طلال الربيعي
الحوار المتمدن-العدد: 4484 - 2014 / 6 / 16 - 23:13
المحور:
اليسار , التحرر , والقوى الانسانية في العالم
صدر حديثا كتاب بعنوان
They Can’t Represent Us: Reinventing Democracy from Greece to Occupy (with a foreword by David Harvey). London and New York: Verso
تأليف
Marina Sitrin and Dario Azzellini
يشكل هذا الكتاب لائحة اتهام قاذعة ضد السياسة الانتخابية من اجل الدفاع عن, وتثبيت, الديمقراطية الحقيقية. يقول Herdt, أحد مؤلفي كتاب Empire, الذي يعتبره العديد بمثابة البيان الشيوعي الثاني, بأن هذا الكتاب لا يتضمن فقط ما يقوم به الناشطون في الحركات الجماهيرية المعادية للرأسمالية, ولكنه أيضا يدعونا الى ان نصغي الى ما يفكر به الناشطون. تعدد الأصوات المجتمعة هنا هو دليل على ثروة غير عادية من التنظير في الحركات، وخصوصا فيما يتعلق بالديمقراطية، وكيفية التعامل الخلاق من قبل الناشطين مع المفاهيم والمشاكل السياسية التي هي على حد سواء مجردة وملموسة. هذا الكتاب يوضح بعض التحديات الرئيسية التي تواجه الحركات اليوم ويساعدنا على رؤية مسارات أبعد منها".
لقد كتب الكثير بخصوص الانتخابات الأوروبية في الشهر الماضي, حيث أسف معظم المعلقين لصعود اليمين المتطرف؛ والعض الآخر احتفل بصعود اليسار الراديكالي - ولكن ركز الجميع تقريبا اهتمامه على إعادة ترتيب الكراسي على سطح السفينة، وبدون اعتبار لأصوات التذمر والسخط النابعة من أسفل في أعماق السفينة. كما اتضح، فان 43٪-;- فقط من الأوربيين المؤهليين شارك في الانتخابات, والاغلبية لم يكلف نفسه عناء الادلاء بصوته. فاذا كانت الارقام لا تزال تعني شيئا في لعبة الانتخابات, فالتركيز لا ينبغي ان ينصب على نجاح هامشي للأحزاب اليسارية, ولكن على مئات الملايين الذين فقدوا منذ فترة طويلة إيمانهم في الديمقراطية المزيفة التي تعيشها اوربا حاليا.
فالمؤسسات التمثيلية الديمقراطية الرأسمالية تواجه أزمة شرعية عميقة. وفقا للمجلس الاوربي فان68 ٪-;- من الأوروبيين لا يعتقدون أن صوتهم مهم في أوروبا، في حين كشفت دراسة حديثة, Eurobarometer Survey, ان ثقة الناس في الاتحاد الأوروبي قد انخفضت إلى أدنى مستوياتها التاريخية. وفي الوقت نفسه، فان دراسة رئيسية, Pew Research Global Attitudes Project, تؤكد ان انعدام الثقة لا يقتصر على مؤسسات الاتحاد الأوروبي ومقره بروكسل، بل ان الأوربيين يفقدون الثقة ايضا في قدرة زعماءهم الوطنيين للتعامل مع المشاكل الاقتصادية. يقول خوسيه إغناسيو توريبلانكا من المجلس الأوروبي للعلاقات الخارجية ان" كل من المدين والدول الدائنة تشعر أساسا بأنها فقدت السيطرة على ما تقوم به"، ويخلص إلى أن معظم المواطنين الأوروبيين "يعتقد الآن أن ديموقراطية بلدانهم يجري تخريبها من خلال الحلول المستخدمة لحل أزمة اليورو".
القصة هي نفسها في الولايات المتحدة، حيث وجد استطلاع الثقة السنوي الأخير غالوب أن 19٪-;- فقط من الأمريكيين يثقون في الحكومة تفعل ما هو صواب "دائما تقريبا" أو "معظم الوقت"، في حين ان النسبة الساحقة 81٪-;- يثقون في الحكومة فقط "لبعض الوقت" أو" لا بالمرة" - ويشكل هذا تدهورا ملحوظا حتى مقارنة بأحلك أيام عهد جورج بوش المعادية للديمقراطية. فقط عن طريق المقارنة: في عام 1960، 73٪-;- من الأمريكيين لا يزال يثق حكومتهم تفعل الشيء الصحيح دائما أو معظم الوقت, مما حمل الرئيسن السابقيين كلينتون وكارتر بالتصريح، "هذا نقص مروع في الثقة في السياسيين والمؤسسات, وكان شيئا متنبأ فيه منذ فترة طوية. نظامنا لا يخدم سوى النخبة، وليس جمهور الناس. والشعب الأميركي يعرف ذلك".
