صبر درويش
الحوار المتمدن-العدد: 1289 - 2005 / 8 / 17 - 09:45
المحور:
مواضيع وابحاث سياسية
بمثابة مدخل:
1-1 : إن قراءة متأنية للتاريخ الحديث تجعلنا نلاحظ أن الديمقراطية البرجوازية التي تم إنتاجها في الغرب الرأسمالي, لم تكن سوى نتاج تطور تاريخي, حكم صيرورة هذه البلدان؛ تطور تجلى عبر هيمنة نمط الإنتاج الرأسمالي كنمط محدد ممن الإنتاج, وولادة الدولة الحديثة ( بالتزامن ) مع سيادة ذاك النمط من الإنتاج .
هذا بينما تعبر الديمقراطية التي تم التوصل إليها, عن شكل تجلي تلك العلاقات الجديدة التي ولدت بدورها بالتزامن مع نمط النتاج سابق الذكر من جهة, كما تعبر عن آلية اشتغال هذه الدولة وأجهزتها المختلفة من جهة ثانية.
ولأول مرة في تاريخ البشرية, نستطيع التحدث عن مساواة حقيقية بين البشر, بيد أن هذه المساواة لن تتجاوز المستوى الحقوقي – القانوني, الشكلي للمساواة.
هذا بنما العدالة والمساواة على مستوى توزيع الدخل والثروة, أي المساواة في بعدها الاقتصادي – الاجتماعي, ستبقى مغلفة بغطاء إيديولوجي يجفي ذاك التفاوت الرهيب في مستوى الدخل وتوزيع الثروة.
تشكل الملاحظة السابقة المدخل الضروري في سبيل فهم الصراعات الاجتماعية التي راحت تتفجر على أرض المجتمع الأوربي, ومحتوى تلك الصراعات والأبعاد التاريخية التي راحت تعبر عنها.
حيث أن غياب ذاك البعد الجوهري للمسألة الديمقراطية, تخض عن انفجار صراعات اجتماعية عبرت عن سخط شعبي عارم, يرفض اختزال شعاراته- والتي هي شعارات الحداثة ذاتها ممثلة عبر شعارات الثورة الفرنسية – إلى مستوى حقوقي اديولوجي فقط.
فلو تفحصنا تلك الثورات التي اشتعلت ضد الملكية, سنلاحظ أن هذه الثورات-في بعدها الاجتماعي- لم تكن تبتغي استبدال سلطة استغلالية بأخرى, بقدر ماثارت –تلك المجتمعات- ضد الاستغلال ذاته. بيد أن النية في التغيير لا تؤدي إلى التغيير, ما لم يكن البديل واضحاً على مستوى الوعي الاجتماعي, والنخب السياسية.
هذه الملاحظة تجعلنا نعي المحتوى التاريخي لتلك النضالات؛ وأقصد هنا محاولة تمييل مستوى الديمقراطية من بعدها الحقوقي نحو بعد اقتصادي-اجتماعي يعيد المحتوى الجوهري لهذه الديمقراطية.
( ولنلاحظ هنا, أن دولة الرفاه التي تم إنتاجها أوربياً, تعكس تلك النويات الاجتماعية للمسألة الديمقراطية, التي إنتاجها على قاعدة صراع طويل حكم العلاقة بين العمل/ رأسمال) .
1-2 : تقترب بلدان التخوم"1" هذه التجربة وتتقاطع معها .
إذ على الرغم من تناثر عدد من الديكتاتوريات هنا, إلا أن النضالات الشعبية استطاعت أن تفرض نفسها كطرف حقيقي في المعادلة السياسية- الاجتماعية.
لقد أدت هذه النضالات إلى نتائج غاية في الأهمية, هنا نستطيع التحدث عن ديمقراطية حقوقية- قانونية بامتياز؛ بيد أن البعد الاجتماعي –الاقتصادي مازال غائباً.
وهذا بالضبط ما يبرر, ويجعلنا نفهم مغزى تلك الصراعات التي تدور رحاها في بلدان التخوم.
تأخذ الصراعات في هذه المنطقة من العالم طابعاً أكثر حدة من سابقتها, ولنتذكر أنه هنا تم إنتاج أغلب الحركات الراديكالية من الثورات الغيفارية ولاهوت التحرير وصولاً إلى التمركز الجديد لمناهضي العولمة.
بهذا المعنى, تترجم هذه النضالات رغبة القوى الطبقية المتضررة, في تعميق مفهوم الديمقراطية بإعطائه بعدا اجتماعيا- اقتصادياً, يعبر عن نفسه من خلال تخفيف حدة آثار مفاعيل النظام الرأسمالي وبالتالي التخفيف من حدة آليات السوق وما تعكسه على مستوى الطبقات الكادحة.
هذا وقد تبدو قراءة متأنية لتجربة البرازيل- لولا, وكأنها تذهب في نفس الاتجاه؛ نحن هنا أمام حدث ذي معنى. فلولا رئيس البرازيل المنتخب ديمقراطيا, يعد رئيساً لحزب الشغيلة الذي توسع في إطار نشاطه ليضم[ ناشطين كاثوليك, استوحوا "لاهوت التحرير", ومن نقابات عمالية, ومن أعضاء لمنظمات غير حكومية, ومن حركة مزارعين من دون أرض....الخ ] "2". ويعكس هذا المزيج تلك القوى الاجتماعية المتضررة فعلياً من سياسات اللبرالية الاقتصادية والتي لها – بالتالي – رغبة فعلية في إعطاء بعداً إنسانيا للديمقراطية.
وأياً يكن الأمر فان انتخاب لولا, أو قل للدقة نجاح التجربة الديمقراطية البرازيلية, يعني رفضاً لسياسة التسعينات التي عززت الأسواق التجارية الحرة والخصخصة... كما ويعني قيادة البرازيل – في ظل هذا النجاح – الحرب ضد العولمة. وهذا ما سنناقشه لاحقاً.
