|
بابا الأقباط : لن أدخل القدس إلا محررة
عبدالله عيسى
الحوار المتمدن-العدد: 4622 - 2014 / 11 / 2 - 09:51
المحور:
الادب والفن
سبعة أيام بلياليها والموت بحُمّاه التي أوهنت العظم مني ، يحدّق بي في مراياي َ ، فيما ظلّت رائحته ، آناء الليلة وأطراف اليوم ، تحوم حولي كغراب عجوز حول شاهدة داثرة لقبر داثر ، حتى دخلت مدخل صدق هذا البيت . البيت ذاته الذي يقطن في قلب موسكو ، قبالة البيت المركزي للآدباء حيث ما يزال صوتي يقرأ شعراً لي في أمسيات مع شعراء سوفييت وروس ، وظلي يعانق أحداً ما ، ثم يجلس حول طاولة في المقهى في القبو أو المطعم الكبير فوق ، يبحث عن تفاحة المعرفة في نقاشات تطول حتى مطلع الفجر . وكثيراً ما كنت أتأمل رجفة العلم المصري المنصوب بعناية على الطابق الثاني لهذا البيت وكأنه يحرسه ، أو يسند جدرانه العاليات . البيت ذاته الذي قيل أن الزعيم الراحل جمال عبد الناصر أقام فيه حين زار موسكو ، حتى أكاد أسلّم على " الريّس " كلما صعدت درجاته مدعواً على امتداد ربع قرن للاحتفال بذكرى ثورة يوليو ، أو الإحتفاء بزيارات كبار رجالات مصر ، أو لزيارات تعلو على هموم ثقافية أيضاً . ما أن علوت على درجات البيت ، أنا الذي جئت ُ متأخراً قليلاً أو كثيراً ضجراً ما أزال من وطأة زحمة السيارات التي تخنق العاصمة مساء ، لم يهوّن علي ّ من ثقل أحمالها إلا حوار هاتفي أجرته معي محطة الحدث كِلت ُ فيه لداعش والإرهاب ما كالت عين النسر عاصفة الصحراء ، عن لقاء قداسة بابا الإسكندرية وبطريارك القداسة المرقسية تواضروس الثاني ، حيث التأم سفراء عرب ومستشرقون وإعلاميون و مصريون . . صوته ، آمناً مطمئناً ، يمسّك بالرضى ، فتأمن لذاتك منها ، وتطمئن لها . يأتيك بكلام عربي ، لكنه ليس ككلام كل البشر . إنه قداسة البابا : يخرج إليك بحلوله كهضبة مقدسية ، فيما عيناه الوهابتات تتوهجان كشمعتين تضيئان أبداً درب الآلام الطويل . فيما تستقبلك ابتسامة السفير المصري المفكر محمد البدري وتعانقك نظرته المرحبة . ثمة ما يجعلك تتأمل في عينيه حجر الرؤيا ، و في حديثه نكهة تفاحة المعرفة . هاجس أصابني مذ تعرفت عليه حين حل الصديق الإعلامي الجميل خيري رمضان في موسكو ، ونحن نتجول في أرجاء الكرملين مأخوذين بأسفار التاريخ الروسي العظيم الذي كان يرصدها في إجاباته بقراءة العارف ورؤيا المتأمل . أنا الذي ، منذ ربع قرن ، أحيا في حركة التاريخ والأدب الروسي تماماً كما أتنفس الهواء الروسي ، أضاف إلى كل علمي بما يعلم . بجسارة المعنى العميق ذاته ، كما عهدته ، هز ٌ السفير رأسه مرحبّاً بي ، وقد خصّني بابتسامة طيبة مستبشرة ، فتراءت لي الآية الكريمة على بوابة الدخول في مطار القاهرة " وادخلوا مصر إن شاء الله آمنين " . و كأنه ، ببلاغة العارفين ، رأى ما لا يُرى في قلقي على سؤالي الأبدي ، قدمٌني لأكّلم خضرة قداسة البابا بما تئن به أجراس ومآذن وأحجار وأمطار وأكمات وهضبات وماء وهواء وسماء القدس رحمة ً بالمقدسيين ، رمزاً للفلسطينيين طُرّاً ، حاملي الصلبان بانتظار قيامتهم . حيّيته ، فردّ بأحسن منها . ومثل حوذي الوقت ، ذكّرت على رؤوس الأشهاد ، عل ّ تنفع الذكرى ، باحتضان الكنيسة القبطية للقدس ، مرفوعاً على وصية البابا شنودة لنفسه ولنا بشأنها ، وقلت له : أريد أن أطمئن على مصير القدس . وقال لي : إطمئن . وكأن القدس كلها ، بكنائسها وأديرتها وآلام الصلبان المرفوعة ما تزال في انتظار صلبنا ، هبطت إلينا في كلماته من سماء أعلى . الرعشة المكلومة في صوته التي حملت آلام القدس أرّخت لروح جديد تجعل قيامة أسوار القدس تُرى من تعاليمه في أجسادنا ، نحن الذين نتبعه وندع الموتى يدفنون موتاهم . لن يدخل القدس إلا محررة ويداً بيد مع شيخ الأزهر .