هذه هي أزمة التمثيل التي تواجه ما يسمى الديمقراطيات الرأسمالية اليوم - وهذا هو السياق الذي اجج انتشار موجات من الاحتجاج في جميع أنحاء العالم في السنوات الأخيرة. كما قال ناشط برازيلي أثناء المظاهرات الحاشدة في العام الماضي، "قناع الديمقراطية آخذ في السقوط". الآن، في هذا الكتاب الجديد, في الوقت المناسب, يروي Sitrin و Azzellini قصص المواطنين العاديين في جميع أنحاء العالم لأنها قررت أن تأخذ زمام الأمور بأيديها, حيث تتشكل حركة تمرد ديمقراطية واسعة النطاق وتختمر تحت السطح، وتمهد الطريق لإعادة توزيع جذرية للسلطة من ألقاع.
في استنكار شديد اللهجة ضد الديمقراطية التمثيلية، ومن خلال تصوير متعدد الالوان من البدائل الشعبية التي لا تعد ولا تحصى والتي بالفعل يجري بناؤها في المجتمعات وأماكن العمل في جميع أنحاء العالم، يروي الكتاب قصة حركة الميادين في اليونان وإسبانيا والولايات المتحدة، ويسعى الى غرس جذور هذه التعبئة الجماهيرية في رغبة الناس العاديين للسيطرة على حياتهم اليومية والمشاركة بنشاط في عمليات صنع القرار التي تؤثر عليهم. هذا الكتاب، بالمحصلة، هو على حد سواء لائحة اتهام نارية ضد السياسة الانتخابية وكذلك جهدا قيما من اجل تثبيت الديمقراطية الحقيقية - التي يجب تعريفها بانها يجب ان تبنى على أساس من المساواة الراديكالية والمشاركة المباشرة للمواطنين العاديين في الحياة الاجتماعية والسياسية والاقتصادية.
من هذا المنطلق، فإن عام 2011 يشكل عام الانفجارات الشعبية. فالتعبئات الشاملة واحتلال الأماكن العامة من ميدان التحرير إلى حديقة Zuccotti في نيويورك تصدع التاريخ المفتوح وتسمح بان يحتل نقد متجدد للرأسمالية والتمثيل الاتتخابي الواجهة. في لحظة وجيزة، على الأقل، يتدفق الخيال الجذري بحرية. بالنسبة للكثيرين، المشاركة في هذه الأحداث كانت تجربة تحول عميق تم ترحيلها الى حياتهم اليومية، حيث بدأت تتجذر وتتفرع في علاقات اجتماعية وأشكال جديدة من المشاركة السياسية. اليوم, ينافش الكتاب مئات من "مختبرات للديمقراطية" آخذة في الظهور في جميع أنحاء العالم، التي تسمح لخلق مساحة للمواطنين العاديين لتجربة أشكال بديلة من التنظيم الاجتماعي، وعمليات صنع القرار الديموقراطي وطرق غير هرمية من العلاقة. في جنوب أوروبا وأمريكا اللاتينية، على وجه الخصوص، فان مشروع الاستقلالية الذاتية يزداد تأثيرا في وضع بصماته على النسيج الاجتماعي.
خلافا لحركة Occupation ، فإن المبادرات المدارة ذاتيا الأكثر حداثة التي ظهرت منها تتمتع بمرئية اقل، وتتعرض الى حد كبير من الاهمال من وسائل الإعلام وحتى الى عدم تقدير من قبل اليسار المؤسساتي. ونتيجة لذلك، فإن النقاش العام في الولايات المتحدة وأوروبا اليوم يفتقر, إلى حد كبير, الى منظور القاعدة الشعبية المناسبة. لحسن الحظ، Sitrin وAzzellini في وضع ممتاز لتصحيح الامور بعد أن شاركا بفعالية في الحركات نفسها، وبعد أن أجريا عشرات المقابلات مع المشاركين الآخرين، وبعد أن قضيا عدة سنوات كجزء لا يتجزأ من الحركات السابقة في الأرجنتين وفنزويلا، ولذلك فانهما قادرون على التفكير سواء في اعماق الحركة ودواخلها, اضافة الى معرفتهم الملموسة بالسياق العالمي التي نشأت فيه هذه الحركات.
