواء ساطعة حول الإغتيال السياسي: الرفيق شكري بلعيد و الأخ محمد براهمي نموذجا
رضا لاغة
الحوار المتمدن-العدد: 4747 - 2015 / 3 / 13 - 20:46
المحور:
مواضيع وابحاث سياسية
لا يزال موضوع الظاهرة الإجرامية يفتقر إلى ضوابط دقيقة ترسم للباحث الإطار النقدي الذي ينطلق منه في تفسير العوامل الوظيفية التي تبرر تنامي الجريمة المنظمة . و اعتبارا لمبدأ تصنيف الجرائم كان لزاما علينا الإشارة في هذا الصدد إلى ضرورة التمييز بين الجريمة السياسية و الإرهابية. و من المهم أن نتوقف هنا عند تسليط الضوء على حادثتي اغتيال الرفيق شكري بالعيد و الأخ محمد براهمي و تجسيدات هذا الفعل الإجرامي كفعل سياسي هز الوسط السياسي و غيّر من مجريات العملية السياسية في تونس . يجب التأكيد هنا أنه رغم وضوح أركان الجريمة من حيث تعريفها المادي كفعل يقع تحت نص يجرمه القانون و يتظافر فيه قصدا جرميا يوجه إرادة الجاني لارتكاب هذا الفعل ، فان غياب المعطيات التفسيرية بالنسبة لموضوع بحثنا ، من شأنه أن يلبّس واقعتي الاغتيال غموضا مصطنعا بغرض التعمية . سنبدأ من فرضية تؤكدها معطيات حسية أن الفعل الجرمي الذي طال كل من الشهيد شكري و محمد براهمي قام على فكرة المشاركة بمعنى: ـــ تضافر أكثر من شخص و جهة في ارتكابه ـــ توافق الإرادات المشتركة بنية إحراز الفعل الجرمي و لما كنا نستبعد مطلقا أن تقع الجريمة السياسية في عالم الصدفة و إنما تكون نتيجة تدبير و تخطيط محكم ، فإننا نعتبر أن كل جريمة سياسية هي ترجمة عن جملة من الدوافع يمكن تعليلها سببيا. و على الرغم من أنه ليس هناك تعريف واضح للجريمة السياسية ، فلا تزال بعض التعريفات محتفظة بجاذبيتها من ذلك التعريف الذي ورد في الفقه الانجليزي حين اعتبر دارتون الجريمة سلوكا ملازما للاضطراب السياسي و تشكل جزءا منه؛ و كذلك التعريف الذي صيغ في المؤتمر الدولي لتوحيد القوانين العقابية بكوبنهاغن :" إنها الجريمة التي تقترف و تكون السياسة الغرض أو الدافع لها". معنى ذلك لكي تكون الجريمة سياسية يجب أن توجد علامة مرجعية مناسبة تمثل دافعا لها، إذ هي التي تعلل السلوك الإجرامي. وهو ما يسمح بدرجة من التقييم المبني على منطقها الداخلي و تناسبها مع التوقعات. إن إدعائي مثلا، مباشرة بعد تشكل حكومة التكنوقراط و بسبب ذوبان الجليد بين أقطاب سياسية، هو بحد ذاته مرتبط بانتظامات معينة سياسيا على أنه بداية تحليل سببي لواقعتي الاغتيال . وفي الوقت الذي كان الرأي العام يتحدث عن قائمات لاحقة ، قلت حينها أن كل الدلائل تؤشر على صفحة سياسية جديدة مبنية على الوفاق. من الواضح إذن أن الجريمة السياسية تهدف إلى إدخال تغيير عاصف و وظيفي في التركيبة البنائية للحكم، تقاس وفق : ــ معيار موضوعي يحدد طبيعة الاعتداء ـــ معيار شخصي يحدد الفاعل في صورة حجزه و إلى ما ينتمي. ــ معيار وصفي قائم على تأويل المعيارين السالفين. و لما كانت الجريمة يمكن أن تأخذ تجليات مختلفة ( اختلاس ، انتخاب...) فإن خطورتها تتعاظم وفق الحالة المخصوصة التي تجسدها و الغايات التي تنشدها. و لأن اغتيال الشهيدين ، طوّح الحياة السياسية في تونس ، فليس هناك من بد ف لافتراض ـ في الحد الأدنى ـ أن هذا الفعل يندرج في صلب هذا النوع من الأعمال الجرمية. إن من يلقي نظرة عاجلة على شكل الاغتيال ( سائق دراجة و قاتل) سوف تستوقفه بدرجة أولى حقيقة وجود شركاء في الجريمة وهذا أمر بديهي بيّن. فهل المقصود بالشريك من قاد الدراجة الواردة في رواية الشهود ؟ طبعا مفعولية الشريك هنا حاصلة كقرينة مادية و لكن هناك بعد آخر ، ونقصد به التحريض ، التخطيط ، التمويل ، الحماية اللوجستية. و هو ما يتطلب قرائن إثبات. لنسلم أولا ، أن الشراكة هي عبارة عن رابطة معنوية بين المشتركين في الفعل الجرمي نميّز فيها بين المساهمة الأصلية و المساهمة التبعية. لنسلم ثانيا، أن قوة التنفيذ في الجريمتين أنجزت بنفس الأسلوب و بنفس السلاح و في زمن فاصل يقدر بستة أشهر. و هو ما يعلل وجود اتفاق جرمي لمقاصد الجهة قبل حتى موعد التنفيذ.و لكن السؤال الذي دوّخ الرأي العام التونسي و العربي و العالمي : هل الجهة المخططة و التي أشرفت على تجهيزية الفاعل ، هي جهة إرهابية تشتغل بمعزل عن عالم السياسة ؟ في هذه الحالة كيف يستقيم القول بأن الاغتيال سياسي؟ غير أن النظر إلى صدى الفعل الجرمي الذي أربك الحياة السياسية يجعلنا لا نستطيع عزله عما هو سياسي. لو كان سياسيا بامتياز فإن السؤال يصبح : هل هو داخلي ؟ في هذه الحالة هل هو اختراق داخل الجهة التي تحكم إذ لا يعقل أن تصنع حدثا سياسيا يعارض تموقعها الذي تتحيز فيه؟ هل هو لمسة لقوى تقليدية عميقة؟ و إذا كان خارجي هل هو فعل استخباراتي بلمسات سلفية ذات إيحاء فاقع؟ إن مجهودنا المتواضع في هذا البحث ، يهدف إلى تفسير جريمتي الاغتيال. هل استخدمتا لغرض سياسي أم إرهابي؟ إذا اعتبرنا أن الجريمة السياسية وسيلة للتغلب على الخصم السياسي ضمن مسار تصادمي ، فللسبب ذاته تخبرنا عن أوضاع و ظروف مرتبطة بانتظامات معينة . فلم التلازم بين الجريمة الأولى و الثانية؟ بمعنى آخر لو سلمنا ، وهذا محقق، أن نفس الجهة نفذت الجريمة الأولى و الثانية ، فما هي الدوافع التي قادتها لتكرار الفعل؟ هل يعزى ذلك إلى تكثيف القدرة على الردع ، و بالتالي ترهيب السياسيين . ؟ وفي هذا الحالة نحن إزاء مسلسل من الاغتيالات ؟ و هذا ما نفيته من منطلق الملاحظة و التقصّي . لم يبق في هذه الحالة سوى احتمال وحيد مفاده أن فشل تحقيق الأهداف التي قامت عليها الجريمة الأولى هو ما يبرر اللجوء للجريمة الثانية. لتغدو ضرب من الإسقاط المتوازي لنفس الهدف. و إن كنا نحتاج التمييز بين الفاجعتين. يعتمد منطق التحليل لدينا ، والذي تم طرحه لحد الآن ، على فرضيتين نعيد صياغتهما كالتالي: إن الجزم بكون الجريمتين تمتا بإخراج سياسي يعنى أن لنا المشروعية الأخلاقية الكافية لنبحث عن الجهة المنفذة ضمن مربع : حكومة/ معارضة. دون أن يتحول ذلك إلى اتهام لجهة بعينها. نبدأ بالسؤال التالي: من هو المستفيد من تصفية المناضل شكري بلعيد؟ من يتابع المتحولات السياسية يسهل عليه القول بأن القوى القديمة نجحت في هذا الجو المشحون بالاستياء من التقارب مع المعارضة، فالشهيد كان معارضا شرسا للنظام القديم . و هذا قول فيه معايشة لكوني أعرف الرجل و لم يحكى لي عنه. وأقواله التي ترفض الاصطفاف مع النداء و حركة النهضة بيّنة بالصوت و الصورة. و هو أول من استخدم عبارة الاستقطاب الثنائي المغشوش حين كنا نناقش الورقة السياسية التي ستجسد الالتقاء الجبهوي بين أحزاب وطنية. إن حدوث تحوّل في موقف الجبهة من النداء هو زعزعة للأسس النظرية التي قامت عليها. كأني هنا أتحدث عن ذوبان عائق موضوعي لتقاربات مفيدة ما كانت لتوجد لولا اغتيال الشهيد. هل معنى ذلك أن المنظومة القديمة هي التي نفذت ، لا دليل و لكن هناك لاعب دولي سبق له أن رتّب أوضاع جيوسياسية بقتل الزعيم فرحات حشاد لتعبيد الطريق للزعيم بورقيبة. تحوّل الصراع بين قوى المعارضة إلى جبهة عدوّها الأساسي هو حركة النهضة. تواجه هذه القراءة مشكلة أساسية تكمن في تصنيف الجريميتين . سنعتمد في توصيف الأولى مصطلح الأصل و الثانية الفرع بوصفه يفسر عندنا كناتج لإخفاق هدف زعزعة الوضع السياسي. أن نعتبر الجريمة الأولى أصلا يعني أن تكون بمنزلة الحافز لتغيير جذري مبني على منطق الاستحواذ السياسي. إنها عبارة عن حدث محرّض يعكس فكرة التنافس حول مكانة ( الحكم) يصعب للقوى التقليدية أن تحرز عليها. هنا يعتبر الشهيد شكري جواد مربح فنقده لاذع و الاتهامات التي نسبت له كمحرض على أحداث سليانة لا غبار عليها ، حضور متواتر في الإعلام. إن عملية التصفية تتم وفق منطق حسابي يشير إلى الجهة التي قتلت. كان هناك حرص على ترميز الرجل ، رغم كونه حقيق بذلك . إن يوم الفاجعة استثمر سياسيا في لحظته ، فالسيد الباجي زفّ لنا خبر حتمية حل المجلس التأسيسي و هو استبطان بأن الحكومة أمرها منته لا محالة. هذا التصريح ، بقطع النظر عن كونه مناورة و توظيف سياسي لرجل محنك ، فهو لم ينجح. الشعب تآلف بضرب من النخوة العجيبة و مآل الجريمة : حكومة جديدة بتزكية منقطعة النظير( 144 صوت) لنفس الجهة التي تحكم. نحن هنا نتحدث عن إخفاق ، في تحقيق الانحراف السياسي المراد من وراء عملية الاغتيال، لذلك نعتقد أن الجريمة الثانية التي طالت الشهيد محمد براهمي تعتبر حدثا تحريكيا. و لكن لماذا محمد براهمي بالذات؟ لأن الجريمة أولا محكومة بأثر رجعي يتأثر بخيارات تصنف في أوضاع محددة( وجود قائمة مثلا و بحسب سهولة الهدف). يضاف إلى ذلك شخصية محمد الوسطية ( قومي)، و الرمزية ( حاج و من المنطقة التي انطلقت منها الشرارة الأولى للثورة) و التاريخية ( مناضل شرس ضد النظام) و التقدمية ( انحاز إلى الجبهة) فضلا أن تاريخ الاغتيال هو عيد الجمهورية بما يحيل إليه من معاني سامية كالحرية و المواطنة ... إن عملية الاغتيال أنتجت ما يسمى بجبهة الإنقاذ و نفس الشعارات تلوح عاليا: يا غنوشي يا سفاح يا قتال لرواح. إن ترجيح هوية القاتل ( حزب سياسي) بضرب من الاستباق، هو مقدمة لسحب البساط لكي لا تستمر في الحكم . هنا نحن إزاء فرضيتين: ـــ الأولى أن القتل هو مخطط ليتم تلبيسه لجهة محددة بقصد إبعادها من الحكم . وهذا فشل في الأول و نجح في الثانية. ـــ الثانية:فرضية الاختراق و وجود تنظيم داخل التنظيم للجهة التي تحكم. و هذا حديث آخر .(يتبع).