بهذه الصرخة الكبرى اختتم قداسته ، ليعلن السفير خاتمة اللقاء على هذه النبرة الوطنية العالية ، كما قال . وكأن يدي حين صافحني تلجأ إليه في يده . أنا المؤمن أن مصر التي لجأت إليها العائلة المقدسّة هرباً من وجه هيرودس " لكي يتم ما قيل من الرب" ملاذ لي حين تضيق بي الأرض ، أنا الفلسطيني الذي لا أزال أصعد أعلى صليبي الأبدي ، لتطهير البشرية من خطيئتها التاريخية ، إذ أعادت قتلة الأنبياء ليصلبوني من جديد ، بدمي . وكأن الصليب في يده ، شاهد استشهاد القديس المبشٌر مار مرقس الرسول عام 68 ميلادية ، بعد عيد القيامة ، بعد أن جرّه الجنود الرومان من قدميه ذارعين شوارع الإسكندرية ، شاهد أيضاً على قيامة الفلسطيني حين يأتيه صوت القداسة : لن أذهب للقدس إلا محررة ويداً بيد مع شيخ الأزهر . وأتيته بكتابي في يميني . ديواني " رعاة السماء رعاة الدفلى " ، وكتبت في الإهداء ، كما أذكر : " قداسة بابا الإسكندرية وبطريارك القداسة المرقسية تواضروس الثاني ، حتى نبقى ، مثلكم ، رعاة سماء وأرض الرب التي خصنا بها. عبدالله عيسى . موسكو 30-10-2014 " ، وسألني عن دلالة الدفلى ، فقلت : شجرة معمرة قد يصل طولها إلى ستة أمتار ، دائمة الخضرة ، بأزهار بيضاء أو حمراء أو أرجوانية أو قرنفلية ، تتجمع حول نفسها وكأنها بوحدتها تحمي نفسها مما تهجس به ، بين شهري أبريل وأكتوبر ، وتسوّر الجدران وأسيجة البيوت ، وتتحمل كل تبدلات الطبيعة ، وترمز لهيروشيما أيضا ً طالما كانت أول من أحيا الرب بعد موات الأرض إثر قصف المدينة بالقنبلة النووية . في رعاة السماء رعاة الدفلى أصرخ بما قال السيد المسيح ، أنا الفلسطيني على الصليب الأبدي ، مستلهماً من روحه القدسي ّ مشكاة درب آلامي الطويل . وإذ فتح الديوان ، قرأ فيه ما جعلته هامشاً ، مقتبساً من الكتاب المقدس ، : " يا أورشليم ، يا أورشليم يا قاتلة الأنبياء وراجمة المرسلين هوذا بينكم يترك لكم خراباً " ، لمتن قولي الشعري : أنا ابن الله والإنسان / آيتنا : أطل ّ على خرائبكم / وفي ألمي مِدى الجاني . و لأن قداسته وعدني أن يقرأ الديوان ، فقد شهدت أنني قد كتبت ُ ، وأنني قد عشت ُ . ولم يعد شبح الموت يطأ ظل روحي في مراياي . طوبى لكم . * شاعر وأكاديمي مقيم في موسكو د. عبدالله عيسى *
#عبدالله_عيسى (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
قبل وإبان وبعد حرب غزة . وكلاء - المقاومة - : الجدار العنصري
...
-
سميح القاسم : وما ذاك موت
-
الحب الضائع
-
الاختلاط بين الواقع والهوس
-
الحرية الوهم
-
خطر الاحزاب الدينية
-
الموسيقي والحياة
-
أصحاب القوى
-
السياسة والمستهلك
-
حصاد حماقات الثورة المصرية
-
شكل المجتمع والاستبداد
-
الثقافة بين التطور والانهيار
المزيد.....
-
أساطير الموسيقى الحديثة.. من أفضل نجوم الغناء في القرن الـ21
...
-
السعودية.. رحيل -قبطان الطرب الخليجي- وسط حزن في الوسط الفني
...
-
مصر.. كشف تطورات الحالة الصحية للفنان ضياء الميرغني بعد خضوع
...
-
-طفولة بلا مطر-: المولود الأدبي الأول للأكاديمي المغربي إدري
...
-
القبض على مغني الراب التونسي سمارا بتهمة ترويج المخدرات
-
فيديو تحرش -بترجمة فورية-.. سائحة صينية توثق تعرضها للتحرش ف
...
-
خلفيات سياسية وراء اعتراضات السيخ على فيلم -الطوارئ-
-
*محمد الشرقي يشهد حفل توزيع جوائز النسخة السادسة من مسابقة ا
...
-
-كأنك يا أبو زيد ما غزيت-.. فنانون سجلوا حضورهم في دمشق وغاد
...
-
أطفالهم لا يتحدثون العربية.. سوريون عائدون من تركيا يواجهون
...
المزيد.....
-
مختارات من الشعر العربي المعاصر كتاب كامل
/ كاظم حسن سعيد
-
نظرات نقدية في تجربة السيد حافظ الإبداعية 111
/ مصطفى رمضاني
-
جحيم المعتقلات في العراق كتاب كامل
/ كاظم حسن سعيد
-
رضاب سام
/ سجاد حسن عواد
-
اللغة الشعرية في رواية كابتشينو ل السيد حافظ - 110
/ وردة عطابي - إشراق عماري
-
تجربة الميج 21 الأولي لفاطمة ياسين
/ محمد دوير
-
مذكرات -آل پاتشينو- عن -العرّاب-
/ جلال نعيم
-
التجريب والتأسيس في مسرح السيد حافظ
/ عبد الكريم برشيد
-
مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة
/ د. أمل درويش
-
التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب
...
/ حسين علوان حسين
المزيد.....
|