1-3: تبدو اللوحة في الأطراف المهمشة – البلاد العربية, وأفريقيا جنوب الصحراء, وبعض بلدان آسيا وآسيا الوسطى.....- شديدة القتامة قياساً بسابقتها .
نحن هنا بإزاء بلدان محكومة بنظم تتراوح بين أتقراطية حتى نظم كومبرادورية بتلاوين مختلفة . نظم تصر على الخروج من التاريخ الفعلي!! وبالتالي تصر على نقل الصراعات الاجتماعية( من أرض الواقع إلى سماوات الأوهام!).
فالمنطقة المعنية, تضج بكل أنواع الصراعات السلبية؛ إذ ينحرف التناقض الرئيسي هنا وينحرف معه شكل المواجهة, فتصب الأزمة, أزمة ثقافة, وأزمة هوية, وخصوصيات بشتى الأصناف.. .
فاليسار لم يستطع التقدم بخطاب بديل عما هو قائم- وذلك لأسباب كثيرة لسنا بصدد نقاشها الآن – وبالتالي لم يقدم ممارسة سياسية – على الرغم من كل التضحيات التي قدمها- تشكل بعداً تراكمياً في سياق تبلور هذا الصراع"3".
هذا بينما اليمين, فقد بقي منسجماً مع نفسه؛ حيث أكد -عبر خطابه, وبالتالي عبر ممارسته- على انتمائه إلى ماض مضى وانقضى. وبالتالي بقي مدفون في عمق التاريخ, وظل خطابه معبأً بالسلفية السلبية.
نحن هنا بإزاء تخلف عجيب من نوعه!! .
إذ لا مجال للحديث عن أي شكل من أشكال الديمقراطية؛ لا في بعدها الحقوقي ولا في بعدها الاجتماعي الاقتصادي.
فالمنطقة هنا تعج بشتى صنوف" الخطابات" الأديولوجيا, لنظم بائدة لا يسعها الحديث سوى عن"خصوصية" ديمقراطية لا يعرف كنهها سوى هذه النظم والعالمين بالأمر!! .
هذا بينما يحيلنا اليمين-أقصد هنا الإسلام السياسي تحديداً- إلى ديمقراطية مشتقة من مفهوم الشورى التاريخي.
لا تحمل التيارات السابقة في طياتها سوى مشاريع طوباوية سلفية, تساهم في تعميق الأزمة عوضا عن حلها .
هذا بينما نظم هذه البلدان, ( والتي استندت تاريخياً على خطاباتها الأيديولوجية, في الحصول على مشروعيتها الاجتماعية) فقد تكشف التاريخ, عن فشل تلك المشاريع التي تبنتها والتي تدعى – زوراً- بمشاريع التنمية. وتزامن مع انهيار تلك المشاريع عودة الكومبرادورية بأقذر حللها. ( كومبرادورة بازار, ألا وهي أقذر تراتبية عالمية)؛ على حد تعبير د. سمير أمين.
إن فشل هذه النظم في انجاز ما زعمت انجازه, وعجزها عن السير في خيارها الوطني المزعوم بدوره, ( والذي على أساسه تم التضحية بالديمقراطية ) أقول كل هذا يتزامن أو قل يشكل مناخاً غنياً للانخراط في نموذج لا يعدو كونه "كومبرادورية بازار" كما أسلفنا, تشكل الفاشية – وذلك على قاعدة غياب البعد الديمقراطي – شكل تجلي ممارسات هذه النظم السياسية. وهذا ما سوف نخصص له القسم الثاني من هذه الورقة.
1-4: انطلاقاً مما سبق سوف ألخص بعض الملاحظات التي توصلت إليها:
أولاً : للديمقراطية بعدان أساسيان, في إطار الذي قدمت به تاريخياً:
A – بعد أول له طابع حقوقي –قانوني, يعبر عن نفسه من خلال آلية اشتغال أجهزة الدولة الحديثة, من جهة. ومساواة حقوقية بين المواطنين أمام القانون من جهة ثانية.
بمعنى آخر, نعني بالديمقراطية من هذه الوجهة: 1- احترام القوانين والشرعية والتعبير الحر عن تعدد الآراء, والعمليات الانتخابية, وفصل السلطات...الخ.
2- يجد هذا البعد السابق منعكساً له داخل أجهزة الدولة, وبالتالي يحدد الأطر التي عبرها يتم اشتغال هذه الأجهزة والمؤسسات المختلفة.
B – بعداً اجتماعياً –اقتصادياً, يحيل إلى الشكل الذي يتم عبره توزيع الثروة والدخل.
هذا البعد الذي يعكس المستوى الحقيقي, لجوهر مفهوم العدالة الاجتماعية؛ وهو بالضبط ما هو غائب في معادلة الديمقراطية الآن , إن كان في الشمال أو في الجنوب. وهنا سأتوقف قليلاً للتوسع في هذه الملاحظة.
لقد قلنا آنفاً, أن غياب البعد الاجتماعي-الاقتصادي للمسألة الديمقراطية, يجد منعكساً له عبر الصراعات التي اشتغلت في العالم؛ هنا تشكل هذه الصراعات المحتوى الحقيقي للتناقض القائم بين العمل/ رأسمال.
ويبدو لنا من خلال تتبع إيقاع حركة التناقض السابق, إن هذه الحركة لا تسير على سوية واحدة, بل قل إن العكس هو ما يحدث.
فإيقاع هذه الحركة كان غالباً متذبذباً- متواتر, يعبر عن نفسه عبر تمييل المصالح باتجاه أحد طرفي المعادلة, وذلك من شدة الضغط الاجتماعي ذاته.
وبغض النظر عن الصراعات التي كانت دائرة بين الأمم الامبريالية,فإن الصراعات الاجتماعية ضد رأس المال فعلت فعلها, وأعطت مؤشرات تعكس تقدم مصالح هذه القوى, والتي فرضت على رأس المال مزيداً من التنازلات, ويكفي أن نذكر هنا, إنه في أوربا عقب الحرب, ارتفع عدد عضوية العمال المشتركين في النقابات في بريطانيا إلى نسبة 45 بالمائة من حجم قوة العمل, وأصبح لنقابات العمال دور مؤثر في تحديد أجور وفي المفاوضات الجماعية مع رجال الأعمال . ومن المعلوم أن حزب العمال البريطاني قد فاز في الانتخابات عقب انتهاء الحرب, وحينما تولى السلطة شرع ينفذ جانباً كبيراً من برنامجه" شبه الراديكالي", وهو برنامج اشتمل على جانب من الإصلاحات الاجتماعية.