#رضا_لاغة (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
قتل بإستيطيقا غامظة
-
حيز يقطن فيه الأمل : تبيئة للفضاء العمومي الهابرماسي
-
إلي أيقونة القلب: فلسطين
-
احتمالات معاكسة لليقين و اللايقين
-
تفجير الحداثة من الداخل : نقد لها أم تضحية بالحداثة؟
-
هو ذا طريقنا
-
الحداثة المعطوبة بعيون هابرماسية و الدور الملهم للإرث الديني
...
-
يشرعن و يقمعون ، و المرأة تبلغ نهاية مصيرها العادل
-
ثقافة فينومينولوجية لاختراع الجسد و تنابذ مع الكوجيتو المقلو
...
-
دردشة على ضفاف الهنا و الآن
-
العرقية و القومية: تأصيل إيديولوجي أم أنثروبولوجي؟
-
ملاسنة حول السفسطائي: رحلة من معاقل الميتافيزيقا إلى معاول ا
...
-
أدب الجريمة : دوستويفسكي و البصمة الأنثروبولوجية
-
استلاب الوعي و القهر السياسي لنظام بن علي
-
الطريق من الجريمة إلى الأنثروبولوجيا
-
الحرب: أزمة قيم أم أنثروبولوجيا؟
-
التصوف تحت مجهر علم النفس خال ينمّ عن عقدة بلوغ أوج القمّة
-
الإرهاب و الثورة : أزمة عصر أم ميلاد عصر جديد؟
-
نوابض خفيّة للصورة
المزيد.....
-
الأردن.. ماذا نعلم عن مطلق النار في منطقة الرابية بعمّان؟
-
من هو الإسرائيلي الذي عثر عليه ميتا بالإمارات بجريمة؟
-
الجيش الأردني يعلن تصفية متسلل والقبض على 6 آخرين في المنطقة
...
-
إصابة إسرائيلي جراء سقوط صواريخ من جنوب لبنان باتجاه الجليل
...
-
التغير المناخي.. اتفاق كوب 29 بين الإشادة وتحفظ الدول النامي
...
-
هل تناول السمك يحد فعلاً من طنين الأذن؟
-
مقتل مُسلح في إطلاق نار قرب سفارة إسرائيل في الأردن
-
إسرائيل تحذر مواطنيها من السفر إلى الإمارات بعد مقتل الحاخام
...
-
الأمن الأردني يكشف تفاصيل جديدة عن حادث إطلاق النار بالرابية
...
-
الصفدي: حادث الاعتداء على رجال الأمن العام في الرابية عمل إر
...
المزيد.....
-
المجلد الثامن عشر - دراسات ومقالات - منشورة عام 2021
/ غازي الصوراني
-
المجلد السابع عشر - دراسات ومقالات- منشورة عام 2020
/ غازي الصوراني
-
المجلد السادس عشر " دراسات ومقالات" منشورة بين عامي 2015 و
...
/ غازي الصوراني
-
دراسات ومقالات في الفكر والسياسة والاقتصاد والمجتمع - المجلد
...
/ غازي الصوراني
-
تداخل الاجناس الأدبية في رواية قهوة سادة للكاتب السيد حافظ
/ غنية ولهي- - - سمية حملاوي
-
دراسة تحليلية نقدية لأزمة منظمة التحرير الفلسطينية
/ سعيد الوجاني
-
، كتاب مذكرات السيد حافظ بين عبقرية الإبداع وتهميش الواقع ال
...
/ ياسر جابر الجمَّال
-
الجماعة السياسية- في بناء أو تأسيس جماعة سياسية
/ خالد فارس
-
دفاعاً عن النظرية الماركسية - الجزء الثاني
/ فلاح أمين الرهيمي
-
.سياسة الأزمة : حوارات وتأملات في سياسات تونسية .
/ فريد العليبي .
المزيد.....
|