|
المأساة السورية في رواية محمود الجاسم
أسامة الزيني
الحوار المتمدن-العدد: 4493 - 2014 / 6 / 25 - 20:54
المحور:
الادب والفن
أكثر من عمق في (غفرانك يا أمي) لمحمود الجاسم
عزف عميق على أوتار المأساة السورية يؤديه على نحو بالغ الاتزان الروائي السوري محمود حسن الجاسم، عبر التقاط أكثر من طرف خيط يصل بك من ثنايا حدث درامي مشوق إلى أكثر من عمق في قاع المأساة، لتخرج من عمق برسالة؛ فعلى الصعيد الطائفي كانت الرسالة أن الطائفية لم تكن يوماً وجهاً من وجوه المجتمع السوري الذي شهدت عقود تاريخه الطويل على حالة من التعايش والتجاور، تكشف عنها روابط الصداقة العميقة بين بطلي العمل السني ماجد والعلوي غسان، أبناء الأسرتين قديمتي الروابط، بحكم هجرة أسرة الأول وهي أسرة سنية من الجنوب إلى الشمال حيث تجمعات القرى العلوية، في لفتة ذكية من الراوي إلى أن حالة التعايش بين جميع طوائف الشعب السوري سنة وشيعة وغير مسلمين حالة عامة تعبر عن مزاج مجتمع متجانس متعايش، لا يقيم وزناً لمثل هذه الاعتبارات، التجانس غير المحكوم بالعشرة والجيرة، بقدر ما هو محكوم بالفكر العام في أفراد مجتمع منتمين إلى دولتهم في المقام الأول، فلم تكن ثمة عشرة بين أهالي ريف حلب وقرى الشمال حتى يحدث هذا الالتقاء الإنساني بين أسرتي بطلي الرواية، ثم بين البطلين الذين ساقتهما أقدارهما إلى قضاء فترة التجنيد الإلزامي معاً في الجيش، ثم خروجهما معاً لمواجهة ما أوهمهما قادتهما في الجيش أنها حركات لمتمردين تسللوا إلى داخل الدولة وحرضوا الناس على التظاهر واندسوا بينهم، الوهم الذي أفاق عليه كل منهما مع أول مواجهة حين أدركا أن أيديهما لطخت بدماء مواطنيهم حين لم يشاهدوا متمردين واكتشفوا أنهما لم يطلقا النار إلا على أطفال ونساء، وأنه ليس ثمة متمردون أو مندسون أو ما إلى ذلك من أكاذيب. وعلى مستوى عمق آخر جاءت الرسالة أن رصاصة الفتنة أطلقت من فوهات بنادق النظام، حين أدرك الصديقان اللذان اضطرا للفرار على وقع وخز الضمير لتلطخ أيديهما بدماء الأبرياء أن الرصاصات التي أردت عدداً من جنود جيش النظام كانت آتية من الخلف، حتى توهم الجنود بأن بين المتظاهرين مسلحين، على خلاف الواقع، حتى تثير الغضب في نفوس الجنود، وأيضاً في نفوس المتعاطفين من الشعب مع النظام المنخدعين بألاعيبه. وفي عمق أكثر بعداً تكشف الأحداث عن أن كثيراً من أفراد الجيش كانوا على يقين بأن النظام يمارس واحدة من أشنع الجرائم الإنسانية وهو يبيد شعبه بلا رحمة، لكن كثيراً منهم كانوا مضطرين للبقاء داخل الجيش وعدم اللحاق بمن فر من زملائهم وانضموا للجيش الحر، لضغط النظام الحاكم عليهم بأهلهم الموجودين في حوزته، حتى لا يتركوهم أمام مصير القتل والتنكيل والاغتصاب الذي كان وجد أهالي كثير من أفراد الجيش الهاربين أنفسهم في مواجهته، حتى يجعلهم النظام عبرة لمن يعتبر، كان شاهد هذه الحالة من رفض الممارسات القمعية التي يقوم بها النظام في نفوس أفراد الجيش أنفسهم، ذلك الضابط الذي تعرف على هوية