وفي فرنسا زادت حركة الطبقة العاملة المنظمة, وزادت قوى اليسار الذي استطاع أن يحصد إعجاب قطاعات من المجتمع, بعد الدور الذي لعبه ضد النازية؛ ولهذا لم يكن من قبيل المصادفة أن تحصل قوى اليسار في أول انتخابات أجريت في فرنسا بعد الحرب(أكتوبر1945) على ما يزيد عن نصف أصوات الناخبين ( حصل الشيوعيون على 26.1بالمئة والاشتراكيون على 24.8بالمئة من إجمالي عدد الأصوات ) "4".
هذا بينما الإحداث في بلدان التخوم لا تقل دينامكية عن سابقتها, بدأً بالثورة الكوبية
أحداث فيتنام, مروراً بالثورة الصينية وصولاً إلى التجارب الديمقراطية- الجنينية- في تشيلي " سلفادور الليندي".
لقد تمخضت جملة هذه الأحداث والصراعات على صعيد عالمي, عن تحقيق جملة من المكتسبات والتي لا يستهان بها؛ والتي أجبرت رأس المال على تقديم مزيداً من التنازلات.
تترجم دولة الرفاه في أوربا, والمنظومة الاشتراكية في أوربا الشرقية, والدولة الوطنية في الأطراف, هذه النضالات والنتائج المترتبة عليها. وهو ما دعي بمرحلة الرواج. ونستطيع أن نلاحظ أن حركة القوى الشعبية استطاعت أن تسجل مؤشرات واضحة, لتمييل المسألة الديمقراطية نحو بعدها الاجتماعي –الاقتصادي.
وهذا ما أعطى مقولة قدرة النظام الرأسمالي على تحقيق العدالة الاجتماعية زخمها في المرحلة المعنية. وهو طبعاً ما انزلقت إليه أغلب الفصائل الاشتراكية- الديمقراطية. وبغض النظر, فإن تلك المقولات كان لها ذاك الأساس الصلب الذي يبررها, وشجع بالتالي على انبنائها
بيد أن ذلك كان في ظروف, حيث أزعم أن هذا الزمان كان قد انقضى, ولن تعود
ظروفه. على حد تعبير أمين.
إذ ما لبثت هذه التجارب السابقة أن وصلت حدودها التاريخية وفقدت زخمها وإمكاناتها في التاريخ. حتى بدأ الهجوم الكاسح من قبل رأس المال وذلك بدءاً من الثلث الأخير للقرن الماضي.
أما هجوم رأس المال ذاك فسوف يترجم عن نفسه عبر عودة اللبرالية بطبعتها المتطرفة, والتي ستقوم بتحطيم أغلب المكتسبات المهمة التي كانت قد توصلت إليها القوى الشعبية في سياق نضالها المرير.
أما على صعيد المصالحة التاريخية والتي قامت بين العمل / رأسمال, فقد أثبت التاريخ اللاحق لأن هذه المصالحة لا تعدو كونها هدنة مؤقتة ما لبث رأس المال أن تنصل مهيئاً نفسه لجولة جديدة من الصراع ضد مصالح الطبقات الكادحة.
وبدأً من هذه اللحظة سوف يبدأ تجريد جميع المصالح التي كانت قد توصلت لها القوى الاجتماعية.حيث سيشهد نهاية القرن الماضي تزايداً رهيباً في معدلات البطالة"5", وتراجعاً واضحاً في مستوى الدخول, وتفاوتاً خطيراً في مستوى توزيع الثروة... . كما وستتراجع الدولة عن دورها السابق في الرعاية الاجتماعية والصحة والتعليم وغير ذلك.. وهنا ستتسيد مقولة السوق مقدمة المسرح.
وأياً يكن الأمر, فإن الهجوم هذا, قد تمخض عن تراجع مصالح الطبقات الشعبية بإزاء مصالح رأس المال .
والمسألة التي تعنينا هنا,ليست تناول الجانب الاقتصادي السياسي للمسألة, بقدر مايعنينا ربط هذا الجانب مع النضال الديمقراطي. إذ تبدو هجمة رأس المال – عبر عودة اللبرالية- وكأنها هجوماً كاسحاً ضد الديمقراطية ذاتها.
فقد كنا اعتبرنا أعلاه أن للمسألة الديمقراطية, بعدان أساسيان؛ يشكل البعد الاجتماعي –الاقتصادي البعد الجوهري والحقيقي للديمقراطية. وهذا المستوى هو بالضبط ماقام رأس المال على تحطيمه والنبل منه.
وعلى كل حال, فإن القراءة السابقة تبرز بشكل جلي التناقض الحاد بين الدعوة الكاذبة التي يقوم عليها خطاب الرأسمالية حول إشاعة الديمقراطية وربط هذه الأخيرة بآليات السوق "العقلانية"؛ وبين الممارسات الفعلية لهذا الرأسمالية وآليات السوق المرافقة لها. التي لا تقوم سوى على اختزال مفهوم الديمقراطية وتقزيمها, ومن ثم تحويلها إلى كركاتورية ديمقراطية .
ما أود قوله هنا, أن الاكتفاء بمستوى الديمقراطية الحقوقي, يجرد هذه الديمقراطية من أي محتوى كان, ويختزلها إلى مجرد طقوس ديمقراطية, يؤكد الفصل المفتعل بين السياسي والاقتصادي. وهذا بالضبط ما يذهب بالعكس من مصالح الأكثرية أي القوى الشعبية .
