|
ما وراء العنف اللفظي
خليل الشيخة
كاتب وقاص
(Kalil Chikha)
الحوار المتمدن-العدد: 4734 - 2015 / 2 / 28 - 10:56
المحور:
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
كثيراً ما أسمع عبارات بين الناس، خاصة عندما يحتدم الصراع بينهم، بأن أحدهم سيشرب من دم الآخر، وهذا دلالة على الرغبة في إنهاء العدو لفظياً. لكن تبدو المقولة غريبة في ذاتها، إذ أنه لم نر أحداً من قبل في مجتمعاتنا المتحضرة أقدم على شرب دم عدوه. لذلك يظل ترديد هذه الكلمات بين الناس يمثل الشكل الرمزي المعبر عن عادة سائدة قديماً حملته لنا الألفاظ اللغوية وصانته بشكله الشفوي. وقد تحيلنا وقائع تاريخية إلى منشأ هذا العنف اللفظي وجذوره. نورد ما نوّه إليه المؤرخ الأمريكي كارل روبوك في كتابه " العالم في الأزمنة القديمة" بأن البشر اعتقدوا أن الدم هو سر الحياة وفقدانه يؤدي إلى الموت. لذلك ارتبط هذا المعتقد عبر الأجيال، ومنه مارست المجتمعات الوثنية تقديم دم الضحية المقدس إلى الآلهة كي ترضى عن البشر. - شرب الدم عند البدائيين: في تاريخنا المعاصر ما زال هناك قبائل رعوية في القارة الإفريقية هي "المسايا" والتي تقع بين كينيا وتنزانيا تشرب الدم وتعتقد أنه مادة غذائية هامة، وفيها يكمن سر الحياة. يلجأ أفرادها إلى ثقب البقرة أو الثور قريباً من الرقبة، ومن ثم يترك الجرح ينزف في وعاء أشبه بالطاس؛ يضاف إليه الحليب الطازج ويمزج ثم يُشْرَب كوجبة رئيسية. إضافة لذلك، هناك قبائل مغولية تفعل ذات الشيء، لكن مع الجياد وليس الأبقار. لاشك أن هذا الاعتقاد ظل متوارثاً عبر الأجيال حول أهمية الدم في الحياة. فقد لجأت قبائل بدوية، هي (سيثانس- Scythians)، في جوار روسيا القديمة إلى شرب دم أول عدو يقتلونه في المعركة. يفعلون ذلك لاعتقادهم بأن قوة العدو ستنتقل إلى أفراد القبيلة المحاربة، وبهذا الفعل يسهل التغلب عليهم وسحب قوتهم في شرب دم أحد أفرادهم. - مصاص الدماء: يعرف في الثقافة الغربية أن مصاص الدماء (الفامباير- Vampire)، كمفهوم، انتشر على أنه شكل من أشكال الشيطانيّة الشريرة. فقد امتزج في قوام أسطوري بذلك الخفاش الليلي الذي يعيش على مص الدماء. يدعى هذا الخفاش (الفامباير)، وهو يتواجد في أمريكا اللاتينية ضمن الأماكن الرطبة في الآبار والكهوف . وربما استوحت المخيلة الشعبية فيما بعد شكل (الرجل الخفاش) لتبتدعه على الشاشة السينمائية بشكله المرعب الشيطاني. ولاشك أن شيطنة المشهد يرجع إلى التحريم الكلي لشرب الدم في المجتمعات الحديثة. خاصة وقد حرّمت الأديان السماوية سلوك كهذا بين البشر. لذلك كانت شخصية الفامباير شيطانية بامتياز وهي تمثل قوى الشر في التراكيب الأخلاقية للمجتمعات المتحضرة. من هذا المنطلق، ظهرت شخصية الفامباير في الأدب الغربي والفن السينمائي ليأخذ الدور الشرير المرفوض من المجتمع. وساد اعتقاد في البلدان السلافية والصين قديماً، أن الجثة التي يمر من فوقها الكلب والقطة ستتعذب وتحيا على شكل مصاصة دماء تلاحق ضحاياها بعد منتصف الليل. انتقلت هذه الأساطير في المخيلة الأوروبية لتتجسد في الأدب الروائي. ففي رواية (دراكولا 1897-Dracula) للأديب الايرلندي برام ستوكر ( 1847-1912)، تجلت هذه الأسطورة حول مصاص الدماء الذي لا يحيا إلا بالدماء البشرية. تلك الرواية تدور حول الكونت دراكولا الذي يعيش في قلعته. تبدأ الرواية بسفر المحامي جانثن هاكر إلى رومانيا والعيش في قلعة الكونت الذي يحيا كمصاص دماء لعدة قرون. ونرى من خلال الرواية أنه يمثل قوى الشر الذي يغوي النساء