علاوة على ذلك، Sitrin وAzzellini يحملون لقب الكتاب على محمل الجد. بدلا فقط من محاولة "تمثيل" أصوات الحركات، يخصص جزء كبير من الكتاب إلى أصوات الناشطين والمنظمين أنفسهم ويحتوي مجموعة مختارة جيدة ومنسقة بعناية من نصوص المقابلات التي توفر للقارئ فكرة رائعة في الرؤى السياسية لمنظمي الحركات, فضلا عن العديد من النضالات الاجتماعية، والمشاريع السياسية والمبادرات المجتمعية التي ظهرت في أعقاب التصدعات الأخيرة - بدءا من الجهود لاستعادة المصانع ووقف خصخصة المياه في اليونان، الى مقاومة إخلاء البيوت في إسبانيا, او "اطفاء الديون" في الولايات المتحدة.
جلبت بعض هذه الجهود الملهمة انتصارات جزئية. في نفس الوقت، فمن الواضح أنه، على العموم، فإن الحركات كانت حتى الآن غير قادرة على خلق تأثير حقيقي في توزيع أعلى إلى أسفل للسلطة. وبصرف النظر عن عدد من الحملات العرضية الواعدة، فقد تلاشت Occupy في الولايات المتحدة إلى حد كبير، في حين أن حركة الميادين في اليونان وإسبانيا (على الرغم من استمرار التعبئة الجماعية) لم تنجح حتى الآن في وقف حملة التقشف من قبل حكوماتها. في مقال نشر مؤخرا, تلقي منظمة Not An Alternative, ومقرها نيويورك, اللوم في نهاية المطاف لفشل Occupy على ما اسمته ب fetishization -اي الاهتمام المفرط بالعملية لوحدها على حساب جهود بناء نموذج سياسي بديل قادر على تحدي بمصداقية لهياكل السلطة المهيمنة. وبنفس المعنى فان أبحاث منظمة اخرى, مقرها في كاليفورنيا, نسبت فشل الحركة لعدم قدرتها على تحقيق تطابق وسائلها مع غاياتها. هذه الانتقادات تثير سؤالا مهما: هل يمكن لحركات الحكم الذاتي التي تؤكد الأفقية والتنظيم الذاتي من أي وقت مضى ان تشكل تحديا حقيقيا للنظام الرأسمالي على هذا النحو؟
Sitrin وAzzellini لا يعالجان هذه المسألة بشكل مباشر, لكنها يتطرقان في ما هو ربما أكثر الفصول روعة وفائدة في كتابهما بخصوص الأرجنتين وفنزويلا. مثل الولايات المتحدة وأوروبا اليوم، شهدت هذان البلدان في أمريكا اللاتينية تمزقا خطيرا بعد فترة من إعادة الهيكلة النيوليبرالية السريعة. في عام 1989، جرت حملة قمع وحشية في كاراكاس من قبل الدولة ضد الاحتجاجات على اجراءات صندوق النقد الدولي - ما يسمى ضربة كركاس -, التي ادت الى قتل الآلاف ومهدت الطريق لانتشار الحركات الشعبية وظهور العمليات البوليفارية. في الأرجنتين، حدثت انتفاضة عفوية في ديسمبر 2001 أطاحت بالرئيس دي لا روا، وأدت إلى الامتناع عن سداد اكبر الديون في تاريخ العالم، فضلا عن ارتفاع كبير في التعبئة الاجتماعية الأفقية والتنظيم الذاتي واسترجاع اماكن العمل. تظهر هذه الأمثلة أن الحركات الشعبية لها دور حاسم في التحول الاجتماعي.