إن ربط الديمقراطية بالبعد الاجتماعي –الاقتصادي, يجعل من الممارسات اللبرالية الجديدة لقوى رأس المال, أشد أعداء الديمقراطية ذاتها. بالتالي يرتبط النضال هنا من أجل الديمقراطية, بالنضال ضد اللبرالية بطبعتها الجديدة.
بالمختصر يرتبط النضال هنا من أجل الديمقراطية, بالنضال ضد الرأسمالية ومفاعيلها –قوانينها الداخلية؛ وهذا بالضبط ما يشكل خطوة باتجاه صياغة مشروع أكثر إنسانية, يعبر عن ميل القوى المقهورة في تجاوز الاستلاب المرافق لآليات النظام الرأسمالي.
ثانياً : تتمايز النضالات الشعبية في سبيل إضفاء هذا البعد السابق بتمايز الموقع من التراتبية العلمية.
بمعنى, أن ما هو مطروح على جدول أعمال مجتمعات البلدان المتقدمة, هو غيره , ما هو مطروح على جدول أعمال بلدان التخوم؛ وهذا الأخير غير ما هو مطروح على البلدان المهمشة...الخ .
ومن هنا نلاحظ أن مجتمعات بلدان الشمال الصناعي ذاتها راحت – بعد أن حققت الشرط الأول للديمقراطية- تتساءل حول مشروعية النظام الرأسمالي؛ وحول تلك الشعارات والأوهام التي أفرزتها مرحلة الرواج, أي حول قدرة النظام على تحقيق العدالة الاجتماعية. هذه الأوهام التي انخرطت بها سابقاً كافة الفصائل اليسارية دون تمييز.
بحيث باتت تدرك هذه الفصائل تدريجياً, أنها ليست بمعزل عن مفرزات اشتغال آليات النظام. وبالتالي ليست بمعزل عن الآثار السلبية لآليات عمل" الاقتصاد الجديد" .
نحن هنا أمام نضالات واسعة وفعالة –وذلك على الرغم من كونها جنينية- تسعى إلى خلق بدائل تتيح للشعوب فرصا حقيقية لدفع أشكال من الديمقراطية جديرة بأن تعتبر ذات مغزى إنساني صحيح.
أي أننا لم نعد أمام ديمقراطية مطالبة, ولا ديمقراطية مساهمة, ولا يسع هذه المجتمعات الاكتفاء بالمطالبة بديمقراطية مداولة, بل العمل يجري هنا حول ديمقراطية تحرير. كما يعبر عن ذلك آلان تورين.
ومن المفارقة الجديرة بالذكر هنا, أن محور هذا الصراع يتعدى بل قل أنه راح ينتقل من البلدان المتقدمة, ليتمحور في بلدان الجنوب, وأقصد هنا بلدان التخوم.
إذ تكفي نظرة متفحصة للآليات التي تعمل بها القوى الشعبية في أمريكا اللاتينية وبعض بلدان آسيا وجنوبي شرق أسيا, حتى يتضح لنا مغزى هذه النضالات والأفق الذي تحاول أن تختطه لنفسها.
هذا بينما اللوحة في الأطراف المهمشة, فهي شديدة القتامة حتى درجة تثير السخط, نحن هنا أمام حركات اجتماعية مفرغة من أي محتوى وأي فعالية؛ حيث تصطدم هذه الحركات بتلك الأسوار المنيعة التي بنتها النظم المحلية, في وجه أي تغيير أو إي إصلاح ديمقراطي.
نحن همت بإزاء نضالات شعبية, تحاول التأسيس لصيغة من الديمقراطية القانونية حتى بشكلها البدائي!!.. بمعنى أنها تحاول أن تمأسس الحياة السياسية عبر تسييد القانون, وتعميم المواطنة؛ وسوف نعود لاحقاً لهذه المسألة.
ثالثاً: تبدو من خلال قراءة سير تطور المسالة الديمقراطية, كأن العلاقة التي تربط بين بعدي الديمقراطية ( البعد القانوني –الحقوقي, والبعد الاجتماعي- الاقتصادي) كأنها علاقة عضوية, يفترض أحدهما الآخر.
بيد أنه ما يجب التأكيد عليه هنا, أن البعد الحقوقي للديمقراطية, يشكل مدخلاًً ضرورياً لابد منه للسير في تعميق البعد الثاني للديمقراطية.
وهنا نلاحظ – أيضاً- أن غياب هذا البعد يفتح الباب واسعاً أمام حركات اجتماعية يغلب عليها العنف والتطرف. وهنا أجد نفسي ألح على هذه الملاحظة, حيث أرى علاقة وثيقة بين الحركات الراديكالية –العنفية(من يمين أو يسار), من جهة, وغياب ذاك البعد القانوني –الحقوقي للديمقراطية من جهة أخرى.
وهذا بدوره يجعلنا نرى في هذا البعد صمام أمان. يؤطر من خلاله الحراك الاجتماعي ويعطيه بعداً أكثر مدنية, وأقل عنفاً. وهنا أجد نفسي أعود ثانية لأستنجد بالتجربة البرازيلية, حيث توجه أكثر من 15 مليون ناخباً ليكبسوا زر الاقتراع وينتخبوا – بسلام- عاملاً سابقاً في المصانع.
بيد أن المفارقة التي يمكن رصدها هنا, في أن اختزال الديمقراطية إلى بعدها القانوني والاكتفاء بذلك, يفتح الباب بدوره أمام حركات شعبية عنيفة بدورها.
وهذا بالضبط ما يؤكد على العلاقة العضوية التي تشد مستويي الديمقراطية, وتجعل من أحدهما شرطاً للآخر.
إن الفصل الدراماتيكي بين السياسي والاقتصادي "6", في مرحلة اللبرالية الجديدة يذهب بعكس اتجاه تعميق الديمقراطية؛ وأتجرأ وأقول أن هذا الفصل – المبتذل- الذي يجري العمل عليه الآن؛ يشكل لحظة اغتيال للديمقراطية, بالتالي يشكل خطوة إلى الوراء في مسير العملية الديمقراطية.
