|
قراءة في الوجود – 3 – عن الموت.
نضال الربضي
الحوار المتمدن-العدد: 4674 - 2014 / 12 / 27 - 08:46
المحور:
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
قراءة في الوجود – 3 – عن الموت.
إذا كان تعريف الحياة ِ بأنها اتصاف الكائن البيولوجي بمقدرته على النمو و التكائر و القيام بالوظائف المختلفة و الاستجابة لمحيطه ثم المسير نحو الموت، فإن الموت إذا ً هو وصول هذا الكائن إلى مرحلة توقف النمو و التكاثر و الاستجابة و القيام بالوظائف. و بحسب تعريف الحياة ِ السابق كان ُ الوعي الصفة اللصيقة َ للحياة من جهة ِ كونِه ِ انعكاسها و ترجمتها لنفسها و الإطار َ الذي تعمل من داخلِهِ لتُدرك ذاتها و ما خارجها و تتفاعل معهم جميعا ً لتأتي بالمُخرجات.
و لقد رأينا كيف أن الوعي كان المعيار الذي من خلالِه يقيـّـِم ُ الكائن ُ البشريُّ الحياة و يحدِّد ُ درجاتها، ثم يستديمها أو يستغلُّها، و لك عزيزي القارئ أن تعود َ للمقالين السابقين في سلسلة "قراءة في الوجود" لكي تتوسَّع َ في توضيح هذا الفكرة و إدراك ِ أبعادها. و بهذا الوعيِ الذي هو سِمة ُ الحياة يمضي الكائن ُ البشري في دورة ِ حياتِهِ حتى نهايتها.
إن إتمام َ دورة ِ الحياة يأخذ المادة َ البيولوجية َ نحو النتيجة ِ الحتمية ِ و هي تفكُّكها و تحوُّلها إلى موادَّ أخرى بقوة عمليات ٍ بيولوجية ٍ و كيميائية ٍ تتمُّ عليها من كائناتٍ بيولوجية ٍ أخرى هي الديدان ُ و البكتيريا التي ستسكنُ الجسد َ الميتَ و تتغذى عليه و تجعل منه مسرحا ً و أرضا ً لعملياتها بعد دفنِه ِ تحت التراب.
و سيبدو لنا هنا أن الوعي البشري قد اختفى تماما ً من هذا الكائن الذي كان يحيا ثم توقف عن الحياة فأصبح ميتاً. و نحن مصيبون في ما بدا لنا من اختفاء ِ الوعي، فالوعيُ انعكاس ُ عمليات الدماغ و منتوجٌ مادِّي ٌ بحت حتى لو كان للعقل ِ المُنعكس عن المادة قدرة ُ تصوُّر ِ ما هو تجريدي ٌّ أو خيالي ٌّ أو غير ُ موجود ٍ على أرض الواقع. لكن الحقيقة َ تبقى أن مكونات ِ ما يفكر ُ به العقل تجد ُ لها وجودا ً في الطبيعة ِ المادِّية ِ المحسوسة، لذلك فلا فكرة َ في العقل ِ لا توجُدُ في الواقع إما بذاتها أو بالقياس ِ على شئ ٍ آخر يجعل إمكانها مُتحقِّقا ً لكن دون أن يكون هذا الإمكانُ لازم َ التحقيق.
إن اختفاء هذا الوعي ِ البشري سيقودنا بالضرورة إلى القول ِ بالعلاقة ِ الترابطية ما بين الوعي و الحياة على أساس ٍ من استحالة ِ وجود الأول بدون الثاني، لأن الوعي تعبير ٌ عن الحياة و مُنتج ٌ من منتجاتها. لكن هذا الاختفاء سيطرح َ علينا أسئلة ً جوابها غامِض ٌ أو غائب فيما لو سألنا: هل يمكن ُ أن يوجد الثاني بدون الأول؟
لكن قبل أن نمضي في جواب السؤال الغامض من حيث ُ هل يمكن ُ أن توجد حياة ٌ بدون وعي، دعونا نعود ُ للقول الأول و العلاقة الترابطية التي ترى استحالة وجود الوعي بدون الحياة، لكي ندقِّق َ فيه، لأننا إذا وضحناه و تبيَّنا مدى دقته كان جوابا ً للسؤال الغامض الذي تركناه، و سيعكس ُ هذا الترابط بين الوعي و الحياة و العنصر الثالث الذي هو الموت. و سيكشف ُ لنا أن الوعي في طبيعتِه غير ُ مُرتبط ٍ بهما لكنه حال ٌّ فيهما.