البطل إبان انفصاله عن الجيش، لكنه أبدى عدم معرفته به، حتى يمكنه من المرور آمناً من الحاجز الأمني. وثمة عمق بالغ الأهمية طرحته الرواية بموضوعية وحياد فيما يختص بالعناصر الدخيلة على المشهد السوري، سواء من جانب النظام متمثلة في عناصر الحرس الثوري الإيراني التي كانت تمارس أعمال القتل والتمثيل بالجثث بدماء باردة في حق مدنيين عزل أبرياء، في أحد أكثر مشاهد الرواية تفجيراً لحس المأساة الإنسانية التي شهدتها وقائع الثورة السورية، حين ذبح هؤلاء أحد المواطنين العزل أمام صيدليته على الرغم من توسلاته وتأكيد براءته من التهمة التي نسبوها إليه، حتى إن دماءه التي لطخت المكان طالت وجه البطل وهو كان مختبئا في المزرعة يشاهد وقعة الذبح بعينيه، أو من جانب العناصر التي تداعت إلى المشهد السوري بوجوه أجنبية لا تعرف شيئاً عن سوريا ولا أهلها حتى إنها كادت تعدم البطل إبان وقوعه في يد أفرادها إثر هربه لولا شهادة أحد المنضمين إليها من أبناء منطقته في حقه بأنه حسن الأخلاق وأنه ينتمي إلى الشعب وليس إلى النظام، ما يعني حالة من الرفض في الشارع السوري، ليس للعناصر الإيرانية الذين عرفهم البطل وصديقه من تمتماتهم بلغتهم الفارسية غير المفهومة وحسب، بل أيضاً للعناصر الدخلية من جهة الثوار بادعاء أنها في صف الثورة، على حين أنها عناصر لم تقدم للمشهد السوري سوى تعميق هوة الطائفية، وفرض منطقها على شعب متعايش لم يكن للطائفية اعتبار بين أهله إلا كمثل ما يقع من خلافات بين أفراد البيت الواحد. ولعل ما ذهبت إليه الرواية من أن الجهل أحد اللاعبين المتخفين وراء المشهد، كان موفقاً، فأحد البطلين مدرس جامعي، والآخر زميله المثقف اليساري، ولعل هذا ما مكنهما على الرغم من قسوة الأحداث على تجاوز البعد الطائفي في المشهد، وعدم الانخداع به، ورفض القتل على الهوية لأي من قطبي الوطن الذي شطره النظام نصفين بقوة الفتنة قبل أن يكون بقوة السلاح. لاذت لغة (غفرانك يا أمي) بالوصف كثيراً، ما منحها إمكانية رصد جميع تفاصيل المشهد المحتقن المشتعل الغاص بدماء المجازر، وصف تجاوز حدود المشاهد الخارجية إلى التفاعلات النفسية الداخلية لبطلي الرواية، في ربط سلس بين الداخلي والمُشاهَد، حتى غدت الرواية في كثير من مشاهدها كأنه تدور داخل بطليها وتعتمل في شعوريهما على نحو يصنع حالة من التفاعل مع العمل، والانتقال إلى عالمه الخاص الذي قدم إطلالة عالية الوضوح على الثورة السورية من الداخل، ولاسيما جبهة النظام، الأمران اللذان بذلت أذرع النظام الإعلانية قصارى جهدها لإخفائهما، ونجح هذا العمل في إبرازهما على نحو يجعل منه أحد الأعمال المهمة التي تؤرخ درامياً لهذه المرحلة بالغة الالتباس من تاريخ سوريا. وفي الختام لا يسعني أن هذه الرواية استطاعت نقلي إلى منتصف الحدث السوري وذروته، وأعطتني ملامح وخيوطاً استمسكت به لأصل إلى أجوبة كثيرة كانت تدور في ذهني كلما أعملت التفكير فيما يحدث في سورية، بل أجابت على أسئلة كثيرة كانت تصطرع في داخلي كلما استوقفني