|
قراءة في اللادينية – الإلحاد كحركة دينية مُجدِّدة.
نضال الربضي
الحوار المتمدن-العدد: 4507 - 2014 / 7 / 9 - 07:51
المحور:
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني
قراءة في اللادينية – الإلحاد كحركة دينية مُجدِّدة.
-------------------------------------------------------- "الكهنة يرتعدون من التقدم العلمي كما ترتعب الساحرات لاقتراب ضوء النهار و ينظرون شزرا ً لحامل ِ النبأ بتحُّطم ِ زِيفهم الذي يعيشون عليه"
(من أقول ثوماس جيفرسون، من الآباء المؤسسين ، و المؤلف الرئيسي لإعلان الاستقلال، و الرئيس الثالث للولايات المتحدة الأمريكية) -------------------------------------------------------
الملحد لفظ ٌ يُطلق على من لا يؤمن بوجود الآلهه، و يُنكر معها الدين و الوحي و النبوءة، فهو لاديني شأنه شأنُ الربوبي و الـ لاأدري، لكنهم يختلف عنهما في الموقف من الإله، لأن اللاأدري يستمرُّ مُتأرجحا ً بين احتمال وجوده و عدمه، و يجزم الربوبي بذلك الوجود لكنه ينفي المعرفة بماهية صاحبه و صفاته.
يصل الملحد لقناعاته النافية للدين و الوحي و الأنبياء من ذات مُنطلقات الربوبي و اللاأدري، حيث يلعب تأمل النص الديني دورا ً عظيما ً في رفض المنظومة الدينية و نفي مصدرها الإلهي، و يزيد تأمل العالم و منظومة علاقات الكائنات و تشعباتها و تعقيداتها و نتائج تفاعلاتها من قناعته باستحالة صحَّة ِ ما ورد في تلك النصوص لاصطدامه مع ديناميكية حاجات المجتمعات و عجزه عن تقديم حلول واقعية تستند إلى القدرة الإبداعية المنطلقة و غير المقيدة بثوابت مُسطَّرة و وضوح تآكل صلاحية تلك النصوص عبر القرون حتى انتهائها في العصر الحالي، و تنافر المشاعر البشرية الفطرية و قيم الحضارة الحديثة مع التشريعات و المعاملات الدينية و الرؤية غير الإنسانية التي تتأسس عليها قيمة الأفضلية للمؤمن على غير المؤمن و للمؤمن الذكر على المؤمنة الأنثى، و ما يتبع هذه الرؤية من حقوق تُعطى و أخرى تُمنع.
يمد ُّ الملحد الخيط على استقامته فيرفض الدين و منظومته كاملة ً و من ضمنها إله المنظومة، فالملحد يرى أن الأصل هو ظهور المنهج الديني الغيبي في رؤية الحياة عند الإنسان الأول، كمحاولة لتفسير قوى الطبيعة و قوانين تفاعلات الكائنات و نتائج التفاعلات، مع عجزه الشديد عن التحكم فيها أو فهمها و هو البدائي الذي لم يكن قد اكتشف العلوم التي نعرفها الآن و لا ملك َ الأدوات العلمية للقياس و الاختبار و التجريب و الفحص و إعادة إنتاج الظواهر، ثم تحولت تلك القوى في عقله إلى كائنات مُشخَّصة أطلق عليها اسم "الآلهة" و عبدها.
و لذلك فالملحد يرى أن التوصل إلى معرفة ماهية الطبيعة و التوصل إلى قوانينها الفيزيائية باستخدام الأدوات العلمية و الوسائل الاختبارية هو وصول ٌ إلى الصحيح من جواب السؤال الذي عجز جدُّاه الأولان عن إيجاده و قدما بديلا ً عنه تصورا ً كشف زيفه العلم الحديث، و بهذا يكون المُلحد في حقيقته المُتدين المُخلص الذي يسير على خطى جديه المتدينين الأولين، تابعا ً لذات المنهج الباحث عن الحقيقة و المُعبر عنه بكل جرأة، مؤمنا ً بالحقيقة ِ التي تقدمها الطبيعة صادقا ً مع الكائنات و الماثلات ِ امامه من مُكوناتها و عناصرها الفاعلة، فيبني منظومته اللادينية على هذا الأساس الصادق الأمين الذي يعرف الحق و يحرره ذاك الحق بدوره، دون أن يكون َ للإله أي دور فيها.