يذهب أنصار هذا الفصل, إلى اختزال الديمقراطية وحصرها في مستواها السياسي. هذا بينما الاقتصاد مضبط من تلقاء ذاته؛ وبالتالي فالمستوى الاقتصادي يخضع إلى قوانين خاصة به , يطلق عليها عادة في الأدبيات المبتذلة للفكر البرجوازي بقوانين أو آليات السوق "العقلانية" .
هذا بينما الوقائع التي تفقأ العين, تؤكد على أن اللبرالية الجديدة تشكل التحدي الحقيقي في وجه الديمقراطية.
( ولنتذكر هنا, أن المكتسبات الشعبية التي تم الحصول عليها في المرحلة السابقة كانت بالضبط تلك المرحلة التي خضع فيها الاقتصادي للسياسي, لا الفصل بينهما..).
*****************
2-1 : المسألة الديمقراطية في العالم المهمش- مثال البلدان العربية:
.... عند محاولتي قراءة تجارب النظم السياسية ذات الطابع الدكتاتوري, المتناثرة في مناطق عديدة من العالم؛ وجدت أنه علينا توخي الدقة والحذر عند إطلاقنا هذه الصفة- الدكتاتورية- على هذا النظام أو ذاك.
إذ على الرغم من التقاطعات التي تجمع بين هذه النظم؛ إلا أن النقاط التي تتفا رق عبرها لا يستهان بها.
وأولى الملاحظات التي يمكن تسجيلها هنا, تلك الفروق الشاسعة, التي تميز النظم الدكتاتورية – الكلاسيكية, عن تلك النظم التي تدعى عادة بالتوليتارية(الشمولية).
أما تلك التشكيلات التي حكمت من قبل نظم ديكتاتورية, فإن هذه الأخيرة ما إن استقرت في السيطرة السياسية, حتى بادرت إلى الدخول في جملة من التحالفات, شكلت فيما بعد محتوى " الكتلة المهيمنة"؛ حيث تضم هذه الأخيرة, البرجوازية وجمهور من البرجوازية الصغيرة. ..الخ
وتشير الملاحظة هنا إلى أن حكم النظم الديكتاتورية, لا يؤدي بحال من الأحوال إلى إيقاف عملية اشتغال الاقتصاد.
بمعنى أن حكم الديكتاتورية, لا يتعارض جوهرياً مع السياق العام لمشروع البرجوازية المحلية, بل قل إنه في لحظة تاريخية محددة, فأنه يتمفصل معها ويخدم مصالحه ومصالحها, إن لم يكن تعبيرا حقيقياً عن مصالحها تلك.
هذا بينما انعكاسات الممارسات الديكتاتورية على البنية الاجتماعية- الشعبية, فإنها لا تحول دون عمل هذه البنية. بمعنى, أن هذه الممارسات لا تؤدي-بالمطلق- إلى إبطال فعل المجتمع (القوى الاجتماعية-الشعبية) في التعبير عن نفسه, عبر مؤسساته ونقاباته المدنية بمعنى آخر, كل ممارسات النظم الديكتاتورية, وعلى الرغم من التعطيل- القليل أو الكثير- الذي تصيب فيه المجتمع المدني ومؤسساته, بيد أن هذه الممارسات لا تؤدي بحال من الأحوال إلى موات هذا المجتمع, وتحويله إلى جثة هامدة.
هذا بينما النظم الشمولية, فعلى العكس من ذلك.
نحن أمام فئة اجتماعية –يصعب تحديدها طبقياً- يشكل المجتمع, كل المجتمع, عدواً لدوداً لها. أمام فئة تعود بمنبتها –غالباً- إلى البرجوازية الصغيرة وتحديداً الريفية منها. استطاعت, وذلك بسبب مكرا لتاريخ, ربما. أن تسيطر على الدولة, عبر سيطرتها على سلطة الدولة, وتوظيفها في خدمة مصالحها الخاصة.
عبر هذا النموذج , ينفتح الباب واسعاً للحديث حول الفساد, والإثراء الفردي, والقادة-الكارزمات المصطنعة ‘إعلامياً!!. نحن هنا أمام حالة هستيرية من الحكم, لا يشبهها شيء في التاريخ الحديث...!!!
أمام هذا النموذج من النظم, فإن الخراب ينال من كل شيء, بدءاً بالإنسان بوصفه كائناً, وصولاً إلى الطبيعة أي البيئة المحيطة به. ولا عجب, إذ كل هؤلاء يتحولون, تدريجياً, إلى أعداء –من وجهة نظر هذه النظم- يمكن أن يسببوا الخطر بحال من الأحوال, لذا يجب القضاء عليهم قضاءً مبرماً !!
إن هذا الشكل المحدد من الممارسات السياسية, يؤدي فيما يؤدي إليه, إلى خراب معمم على كافة المستويات.
وأياً يكن الأمر, فإن الملاحظة المتأنية, تجعلنا ندرك الحد الفاصل بين النظم الدكتاتورية- الكلاسيكية من جهة, والنظم المسماة بالتوليتارية -الشمولية من جهة ثانية.
**********************
* المناخ العام لولادة النظم العربية :
لقد كانت من أهم النتائج التي تمخضت عن التدخل الامبريالي في بلداننا, أنه كان قد خلف وراءه تشكيلات اجتماعية مشوهة.
يجد هذا التشوه في البنى الاجتماعية العربية منعكساً له, عبر مستويين أساسيين؛ الأول منهما يعبر عن خروج هذه التشكيلات من الفاعلية العالمية, وبالتالي تحولها بشكل تدريجي إلى بلدان مهمشة, محكومة من قبل نظم كومبرادورية, وهذا بدوره يشير إلى الآلية التي يشتغل عبرها الاقتصاد.
والثاني يحيل إلى التركيب الطبقي- الاجتماعي لهذه البنى الاجتماعية.
فإذا ما استثنينا هنا الشريحة البرجوازية- الكومبرادورية المسيطرة سياسياً, فسنعثر على مزيج من القوى الاجتماعية التي يصعب بحدود واضحة.
