|
محاورة الربيعي
نعيم إيليا
الحوار المتمدن-العدد: 4674 - 2014 / 12 / 27 - 21:12
المحور:
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
كانت عيادة الدكتور طلال الربيعي، التي غادرها للتو آخر زبائنه – وقد كدت أصطدم به عند خروجه من الباب وأنا أهم بالدخول- عائمة في ضوئها البرتقالي الخامل، ينوِّس بين جدرانها هدوءٌ مغلف بسهوم. وكانت مساعدته السيدة (كلاين) جالسة خلف مكتبها منهمكة – ربما - بإنجاز الترتيبات الأخيرة المتعلقة بشؤون المرضى الذين زاروا عيادته في هذا اليوم. فلما أحست بوجودي، رفعت إلي رأسها الورسيَّ، فبانت لي تقاطيع وجهها المكدود، وقد تجهمت لها القسامة من أثر الكدّ، وأشارت بذراعها إلى غرفة معاينة المرضى إشارة خاطفة، وعادت فانكبت على عملها دون أن تفوه ولو بمفردة واحدة يتيمة من مفردات الترحيب الحارة اللذيذة التي ألفت أن تغدقها على سمعي كلما جئت صديقي زائراً. اختلج بداخلي من حركتها الباردة الجافة الباترة وموقفها اللا مبالي بمقدمي شعورٌ بالمهانة. ولم يشفع لها عندي أن بدت مرهقة، وفي شغل عني بواجبها... أن أجزى من السيدة كلاين بإهمال كأنه الصدود، وأنا الذي بيني وبينها مودة ولطف متبادلان كثيراً ما تخطَّيا - من جانبي - حدود الاحتراز والتحفظ إلى المزاح الصريح أو العبث الداني من المجون؛ حتى إنني لا أرتدع خلله عن أن أكتم عنها - وقد أمنت الرقيب بغياب صديقي الدكتور وانشغاله بمرضاه - أنّ لها مؤخرة وثيرة جزيلة الغواية تضرم النار بهشيمة أحلامي في صحوي ومنامي. أما هي فتغنج، تخرج لي لسانها الشهي، تطلق عليّ نظرة مضرجة باستنكار مفتعل، وترد على مجانتي الخليعة بسخرية بريئة من اللؤم قائلة: حالتك النفسية متفاقمة فاقمها خيالك المريض بالغلمة.. وربما افتر ثغرها عن ملحة تشهّى لي النصحَ أن أبدأ في تلقي العلاج من صديقي الطبيب في الحال كي آمن من عطب محقَّق ينذر به التأجيل. جرضتُ بريقي مما اعتراني من خيبةٍ وثقل وضيق، ودفعت الباب بعد أن طرقته بيد فرَّ لونها طرقات خفيفة خاملة، وتقدمت منه كي أصافحه متكلفاً ابتسامة أرغمتها إرغاماً أن تزهر بحبور تحت شاربي الأهدل. كان صديقي واقفاً بعيداً عن كرسيه منحنياً بجذعه على رفّ سفلي في الخزانة محتشد بعقاقير وتحف صينية ومراجع طبية... فلما لحظني بجانب عينه، أمال عنقه نحوي قبل أن يستقيم بعوده المتين، ويسدد نظرة كالحة إلى ساعة معصمه الذهبية؛ نظرةً خلته معها كأنه لم يكن متوقعاً قدومي، أو كأنه لم يستمرئه، أو كأنه يوبخني مستفسراً: ((لماذا تأخرت إلى هذا الوقت ؟)) رغم أنه لم يغب عن بالي أنه هو الذي حدد لي موعد اللقاء به في هذا الوقت في المكالمة التي جرت بيني وبينه في حوالى الساعة الخامسة عشرة؛ أي قبل خمس ساعات مضين من الآن. ولكنه لم يلبث أن بسط لي ذراعه بعد ذلك متودداً ذارعاً صفحتي بعينه النسرية التي لم تذهب عنها حدتَها كدرةُ زجاج نظارته الصفراء كاليبيس، قائلاً: - كلا! وإنما أردت أن أعبر عن دهشتي وإعجابي بدقة محافظتك على المواعيد. لم يفجئني منه أن وقف على ما جال في خاطري، ألفت نباهته وحدوسه الغريبة، فبادرته مداعباً عُجْباً منه بموهبته نضحت به جملته، وأنا أريح ركبتي المحطمة، من طول المسير، على الكرسي إلى جانب مكتبه الأنيق: - قد عرفت أنك ماهر في التحليل النفسي، أما أن تكون ماهراً في قراءة الأفكار والظنون، وهي بعد ضجيعة في الأذهان، فمما لم يسبق لي أن عرفته فيك. – مسَّد براحته على ناصيته الملساء كيقطينة، وقال: - أحسبها مهنتي؛ أعني أن مزاولتي للطب النفسي، هي التي أكسبتني موهبة الكشف عما يستتر في في ضمير من يحادثني... تعمدت مشاكسته، قلت - ولكنْ لي أكثر من صديق يزاول مثلك مهنة الطب النفسي، وليس بين هؤلاء الصديق واحد يزعم أن له القدرة على استبطان ما في السرائر. - ألأنك لم تسمع واحداً يقول لك إن لديه طاقة ذهنية كالتي عندي، تستدرك علي وكأنني أخطأت؟ يا أخي، ربما لم يجد واحدهم مناسبة يعلن إليك فيها أنه قادر على الاستبطان...المرء لا يعلن بما اكتسب من الصفات، وبما حبته الطبيعة من المواهب إلا إذا دعته مناسبة لذلك. فإن حدث أن أعلن بذلك من غير مناسبة، عُدَّ مهذاراً.. مهلاً! ألا ترغب في شيء ينقع العطش؟ أترغب...؟ انتظر! سأعود إليك في الحال. نهض بخفة وعل عن كرسيه الذي لم يكد يدَّفئ، ومضى فدخل المطبخ ثم عاد حاملاً صينية فوقها زجاجة تشعّ صفرتها، وقدَحان من بلور نقيّ، وإناء من فضة تملَّأَ بقطع صغيرة من الجليد، وجلس في مكانه، وصب العقار في الكأسين، ثم انطلق يشرح لي مصطنعاً في الشرح لهجة العلماء المتخمة بالثقة: - هذا من عمل الدماغ يا عزيزي، وعمل الدماغ، نشاطٌ مبثوث فيه طبعاً وغريزةً. فلما كان الدماغ عضواً من أعضاء البدن كاليد، فإن نشاطه يرهف بالدربة ومقدار التحصيل والمران، ولما كان الواحد منا دائم التدريب لدماغه، لم يمسِ لديه الكشفُ عن الخبيء في الضمائر عسيراً أو محالاً. وأنا عندما أتحدث إليك عن الدماغ، فإنما أتحدث إليك عن الدماغ لا عن العقل، فأرجو ألا يعزب عنك هذا... ألا يعزب عنك أنني من الذين يلحظون الفرق بين الدماغ والعقل ولا يعدّونهما شيئاً واحداً! فإذا سألتني هنا: وما الفرق بينهما؟ أجبتك: إن الدماغ هو الآلة العضوية، وإن العقل – وإن كان جوهر هذه الآلة، وإن استحال قيامه من دونها، وإن استحال، بتعبر أدقّ، فصلُه عنها – مفهومٌ له دلالة أكثر اتساعاً من دلالة الدماغ؛ مما يجيز لك، بل مما يوجب عليك حقَّ تعريفه بقولك: إنه الدماغ وقد أضيف إليه تفاعله (الديالكتيكي) – كذا إن شئت أن تستعمل هذا اللفظ الأجنبي الدارج - مع المحيط الخارجي. وهذا التفاعل شديد التعقيد، متشعب جداً، وهو تفاعل لا يكون بين العقل ومحيطه الخارجي فحسب، وإنما يكون - فضلاً عن ذلك - ما بين العقل وسائر أعضاء الجسد. هذه أطروحة الفيلسوف (مارلو بونتي) أيضاً، ولعلك اطلعت عليها، وهي أطروحة تؤكد صحتها كلُّ الدراسات والاختبارات العلمية الحديثة. - إذن فأنت تريد أن العقل هو الدماغ وقد لامس الواقع واحتكَّ به وتفاعل معه بعلاقة متبادلة تؤازره فيها آلات الحس وأعضاء البدن الأخرى كالبطن والأعصاب والخلايا والجينات... حسنٌ! فهل كنا خالفناك الرأي فيما تريد؟ - ليس الأمر أمر خلاف أو موافقة، وإنما هو تذكير بحقيقة علمية تتمثل في أن الدماغ بسبب كونه عضواً ليس يتصف بالجمود والعزلة، لا يعكس الطبيعة عكساً آلياً (ميكانيكياً) كما تعكسه المرآة، وتتمثل أيضاً في أن الدماغ لا يفرز الفكر كما تفرز الكبد الصفراء بخلاف ما كان ديكارت يعتقد من أن الفكر تفرزه غدة في الدماغ. وهو اعتقاد فاسد قد بات اليوم مرفوضاً من جميع العلماء والأطباء. - ولكننا إن رضينا بحقيقة أن الدماغ ليس عضواً جامداً يعمل في عزلة عن أعضاء البدن؛ وبأنه لا يعكس الأشياء الواقعية آلياً كما تعكسها المرآة، فهل نرضى بأنه "لا يفرز الفكر كما تفرز الكبدُ الصفراء"؟ أجاب: - إذا كان العلم أقرّ حقيقةَ أن الفكر لا تفرزه غدة في الدماغ، فهل نملك أن نرفض هذه الحقيقة؟ - قد تكون الحقائق العلمية فوق المنطق البشري أحياناً، فخلق الزمان والمكان بحسب نظرية الانفجار العظيم مما لا يُتصور بالعقل ولا يسوغ في المنطق، وقد يكون ما حكاه ديكارت عن الغدة الدماغية الموكَّلة بفرز الفكر، ساقطاً علمياً. ولكن جزءاً مما حكاه ديكارت هنا لا بد أن يكون جديراً بالملاحظة والتقدير والتأمل من جهة أن ما حكاه يتضمن حقيقة لا يسعنا إلا أن نتقبلها؛ وأعني بها (عملية الفرز) ذاتها، هذه العملية التي تماثل في جوهرها عملية فرز الكبد للصفراء. - أعدتَ تجدّد وصلك بلكنْ ولكنّ!؟ ليتني أعلم سرّ ولوعك بهما! - لا بد من وصلهما يا عزيزي، أم تريدني أن أرضخ لكل ما قيل ويقال دون تمحيص وتدبر وتقليب!؟ - لا، ولكنْ... أفلتت مني ضحكة شاحبة مباغتة: - هيء هيء هئ... هأنت أيضاً صبٌّ هائم مثلي بلكن! فرد في أسف: - إنه مقتضى الحال يفرض علي التلويح بها أحياناً... - لا بأس عليك! فلنعد إلى موضوعنا.. إنني إذ أستحضر في ذهني لفظ الفرز، أتساءل في البدء: ما الفرز؟ أليس الفرز خروجَ شيء من شيء كخروج العرق من الجلد، والدمع من المقلة، والصفراء من الكبد؟ فإن يكن الفرز كذلك، فما عسى العالم الذي يدرس وظيفة الدماغ في مختبره أن يقول، وقد اصطدم قبل الشروع في عمله بهذا السؤال: "من أين يخرج الفكر ؟" هل يقول إنه لا يخرج من الدماغ، أو يقول إنه يخرج من الدماغ؟ لا ريب في أنه سيختار الثاني؛ لأنه لو اختار الأول، فإن اختياره هذا سيكون نفياً لوظيفة الدماغ وهذا محال؛ فإن للدماغ وظيفة إنتاج الفكر وإخراجه... - قاطعني مستهجناً رأيي: - ما هذا الذي أسمعه منك!؟ ما منطقك هذا الذي لا يبصر ما بين الفكر والصفراء من شسوع المسافة!؟ ما منطقك هذا الذي يتوسل باللغة لدحض حقيقة علمية قد أجمع على صحتها العلماء!؟ أمثلك يأتي (بفرز يفرز فرزاً ) ومعانيها من الصحاح أو اللسان، ويقحمها إقحاماً لا مسوغ له داخل مختبرات العلم (الامبريكي) التجريبي!؟ ما أنت في هذا يا رجلُ!؟ - أوتقلل من شأن اللغة!؟ أوتزدريها، وهي التي تنقل لنا الحقيقة العلمية، وتصونها من التبدد والضياع؟ أتزدريها، وهي التي بها ندرك أبعاد هذه الحقيقة ومراميها؟ ما معنى استخفافك بلفظ الفرز!؟ ألا ترى أن هذا اللفظ عندما يستعان به ليترجم عملية الفرز التي يحدثها عضو من أعضاء البدن، فإنه ليس وسيلة لاغنى لنا عنها لفهم هذه العملية فحسب؛ بل هو – وعسى ألا أكون بهذا الرأي غالياً - عين عملية الفرز التي يحدثها هذا العضو من البدن؟ إذ لو لم يوجد هذا اللفظ الدال على هذه العملية، فهل كان للإنسان أن يعي أنها عملية فرز. كما أنه من النافل تذكيرك في هذا الموضع بأن الإنسان ما استطاع أن يغادر بهيميته إلى التحضر والترقي إلا بفضل اللغة. - لست أزدري اللغة! بيد أن اللغة - وإن كانت تنقل لنا الحقائق العلمية، وإن كانت سبباً في رقيِّنا - لا تملك أن تعالج عملية فسيولوجية تعتمد في معالجتها على أدوات مادية مصنوعة: كأجهزة القياس، والتخطيط، والفحص، والتكبير،والتصوير، والجسّ، ناهيك عن الملاحظة والاختبار والتجربة. فإذا ادَّعت اللغة أن الفكر يفرزه الدماغ فرز الكبد للصفراء، فإن ادعاءها لن يتعدَّى حيز التصوير البياني. وأنت بلا ريب لست من السذاجة بحيث تتوهم التصوير البياني حقيقة علمية واقعية. فإن توهمته كذلك، ألزمناك ببيان كيفية خروج الفكر من الدماغ خروجَ الصفراء من الكبد. فإن الصفراء معلوم أمرُ خروجها من الكبد بالرؤية واللمس والرائحة واللون والوزن، ومعلوم بالتحليل والتشريح في المختبر كيف تتكون ومما تتكون ولماذا تتكون، ولكنّ الفكر... وما الفكر؟ هل يضارع الفكرُ الصفراءَ في هذه الخصائص ليصح تمثيله بها؟ - لا، ولكنْ ألّا أرى الفكر شيئاً له كيان مادي كحال الصفراء التي لها كيان مادي، لا يعدّ برهاناً على أن الفكر ليس مادة تخرج من الدماغ خروجَ الصفراء من الكبد. إذ ثمة عناصر في الطبيعة لستَ ترى لها كياناً ظاهراً مثل المادة المظلمة والجاذبية والزمن، فهل نقول إن هذه العناصر المادية، لأنها لا تُرى، لا وجود لها؟ أجل! إن عملية إنتاج الدماغ للفكر في ظاهرها، لا تماثل عملية إنتاج الكبد الصفراء تمام المماثلة، بيد أنها تماثلها في حيازتها على خاصة من خواصها هي (المكانية) أي في أن لها مصدراً تصدر عنه؛ في أن لها عضواً يفرزها فرزاً يتفق مع تركيب العضو الفارز، كما هو حال جميع الأعضاء التي تفرز ما أوكل إليها فرزُه من مواد فرزاً يتفق مع طبيعة هذه الأعضاء وتركيبها الخاص: فالكبد تفرز الصفراء، والجلد يفرز العرق، والعين تذرف الدمع، والأنف يفرز المخاط... فإذا كانت الصفراء والعرق والدمع والمخاط أشياء مرئية محسوسة، فهل كونها أشياء مرئية، شهادة صدق على أن الفكر، الذي ليس شيئاً مرئياً مثلها، لم يفرزه الدماغ؟ - كأني بك بعد كل هذا توافق ديكارت عندما توهم أن الفكر يصدر من غدة في الدماغ! - كلا! لا أوافقه على أن الفكر يصدر من (غدة) واحدة في الدماغ، ولكنني لا أستطيع – كما سبق أن بيَّنتُ - أن أنفي أنَّ الفكر (يصدر) من أمكنة، من مناطق، من مراكز متعددة موجودة داخل الدماغ متواشجة بالجملة العصبية وغيرها من أجهزة البدن، لأنني إن نفيت ذلك، نفيت أن يكون الفكر مادة. - ولكن النفي والإيجاب في هذه القضية من اختصاص العلم، وليس من اختصاصك، ليحق لك أن تنفي وتوجب. ثم هل تظن حقاً أن الفكر مادة؟ - فما عساه أن يكون إن لم يكن مادة؟ - فإن يكن مادة، فلم لا يتمظهر في صورة مادية كما تتمظهر الصفراء في صورتها المادية المحسوسة؟ - بل يتمظهر تمظهر الصفراء - يتمظهر!؟ وبم يتمظهر؟ - يتمظهر الفكر باللغة بما هي صوت وإشارة وحرف. في اللغة تتجلى صورة الفكر المادية المحسوسة: كتاباً، أو نقشاً، أو حركة، أو صوتاً. تأمل كيف تتجسد اللغة في هذه الأشياء المادية! وكيف - وقد تجسدت - تتلقفها الحواس من بصر أو لمس أو سمع، ثم كيف تنتشر صور هذه الأشياء بعد ذلك في شعاب النفس فتهتز لها النفس متأثرة بها!؟ وما هذا التأثير منها على النفس؟ أليس هو البرهان على مادية الفكر متجسداً باللغة؟ إنه هو بلا ريب! إذ لا شيء، كما هو معلوم، يؤثر في المادة ويحركها سوى المادة. ويمكنني أن أوضِّح لك هذا الرأي بقياس منطقي فأقول: لما كانت النفس مادة، وكانت اللغة (صورة ومظهر الفكر) مؤثرةً في النفس؛ ثبتت حقيقة أن الفكر كالصفراء، مادةٌ يمكن قياس مدى قوتها وضعفها وتأثيرها وتقلباتها ما بين الصحة والاعتلال والقبح والجمال. - وبأي أجهزة القياس تقاس قوة الفكر أو ضعفه؟ - لا أدري، لا أدري إن كان في حوزة علماء التكنولوجيا اليوم أجهزة لقياس الفكر - سأتحقق من الأمر فيما بعد - ولكنني أدري بأن الفكر يقاس بمدى تأثيره في صاحبه أو في الذين يقع عليهم أو يخاطبهم أو يلامس قلوبهم وعقولهم. وقد بلغ من خطورة شأنه أنه يحيي ويميت. فما أكثر الذين اعتنقوا فكراً، فوجدوا فيه حياة وطمأنينة ورخاء! وما أكثر الذين اعتنقوا فكراً، فكان لهم فيه هلاك أو بؤس وشقاء! عند هذا المنعطف سكتُّ عن الكلام، رفعت كأسي ورطبت برشفة منه شفتيَّ ثم نظرت إليه لعلي أستبين وقع منطقي عليه، فرأيت لدهشتي علائم الانشراح تتوسد محياه، فانتابني من ذلك شعور بالخشية؛ خشيت أن يكون زلّ منطقي في موضع ما، وأن يكون تنبَّه لهذا الزلل، فأعدّ لي ما يحرق الجلد من شواظ لغته على عادته كلما تلمّس في منطقي ثغرة، قال: - حسنٌ! فإذا تركنا مسألة الفرز والصفراء، وقسنا الفكرعلى الرؤية، فهل نستنتج من قياسنا أن الرؤية صادرة عن العين صدور الفكر عن مراكز صدوره في الدماغ؟ ملأت رئتي بهواء دافئ وأجبت: - الرؤية لا تصدر عن العين، هذه حقيقة معروفة موثقة، وإلا لكنا نرى في الظلام. إن الضوء هو الذي يأتي العين من الأشياء خارجها فيحرضها على الرؤية. - إذن فلماذا لا نقول إن الفكر - وهو بالرؤية أشبه منه بالصفراء - يأتي من خارج الدماغ لا من داخله؟ - وما المانع؟ ما الذي يمنعنا من قول ذلك؟ - يمنعنا من قوله أننا إذا قلناه، نقضنا قولنا بأن للفكر أمكنة في الدماغ يصدر عنها؛ إذ لو كان للفكر أمكنة في الدماغ، لامتنع أن يأتي الفكر من خارج الدماغ، كما امتنع أن يأتي الضوء من العين؛ لأن العين ليس للضوء مركز فيها ينطلق منه نحو الأشياء المرئية. وأسند ظهره إلى مسند كرسيه الفخم بحركة سالت بمعاني الظفر والشفقة، ومدّ ساقيه تحت المكتب حتى كاد حذاؤه يلامس حذائي، وتكتَّف وهو يتنهد بارتياح مثل لاعب الشطرنج إثر أن عثر على نقلة قوية تنقذ وضعه الحرج من الانهيار. - هذا اعتراض، ولكن ليس له من الجدوى نصيب؛ لأنه لا يراعي أمر العلاقة الجدلية بين الفكر الخارج من الدماغ، وبين الموضوع الخارجي الذي يتجه نحوه الفكر. للفكر موضوع خارجي يتعلق به برابطة جدلية، وهو لا يُتصوَّر أو يدرك خارج هذه العلاقة. إن مَثَل الفكر في هذا كمثل كل الموجودات. فإن كل الموجودات لا توجد في كوننا إلا مقرونة بعلاقة جدلية مع موجودات خارجية تستدعيها: فالنار لا توجد إلا بوجود وقود يستدعيها، واليد لا توجد إلا بوجود مادة تلمسها وتقبض عليها، والإنسان لا يوجد إلا بوجود الطبيعة. فكيف يمكن بعد هذا أن يوجد فكر وليس لهذا الفكر مادة أو موضوع يتعلق به ويستدعيه؟ إنني عندما أفكر، فإنما أفكر بشيء خارج دماغي، وهذا الشيء الذي خارج دماغي، يرسل إلى دماغي لحظة ينصبّ تفكيري عليه، صورتَه الفيزيائية بوساطة حواسي، تماماً مثلما يرسل الشيءُ ضوءَه إلى العين، لحظة تتجه العين إليه؛ لتقوم العين بعد ذلك بتحليله وقلبه وتركيبه بطريقة كيميائية فذة وإرساله عبر الشبكة العصبية إلى الدماغ؛ وبهذا يثبت أن العين ترى - ولولا أنها ترى وأنها في الرؤية كالدماغ الذي يفكر، ما انعدمت الرؤية بفقدان العين، كما ينعدم الفكر من غير دماغ - فما حجتك، من بعد أن ثبتت الرؤية للعين، على أن الفكر ليس كالرؤية؟ تقلقل في مجلسه، ارتفعت ذراعه اليمنى، قبضت أصابعها على إطار نظارته، خلعها من على أنفه، وجعل يمسح عدساتها بشاش أبيض مندّى متفكراً مضيقاً عينيه طارفاً بجفنيه، ثم سألني: - فما تقول في هذا الذي استكشفه العالم جون إيكلس الحائز على جائزة نوبل؟ - وماذا تراه استكشف أجاب: - قد استكشف أن الدماغ يخلق أفكاراً وتصورات ورؤى جديدة حتى في حالة الغياب المطلق للمؤثرات الخارجية كما عند سجناء الزنزانات الانفرادية حيث يعم ظلام دامس وسكوت مطلق وفقدان تام لأي احتكاك لهم بالخارج، وكما عند سواهم أيضاً ممن أجريت عليهم تجارب داخل المختبرات. قلت: - إذا كان الدماغ يخلق أفكاراً وتصورات، فإنه - بلا شك -لا يخلقها من العدم. فإن هؤلاء السجناء الذين اختُبرت أدمغتهم في سجونهم الانفرادية المعزولة، لا ريب في أن لديهم احتكاكاً سابقاً بواقعهم. فهم، والحال هذه، يجترون ذكرياتهم وأفكارهم وتجاربهم ومشاعرهم، ويعالجون الصور الذهنية التي سبق لهم أن التقطوها من واقعهم الذي مروا به قبل الاختبار؛ ولذلك فلا أرى حالتهم تصلح لإقامة البرهان على فرضية أن الدماغ يخلق أفكاراً في حالة الغياب التام عن المؤثرات الخارجية، هذا إن كنت تقصد من (حالة الغياب التام عن المؤثرات الخارجية) أن الدماغ يستطيع أن يفكر من غير أن يكون لفكره موضوع ما... نعم! إن الدماغ مصمم ليعي، إن لديه استعداداً فطرياً للتفكير، كما لليد استعداداً للقبض على الأشياء، وكما لحجر الرحى الذي يرحّيه النحات قدرة على أن يطحن البُرّ. ولكنه من المحال أن يكون قادراً على التفكير، وليس لفكره موضوع يفكر به. فلو صحت هذه الفرضية، لصح أيضاً أن تقبض اليد على شيء ليس في متناولها، ولصح أن يطحن حجر الرحى البرَّ من غير أن يزوَّد بالبرّ، ولصحت فرضية أن الرؤية تتحقق للعين بغياب الضوء المحمَّل بصور الأشياء الخارجية، ولو صحَّت، لصحت فرضية أن الجنين، وقد اكتمل دماغه داخل الرحم قبيل نزوله، له القدرة على التفكير بشيء يكون واقعاً خارج الرحم. والأخطر من كل هذا، هو ما يجره هذا الاستكشاف عليك – إن صح نقلك له على هذا التفسير والمعنى - من وبال التناقض: فإنك لمّا نهضت لتعريف العقل، قلت فيه: إنه الدماغ وقد أضيف إليه ما ألمَّ به الدماغ من الخبرة والفطنة والمعرفة لدن احتكاكه بالواقع، حيث جعلتَ العقل لا يعقل الأشياء إلا عند اتصاله بها اتصالاً بالفعل أو بالسماع. أعاد نظارته إلى مكانها، أحكمها بعناية فوق باذنجانة أنفه النضيجة الريانة. عدستا نظارته المحدبتان كبيرتا الحجم، ظلتا حائلتين كأنما التصق الغبار بهما رغم بلائه في تمسيحهما. ثم قال بهدوء بارد رابني: - هذا العالم، إن لم تكن تدري بعد، قد استكشف أن النفس هي التي تتحكم بالدماغ. فسألته من غير أن أفطن في التو إلى خروجه عن موضوعنا الأصلي إلى موضوع النفس والإرادة: وهل استكشف النفسَ وعلم أين موقعها من البدن، قبل استكشافه أنها تتحكم بالدماغ؟ - نعم، لقد استكشف أن للنفس موقعاً في مؤخرة الدماغ، وعلم أنها نتاج تشابكات معقدة جداً للشبكة العصبية.. والتفت إلى خزانته مشيراً بيده إلى الرف المنوء بالكتب ثم تابع: : - وهذا العالم عندما يحدثك عن النفس، فإنما يحدثك عن الإرادة؛ وذلك لأن النفس عنده هي تعبير آخر عن الإرادة الحرة. - ولكن كيف علم أن الإرادة حرة، والحرية تدرك بالعقل والمشاعر وليست تدرك بآلة أو تجربة استقرائية داخل عيادة مغلقة؟ كيف علم أن الإرادة حرة والحرية لا تتحكم بها إرادة الفرد فقط، وإنما تتحكم بها أيضاً إرادة المجتمع، ناهيك عن إرادة الوجود إن صح هذا التعبير؟ وفي هذه اللحظة تنبهت إلى خروجه عن موضوعنا الأصلي.. لقد تأخرت في التنبه إلى خروجه، وما تأخرت في التنبه إليه؛ لأنني غلبني انفعال الجدال، وإنما حدث ذلك بسبب أن خروجه منه كان لطيفاً ليناً انسيابياً صامتاً يصعب التقاطه على الحواس. ولكنني - وقد تنبهت إليه الآن – أشحت باهتمامي عنه. لم أجد في نفسي ما يغريني بأن أعبأ به أو أعترض عليه، أو أطلب منه أن يذكر السبب الدافع إلى تحوله عن الموضوع . تجاهلت خروج صاحبي عن موضوعنا الأصلي، وانخرطت معه في حديث النفس والإرادة كما لو كان جزءاً من الحديث السابق وامتداداً له. ولعلي أن أكون سئمت الحديث في موضوع واحد؛ فتقت توقاً لا شعورياً إلى موضوع جديد يطرد سأمي. - أنصحك بقراءة كتابه الذي يعرض فيه نظريته العلمية في حرية الإرادة عرضاً مسهباً مشوقاً للعقل المحب للمعرفة... قال هذا بتأن فاتر وهو يصلح ياقة قميصه البيضاء التي تطوق عنق كنزته المعجوقة بألوان متداخلة دكن، والتي كان عراها استرخاء فانفرشت أطرافها على كتفيه. فلما فرغ من ذلك عبس وزوى نظره عني وأضاف بانفعال مفاجئ: - هذا الرجل عالم عظيم القدر مشهود له بغزارة العلم وطول البحث والمواظبة على التجريب واستقراء الحالات التي تختص بعالم الطب ما ائتلف منها وما تفرق؛ مشهور باعتماده في جميع أبحاثه على أحدث المناهج العلمية وعلى آخر استكشافات العلوم العصبية، وعلى نظرية الكم والرياضيات؛ فهل أكذبه إذا قال بحرية الإرادة، وأصدق متأدباً متفلسفاً على غرارك لم تطأ قدمه يوماً عتبة مختبر؛ إذا قال بخلاف ما يقوله (إيكلس) وهو عديم السند من علم نظري وتجربة عملية!؟ - على رسلك! فهل كنت اعترضت على مناهج البحث العلمي، أو على النتائج التي يذيعها العلماء الأطباء!؟ لا أبداً، لست بمعترض عليها. وكيف أعترض عليها وأنا لست عالماً مؤهلاً للاعتراض عليها!؟ إن الاعتراض يلزم المعترضَ بأن يُحِّل محل النظرية التي اعترض عليها نظريةً جديدة من ابتداعه تكملها أو تنسخها، ولست أملك شيئاً من هذا. بيد أنني - ولا أفخر - مؤهل لاستلهام النتائج التي يتوصل إليها العلماء، ومؤهل لاستثمار هذه النتائج في ميدان اختصاصي، ومؤهل لتأمل النتيجة التي تقرأها أنت في أبحاثه وتنشرها على مسمعي، ومؤهل أيضاً لمناقشتها معك والحكم عليها بمقتضيات العقل والواقع. ومثال هذا أن ما استكشفه هذا العالم بالتجربة مما يؤكد حرية الإرادة، قد أتأمله أنا فلا أرى فيه ما يؤكد حرية الإرادة. لماذا؟ لأنني لست موقناً مثلك بصدق فكرة أن النفس هي التي تتحكم بالدماغ، وحتى لو أيقنت بأن النفس تتحكم بالدماغ، فلن أوقن من أن هذه نتيجة يلزم عنها أنّ الإرادة حرة بالضرورة. - هذا ما يمكنك أن تقوله في محاضرة لك في الفلسفة أمام تلاميذك الشداة، ولكن العلم لن يأبه بما تقوله وتراه، لن يأخذ باستنتاجاتك الذهنية التأملية واستدلالاتك المنطقية العقلية، ما لم تقدم له كشفاً بالبراهين التي تبزغ من تجربتك العلمية التي أجريتها داخل مختبرك المعدّ بأحدث الأجهزة الالكترونية. - أترمي بهذا إلى أن نتائج البحوث المخبرية صحيحة دائماً لا يأتيها طارق من ريبة؟ أهذا ما ترمي إليه؟ فإذا كان هذا هو الذي ترمي إليه، فما عساك تقول في نظرية العالم (ليبيت) وهي نظرية تمّ إعدادها في المختبر أيضاً وخرجت منه كما خرجت نظرية (إيكلس) ولكنها، بخلاف نظرية (إيكلس) تثبت أن الدماغ هو الذي يتحكم بالإرادة؛ فتكون الإرادة وفق هذه النتيجة التي استخلصها (ليبيت) من تجاربه المخبرية، مقيدةً غير حرة. - فهأنت ترى أن ثمة نظريتين فسيولوجيتين علميتين لعالمين من علماء الطب هما (إيكلس وليبيت) غير أن هاتين النظريتين لا تتفقان في النتائج، بل ربما هدمت إحداهما الأخرى. فما الذي يملي علينا أن ننتقي إحدى النظريتين فنمحضها ثقتنا، ونستبعد الأخرى ونهملها؟ وهذا السؤال يطرح نفسه علينا في كل مجال من مجالات المعرفة: فأنت، على سبيل المثال، لا مناص لك من أن تطرحه أيضاً إذ تطالع نظريات علماء الفيزياء في تفسير نشأة الكون، وقد اختلفت وتنازعت وتضاربت وكاد بعضها ينقض بعضها من الأساس: فمن انفجار عظيم، إلى انتفاخ وتمدد، إلى أوتار فائقة... - أجاب بعناد وإصرار: - نظرية (إيكلس) التي تنتهي إلى أن الإرادة حرة أكثر إقناعاً من الثانية التي تنتهي إلى أن الإرادة مغلولة بالحتمية والجبر ثم حك جبهته السقراطية بعصبية بادية واندفع يعلل موقفه بحماسة كادت تفكك النسق المنتظم لأفكاره وألفاظه: - نحن لسنا عبيداً لجيناتنا بشكل مطلق... هنالك نموذجان مختلفان جداً لفهم الحياة: النموذج الأول يركز على الجين الضروري - جين هذا و جين ذاك- لبناء الخلية، أو الجسم، أو جانب من جوانب السلوك. والنموذج الثاني يتم فيه التركيز على حلقية عمليات ردود الفعل الغنية للجينات التي تسمح للخلايا والأجسام والنظم الإيكولوجية ببناء أنفسها بتكيف يستجيب للظروف السائدة. فالجينات إذن تعمل بالتفاعل دوماً مع الظروف الخارجية وتتكيف معها. إن حرية الإرادة قضية تكاد تكون قضية بديهية، لذا فالزعم بكوننا عبيداً للطبيعة يعني إلغاء المسؤولية الفردية: فليقتل من شاء يقتل، وليسرق من شاء أن يسرق.. وتتقهقر بذلك مملكة الإنسان وتنحدر إلى مملكة الحيوان. فعلى سبيل المثال: طالب مجرمو النازية ببراءتهم في محكمة نورنبرغ لأنهم ادعوا بأنهم كانوا ينفذون أوامر عليا فقط. ولكن المحكمة – بحق – أهملت ادعاءهم بالبراءة، لم تكترث بدفاعهم ولم تقبله. ومن جانب آخر فإن الاعتقاد بوجود حتمية تاريخية هو المعادل المادي (ظاهرياً) للفكر المثالي؛ أي وجود قوة عليا مثل الله تقرر مصيرنا و تتحكم فيه. كما أنها تزرع الكسل والخمول في أوصالنا. فليس علينا سوى الانتظار لقرع الأجراس معلنة قدوم الحتمية التاريخية أو المهدي المنتظر، أو المسيح، أو غودو. وما إن بلغ هذه النقطة من خطابه المتدفق كالفيض، حتى كانت حرارة الانفعال قد أثرت في خديه فصبغتهما بلونها المعروف، وحتى كانت قطرات دقيقة من العرق قد رشحت من مسامات جبينه. ثم كان، بعد أن عبث بإطار نظارته بأصابع وجفت برعشة الانفعال، أن قام إلى الخزانة فخطف علبة المناديل، وعاد إلى كرسيه، وجعل يجفف عرقه . . قلت: - لقد اخترتَ النظرية التي تدعم فكرة حرية الإرادة، ولكنك لم تعلل اختيارك لها تعليلاً مقنعاً؛ أعني هل اخترتها لأنها صحيحة بذاتها؟ أم اخترتها لأنها توافق رأيك الذي استقر منذ البدء على أن الإرادة حرة؟ - بل عللت اختياري لها تعليلاً مقنعاً، ولكنك عنيد لا يقتنع.. أفليست بديهيةُ " أننا لسنا عبيداً حتى لجيناتنا" تعليلاً علمياً يقنع بصحة النظرية التي اخترتُها؟ - ولكن ما هي حجتك على أن بديهيةَ "أننا لسنا عبيداً حتى لجيناتنا" تتأدّى إلى حرية الإرادة؟ أجاب: - حجتي عليها أن الإنسان لو لم يكن حرّ الإرادة، لكان مستعبداً. وليس يليق بالإنسان أن يكون مستعبداً من أي جهة من الجهات ولا بأي وجه من الوجوه: لا من دماغه، ولا من مجتمعه، ولا من الموجودات الطبيعية المحيطة به من كل حدب، فيعدمَ المسؤولية عن أفعاله. فقلت معترضاً: - ولكن هذه الحجة حجة أخلاقية.. إنها – وإن كانت نبيلة المقاصد شريفة المعاني – ليست نابعة من واقع الإنسان. إنها لتفرض نفسها عليه فرضاً إذ هي تحب له أن يكون كذلك حرّ الإرادة قهرَ حقيقته، دون مراعاة أنه كائن خاضع لعالمه الخارجي والداخلي: فهو لا يولد بإرادته، ولا يموت بإرادته، ولا يتنقل بين مراحل العمر بإرادته، ولا يحوز ماهيته وصورته الجسمية بإرادته، ولا يكتسب خلائقه وطباعه ولون بشرته بإرادته، ولا يسقم بإرادته ولا يبرأ بإرادته، لا يشقى بإرادته ولا يسعد بها، ولا تصدر أفعاله من غير أن يكون وراء صدورها عنه علل ودوافع وأسباب... فكيف يتيسر لنا بعد كل هذا أن نحكم على الإنسان بأنه حر الإرادة طليق لا تأسره قوانين وجوده القاهرة؟ فأما قولك إن الإنسان ليس مستعبداً عبودية مطلقة لجيناته، فقول يحتاج إلى تدقيق؛ لأنه لا يعبر إلا عن جانب واحد من جانبي هذه القضية؛ فإنك عندما جعلت الإنسان قادراً على رفض الاستجابة لأوامر جيناته، حين يشاء أن يرفضها، وقادراً على أن يتمرد عليها ويذلها لمشيئته، ويوجهها بمقتضى رغباته وحاجاته، غفلت عن الجانب الآخر لهذه القضية، والذي يمكنني أن ألخصه في العبارة التالية: إن هذا الإنسان حتى وهو في حال التمرد على أمر من أوامر جيناته، ليس متمرداً حقيقةً، وإنما هو خاضع لأوامر جديدة تظهر في حياته وبيئته الاجتماعية – الطبيعية؛ وهذه أوامر تغلغل في وجدانه بقوة حتى لتصير لقوتها وشدة فاعليتها جينات جديدة تحتِّم عليه أن يسلك هذا السلوك دون غيره، وأن يفعل هذا الفعل دون غيره، إنها لتقوده بإرادتها حيثما شاءت. وقد أضرب لذلك مثالاً يوضح كيف تستحيل أوامر وحاجات وضرورات البيئة الاجتماعية، إلى جيناتٍ جديدة مكتسبة: إن الأصل أن يؤثر الإنسان نفسه على الناس والأشياء قاطبة، وهذا الأصل يمثله (الجين) الأناني المستوطن فيه - وقد أفاض في الحديث عنه عالم البيولوجيا ريتشارد دوكنز - بيد أن الإنسان في بيئته الاجتماعية، ربما لقّنه مجتمعه أن يضحي بحياته لأجل فكرة ما، حتى إذا استحوزت فكرة التضحية بعرامة على عقله وعواطفه، أرغمته على مخالفة التوجيهات والأوامر والتعليمات المطبوعة في (جينه الأناني) التي كانت تملي عليه قبل ذلك الحفاظ على حياته وعدم التفريط بها. وقد ألمحتَ عفو خاطرك إلى هذه الحقيقة عندما حدّثت عن نموذجين لفهم الحياة، أو لفهم المشكلة بتعبير أدق، قائلاً: "والنموذج الثاني يتم فيه التركيز على حلقية عمليات ردود الفعل الغنية للجينات التي تسمح للخلايا والأجسام والنظم الإيكولوجية ببناء أنفسها بتكيف يستجيب للظروف السائدة" فهل نقول بعد هذا إن الإنسان، وقد سيطرت عليه فكرة التضحية بحياته، وغلب أمرها على أمر جيناته الموروثة، حرٌّ في اتخاذ قرار التضحية بحياته؟ وأما قولك: " فالزعم بكوننا عبيداً للطبيعة يعني إلغاء المسؤولية الفردية: فليقتل من شاء أن يقتل، وليسرق من شاء أن يسرق.. وتتقهقر بذلك مملكة الإنسان وتنحدر إلى مملكة الحيوان" فرأي قاصر؛ بل رأي فاسد إذ هو يفترض أن الإنسان حرّ أن يقتل أو يسرق، وهو إذ يفترض ذلك دون تحقيق أو استقراء أو مقدمات لا يفعل شيئاً غير أن يخلص إلى نتيجة مقررة قسراً غير مؤيدة بالبرهان. وإنما الصحيح أن الإنسان ليس حراً أن يقتل أو يسرق، ببرهان أنْ ليس في جبلّة الإنسان وفطرته أن يقتل أو يسرق بإرادته. إذ لو كان القتل والسرق في جبلة الإنسان، لانقرض الإنسان. ولكن الإنسان يقتل ويسرق مدفوعاً بنوازع الكره والجهل والجشع ونوازع الحرص على وجوده، ومدفوعاً من بيئته إليهما دفعاً: فإن النازيين، على سبيل المثال، لم يقتلوا لأن جيناتهم أمرتهم بالقتل، وإنما قتلوا بأمر من إيديولوجيتهم. والقتل (يحتم) على مرتكبه القصاص، وحتمية القصاص إن هي في حقيقتها إلا الشهادة بأن القاتل مسؤول عن جريمته وإن كان مدفوعاً إليها بأسباب لا إرادية. فيجب هنا أن يُنظر إلى مثل هذه القضايا على أنها مكونة من حدين يستدعي أحدهما الآخر استدعاء حتمياً ضرورياً لازماً، على غرار ما يحدث في الطبيعة من حوادث يحكمها قانون الفعل ورد الفعل... ولا غرابة في أن تكون الحوادث في حياة الإنسان شبيهة بحوادث الطبيعة! وذلك لأن الإنسان في حقيقته إن هو إلا خلية في جسد الطبيعة، أو ذرة من ذراتها على ما هو شائع معلوم. وفي الطبيعة كل حدث، فإنما هو محتَّم. ويستدل على حتمية الحوادث في الطبيعة، بأنّ كل ما يحدث فيها، فحدوثه واجب الحدوث؛ إذ لولا أنه واجب الحدوث، ما حدث. ولولا أنه كذلك لاستطعنا أن نثبت بالعلم والمنطق أن ما حدث كان يمكن ألا يحدث، وبعد: أليس حدوث النجوم كان حتمياً؟ أليس حدوث الحياة كان حتمياً؟ أليس حدوث الثورة الفرنسية، وحدوث انعتاق العبيد والأقنان من العبودية والقنانة كانا على غرار النجوم والحياة حتميين؟ وماذا تقول في مبدأ التطور؟ أليس تطور الكائنات حتمياً؟ أتنفي أن الحياة تقهر كائناتِها على تطوير آلات دفاعها عن وجودها بما يسمى بقانون التكيّف؟ إذن فليس للكائنات في هذه الحالة إلا الامتثال لقانون التكيف. فإن هي ملكت القدرة على التكيف، استمر وجودها حتماً، وإن هي لم تملك القدرة على التكيف، فقد هلكت حتماً وانقرضت إلى الأبد. وقل مثل هذا في المجتمعات البشرية التي تتطور بفضل قوانين الاقتصاد وقانون التراكم المعرفي. وتاريخ هذه المجتمعات يؤكد أنها لم تبرح تصعّد بمثابرة ودأب في سلم الارتقاء من حالة اقتصادية منهكة بائسة، إلى حالة اقتصادية أخرى تتجاوز حالة الإنهاك والبؤس إلى حالة الانتعاش والرخاء مقارنة بالحالة السابقة.. فأما قولك: " إن الاعتقاد بوجود حتمية تاريخية هو المعادل المادي (ظاهرياً) للفكر المثالي؛ أي وجود قوة عليا مثل الله تقرر مصيرنا و تتحكم فيه، كما أنها تزرع الكسل والخمول في أوصالنا" فليس بشيء يعتدّ به؛ وذلك لأن الحتمية التاريخية مسألة وجودية - اجتماعية عامة موضوعية لا يحكر بها لونٌ واحد من ألوان الفكر الإنساني: فلربما وجدت مثاليّاً يعتقد أو لا يعتقد بالحتمية التاريخية، وهو معتقد مع ذلك بوجود قوة عليا؛ ووجدت مادياً يعتقد أو لا يعتقد مثله بالحتمية التاريخية، ولكنه لا يعتقد بوجود قوة عليا؛ إذن فلا شأن للحتمية التاريخية بالنزعة المثالية ولا بالنزعة المادية. ولما كان الإنسان ليس بهواه ولا بإرادته أن يميل إلى الكسل والخمول، وإنما يميل إليهما مكرهاً بأسباب قد تكون ناشئة عن طبيعته أو مزاجه أو وضعه الاجتماعي أو الصحي، ولما كان الكسل يضاده، لزوماً، الجدُّ والنشاط؛ نتج عن ذلك أنه محال أن يقهر الكسلُ الجدّ ويفنيه من حياة الإنسان، فما دام ثمة كسل، فثمة نشاط يقابله ويضاده. تؤيد هذه الحقيقةَ القاعدةُ المنطقية العلمية التي تعلمها بلا ريب، والتي تقول: إن الضد لا يفني ضده، فإن أفناه فقد فني معه فناء المادة وضديدها معاً عندما يصطدمان فلا يبقى لكليهما بعد اصطدامهما من أثر يذكّر بهما. وبهذا يبطل رأيك في أن الحتمية التاريخية تزرع الكسل والخمول في الأوصال جميعاً. إذ لو ثبت رأيك هنا؛ لتأدى عنه أن يقعد الماركسيون الذين يعتنقون فكرة الحتمية التاريخية عن النضال والثورة منتظرين (غودو) الاشتراكية أو الشيوعية؛ ولنتج عنه أن يقعد المؤمنون بقوة عليا عن كل نشاط ما خلا التعبد والتسبيح والدعاء. ولكننا لا نرى الماركسيين يقعدون عن النضال والحركة والثورة والتمرد، ولا نرى المؤمنين يعكفون على التعبد والتسبيح قاعدين في مناسكهم بانتظار صعودهم إلى الفردوس الإلهي. أحسست بجفاف في حلقي، وأنا في هذه الغمرة من حديثي إليه، وبحرارة ينبعث دخانها من تحت جمّتي؛ فقمت فانتزعت منديلاً من علبة المحارم بحركة شابهت حركة صاحبي لمّا انتزع منديله منها قبلي، وعدت كما عاد، فجلست في مكاني كما جلس في مكانه مجاهداً انفعالاً لم أدرِ مقدار شدته، ولكني أحسست به؛ أحسسته يتخلل أصابعي كما تخلل أصابعه. ولقد ساءني انفعالي وكدرني.. كرهت أن أبدو في مرآتي منفعلاً مثل صاحبي إذ ينفعل – أرى صاحبي في محاوراته على الدوام ينفعل رغم أنه في محاوراته لا يسعى، على قوله، إلى الانتصار برأيه على رأي من يحاوره، مثلما أسعى أنا - كيف انفعلت وأنا الذي أتمثل بسقراط، وأقتدي به في هدوئه وبروده وجلادته!؟ وطفقت أفكر بسقراط وتلميذه افلاطون متسائلاً: أحقاً كان سقراط كما صوره لنا افلاطون في محاوراته فاتر العاطفة هامد الشعور إلى حد أنه لم يعرض له قط أن ينفعل؟ ولكن ما معنى ألا ينفعل المرء وهو يخوض معمعة فكرية؟ هل لهذا من معنى غير معنى اللا مبالاة وقلة الاكتراث بفكره؟ وكدت أستغرق في تأمل هذه الفكرة غافلاً عن وجود صاحبي الذي كان يتأهب للرد علي، لولا أن أطلت السيدة كلاين في هذه اللحظة بقامتها الرجيحة، ووجهها الذي تغير وراقت معانيه. هدلت وهي تخبر قائلة: - بالباب رجل، فهل أسمح له بالدخول؟ - ما اسمه؟ سألها صاحبي: أجابت وهي تحدّج فيَّ بصرَها الملتمع بدهشة حلوة عذبة كأنها تسألني سعيدة بوجودي " أأنت هنا؟ متى جئت؟": - قال إن اسمه ( آنِس أموري).. آاا... أنيس عموري. دعيه يدخل. التفتّ نحوه، سألته بفضول: - ومن هذا العموري؟ - صديق جديد من الجزائر، ستراه.. شاب مثقف حاد الذكاء مليء الجراب بفكر نظيف... سيعجبك فكره. دخل شاب لا يبدو أنه تجاوز الأربعين خفيف الحركة، يرتدي بدلة أنيقة محروقة كالبنّ، تتدلى من عنقه ربطة نحيلة صفراء مقلمة بالسواد، ويتشح وجهه ذو الملامح الأمازيغية بوشاح من غضب موؤود. اجتازني مسرعاً نحو صاحبي فصافحه هازاً يده هزّ الريح لغصن رخو متدلٍ من شجرة. فلما وقفت للترحيب به عند انكفائه عنه ومددت نحوه يدي، تجاهلها.. دس يمينه في جيبه بأسرع من وثبة عصفور، ثم نفخ صدره بعنجهية المتحدي، ورنا إلي بعينين صغيرتين غلى في بؤبؤهما غيظ ساخط بثَّ ما يشبه الوجل في ذهني، ثم خاطبني دراكاً: - يطلب السيد نعيم إيليا [1] مثالاً واحداً ((من حياة الإنسان العاقل يعبر عن إرادة له حرة مستقلة عن ضرورات الطبيعة وأحكامها وقوانينها)). وهأنا جئت ألبي طلبه؛ بل جئت أسأله: كيف يفسر لنا موقفي عاملين بسيطين: أحدهما انضم للحزب الشيوعي؛ لأنه اعتقد أن مصلحته ومصلحة الوطن تتحقق به، ولكنه بعد مدة غير رأيه، وانفصل عن الحزب الشيوعي، وانضم إلى حزب قومي يعادي الحزب الشيوعي، والآخر انضم إلى حزب يميني فاشي؛ لأنه أيضا ظن أن مصلحته ومصلحة الوطن تتحقق به. وبعد خوض هذه التجربة غير رأيه وقرر اعتزال السياسة.. وليعلم السيد (...) أن ما أرويه هنا هو حقيقة واقعية وليس افتراضاً وتخيلاً، فأين (ضرورات الطبيعة وأحكامها وقوانينها)؟ نعم، للطبيعة ضرورات وأحكام وقوانين. ولكن أين يضع السيد (...) الوعي بالضرورة، وهو الذي يختلف فيه الناس، والذي بناء على اختلافهم فيه يختار الناس طريقهم، بحيث يسول لنا أحياناً أن نقول: إن فلاناً تصرف بطريقة غير معقولة، أو أنه تصرف ضد مصلحته الطبقية أو الوطنية أو حتى العائلية. خضوع الناس لضرورات الطبيعة، كما ترى، ليس خضوعا أعمى مثل النبتة؛ بل قد يتحول الإنسان العاقل الواعي من خاضع إلى مُخضِع. مثال آخر: كيف نفسر هذا التكاثر السكاني المجنون عندنا وما علاقته بضرورات الطبيعة؟ في حكومة جزائرية دخل فيها ثلاثة وزراء جزائريون. كان عدد أطفالهم على التوالي (7، 10، 8)، بينما عدد أطفال الوزراء الآخرين من ذوي الثقافة الفرنسية يتراوح بين 1 و3 فقط). هنا لا بد أن نستنتج أن التأثير الديني له دور في التكاثر، فهل يدخل التأثير الديني على الناس ضمن ضرورات الطبيعة التي لا مهرب منها، وكيف نفسر ذلك وكل الوزراء جزائريون، أليس للوعي دور هنا؟ إنجلز قال بأن الحرية هي عقل الضرورة (عقل مصدر عَقَلَ) أي أن معرفة الأسباب تساعد على مزيد من الحرية ومن التخلص من هيمنة (ضرورات الطبيعة) بل وتحويلها لخدمته مثل تمكن الإنسان اليوم من الطيران، بينما ضرورات الطبيعة لا تؤهله لذلك، وطبعاً الوعي لا يعني العبث، فالإنسان الواعي يخرج من ضرورة طبيعية ليدخل في ضرورة اجتماعية أو سياسية تخدمه أكثر، ولكنه يشارك بوعي في تقرير مصيره. هنا يلعب الوعي دوراً حاسماً، ولا دخل للأسباب التي ذكرتها كالفقر والأمن وفقدان الرعاية الاجتماعية بذلك. وليكن في علمك أن عدد أطفال الملك السعوي بلغ 36 طفلاً، بينما لم ينجب بيل وهيلاري كلينتون غير طفلة واحدة فقط. دهشت من طريقته في مخاطبتي، وقلت في نفسي متعجباً: أتراه يعرفني وأنا لا أعرفه؟ ثم قعدت، بعد أن كنت وقفت للتسليم عليه، كسير الخاطر. وكنت أحس ثقلاً يضغط على يدي اليمنى التي مدت لمصافحته فيوهنها، وألماً مفاجئاً في رئتي؛ مما اضطرني إلى الرد على أسئلته باختصار كاد يخلّ بحجتي ويغمّض منطقي، قلت: - لقد ضربت لي أمثلة حية كي تضحد رأيي، وهذا حسن! بيد أنك لو كنت عالجت هذه الأمثلة الحية كما يجب أن تعالج؛ لتبين لك أن أصحابها في جميع حالاتهم لم يكن لهم إلا أن ينقادوا لضرورات عيشهم ومعتقداتهم. لماذا لم تسأل نفسك: ما الذي يدفع شخصاً ما إلى أن يغير مواقفه وأفكاره؟ ما الذي يدفع شخصاً ما إلى الإكثار من الإنجاب، وشخصاً آخر إلى الزهد فيه؟ جاء في كلامك توكيد حكم الضرورة؛ أنت تقرّ بحقيقة أن الإنسان ذا الوعي " يخرج من ضرورة طبيعية ليدخل في ضرورة اجتماعية أو سياسية تخدمه أكثر " وترى أن الوعي (يشارك) في تقرير مصير صاحبه، إلا أنك لا تقصد من مشاركة الوعي في تقرير المصير إلى معنى أن الضرورة تغلب الوعي، وإنما إلى معنى أن الوعي غالبٌ. أليس هذا هو المعنى الذي أردته وقصدت إليه؟ بلى! هذا هو المعنى المراد عندك من تشارك الوعي والضرورة - ولولا أن هذا هو المعنى المراد، ما كنت اعترضت علي في شيء – فهل لنا أن نعتبر رؤيتك هذه تامة واضحة؟ الحق أنها ليست كذلك، وإنما هي رؤية قاصرة عاجزة عن تحديد العامل الأول في جدلية الضرورة والوعي. وقد نمثل لقصورها وعجزها بالرجل الذي يكثر من الإنجاب، فإن الرجل رغم وعيه بأن الإنجاب الكثير ربما كان ضرره أكبر من نفعه؛ لا يتوانى عن الإنجاب الكثير، مما يستلزم إلقاء السؤال التالي: لماذا لايتوانى الرجل عن الإنجاب الكثير مستفيداً مما وعاه من أضرار الإنجاب الكثير؟ وعند الإجابة عن هذا السؤال، لا بد من أن يتكشف لنا تفوق العامل الأول، وهو الضرورة الدينية هنا، على الوعي. فلو كان الوعي مقدماً سابقاً متفوقاً، لغلب الضرورة الدينية وأجبر صاحبه على ألا يفرط في الإنجاب. ولنمثل له بمثال متداول في الفلسفة: شخص يريد أن يجتاز نهراً، ولكن النهر هادر يهدد بالغرق.. يدرك الشخص أنه إذا أقدم على اجتياز النهر سباحة، غرق. فماذا يفعل ليجتاز النهر سالماً من الغرق؟ هل له أن يفعل شيئاً غير أن يصنع مركباً؟ وهنا أيضاً لا مندوحة لنا من والسؤال: ما الذي أرغم هذا الشخص على أن يصنع قارباً يجتاز به النهر، إذا لم يكن النهر الهادر المهدد هو الذي فرض عليه أن يصنع القارب؟ كان العموري يصغي إلي بانتباه كثير، وهو في وضعية المتحدي، ما برح العموري وضعية التحدي، وكانت نظراته التي يقصفني بها، تصيبني في رئتي فتؤلمني. فأسرعت أفرغ أمامه ما بقي في ذهني من الحجج، كيفما اتفق، لعلي أنجو من نظراته التي كانت تحرق رئتي: وقد أضيف: إذا اتخذتُ أمامك قراراً أن أخرج للتجوال، ولكن عرض لي عارض مفاجئ كفّني عن تنفيذ قراري، أفما تسألني في هذه الحالة مستفسراً: ما الذي كفّك عن الخروج للتجوال بعد اتخاذك القرار بالخروج؟ أو إذا انبثقت الآن إرادةُ السكوت عن الكلام عندي فسكتُّ، أفلا يكون قرار السكوت الذي اتخذته، ناتجاً عن سببٍ قبْليٍّ حرض إرادة السكوت على الانبثاق، فلما انبثقت أكرهتني على السكوت؟ أعتقد أن الأمر لاحيلة له إلا أن يكون كذلك؛ فإننا لسنا نعلم أن شيئاً ماديا أو معنوياً يمكن أن ينبثق من عدم هكذا من غير علة أو سبب. وكذا الجدول.. أيكون الجدول حرّاً باتباع مسيله؟ هل يقدر ماء الجدول أن يشق لنفسه خطّ سير يخالف خط مسيله؟ إذن فالجدول ليس حراً باتباع مسيله، وإنما هو مجبر على أن يتبع مسيله ويجري في مجراه: رهواً حيناً، مصطخباً حيناً، مبطئاً حيناً، مسرعاً حيناً، في استقامة مرة، وفي انحناءة مرة بحسب حالة المسيل وتعرجاته؛ ليتضح لك أن المسيل أو المجرى هو الذي يتحكم في سيل الجدول وجريانه. فكذلك إرادة الإنسان، إذا ما قيست بالجدول.... واشتدت عليّ نظرات العموري، واشتد علي الألم.. التفت نحو الربيعي، أردت أن أستغيث به، فلم أره، لم يكن للربيعي وجود في المكان الذي كان فيه، أمعنت النظر، حدقت وسع عيني، وقلبي يخفق من الروع والوجع وجلدي ملتهب ينضح عرقاً، فلم أر شيئاً في المكان الذي كان فيه غير فراغ بعيد بعيد بلا قرار، وحاولت النهوض، حاولت النهوض، قصاراي أن أنهض، نهضت، وإذ نهضت تلاشى العموري كما يتلاشى الظلام بكبسة زر مصباح، وتلاشت معه العيادة بما ضمت. - صباح الخير! هزج صوت الأخت الممرضة السيدة كلاين في عينيّ، فانفتحتا من غير عسر على وجهها الجميل المغسول بضياء الصباح، وصدرها الناهد في غرور، وانفتح وعيي على حلم جديد؛ حلم ... ولكن من نسج الواقع. قالت معتذرة: - أزعجت عنك النوم.. آسفة! لا بد من أخذ الدم - غمغمتُ، فسألتني: - أكنت تحلم؟ - نعم أكان حلماً جميلاً؟ - كان يمكن أن يكون جميلاً، لولا أن عاودني الألم في رئتي. - لا بأس عليك، بعد العملية الجراحية، سيزول الألم. - قلت متظاهراً بالسذاجة: - ستُصتأصَل غداً رئتي اليسرى، فهل أحيا برئة واحدة؟ - بلا ريب يا عزيزي. - فإن هاجم المرض رئتي اليمنى بعدئذ، فهل أحيا بلا رئة؟ طرفت بصرها عني، وقالت: - إذا أردت أن تحيا، فلن يهاجم المرض رئتك اليمنى. ضحكت وقلت: - أينقاد المرض للإرادة؟ ____ ________________________________
[1] ماركسيو الفول والشعير يعقوب ابراهامي الحوار المتمدن-العدد: 4585 - 2014 / 9 / 26 - 19:18 المحور: ابحاث يسارية واشتراكية وشيوعية
#نعيم_إيليا (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
حدث في عرس رنيم. الحلقة السادسة
-
حدث في عرس رنيم. الحلقة الخامسة
-
حدث في عرس رنيم. الحلقة الرابعة
-
حدث في عرس رنيم. الحلقة الثالثة
-
حدث في عرس رنيم. الحلقة الثانية
-
حدثَ في عرس رنيم (1). رواية قصيرة
-
محاورة الربضي
-
مسألة الضرورة والحرية، بما هي مسألة وجودية
-
وصيد المعنى
-
محاورة رمضان عيسى
-
ما العلة الحقيقية في انهيار سوريا
-
معضلة الروح
-
في رحاب المطلق
-
أنتي مالوم أبو رغيف. أو فلسفة التغيير
-
شبح الطحان شمس الدين الكردي
-
إلى السيدة الفاضلة الأديبة ليندا كبرييل
-
مشكلة الوجود الإنساني
-
خلق العالم . 3- الحياة
-
خلق العالم 2- المغزى
-
خلق العالم
المزيد.....
-
تحقيق CNN يكشف ما وجد داخل صواريخ روسية استهدفت أوكرانيا
-
ثعبان سافر مئات الأميال يُفاجئ عمال متجر في هاواي.. شاهد ما
...
-
الصحة اللبنانية تكشف عدد قتلى الغارات الإسرائيلية على وسط بي
...
-
غارة إسرائيلية -ضخمة- وسط بيروت، ووسائل إعلام تشير إلى أن ال
...
-
مصادر لبنانية: غارات إسرائيلية جديدة استهدفت وسط وجنوب بيروت
...
-
بالفيديو.. الغارة الإسرائيلية على البسطة الفوقا خلفت حفرة بع
...
-
مشاهد جديدة توثق الدمار الهائل الذي لحق بمنطقة البسطة الفوقا
...
-
كندا.. مظاهرات حاشدة تزامنا مع انعقاد الدروة الـ70 للجمعية ا
...
-
مراسلتنا: اشتباكات عنيفة بين -حزب الله- والجيش الإسرائيلي في
...
-
مصر.. ضبط شبكة دولية للاختراق الإلكتروني والاحتيال
المزيد.....
-
كتاب رينيه ديكارت، خطاب حول المنهج
/ زهير الخويلدي
-
معالجة القضايا الاجتماعية بواسطة المقاربات العلمية
/ زهير الخويلدي
-
الثقافة تحجب المعنى أومعضلة الترجمة في البلاد العربية الإسلا
...
/ قاسم المحبشي
-
الفلسفة القديمة وفلسفة العصور الوسطى ( الاقطاعية )والفلسفة ا
...
/ غازي الصوراني
-
حقوق الإنسان من سقراط إلى ماركس
/ محمد الهلالي
-
حقوق الإنسان من منظور نقدي
/ محمد الهلالي وخديجة رياضي
-
فلسفات تسائل حياتنا
/ محمد الهلالي
-
المُعاناة، المَعنى، العِناية/ مقالة ضد تبرير الشر
/ ياسين الحاج صالح
-
الحلم جنين الواقع -الجزء التاسع
/ كريمة سلام
-
سيغموند فرويد ، يهودية الأنوار : وفاء - مبهم - و - جوهري -
/ الحسن علاج
المزيد.....
|