لذلك فلنبدا ً عند فحصنا للعلاقة ِ الترابطية بين الوعي و الحياة و تقيم مدى دقة مقولة استحالة وجود الوعي بدون الحياة، من عند ِ تعريف ِ الوعي، فالوعي ُ عندنا هو إدراك ُ الكائن الحي لذاته و محيطه الخارجي و تفاعله مع هذا المحيط، و هذه البداية ُ بالذات هي ما يجب ُ أن يُعادَ تعريفه إذا ما أردنا أن نصل للحقيقة ِ على مستواها الأعلى، أو في مستواها الأعمق إن شئتم، فالوعي بتعرفه السابق للكائن الحي هو وعي بيولوجي، أي وعي الكائنات العضوية ِ فقط، و هذا وعي ٌ قاصر ٌ غير مُمتدِّد ٍ لا يشمل جميع الموجودات و لا يستطيع ُ أن يُقدِّم َ نفسه كممثِّل ٍ عن الوجود حتى لو كان ممثِّلا ً عن الحياة، و نعم عزيزي القارئ أرى أنا أن الحياة ِ لا تُمثِّل ُ الوجود، فالوجود هو أمر ٌ فوق َ الحياة ِ و فوق الموت ِ البيولوجي، و هما مظهران ِ من مظاهِرهِ فقط.
و حتى نفهم َ الفقرة السابقة َ أكثر يمكننا أن نتأمل َ في تأكيد ِ العلم ِ في نظرية التموج الكمومي على إمكانية ظهور جزيئات ٍ من العدم ثم اختفائها أو إلغائها لبعضها و عودتها إلى العدم الذي منه أتت. و هذا يعني أن العدم هنا هو نوع ٌ من أنواع ِ الوجود يُظهِر ُ نفسه بطريقة ٍ فائقة ٍ لا تخضع لمفاهيمنا العقلية ِ القاصرة و غير القادرة على إدراك ِ كُنهِهِ. و هذا أيضا ً يعلِّمُنا أنه ما يزال أمامنا الكثير لنفهم ظهور َ و نشأة الكون ِ من العدم في نظرية الإنفجار الكبير(Big Bang) و هي النظرية ً العلمية ُ المقبولة ُ حاليا ً على الرغم من وجود نظريات ٍ مُنافسة ٍ لها.
إذا ً نحن هنا بحاجة إلى إعادة تعريف الوعي ِ من كونه صفة ً خاصة ً عند الكائنات العضوية مُلازمة ً للحياة و مظهرا ً لها، ليصبح َ صفة ً من صفات ِ المادة ٍ سواء ً حية أو غير حية لنقول أن الوعي: هو قدرة َ المادة ِ على التعامل ِ بقوَّة ِذاتها و صفاتها مع المادة (مادتها أو مادة غيرها).
و بلا شكٍّ فإن التعريف الجديد يعني أن الوعي قد تحرَّر َ من البيولوجيا و التركيب العضوي و أصبح َ شموليا ً قادرا ً على تعريف ِ جميع أشكال التفاعلات حتى على المستوى ما تحت الذرِّي ِ منها. و هذا يعني أيضا ً أن الموت َ هنا أصبح منتوجا ً خاضعا ً للوعي من جهة كون مادة الكائن الميت تتفاعل ُ مع مادة الطبيعة و تخضع لقوانين الكون، و من جهة ِ كون مادة هذا الكائن قد أصبحت َ موضوعا ً للتحول إلى مادة ٍ أخرى تحتاجها الديدان ُ و البكتيريا لبقائها و تكاثرها، و هي التي بدورها ستكون ُ مادة ً لتحولات ٍ أخرى و هكذا.
فإذا ً حين أسلفت ُ أن الموت البيولوجي خاضع ٌ للوعي المادي بكلـّـِيتِه، فقد ظهر أنني أرى أيضا ً أن الوعي المادي سابق ٌ و مرافق ٌ و متجاوز ٌ له، في حركة ٍ لا نهائية ٍ للمادة ِ بحسب طبيعتها و القوانين التي تربط ُ تفاعُلاتها.