وهذا بطبيعة الحال, نتيجة موضوعية, تنتجها الآلية التي يشتغل عبرها اقتصاد هذه البلدان.
وإذا ما اقتربنا أكثر نلاحظ أنلجم عملية التراكم الذي فرض على هذه المنطقة من العالم, كان قد أدى إلى تخفيض حدة الفرز الطبقي إلى حدوده الدنيا, وهذا ما يفسر بدوره الكتلة الضخمة للبرجوازية الصغيرة من جهة, وغياب الحدود الفاصلة والواضحة بينها وبين الطبقات الكادحة من جهة أخرى.
أما جمهور البرجوازية الصغيرة – ممن ينتمون إلى الشرائح الوسطى والدنيا منها- فإنه تدريجياً وعلى قاعدة تركز رؤوس الأموال , فإنهم يتحولون إلى عاطلين عن العمل. وذلك بسبب عجز صناعات هذه البلدان عن امتصاصهم وتحويلهم إلى بروليتاريا ...
هذا بينما الطبقة العاملة, فهي غاية في التخلف وسوء التنظيم؛ مما يحول دون الحديث عن تنظيم عمالي واسع. فالطبقة العاملة مشرذمة إلى حد كبير, وهذا يعكس بطبعة الحال مدى تخلف القاعدة الإنتاجية العاجزة أساساً عن السير في عملية فرز وتنظيم المجتمع, ووضع حدود واضحة تفصل فيما بين طبقاته الاجتماعية.
وإذا ما توجهنا نحو الريف فإننا سنقع على لوحة غاية في البؤس والقتامة.
فباستثناء المزارع الكبيرة والتي تعود بملكيتها إلى كبار الملاك من البرجوازية المحلية, فإننا نجد الملكية الزراعية مفتتة وممزقة شر تمزيق.
وإذا ما أضفنا إلى ذلك بدائية أساليب الإنتاج, فإننا سنجد أن النتيجة واضحة: حالة من التخلف والبؤس الذي يلف الكتلة الفلاحية ويجعلها تعيش على حدود الكفاف وما دون.
وعلى أي حال فإن التشكيلات الاجتماعية هنا تتصف بالضعف الشديد, ويرجع ذلك تاريخياً, إلى عاملين أساسيين هما: الأول يعود إلى آثار النهب الاستعماري الذي استنزف الفائض الاقتصادي منها, ومن ثم حرم هذه التشكيلات من فرصة الشروع بعملية التراكم الذاتي. وهو الأمر الذي انعكس في الضعف الاقتصادي بشكل عام "7". يضاف إلى ذلك السياسات الممنهجة التي اتبعها الاستعمار في القضاء على الصناعات المحلية, وما استتبع ذلك من آثار بنيوية تجلت عبر التخلع البنيوي الذي أصاب هذه التشكيلات.
أما العامل الثاني فيعود إلى طبيعة النظم السياسية التي حكمت هذه البلدان, والسياسات الاقتصادية- الاجتماعية التي استلهمتها؛ وما انعكست فيما بعد على طبيعة تكوين هذه التشكيلات. وهذا ما سوف نناقشه لاحقاً.
كل هذا سد الإمكانية التاريخية, لتبلور برجوازية صناعية قوية, قادرة على الشروع بالسير بعملية بناء قاعدة اقتصادية متينة, وهذا ما تمخض بدوره عن ضعف شديد أصاب بنية الطبقة العاملة وتنظيمها السياسي- الاجتماعي.
وأين يكن الأمر, فإن هذه التشكيلات كانت قد حاولت تخطي آثار المرحلة الكولونيالية, معتمدتاً في برامجها على مقولة التنمية وما يدعى عادة باللحاق.
وفي البلاد التي تعنينا هنا اتخذت الدولة الدور الرئيسي في قيادة هذا المشروع؛ معتمدتاً بذلك على مركزة الاقتصاد والإشراف على سير عملياته...... .
وفي هذا السياق كان قد تم التضحية بالمشروع الديمقراطي, على أساس أولوية البناء الاقتصادي والقدرة على اللحاق.
وتدريجياً بدأت الدولة –التي كونت على أساس إدارة الاقتصاد وقيادة مشروع التنمية- بالتمدد وتجاوز صلاحياتها. لتصبح دولة شمولية, " تهيمن على البلاد والعباد " .
لقد طرحت القيادة الجديدة, للدولة الجديدة, نفسها كحاملة لمشروع التنمية, وبالتالي أدرجت على جدول أعمالها جملة من المهام, والتي ستحاول التصدي لها عبر ممارستها السياسية.
بيد أن هذه القيادة الجديدة ما إن قبضت على السلطة السياسية, حتى أمسكت بالدولة وفعلت ما بوسعها لتأبيد سيادتها وتفردها بالسلطة, وصاغت في هذا السياق كل الأطر اللازمة لذلك. وطرحت نفسها حاملة لمشروع مجتمعي شمولي ينسجم بالضبط مع شموليتها.
وفي سبيل الحصول على مشروعيتها قامت هذه القيادة [ بإرساء دعائم دولة كلية القدرة, تشرف بشكل شامل على الحياة العامة والخاصة, تضبط بآليتها حركة الشعب, فتحولت تلك السلطة مع الأيام إلى كابوس ينيخ بكلكله على مجموع الأمة.. ]"8".
وأياً يكن الأمر, فإن السياق التاريخي الذي أدى إلى تضخيم دور الدولة, وأجهزتها المختلفة, واعتمادها كآلة حقيقية للقمع الطبقي؛ سوف يدفعنا إلى الاستنتاج بأن التضحية بالديمقراطية كان النتيجة الموضوعية لطبيعة تلك النظم السياسية الحاكمة؛ تلك النظم التي ادعت أولوية مشروع التنمية على الديمقراطية؛ ثم ما لبثت أن حولت ذاك المشروع إلى شعار مبتذل أدرجته فيما بعد في بنية خطابها الإيديولوجي السائد.