ليس المُلحد عدو الدين أو نقيضه، لكنه في الحقيقة المُجدِّدُ فيه و الوريث ُ الشرعيُ له، إنه العالم بأصله و جذره و بواعث وجوده، و هو القيـّـِم ُ الحافظ ُ الأمين ُ على منهجه الأول، المُنقي لهذا المنهج من جموده الذي لم يُقصد أن يكون فيه يوما ً لولا التحالف النجس بين رجل الدين و رجل المال و رجل السلطة، هذا الثالوث القذر الذي طالما استعبد العقول َ و الأفكار َ و الأدمغة و جعل من الممكن في كل العصور تجيش الطاقات البشرية لخدمة مطامع القصر و المعبد و ضمان تدفق الثروات المحمولة ِ على أفئدة ِ الولاء و الطاعة، و استعداء المخالف و المعارض و غير المنتمي للمجموعة و استيعابه بالإكراه على السُّخرة ِ و الانتماء أو النهب و الإفناء.
إن المُلحد َ عدو ُّ سادن المعبد لا عدو ُّ الدين، فالسادن ُ هو الخائن ُ الذي خرج عن منهج ِ جدِّيه الأولين، الذي كان ديناميكيا ً في كل ما آمنا به و عرفاه، فعرف ذاك الإنسان ُ الأول ُ الإلهة َ الأم َّ الأولى "الأم الكبرى" التي رأى فيها تجسيدا ً لإلهه القمر، ثم شطرها إلى آلهة ٍ عدَّة عندما تطورت حياته و غدا كل ُّ مظهر ٍ منها ناميا ً إلى الدرجة ِ التي تجعل له من الحق ِّ الاعتراف بحاجته إلى إلهة ٍ مُخصَّصة ٍ له تُدير شأنه، ثم عندما انقلب الذكر على أمِّه الأولى جاء دينه صادقا ً ليعكس َ هذا الانقلاب و تتحول آلهته ُ إلى ذكور ٍ تتربع على المصائر و الأقدار و تدير الطبيعة و تُجري الأفلاك، و بقيت آلهته الإناث في ذات البنثيونات الإلهية شاهدةً على أصل ذكوره في شفافية ٍ و صدق ٍ حدّثا عن تاريخ الجنس البشري.
لكن َّ سادن المعبد حين توطدت أركان ُ المعابد و تدفقت الناس ُ عليه و عليها، و حين ظهر َ من أمر ِ القادة ِ و الفرسان و الزعماء و الأمراء و الملوك ما كان يجب أن يُستدام َ بضمان ِ الطاعة ِ و الولاء، كان الآداة َ لذلك الضمان، و الشريك في حلاوة ِ قطاف ِ ذلك الأمر ِ الظَّاهر، فأخرج َ الدين َ عن أصله الباحث عن الحقيقة، و ألحقه بالمعبد، ففارقت العقائد ُ الشروحات المستندة إلى الحقائق على المذهب العقلي السحري البدائي، و استقرت في وحي المعبد و على لسان ِ السادن، فتعطلت العقول التي كانت تنظر ُ إلى الحقيقة كما بدت لها و وُجّـِهت إلى المعبد و السادن ليعمل بدلا ً عنها و يزرع فيها بالأدلجة ما كان بديلا ً عنه ما يجب أن يُختبر و يُعمل فيه الفكر و لو كان بدائيا ً، فتعطل المنهج الأول و استُبدل به ما لم يكن فيه أصلا ً.
إن سادن المعبد هو حفيد ُ الخائن ِ الأول و وريث السارق الأكبر الذي بدَّل منهج جدنا الأول و جدتنا الأولى، الذين رفعا عيونهما فأبهرتهما الطبيعة و أدهشهما الكون، فانسابا معه و فاض عقلاهما و مشاعرهما بفيضان ِ جماله فقدما لنا الدين البدئي الأولي الذي فكننا الآن ألغازه و عرفنا أصوله و أدركنا جذره فحق علينا الإلحاد إخلاصا ً لجدتنا و جدنا الأوَّلـَين، و إكمالا ً لعملهما، و سعيا ً مؤيَّدا ً و مكللا ً بالنجاح لإتمامه، و مِضـِّـيا ً على منهجهما، و احتضانا ً لموروثهما البشريِّ الأصيل الغني الدائم، و ثورة ً على اختطاف المنهج و تشويه المقصد و تقيد النتائج و تحديدها و تزوير المُكتشف ِ منها، و تقيد العقول و القلوب و الأفكار و الإبداع، و هي التي جعلت من جنسنا البشري ما هو عليه الآن.