والأجانب بأن يصبحوا مثله يتغذون على الدماء. الرواية تسجل إسقاطات المخيلة الشعبية والصراع بين قوى الخير والشر، وقد مثّلت على الشاشة عام 1931، إضافة لذلك، فقد اختزلت هذه الرواية النظرة البريطانية حيال الغرباء وحيال القيم الأخلاقية السائدة في ذلك العصر. سبق هذا العمل في موضوع الفامباير الروائي شرايدن ليفانو في روايته (كارميلا-1872). اعتماداً على ما ذكر سابقاً، نرى أن شرب الدماء ، خاصة من الأعداء، هو فعل يعطي الشارب قوة عدوه وينتزع منه أهم ما لديه، ألا وهو الحياة. لذلك لا يستطيع المرء فهم الألفاظ والسلوكيات للأفراد إلا بوضعها ضمن إطارها التاريخي ، والسبب هو أن الإنسان كائن تتراكم فيه المعارف البشرية السابقة وتتجمع حتى تغدو وحدة من الصعب فصمها أو تجزئتها. أيضا من الصعب ترك سلوك مؤثر خلال آلاف السنين لمجرد تحريمه. لذلك يتحول من فعل تمارسه المجتمعات إلى لفظ يأخذ شكله في استعادة الفعل ذاته، إلا وهو النزاع أو احتدام الصراع بين الأفراد. شكل آخر للرمز تمارسه بعض المجتمعات الدينية هو استبدال شرب الدم بما يشابهه في اللون وله فعل السحر ذاته على الفرد، ألا وهو نبيذ العنب الأحمر، الذي يمثل الدم بسحره والذي ينظر إليه على أنه سر من أسرار الوجود.
#خليل_الشيخة (هاشتاغ)
Kalil_Chikha#
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
بروز داعش
-
الجذر اللفظي للأكل دون ملح
-
القناص الامريكي والانتفاخ
-
تورتيلا فلات والصعلكة السياسية العربية
-
لؤلؤة فقراء الربيع العربي
-
حِكْمَة شَهْرَزَادْ
-
الغندورة
-
قراءة في كتاب الكافرة
-
رموز الحكاية الشعبية
-
ظروف تعيسة
-
عقدة السلطة عند كافكا
-
الروائي ابراهيم الكوني واسقاطات الحكمة في روايته الاخيرة
-
تجذير الحوار في موقع الحوار المتمدن
-
مابعد سليلو
-
ذئاب بلا أنياب
-
القاص خليل الشيخة للكاتب عيسى اسماعيل
-
موت بائع متجول للكاتبة الأمريكية يودورا ويلتي
-
الرحيل
-
إصدار المجموعة المترجمة (رسالة إلى السماء)
-
من أجل غرين كارد
المزيد.....
-
وزير الداخلية الفرنسي يتمسك بملف الهجرة ضد الجزائر
-
إصابة طفل سوري في ريف القنيطرة برصاص الجيش الإسرائيلي وغارات
...
-
الانسحاب من فيلادلفيا وإعادة الإعمار.. متى ستنطلق مفاوضات ال
...
-
شولتس يشدد على حل الدولتين بعد خامس عملية تبادل بين إسرائيل
...
-
بغداد تؤكد تثبيت موعد الانسحاب الأجنبي
-
الجيش الإسرائيلي يستعد للانسحاب بشكل كامل من محور -نتساريم-
...
-
روسيا وعمان.. 40 عاما من الصداقة
-
76 نائبا في مجلس النواب الليبي يدينون مخططات تهجير سكان غزة
...
-
-لم تصب بأذى-.. سائقة ثملة تصطدم بدبابة من الحرب العالمية في
...
-
ليبيا.. النيابة العامة تحرك دعوى جنائية ضد خفر السواحل بتهمة
...
المزيد.....
-
حوار مع صديقي الشات (ج ب ت)
/ أحمد التاوتي
-
قتل الأب عند دوستويفسكي
/ محمود الصباغ
-
العلاقة التاريخية والمفاهيمية لترابط وتعاضد عالم الفيزياء وا
...
/ محمد احمد الغريب عبدربه
-
تداولية المسؤولية الأخلاقية
/ زهير الخويلدي
-
كتاب رينيه ديكارت، خطاب حول المنهج
/ زهير الخويلدي
-
معالجة القضايا الاجتماعية بواسطة المقاربات العلمية
/ زهير الخويلدي
-
الثقافة تحجب المعنى أومعضلة الترجمة في البلاد العربية الإسلا
...
/ قاسم المحبشي
-
الفلسفة القديمة وفلسفة العصور الوسطى ( الاقطاعية )والفلسفة ا
...
/ غازي الصوراني
-
حقوق الإنسان من سقراط إلى ماركس
/ محمد الهلالي
-
حقوق الإنسان من منظور نقدي
/ محمد الهلالي وخديجة رياضي
المزيد.....
|