وهؤلاء نحن الآن, بعد نيف وأربعة عقود, نتساءل عن جدوى تلك التضحية باهظة الثمن بالديمقراطية. والسؤال الأهم الذي يقفز هنا: لماذا فشلت هذه النظم بإنجاز ما ادعت إنجازه؟! وهل هناك فعلاً تناقضاً حقيقياً بين التنمية والديمقراطية؟!
إن اكتشاف العداء التاريخي بين نظم هذه البلدان والديمقراطية, عليه أن يجري خارج حدود مفهوم التنمية, بمعنى أنه على البحث, أن يتجه بخط مستقيم نحو تحديد طبيعة هذه النظم السياسية, وتركيبها الطبقي؛ وعندها يتم الكشف- كما أزعم –عن الأسباب الجوهرية لذلك العداء.
إن منطق البحث – ضمن تعرجاته- كان قد قادنا إلى حقول, حاولنا عدم ولوجها, ذلك حرصاً منا على حصر النقاش في المسألة الديمقراطية وتجلياتها بشكل مباشر.
بيد أننا وجدنا نفسنا وجهاً لوجه, أمام ضرورة تحديد الأسباب التاريخية التي حالت دون سير المسألة الديمقراطية في بلداننا, حتى في مستاها الأول أي الحقوقي.
ونزعم في هذا السياق أن مقاربة الأسباب التاريخية لغياب الديمقراطية, سيكون في ذات الوقت محاولتنا في تجاوز تلك النظريات المبتذلة التي تحيل غياب الديمقراطية إلى أسباب ثقافية أو إلى خصوصيات بشتى الأصناف. وهنا سنحاول إثبات عكس ذلك, عبر مقاربتنا التالية.
2-2 : لعبت " البرجوازية الصغيرة " دوراً بارزاً في صياغة تاريخ البلدان العربية الحديث؛ وذلك عقب الحصول على استقلالها السياسي؛ إذ استطاعت هذه " الطبقة " استغلال الظروف الموضوعية في تلك المرحلة, والتي عبرت عن عجز البرجوازية المحلية في فرض هيمنتها الطبقية وبالتالي سيطرتها السياسية؛ كما وعبرت عن عجز الطبقة العاملة في طرح مشروعها النقيض.... .
وإلى جانب العوامل الداخلية, التي ساهمت في التأسيس لبروز ممثلي البرجوازية الصغيرة على خشبة المسرح؛ لعبت العوامل الخارجية- العالمية – دوراً على قدر من الأهمية, في دعم هذه النظم.
إذ تميزت المرحلة المعنية بالبحث, بمنافسة شرسة بين الامبرياليتين: " الاشتراكية " و الرأسمالية.
أزعم في هذا الصدد, أن تلك النظم لم تعدو – في صيرورتها اللاحقة – كونها شكلت استطالات للنظام الامبريالي في الداخل العربي.
بمعنى آخر أقول, لقد أدى التأزم الذي وجد نفسه فيه النظام العالمي, وذلك عقب اشتعال الحركات الاجتماعية الثلاث "9", في حالة المدافع.
فقد أدت هذه الحركات سابقة الذكر, إلى زعزعة سيطرة النظام على صعيد عالمي, وإبطال مفعول الكثير من تلك الوسائل والأدوات, التي كان قد ابتكرها النظام في سياق إحكام سيطرته على العالم. أمام هذا المأزق التاريخي, يجد النظام نفسه مدعواً إلى ابتكار العديد من البدائل التي عبرها يمكن إعادة إحكام سيطرته على العالم, وبالتالي إعادة شد الأطراف إلى عجلته.
أزعم في هذا الصدد, أن التأسيس لذلك النموذج من النظم الطرفية, كان أحد أهم تلك الوسائل والأدوات المبتكرة في هذا السياق والذي عبر عن هذا التوجه.
جملة هذه العوامل – إضافةً إلى سلسلة أخرى من العوامل التي لا تقل أهمية- سوف تفتح الباب واسعاً أمام سلسة من الانقلابات العسكرية – التي ستدعى فيما بعد بالثورات!!- والتي ستكون خاتمتها استيلاء ممثلي البرجوازية الصغيرة على السلطة"10". وبالتالي فرض سيطرتهم السياسية- بالعنف- وذلك عبر السيطرة على سلطة الدولة.
بهذا المعنى,شكل تأزم البنية الاجتماعية عقب الاستقلال السياسي, المناخ الخصب الذي أدى إلى بروز البرجوازية الصغيرة على مسرح الأحداث كقوة فاعلة ومتصدية لإنجاز مهام المرحلة.
إن وصول ممثلي البرجوازية الصغيرة إلى السلطة, يشكل بحد ذاته " فضيحة نظرية في منطق التاريخ " "11"
بيد أنه مكر التاريخ!!, أو قل أنه الاستثناء في إيقاع حركة التاريخ, الاستثناء الذي يقود طبقة اجتماعية غير مهيمنة, لتصبح طبقة مهيمنة اقتصادياً(!), ومسيطرة سياسياً.
لقد تم ولادة النظم العربية عموماً, نتاج تلاقح لأزمات مختلفة, وبالتالي كانت هذه النظم التعبير الصادق عن تلك الأزمات وامتداداً لها.
بمعنى آخر, ولدت هذه النظم وهي مأزومة, وستتابع مسيرتها " التاريخية " والأزمة محايثة لها.
في هذه الشروط الصعبة كان أمام هذه النظم, جملة من المهام المعقدة, والتي ستكون فاتحته الأولى: محاولة إضفاء الشرعية التاريخية- الاجتماعية, على وجودها السياسي. أما المهمة الثانية التي وضعت على جدول الأعمال, فستكون ابتكار الوسائل والأدوات المناسبة, التي تؤمن عبرها استمرار سيطرتها الطبقية وتأبيد سيادتها على المجتمع.
أزعم في هذا الصدد, أن القراءة السابقة تشكل مدخلاً مناسباً, للكشف عن الأسباب الحقيقية التي تفسر ذاك العداء المطلق بين هذه النظم من جهة والديمقراطية من جهة أخرى؛ كما أنها تشكل مدخلاً مناسباً لفهم الآلية التي عبرها تشتغل الدولة التي تم إنتاجها على يد هذه النظم.