المشهد الإعلامي السوري الملتبس. رواية حلّقت فنياً بتناميها الدرامي، ووصفها للأحداث، وصورها التي أغنت الحدث، وتوظيفها للمُعاش والعادي عبر المشهد الروائي بشكل فني خدم الحدث ولم يكن بعيداً عنه، وما لفت نظري أيضاً التوظيف المتقن لمعالم الطبيعة، بجبالها وليلها ونهارها، بل كان لهبوب النسمات الغربية رقة وعذوبة، شدة وعصفاً دور استطاع الراوي أن يجعله بمثابة الناقوس الذي يفتتح به الأحداث لتشكيل ما يشبه التهيئة في نفوس القراء للدخول إلى الحدث، كما لا يفوتني أن أعرج على اللغة التي تشكلت من مفردات بسيطة وسهلة، ولكنها استطاع أن تستوعب الحدث، وتنقله بكل أمانة، حاملة معها زخماً عاطفياً يرتفع وينخفض بحسب المشهد الدرامي، وتجلياته. رواية محمود الجاسم عمل حقيقي ينم عن حرفية، وقدرة فائقة على التقاط الحدث، ويدلل على امتلاك للغة بجدارة والتصرف بها، إضافة إلى استخدام الصورة وغرسها كجزء من الحدث العام ومعبرة عنه. شخصياً أمتعتني الرواية، وأفادتني في الوقت نفسه، وإني وإن لم أقرأ لهذا الروائي غير رواية (غفرانك يا أمي)، فأزعم أنني سأتابعه وسأبحث عما كتب، وعما سيكتب. ________________________________ - الرواية من إصدارات الدار العربية للعلوم ناشرون- بيروت 2014
#أسامة_الزيني (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
-العائلة- في سربرنيتسا.. وثيقة حنين لأطلال مدينة يتلاشى سكان
...
-
فيلم عن فساد نتنياهو وآخر عن غزة.. القائمة القصيرة لجوائز ال
...
-
“بداية الفتح” مسلسل صلاح الدين الأيوبي الحلقة 38 مترجمة بالع
...
-
“صدمة جديدة للمشاهدين” مسلسل المؤسس عثمان الحلقة 176 مترجمة
...
-
“كشف حقيقة ليلى وإصابة نور” مسلسل ليلى الحلقة 15 Leyla مترجم
...
-
-الذراري الحمر- يتوج بالتانيت الذهبي لأيام قرطاج السينمائية
...
-
بليك ليفلي تتهم زميلها في فيلم -It Ends With Us- بالتحرش وال
...
-
“الأحداث تشتعل” مسلسل حب بلا حدود الحلقة 47 مترجمة بالعربية
...
-
في ذكرى رحيله الستين.. -إيسيسكو- تحتفي بالمفكر المصري عباس ا
...
-
فنان أمريكي يتهم الولايات المتحدة وإسرائيل بتنفيذ إبادة جماع
...
المزيد.....
-
تجربة الميج 21 الأولي لفاطمة ياسين
/ محمد دوير
-
مذكرات -آل پاتشينو- عن -العرّاب-
/ جلال نعيم
-
التجريب والتأسيس في مسرح السيد حافظ
/ عبد الكريم برشيد
-
مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة
/ د. أمل درويش
-
التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب
...
/ حسين علوان حسين
-
التجريب في الرواية والمسرح عند السيد حافظ في عيون كتاب ونقا
...
/ نواف يونس وآخرون
-
دلالة المفارقات الموضوعاتية في أعمال السيد حافظ الروائية - و
...
/ نادية سعدوني
-
المرأة بين التسلط والقهر في مسرح الطفل للسيد حافظ وآخرين
/ د. راندا حلمى السعيد
-
سراب مختلف ألوانه
/ خالد علي سليفاني
-
جماليات الكتابة المسرحية الموجهة للطفل في مسرحية سندس للسيد
...
/ أمال قندوز - فاطنة بوكركب
المزيد.....
|