لكننا هنا سنلاقي اعتراضا ً على تعريف ِ حركة ِ المادة بأنها وعي، لأننا اعتدنا أن نربط الوعي بالعقل و العقلانية و الحياة، و سنجد من يقول أن هذا الذي أصفه أنا بالوعي لا يتجاوز كونَه قانونا ً طبيعيا ً و القوانين ليست حية و لا واعية.
إن الإجابة َ على هذا الاعتراض تكمُن في ما نعلمه من أننا كبشر ٍ نخلق لأنفسنا النموذج و الإطار الذين من خلالهما نحكُم ُ على العالم الخارجي كما نعتقد ُ أنه كائن، لا بحسب ما هو عليه ِ حقيقَة ً، و لذلك فإن ما جعلناه ُ نحن حياة ً و أصبح َ حياة ً بالفعل لا يعدو كونه جزءا ً مما هو حيٌّ (إذا قبلنا بمفهوم الحياة)، و قطعا ً لا بُدَّ أن الوعي أيضا ً إذ نربطه بالحياة لن يعدو أن يكون عندها عضويا ً بيولوجياً بمقياس ِ نوعنا و ما نستطيع ُ أن نُحسّــَهُ و نعرفه، و بذلك سنعترف عندها أنه من الضروري أن نقوم بتوسيع تعريف الوعي حتى نتمكن من الحديث عن و الوصف لـ ِ حركة المادة سواء ً في بيولوجية حياتها أو بيولوجية موتها أو انعدام هذه الحياة و ذلك الموت عند الكائنات غير العضوية.
و هنا سنتعرض ُ لطرح ٍ اعتراضي ٍ آخر سيطلب ُ منا أن نجد اسما ً آخر غير الوعي نُطلقــُه على حركة المادة بحيث نبقي كلمة الوعي خاصة ً بالحياة ِ العضوية فقط. لكنني أجد ُ أن هذا الطرح أيضا ً قاصر ٌ من جهة ِ كونه ما زال يرى أن الحياة و الوعي مرتبطان بالذكاء العقلي الناتج ِ عن الدماغ المادي، و من جهة كونِه ِ يُهمل ُ حقولا ً علمية ً أصبحت طروحاتُها حقائق َ تبعث ُ على العجب و التعجب و لا يمكن تفسيرها سوى بوجود ِ هذا الوعي الخاص بالمادة، مثل التطور في الكائنات من أسلاف ٍ مشتركة.
ينتج ُ التطوُّرُ من حدوث ِ تغيرات ٍ على المادة ِ الوراثية يؤدي إلى ظهور صفات ٍ جديدة ٍ في الكائن ِ الحي، فإذا جاءت هذه الصفات ُ مفيدة ً له في التعامل مع بيئته مُعزِّزَة ٌ لفرص بقائه استطاع َ الكائن ِ عندها أن يستمرَّ و بالتالي أن يتكاثر َ فينقل َ هذه الصفات الجديدة لنوعه. أما إذا جاءت الصفات ُ غير مفيدة فإن الكائن الذي يحملها سيموت و ستقل فرصه للتكاثر و بالتالي ستندثر الصفة. لكن َّ التطور سجل لنا في مساراته صفات ٍ يبدو أن الكائنات احتاجتها للبقاء، صفات ٍ يبدو أن شيئا ً ما داخليا ً دفع بالكائنات إلى إنتاجها، و ظهورها تطوريا ً، هذا الشئ الداخلي الذي يعبر عنه علماء التطور باستخدام لفظ "الضغط التطوري" لا بد و أنه "وعي ٌ" من نوع ٍ ما.
إنه ليس وعي العقل و لا وعي الدماغ، لكنه وعي المادة التي ما زلنا نفكُّ أسرارها و نتعرف ُ على طبيعتها، فهذا النوع من الوعي يظهر في مثال التطور جليا ً واضحاً كما يظهر في أمثلة ٍ أخرى مثل التجارب ِ الكونتية ِ على سلوك ِ الجسيمات ِ التي يبدو أن لها وعيا ً ما هو أخصُّ صفاتها.
و بهذا لإجابة السؤال الغامض و القول السابق له و الذين رأيناهما في بداية المقال سنقول ُ أن الوعي مُلازم ٌ للمادة بالضرورة و ما الحياة ُ و الموت إلا شكلان بيولوجيان من أشكال الوجود، يظهر فيهما الوعي و يوجد بدونهما بكل حرية، لأنه متقدم ٌ عنهما و متجاوز ٌ لهما، مستقل ٌّ يحلُّ حيث المادة بغض النظر ِ عن عضويتها من عدمه أو حياتِها من موتها.
