موسى راكان موسى
الحوار المتمدن-العدد: 4531 - 2014 / 8 / 2 - 11:17
المحور:
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
المقدمة :
هيراقليطس .. الشخصية الغامضة أو غموض الشخص .. و الفلسفة الشعرية أو شعر الفلسفة , و ليس مغالاة إعتباره السلف الحقيقي للهيجلية و للماركسية فهو سابق على الرغم من أن تركته مجرد شذرات غالبها تشبيهات , و القارئ له و عنه يشعر أحيانا أنه و زرادشت و بوذا و أخناتون متواصلون بطريقة ما , و غالبا هذه الرؤية بسبب تشابه الأفكار و أحيانا في إسلوب الحياة أيضا .
في هذا العمل إستندت على مرجعين فقط و إن كان إستنادي عليهما بعد معرفتها يبدو غريبا و لا يوحي بقوة المرجعية فيهما .. و حجتي في ذلك إني أردت البساطة لا التقعيد و التعقيد , و قسمت العمل على ثلاث مراحل , فكان المرجع الأول كامنا في المرحلة الأولى .. و المرجع الثاني للمرحلتين الثانية و الثالثة , على الشكل الآتي :
1) هيراقليطس .. زمكانه .
2) هيراقليطس .. و أرسطو أو المنطق الأرسطي .
3) هيراقليطس .. كأفكار {نقاط} .
و المراجع بالترتيب :
1) مقال / لماذا كان هيراقليطس غامضا ؟ , الكاتب عادل عبدالله , الغد الإخبارية / العدد 520 , التاريخ : 18 مارس 2014 .
2) لقاءات مع أناس إستثنائيين , أوشو , ترجمة : علي الحداد , بيروت – لبنان , الطبعة الأولى 2009 , الصفحات (183 – 191) .
هيراقليطس .. زمكانه /
في مدينة أفسوس _في آسيا الصغرى_ عاش هيراقليطس الفيلسوف و الملك و وريث سلالة الكهنة العظام لديانة المدينة , و كانت المدينة تعاني من فساد عقائد الناس و مملوءة بالغيظ و بالفتن المستعرة بجانب سطوة القوانين الجائرة .
تنازل هيراقليطس عن مناصبه الرفيعة ليعيش بقرب الناس لإصلاحهم .. فقوبلت تضحيته بالإعراض , و لما يأس منهم غادر إلى الجبال ليكتب تأملاته .
و هو في الجبال .. إشتبك الفكر مع المخيلة , فقد ظن أن إله دلفي (أبولو) يوحي إليه _أبولو أكثر من مجرد إله للشمس , فهو إله الشعر و الموسيقى و الرسم و النبوءة و الجمال أيضا_ , لكن تميزت شذرات هيراقليطس بالغموض .. و هذا نتيجة لإعراض أهل أفسوس عنه فقد كانت الشذرات لنفسه أكثر مما كانت لأهل أفسوس , فإسلوب هيراقليطس بالطريقة التي إختارها لتدوين حياته و فلسفته هو موقف فكري من العالم .. يصدر بالضرورة عن أرضية نفسية تشكلت من خلال حياته الشخصية في مدينته , فقد دون شذراته بإسلوب شعري رمزي تخييلي نبوئي في بنائه اللغوي .
إذ أن الربط بين (( إسلوب حياة هيراقليطس )) و (( إسلوب كتابته لشذراته )) يوضح الكثير , و لا شك أيضا في تأثير أبولو على إسلوبه في الكتابة .
فهيراقليطس إنما يكتب لنفسه أو لمن سيبلغ منزلة تأملاته الرفيعة فيتمكن من بلوغ أسرارها , بعد أن أعرضت عنه أفسوس .