تترك فصول أمريكا اللاتينية العديد من الأسئلة التي لم يرد عليها الكتاب. الأهم من ذلك، يبدو أن هناك توترا بين حالتي الأرجنتين وفنزويلا بخصوص العلاقة التي تنشأ من علاقة الحركات بالدولة. بينما وصف الكتاب دور الدولة في الأرجنتين بكونه سلبي في معظمه لسعى الرئيس الارجنتيني وقتها Kirchner لتمييع الحركة من خلال استراتيجية مزدوجة من القمع والانتقائية. ولكنه يصور العلاقة بين الدولة والحركة في فنزويلا بكونها أكثر تناقضا، باعتبارها تحتوي على عنصري الصراع والتعاون كلاهما. يبدو ان الأرجنتين تترك أملا ضئيلا بحدوث تحالفات استراتيجية بين القوى الاجتماعية المستقلة والأحزاب الوطنية الشعبية، في حين يسلط الكتاب الضوء على تجربة فنزويلا والطرق المختلفة التي تسلكها القوى التقدمية في التغلغل في الدولة والتي يمكن أن تخلق مساحة لحركات الحكم الذاتي لبناء بدائل شعبية خاصة بها من أسفل.
ما الذي نفهمه من هذه التجارب المتباينة إلى حد ما؟ ماذا تخبرنا من حيث الاستراتيجية؛ من حيث تطابق الاساليب والغايات؟ في هذه المرحلة من النضال، لم تعد مثل هذه الأسئلة هي مجرد اسألة أكاديمية. ان صعود اليمين المتطرف في اليونان - وإلى حد أقل في إسبانيا - يحتم على نشطاء القوى في الحركات المستقلة باتخاذ موقف: إما أنها تدعم الأحزاب اليسارية بكل إخلاص، أو أنهم يعارضونها ويصروا على الحكم الذاتي الراديكالي بعيدا عن الدولة، أو أنهم يجدون نوعا من الأرضية المشتركة, حيث يمكن للمرء التصويت لصالح اليسار وحتى ان يكون حليفا معها في مناسبات استراتيجية للدفاع عن أي تقدم محرز، مع الاستمرار في العمل, ضد وخارج الدولة, من اجل عالم ما بعد الرأسمالية الذي يمكن ان يشكل الهدف المشترك.
وينتهي الكتاب في منتصف مقابلة دون أي ملاحظات ختامية من المؤلفين. ولكن لا شيء من هذا، ومع ذلك، يمكن أن ينتقص من أهمية الكتاب في هذه المرحلة التاريخية. الآن، أكثر من أي وقت مضى، نحن بحاجة للحفاظ على نظرة ثاقبة لدينا حول الأزمة المتفاقمة للتمثيل الاقتراعي والبدائل الواقعية التي هي بالفعل يجرى بناؤها من الأسفل.
أما بالنسبة لمسألة أعمق - في كثير من الأحيان يثير اليسار الشيوعي السؤال- عما إذا كان أو لم يكن مفهوم الديمقراطية يوفر نقطة انطلاق مفيدة للنضال المناهض للرأسمالية؟ ربما ينبغي للمرء أن يرد على هذا التساؤل باقتباس من C. Douglas Lummis، الذي يقول فيه " الديمقراطية كانت تعني كلمة الشعب، الكلمة الحاسمة، الكلمة الثورية": ان كتاب Sitrin و Azzellini يبدو أكثر اقناعا من أي وقت مضى. فقد سرقت اليموقراطية من قبل أولئك الذين يحكمون الناس، لإضافة الشرعية على حكمهم. وحان الوقت لإستعادتها.
(C. Douglas Lummis كاتب وبررفسور في اجدى جامعات طوكيو, وهو اكاديمي بارع واحد المنتقدين الاشداء للسياسة الخارجية للولايات المتحدة, ومن اهم كتبه Radical Democracy)
مصادر ذات صلة
1- http://roarmag.org/2014/06/they-cant-represent-us-sitrin-azzelini/
2- http://www.versobooks.com/books/1433-they-can-t-represent-us
3- http://roarmag.org/2014/06/they-cant-represent-us-sitrin-azzelini/
4- http://www.pewglobal.org/2013/05/13/the-new-sick-man-of-europe-the-european--union-/
5- http://roarmag.org/2014/06/counter-power-as-common-power/
6- http://roarmag.org/2014/06/the-wreck-of-the-plaza/
#طلال_الربيعي (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