|
الرواية: مستهل الفصل الرابع
دلور ميقري
الحوار المتمدن-العدد: 4478 - 2014 / 6 / 10 - 09:23
المحور:
الادب والفن
{ إنّ الخوفَ، مثلما تقول تجربتي لا عقيدتي، هوَ نبعُ الإيمان. نبعٌ، مَصْدرُهُ ومصّبُهُ موجودان في عالمنا الأرضيّ وليسَ في عالم الغيب. وما النفسُ البشريّة، في آخر المطاف، سوى الجدول لهذا النبع؛ الجدول الوحيد، المَوصول بين الدنيا والآخرة. إنها حقيقة، ربما أدركها أنبياؤنا على الرغم من أنهم فضلوا تجاهلها. فالنصوص المقدّسة، تفرض على المؤمنين بها الإيمان القائم على النزاهة لا المصلحة. بكلمة أخرى، إننا مؤمنون كنتيجة لخوفنا من عذاب الآخرة وليسَ بسبب شتى المخاوف التافهة، الدنيويّة. ولكن، أمن السهل إنكار هكذا مخاوف بالنسبة لطائفة صغيرة ـ كيهود موغادور، مثلاً..؟ هذا ما قلته لصديقي، التاجر الدمشقي، رداً على ما أثاره من تساؤل حول مصدر الإيمان؛ أهوَ النبوّة أم العقل. لقد شاءَ أن يتحدث أولاً عن الترجمة، وأنها برهانٌ على حكمة الله في خلق الناس شعوباً وقبائل. فلولا الترجمة، بحَسَب رأيه، لما كان بإمكان الرسالة المحمديّة أن تفتحَ قلوبَ الناس على الإيمان في الأمصار غير العربيّة، التي سبق وتمّ فتحها بالقوّة. بيْدَ أنّ صديقي طرَحَ من ثمّ هذه المعضلة، وهيَ أنّ العقل هوَ المفترض أن يقود الإنسان إلى الهداية طالما أنه مركز التفكير. بمعنى أنّ الترجمة ستمرّ من لسان إلى لسان، من خلال إعمال الفكر قبل كلّ شيء. فالترجمة، والحالة كذلك، تصبحُ نقيضَ الفطرة. ثمّ اعترف ضيفي، أنه كان قد قرأ مثل هذه المحاججات في كتابٍ لأحد الأقدمين يرّد فيه على طائفة المعتزلة، المنشقة، التي تبّنت فكرة أنّ العقل هو مصدر الإيمان لا النبوّة. هنا، يجدر بي الإشارة إلى أنني من كنتُ بالواقع ضيفاً على التاجر الدمشقيّ؛ هوَ من حاز على داري لقاءَ سعر رمزيّ إثرَ إعادة دار الأسرة الآخر لملكيّتي. الظهيرُ السلطانيّ، المُثبّت حقوقي في الدار كوريثٍ وحيد، قدِمَ قبل موعد المزاد، الذي أجِّل أصلاً بسبب الحركة الأخيرة للقبائل المتمردة. وإذاً، كان منحي الدارَ لصديقي الدمشقي هوَ نوعٌ من العرفان أكثر من كونه ردّاً للجميل. وقد داعبته وقتئذٍ بالقول، أنّ النيّة لا الفعل بحدّ ذاته، هيَ أساسُ مبدأ الثواب في الدين المحمديّ. وكما يجري التقليدُ، هنا في القصبة، كان يتعيّنُ كتابة لوحة جديدة على مَدخل الدار، تنبأ بإسم صاحبها وتاريخ تملكه لها. فلما أعلمتُ صديقي بالأمر، فإنه أجابني بتحبيذه أن تكون اللوحة على الشكل التالي: ‘ دار الكردي ـ عام 1953 ‘ } من مذكرات يوسف بن عمران، الورقة رقم 44 ................................................... 