و نذهب مع ما ذهب إليه صاحب المقال (عادل عبدالله) فإن هذا هو المقترب الأكثر وضوحا و قدرة على تعليل غموض إسلوب هيراقليطس , و يشير صاحب المقال إلى أن فريدريك نيتشه هو الوحيد الذي تناول هيراقليطس من هذا المقترب _تقريبا_ , فنيتشه قريب من هيراقليطس في الإسلوب و نوع الحياة _تقريبا_ , و مع القليل من المجازفة يمكن القول أيضا نفس ذات التأثير من قبل أبولو على نيتشه _دون أن ننسى ديونيسيوس مع أبولو فيما يتعلق بنيتشه_ .
و الجميل في الأمر .. أن الذي إكتفى به هيراقليطس بتدوينه كشذرة أمضى سواه من الفلاسفة في مؤلفات و مباحث لإنجازه , هيجل مثلا , فقد كلف إثبات {الديالكتيك} _و الذي هو القانون العام الذي تمضي وفقه حركتا العقل و العالم المادي على حد سواء_ كل فلسفته تقريبا (!) .
فمع شذرات هيراقليطس .. تكون في مواجهة رواية كونية موجزة .. خلاصة و نتيجة لأحد قوانين الكون الكبرى .. مدونة بطريقة كشف شعري .. لا يمكن لأحد بلوغه إلا بعد خبرته بكل أشكال الصراع و التحول و الصيرورة .
هيراقليطس .. و أرسطو أو المنطق الأرسطي /
قال أرسطو : ليس هيراقليطس إلا شاعرا .. أنه ليس فيلسوفا .. إنه يعاني من خلل في شخصيته , و لهذا فهو يتكلم بإسلوب مثير , فيه الكثير من الغموض و التناقض .
إن رغبت في فهم أرسطو .. فأنت لست بحاجة لإحداث أي تغيير في حياتك أو في طريقة تفكيرك , أنت بحاجة فقط لبعض المعلومات و التي تتوفر اليوم في كل مكان حتى على الإنترنت , كل ما تحتاج إليه هو بذل الجهد , و بقدر ما تبدل من جهد و تجمع من معلومات .. تدعي أنك مثقف , بينما إن أردت فهم هيراقليطس فعليك أن تغوص في علم الأسرار و الألغاز .. لست بحاجة للمزيد من المعلومات .. بل بحاجة للتواصل معه مباشرة دون وسيط .
يتكلم هيراقليطس بالألغاز .. و البعض يعتبره متناقضا , الحياة هي كذلك سلسلة متناقضات .. و هيراقليطس ابن الحياة , يؤمن بالحياة و الموت اللذين يعتبرهما وجهين لعملة واحدة .. الحياة هي الموت .. و الموت هو الحياة بذاتها , فلحظة تولد _لحظة تأتي فيها إلى الحياة_ تبدأ المسير على الطريق الذي يؤدي إلى الموت , و إن ساعة الموت تعني بداية مسيرة جديدة نحو الحياة .. نحو حياة جديدة , حياة قد تتناقض مع الحياة التي سبقتها , الحياة و الموت كجناحي طائر لا يستطيع الطيران بدونهما .. إنهما بمثابة رجلي الإنسان الذي لا يستطيع السير على رجل واحدة .
لكن في المنطق الصوري أو الأرسطي : الحياة هي الحياة و الموت هو الموت , لا رابط بينهما و لا إتحاد .. إنهما منفصلان و مختلفان .
تماما كما هو القول : إن (أ) هي (أ) .. و يستحيل أن تصبح أي حرف آخر _قوانين المنطق الأرسطي أو الصوري : قانون الهوية , قانون عدم التناقض , قانون الثالث الممتنع_ .
فالمنطق الصوري أو الأرسطي يتجنب التناقض , فالحب هو الحب و الكره هو الكره , لكن أليس الحب يتضمن الكره .. و الكره يتضمن الحب , فإن كان المنطق الأرسطي : (( أنت صديقي و لست عدوي .. و إن كنت عدوي فهذا يعني أنك لست صديقي )) .. لكن أوليس (( في كل صديق مشروع عدو .. و في كل عدو مشروع صديق )) (!) .