ينطلق ُ الملحد ُ نحو الكون ِ بذات الإنبهار الأول الذي عرفه جدَّانا، بذات الاندهاش، بذات ِ الإقرار ِ بالعظمة، بذات الإقرار بتواضع الإنسان أمامه، و يبلغ به التواضع أشدَّه ُ حين يعترف ُ أن الكون و ما فيه أكبر َ من أن يتم َّ اختزاله بمجموعة من العقائد الغيبية التي تتعارض مع عظمة ِ هذا الكون و مع حقيقة العالم ِ الماثلة ِ أمامنا، كما و يبلغ به الغضب ُ أشدَّه ُ عندما يتقدم سادن ُ المعبد ِ بكل وقاحتِه و جرأته على الحقيقة فيقدِّم ُ بديلا ً عن هذه العظمة قصصا ً لا تصلح حتَّى للقراءة أمام الأطفال ِ قبل النوم لأن كثيرا ً منها كفيل ٌ بزرع الرعب في قلوبهم و دفعهم للتبول اللاإرادي حين تصنع ُ من مشاعرهم الرقيقة ِ البريئة ِ الفطرية حواضن للخوف الذي لا يذهب إلا بنظرة ٍ مشوهة إلى الحياة ترى كل ما فيها سببا ً للهلاك و الغضب الإلهي الذي لا سبيل إلى رده إلا بالقيام بحركات ٍ بهلونية و ممارسات تعبدية تأكيدا ً لعقائد َ لا يجدون لها أصلأ أو وجودا ً في حياتهم.
يحارب سدنة ُ الدين الإلحاد لأنه الكشّـَاف الضوئيُّ الساطع ُ المنير ُ على زيف ما يقدمونه، فخطورةُ الإلحاد تكمن ُ في سهولة ِ قدرته ِ على زرع بذور الشكِّ الصادق النامي في العقول و القلوب، ذاك الشك الذي يحمله العقل ليصطدم بالمعبد و بسادنه و بكل ما تقدمه منظومته الدينية، و الذي لا سبيل إلى رده إلا بمزيد ٍ من الانغماس في الدين و إكثار ٍ من التماسِ المعونة ِ الإلهية، و إجهاد ٍ للنفس و الجسد في طلب ِ الثبات ِ و التثبيت و الإيمان و التعبُّد، و الإبداع المرضي في إيجاد ِ المبررات لغرابة ذلك الإله الجامد -أي ِّ إله- و العجب ِ الذي يكتنف الدين و التشريعات و الطقوس.
إن الملحد َ هو المخلص ُ الأمين ُ الناصح ُ لقومِه و عائلته، الذي يريد ُ أن يُجدِّد في نفوسهم الأمل و الفرح و الدهشة المصاحبين للحياة و الحقيقة، اللواتي يملكن من القدرة ِ ما يفتح ُ أبواب النفس المغلقة َ على الاحتمالات ِ التي كبلها السادن ُ و جده الأول الخائن لمجتمعه و لقومه و لناسه و ربعه، فالملحد هو الثائر ُ الأبدي على الدخيل و الغريب و المشوه و اللامعقول، و الحاضن ُ للجذور المؤسسة و البادئة لجماعته، و المُنقي لها من شوائب الفكر الغيبي و السحري الذي لم يكن يمتلك ُ الجدان الأولان سواه للتفكير، فيأخذه بكل حب ٍّ و احترام ٍ و ينحني أمام أصالته و صدقه و انسجامه مع الطبيعة البشرية و تفوقه ِ بمقايس تلك الفترة ثم يمضي إلى داخل ِ ذلك الجوهر لينطلق منه إلى ما حوله فيضع مكان الغيبيِ العلميّ، ثم يفتح نوافذ الانطلاق المغلقة ليطير منها ذلك الجوهر الجديد إلى مستويات ٍ أعلى هي استحقاقُه الوجودي و حقُّه الفطري المُنسجم مع طبيعته الساعية نحو المعرفة.