بمعنى آخر, يصبح العنف الشكل الوحيد الذي عبره يمكن لهذه النظم أن تضمن من خلاله تأبيد سيطرتها السياسية.
إذ عبر هذا الشكل المحدد من الممارسة السياسية يتم:
A- تأبيد السيطرة السياسية لهذه النظم, عبر فرض سياسة عنفيه, يتم من خلالها لجم تطور الصراعات الاجتماعية في إطار البنية الاجتماعية.
B- ستشكل الدولة, عبر أجهزتها المختلفة, القاعدة التي سيتم من خلالها إعادة إنتاج علاقات الإنتاج؛ وبالتالي القاعدة التي سيتم من خلالها إعادة إنتاج وجودها السياسي ذاته في السيطرة السياسية.
C- ستشكل الدولة أحد أهم مصادر الإثراء الغير مشروع, لحفنة ستستحوذ على فيما بعد على سلطة الدولة, وتوظفها في خدمة مصالحها الفردية, هذه الحفنة التي ستدعو نفسها فيما بعد بالقائدة للدولة والمجتمع.
نحن هنا بإزاء دولة حديثة(!) بالمعنى الدقيق للكلمة, دولة حديثة تم إنتاجها على يد فئة هي أقرب إلى المافيا من أي شيء آخر, كما يقول نزنغولا نتاليا.
***********************
إن منطق البحث قادنا إلى استنتاج مفاده, أن النظم العربية والاستبداد, وجهان لعملة واحدة. وبالتالي يعبر الاستبداد عن علاقة عضوية تربطه ببنية هذه النظم.
ومن هنا يصبح مفهوم لتا تماماً, ماذا يشكل الخيار الديمقراطي حتى في مستواه الحقوقي؛ أي تصبح الديمقراطية العدو اللدود لهذا النموذج من النظم السياسية, إذ تفتح الممارسة الديمقراطية الباب واسعا أمام تطور القوى الاجتماعية, وهذا بطبيعة الحال يؤدي إلى انفلات لتطور الصراعات الاجتماعية ذاته. وهو بالضبط ما ينح نحو تقويض وجود هذه النظم في السيطرة السياسية.
هذه القراءة السابقة تجعلنا نعي تماماً لماذا تشكل الديمقراطية شبحاً ينيخ بكلكله على هذه النظم, تجعلنا نفهم سبب العداء التاريخي الموجه من قبل هذه النظم تجاه أي إصلاح ديمقراطية.
ولا عجب, إذ أن السياق التاريخي لتشكل النظم العربية, يتيح لنا إمكان فهم الترابط الضروري بين الممارسات القمعية من جهة, والممارسات السياسية التي ميزت هذه النظم من جهة أخرى.
إذ تتحدد العلاقة بين الطرفين كعلاقة بنيوية, أي على أنها علاقة عضوية, بتقويض أحد طرفي هذه العلاقة تقويض للطرف الآخر بالضرورة.
وأياً يكن الأمر, فإن القوى الشعبية في البلاد العربية كانت قد جربت كل الوسائل الممكنة, بدأً بالكفاح المسلح – وهنا العراق والسودان قد يشكلان مثالاً جيداً- وصولاً إلى المطالبة السلمية بالإصلاح, وكل هذه المحاولات – على الأقل حتى اللحظة الراهنة- قد باءت بالفشل.
وكأن العلاقة بين العنف والنظم العربية, علاقة طردية, وكأنه كلما تأزمت هذه النظم كلما صعدت من ممارساتها القمعية.
إن القراءة السابقة للواقع الموضوعي لبلداننا العربية, يعكس حالة استعصاء تعيشها هذه المجتمعات, حالة استعصاء هي نتيجة تلك الممارسات السياسية للنظم الحاكمة, وهذا ما يدفع إلى المقدمة السؤال عن الخيار المطروح الآن, وعن الأشكال الكفيلة بفتح صيرورة المشروع الديمقراطي, بعد أن أغلق وبعد أن عجزت التناقضات الداخلية للبنية الاجتماعية عن فتحه على مصراعيه.
--------------------------------------------------------------------
1- نعتمد في هذه الدراسة على تقسيم جغرافي سياسي للعالم, حيث نميز بين بلدان المركز وتضم ( أورب, اليابان, والولايات المتحدة ), وبلدان التخوم وتضم ( أمريكا اللاتينية, أوربا الشرقية, وجنوب شرقي آسيا) , والبلدان المهمشة بدأً ببنغلادش مروراً بباكستان والبلدان العربية حتى إفريقيا جنوب الصحراء. " راجع في هذا الصدد د. سمير أمين"
2- راجع " برازيل – لولا حيال الولايات المتحدة ", كينيث ماكسويل. مقالة مترجمة من " نيويورك ريفيو أوف بوكس , 5/12/2002 , العدد 19"
3- ربما باستثناء بعض التجارب المتناثرة هنا وهناك, كتجربة : العراق, لبنان, السودان.. .
4 - للتوسع في هذه المسألة راجع : د. رمزي زكي, " في وداع القرن العشرين " ص 63-64-65.. .
5 - المرجع السابق. ص91 وما بعدها
6 - سنناقش هذه المسألة الهامة بأكثر تفصيل في نص أخر نبحث فيه- نقدياً- خطاب اللبرالية الجديد.
7- راجع د. رمزي زكي, "اللبرالية المستبدة", ط 1, دار سينا للنشر, ص 63, 64, 65....
8- شمس الدين الكيلاني, مجلة الطريق, العدد 2 عام 1996 .
9- المقصود هنا بهذه الحركات : " الاشتراكية, الثورات التحررية في آسيا وأفريقيا , ودولة الرفاه في أوربا ".
10 - راجع حنا بطاطو " الثورات المصرية و السورية والعراقية " .
11- راجع: مهدي عامل, " مقدمات نظرية.... ج 2 , في نمط الإنتاج ...."
#صبر_درويش (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