فإذا ً نستطيع ُ أن نقول أن الموت يخدمنا في فهم الوعي لأن الأول ضد الحياة، و كان الوعي تجليا ً لها كما اعتقدنا، فلما فحصنا ضدها وجدنا الوعي فيه أيضاً، فاضطررنا لفحص التعريف، فإعدنا الرؤية فيه، فشملنا فيه ما كنا غير قادرين على رؤيته لولا أن فحصنا الموت، فجاء الضدُّ لتبيان ِ ضده، فحصلنا على أكثر مما توقعنا!
#نضال_الربضي (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
قراءة في الوجود – 2 – عن الحياة.
-
عشية الميلاد – نحتفل ُ في أرضنا.
-
قراءة في الوجود – عن الوعي.
-
قراءة في الشر -8 - كمصدر للمعنى ضد استحقاقات الوجود العبثي
-
بوح في جدليات – 8 – نباتيون، متعصبونَ، وحشيونَ و متحضرون.
-
سقوط كوباني الوشيك.
-
بيريفان ساسون
-
قراءة في اللادينية – 4 – الإحيائية، الطوطم و التابو كمدخلٍ ج
...
-
قراءة في اللادينية – 3 – الإحيائية، الطوطم و التابو كمدخلٍ ج
...
-
أين التحالف من كوباني؟
-
قراءة في اللادينية – 2 - ما قبل َ مأسسة الدين.
-
قراءة في الشر -7 - المقدس التعويضي و الشر الخلاصي.
-
وباء السلفية التكفيرية –6 – لامركزية المرجعية و استتباعاتُها
...
-
بوح في جدليات – 7 – أبي أنا ذاهب.
-
في الموت – قراءة رابعة، بوابة الانتقال.
-
قراءة في جدلية ما بين المنظومة الدينية و الواقع- 2 – المقدس
...
-
بوح في جدليات – 6 – ارتدي ثيابك َ لقد تأخرنا.
-
وباء السلفية التكفيرية – 5- التركيب الإجرامي للتكفيري ج 4
-
الضربات الأمريكية لداعش.
-
وباء السلفية التكفيرية – 4- التركيب الإجرامي للتكفيري ج 3
المزيد.....
-
-عيد الدني-.. فيروز تبلغ عامها الـ90
-
خبيرة في لغة الجسد تكشف حقيقة علاقة ترامب وماسك
-
الكوفية الفلسطينية: حكاية رمز، وتاريخ شعب
-
71 قتيلا -موالين لإيران- بقصف على تدمر السورية نُسب لإسرائيل
...
-
20 ألف كيلومتر بالدراجة يقطعها الألماني إفريتس من أجل المناخ
...
-
الدفاع الروسية تعلن تحرير بلدة جديدة في دونيتسك والقضاء على
...
-
الكرملين يعلق على تصريح البنتاغون حول تبادل الضربات النووية
...
-
روسيا.. اكتشاف جينات في فول الصويا يتم تنشيطها لتقليل خسائر
...
-
هيئة بريطانية: حادث على بعد 74 ميلا جنوب غربي عدن
-
عشرات القتلى والجرحى بينهم أطفال في قصف إسرائيلي على قطاع غز
...
المزيد.....
-
كتاب رينيه ديكارت، خطاب حول المنهج
/ زهير الخويلدي
-
معالجة القضايا الاجتماعية بواسطة المقاربات العلمية
/ زهير الخويلدي
-
الثقافة تحجب المعنى أومعضلة الترجمة في البلاد العربية الإسلا
...
/ قاسم المحبشي
-
الفلسفة القديمة وفلسفة العصور الوسطى ( الاقطاعية )والفلسفة ا
...
/ غازي الصوراني
-
حقوق الإنسان من سقراط إلى ماركس
/ محمد الهلالي
-
حقوق الإنسان من منظور نقدي
/ محمد الهلالي وخديجة رياضي
-
فلسفات تسائل حياتنا
/ محمد الهلالي
-
المُعاناة، المَعنى، العِناية/ مقالة ضد تبرير الشر
/ ياسين الحاج صالح
-
الحلم جنين الواقع -الجزء التاسع
/ كريمة سلام
-
سيغموند فرويد ، يهودية الأنوار : وفاء - مبهم - و - جوهري -
/ الحسن علاج
المزيد.....
|