يقول أوشو : لُقب هيراقليطس بأبي الألغاز .. رغم هذا كان هيراقليطس يمثل الحياة على حقيقتها , الحقيقة التي تعكسها المرآة النقية الصافية , و المرآة ليست لغزا بل هي صورة مجردة عن الحياة .. أو عنك أنت و عن أحاسيسك , أما أرسطو فلم يكن كالمرآة يعكس الصورة الحقيقية بل مصورا فوتوغرافيا .. يعطي صورة ميتة لا حياة فيها و لا حركة , و هنا يكمن سر التناقض بين الإثنين .
هيراقليطس .. كأفكار {نقاط} /
1) لم يعتبر نفسه مسؤول عن الخلط بين الأضداد و المتناقضات لأنه ليس هو سبب وجودها .
2) لم يؤمن بالأشياء في حد ذاتها .. بل بالأفعال التي أدت إلى وجود هذه الأشياء , فالأشياء ليست موجودة في الحياة فلا شيء موجود بذاته بل هو صيرورة , فمن الخطأ إستعمال كلمة موجود فلا شيء موجود في الأساس .. إنما هو حصل أو يحصل .
3) كل شيء يتغير , وحده التغيير الذي لا يتغير , فالتغيير ثابت و أبدي .. و الإنسان أيضا يتغير جسديا و فكريا , و مقولة هيراقليطس المشهورة في ذلك : من غير المعقول أن أسبح في النهر ذاته مرتين .. حتى و لو بفارق دقائق أو ثوان .
4) قال أن النار هي مادة الحياة الأساسية , و هو لم يقصد المعنى الحرفي لكلمة نار , بل قصد ما تدل عليه (( الحياة )) .. (( الشمس )) .. (( الدفئ )) .. (( الحب )) , فللنار معنىً حياتيا ً .
5) رفض تحويل الحياة إلى عملية تجارية تهتم بالربح و الخسارة , فالحياة عنده كلعبة الأطفال .. تعبير عن ذات لا عن هدف مسبق .
6) الطفل ملك متوج رغم كونه ليس ملكا .. فهو يعيش في عالم اللعب و التسلية .. في عالم العفوية و البراءة .. حيث لا تعقيد .
7) الوقت ليس خطا ً مستقيما , الوقت يتحرك كالدولاب بشكل دائري , فالحياة ليست هدف .. بل هي فرصة للإحتفال و الإستمتاع و الفرح .
في الختام :
غالبا ما يُتناول هيراقليطس كأفكار مجردة عن ظروفه التي عاشها , فنعرف هيراقليطس بالتغيير و البساطة و الشعرية .. فماذا لو تناولنا هيراقليطس (فكر – ظروف) و من ثم كمقارنة بغيره ؟! , فيا له من تشابه بين و < إله الشمس (آتون) عند أخناتون > , و أيضا < نار هيراقليطس > و < نار زرادشت > , و طبعا < تضحية هيراقليطس > و < تضحية بوذا > , تكاد الظروف تتشابه في صناعة (الشخص) و (الوعي) فيما يتعلق بالأربعة < هيراقليطس و زرادشت و بوذا و أخناتون > .
إن الديالكيتك و إن كان إكتشافه على مراحل , فهو إكتشاف لا إختراع , لهذا نجد أغلبية _لا أقول جميعهم لكي لا أوسم بالتطرف_ المتصوفين و المعتزلين تأملا في الطبيعة ينتهون إلى الديالكتيك بطريقة ما _و إن لم يعلنوا عن ذلك فأقوالهم تكشفهم_ , فنصادف أقوال و أشباه أقوال توحي بذلك لدى المعتزلة و المتصوفة المتأملين في الطبيعة , و هيراقليطس إن قضى جزءا من حياته أشبه بحياة زرادشت و بوذا الذين قضيا في عزلة و تصوف في تأمل الطبيعة , فقد تميز عنهما بوضوح أكثر فيما يتعلق بمبدأ التغيير (وجود و إدراك) و تأكيده المطلق لهذا المبدأ .. و هو مبدأ الديالكتيك الجوهري .
#موسى_راكان_موسى (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