لقد أوجدتنا هذه الطبيعة ُ أحرارا ً حتى استعبدنا السادن و أذلنا المعبد، و إن بعضنا قد اختار أن يكسر قيده و ينطلق، و هؤلاء هم الأحرار ُ المبصرون.
من كان له عقل للفهم فليفهم!
#نضال_الربضي (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
من سفر الدين الجديد – الفصل الأول - آمر لي مارهو
-
قراءة في جدلية ما بين المنظومة الدينية و الواقع– المعجزات و
...
-
في نفي دونية المرأة – 4 – الانسجام الجيني الأنثوي مع حاجة حف
...
-
من سفر الله – 3 – في جدلية تنافر الطبيعة البشرية مع التكليف
...
-
قراءة في مشهد– من وحي محاضرة في علم الفلك و الفضاء – الممارس
...
-
من سفر الله – 2 – في الدين و الإلحاد – تمظهرات العداء و الاج
...
-
بوح ٌ في جدليات – 4 – امتداد الوعي الكوني، فرضية.
-
قراءة في الوحشية – 2 – منهج الذبح عند السلفية الجهادية نموذج
...
-
بوحٌ في جدليات – 3 – حين أنطلق
-
قراءة في ظاهرة التنمُّر المدرسي – مريم المغربية و وليم الأرد
...
-
قراءة في الإنسان – 4 – في الصواب السياسي و توظيفه لخدمة الإب
...
-
البابا فرنسيس في عمان – انطباعات
-
بوح ٌ في جدليات - 2 - عين ٌ على مستحيل ٍ مُمكن ٍ مستتر
-
هل سنبقى ندور ُ في حلقة؟
-
بوح ٌ في جدليات
-
قراءة من سفر التطور – 3 – بين الجين و البيئة و السلوك بحسب ا
...
-
قراءة في الإنسان – 3 – في الهوية الدينية و الدفاع العصبي الم
...
-
في نفي دونية المرأة – 3 – وراثة معامل الطاقة في الخلية البشر
...
-
قراءة في الإنسان – 2 - وجها الوجود و الألوهة الناقضة لفعلها
-
قراءة في الشر – 6 – الرجاء ُ في الألوهة، عتابُها و الدفاع ُ
...
المزيد.....
-
دراسة: السلوك المتقلب للمدير يقوض الروح المعنوية لدى موظفيه
...
-
في ظل تزايد التوتر المذهبي والديني ..هجوم يودي بحياة 14 شخصا
...
-
المقاومة الاسلامية بلبنان تستهدف قاعدة حيفا البحرية وتصيب اه
...
-
عشرات المستوطنين يقتحمون المسجد الأقصى
-
مستعمرون ينشرون صورة تُحاكي إقامة الهيكل على أنقاض المسجد ال
...
-
الإعلام العبري: المهم أن نتذكر أن السيسي هو نفس الجنرال الذي
...
-
ثبتها فوراً لأطفالك.. تردد قناة طيور الجنة 2024 على نايل سات
...
-
الجنائية الدولية تسجن قياديا سابقا في أنصار الدين بمالي
-
نزع سلاح حزب الله والتوترات الطائفية في لبنان.. شاهد ما قاله
...
-
الدعم الأميركي لكيان الاحتلال في مواجهة المقاومة الإسلامية
المزيد.....
-
مأساة العرب: من حزب البعث العربي إلى حزب الله الإسلامي
/ حميد زناز
-
العنف والحرية في الإسلام
/ محمد الهلالي وحنان قصبي
-
هذه حياة لا تليق بالبشر .. تحرروا
/ محمد حسين يونس
-
المرحومة نهى محمود سالم: لماذا خلعت الحجاب؟ لأنه لا يوجد جبر
...
/ سامي الذيب
-
مقالة الفكر السياسي الإسلامي من عصر النهضة إلى ثورات الربيع
...
/ فارس إيغو
-
الكراس كتاب ما بعد القرآن
/ محمد علي صاحبُ الكراس
-
المسيحية بين الرومان والعرب
/ عيسى بن ضيف الله حداد
-
( ماهية الدولة الاسلامية ) الكتاب كاملا
/ أحمد صبحى منصور
-
كتاب الحداثة و القرآن للباحث سعيد ناشيد
/ جدو دبريل
-
الأبحاث الحديثة تحرج السردية والموروث الإسلاميين كراس 5
/ جدو جبريل
المزيد.....
|