1 " عندما وقعَ بصَري عليكَ، لأول مرّة، انتابني شعورٌ بكوننا شريكين في سرّ ما " خاطبَ الرجلُ الملثمُ ضيفَ الدار، قبل أن يكشفَ وجهَهُ بجَلاءٍ ـ كهذا النهار الكئيب، المُحتفي بشمسٍ مُحَنطة. عند ذلك، تيقن " جانكو " من صدق تخمين الرابي؛ بأنّ قائدَ هؤلاء المهاجمين، المتهاتفين بلغة البربر، لم يكن سوى شقيق " التيناوي "، رفيق حجرة الحجز في حصن الجزيرة: هذا الأخير، كان قد اقتحمَ فجراً منزلَ الرابي برفقة فرسان شقيقه. ويبدو أنّ الأمرَ جرى في أعقاب تحرير الرجل من السجن، الكائن على طرف المَشْوَر في الجهة المطلّة على مناشر الجلود. وما أثارَ الريبة، هوَ سرعة سيطرة المتمردين على القصبة، على الرغم من مناعة سورها، بله سهولة اجتيازهم للعائق الأول، الأكبر، المتمثل بأسوار المدينة وأبراجها. الرابي، في واقع الحال، كان هوَ من ارتابَ في خيانةٍ، أو تواطؤ، حينما جاء من يخبِّر في فترة متأخرة من الليل بإحداق المتمردين بمدخل القصبة: " يا ربّ الجنود، كيف يمكن خلال ساعاتٍ قليلة الوصول من وادي القصب إلى موغادور ومن ثمّ اقتحامها..؟ "، ردد الرابي أكثر من مرة على مسامع ضيفه. وإلى الأخير، كان على " جانكو " أن يستأذن المُضيفَ في الذهاب إلى فراشه، طالما أنّ استمراره في السهاد والضنك كان ضرباً من العبث. ولكن، لم تكن قد مضت ساعاتٍ قليلة على رقاد تاجرنا الدمشقيّ، إلا وتعيّن عليه أن يثِبَ قائماً بعدما أوقِظَ على جلبة أهل الدار ومهاجميها على حدّ سواء. " إلى مَ يرمي هذا الأفّاق بقوله المُلغز، المُريب؟ " فكّرَ التاجرُ، فيما طائرُ القلق يُدوّم فوق رأسِهِ وكما لو أنه قد هبط للتوّ مع عصافير الحديقة، المُبكّرة في ايقاظ أشجارها وتعريشاتها. ثمّة، في المنظرة، كانت شمسُ الصباح الساطعة قد تغلغلت خِلَل بلور النوافذ والشمسيات، الملوّن. إذ ذاك، كان بوسع التاجر أن يتطلع ملياً في سحنة رفيق الرحلة البحرية، مُستعيداً بلمحةٍ أول لقاء معه على سطح الباخرة. في الأثناء تمهّل " التيناوي " بإعداد غليونه الدقيق الحجم، المَنحوت من فرع شجيرة زيتون حيّة، متبرّكة بجيرة وليّ ميّت: " هل جرّبتَ، مرّةً، تدخينَ السّبْسب المغربيّ..؟ "، عاد الضيفُ الدخيلُ لمخاطبة ضيف الدار، الأصيل. ثمّ أضافَ في نبرةٍ مظهّرة بالتهكّم " إنّ معجونَ الكيف هذا، هوَ من أهم ورادات المرسى، المُستجلبة من مستعمرات الإنكليز الصينيّة "، قالها فيما كان يُشعل غليونه. على الأثر، باحَ فوحٌ كثيف، فاترٌ، بمكنونات سرّهِ وكأنما يُمهّد لأسرار الأنس أن تحذو حذوه. هوَ ذا " التيناوي "، مُتمهلاً دائماً، ينقل سُبْسُبَهُ إلى يده اليسرى كي يتيحَ لليمنى أن تستخرج لفافةً مطويّة بعناية: " لا أدري ما إذا كان عليّ شكرك أو الاعتذار منك، كونك خلّصتني من ورطةٍ مُستطيرة..؟ "، تساءل الرجلُ وهوَ يلوّحُ باللفافة ثمّ استطردَ: " لقد اضطررتُ لإخفاء هذه ضمن متاعك، طالما أنك تاجرٌ غريب وبعيدٌ عن الشبهات. في واقع الحال، فإنها لم تكن لتثير ريبة ذلك القائد الغبيّ، المغرور، إلا لو كان قد عثرَ عليها معي ". إلا أنّ " التيناوي "، في المقابل، لم يُفصح بشيء عن سرّ اللفافة، لا بل وأعادها إلى مخبئها طيّ ملابسه. " كان صديقي اليهوديّ على حقٍ، إذاً، عندما شكّ بكونك على صلة بالنصارى " خاطبَ التاجرُ الرجلَ البربريّ في سرّه، متوجّساً من أنّ " الورطة " قد أضحت من نصيبه هوَ. لم يكن ثمّ شاهدٌ على الموقف، طالما أنّ الرابي نفسه كان متغيّباً عن الدار في مهمّةٍ ما، بتكليفٍ من المهاجمين أنفسهم. بيِدَ أنّ ذلك، على أيّ حال، لم يُهوّن من هواجس تاجرنا، حتى أنه لم يهتمّ بمعرفة ما تحتويه اللفافة. الآخرُ، من ناحيته، لم يتأخرَ في بيان ما كانت تحمله يَدُهُ: " إنها صِفَةُ عِطارة، إذا كان هذا يهمّك. ولكنها منذورة لقتل النفس لا تطبيبها "، قالها مُمعناً في التعميَة. حينما لم يَفُز من التاجر الغريب بكلمة، آثرَ البربريُّ الصمتَ وقد ظهرَ الاستياء على ملامحه الجهمة، الصارمة. هذا الصمتُ، ما عتِمَ أن بُتِرَ بفعل جلبَة صادرة من مكان ما في المنزل. رفيقا الرحلة، كان عليهما أن يلتفتا معاً نحوَ مدخل المنظرة، طالما أن الضجّة أضحت أكثر وضوحاً في تلك الجهة. على الأثر، ظهرَت ربيبة " بوعزة " وهيَ تقاوم بشدّة رجلين من أتباع الزعيم المتمرّد كانا يجرانها بالقوّة. " ما هذا..؟ كيفَ سوّلتْ لليهوديّ نفسُهُ استرقاق بناتِ المسلمين؟ " هتفَ " التيناوي " وقد احمّر وجهه من التأثر، بعدما انتهى من استجواب مدبرة المنزل مُستخدماً لغة الشلحيت. وبما أنّ خطابَهُ الأخيرَ كان بالعربية، فإنّ التاجر الدمشقيّ اعتبره موجهاً إليه. ها هوَ يتكلّم، لأول مرة، مُجيباً تساؤل الرجل البربريّ " على علمي، أنّ السيّد الرابي رفضَ ايواء هذه الفتاة لولا إلحاح من جلبها، كونها معرضة لخطر البيع في سوق الجواري ". هزّ الآخرُ رأسَهُ في علامة إنكار وشكّ: " ما هذا الكلام الغريب؟ متى كانت بنات المسلمين يُعرَضن في ذلك السوق؟ "، تساءل ثانيةً بنبرة ساخطة. هنا، فرَدَ التاجرُ الغريبُ يدَهُ في حركة أخرى، تعلن عجزه عن الجواب. عند ذلك، سدّدَ البربريّ إلى مواطنته الفتيّة نظرةً متمهّلة، شاملة، وقد بدت الحيرة على ملامحه. هكذا نظرة، شاءت أن تبلبل خاطرَ تاجرنا على الرغم من حقيقة، أنّ حضوراً أنثوياً آخر كان يشاغله مذ ليلة الأمس. غيرَ أنّ الخاطرَ هدأ نوعاً، لما لوّحَ " التيناوي " إلى آسري الفتاة بإشارة من يده، مرفقة مع جملة مقتضبة بلغتهم. وسرعان ما أخلى المسلحان سبيلَ البنتِ المعنيّة، وكأنما ليفسحا المجال لها أن تتبعهما إلى داخل المنزل. عندئذٍ، التفتت هيَ نحوَ " جانكو " وقد شاعَ في عينيها وشفتيها ما يُشبه ظلّ ابتسامة. ° مستهل الفصل الرابع من رواية " تاجرُ موغادور "..
#دلور_ميقري (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
سيرَة حارَة 19
-
تاجرُ موغادور: الفصل الثالث / 7
-
تاجرُ موغادور: الفصل الثالث / 6
-
تاجرُ موغادور: الفصل الثالث / 5
-
سيرَة حارَة 17
-
تاجرُ موغادور: الفصل الثالث / 4
-
تاجرُ موغادور: الفصل الثالث / 3
-
تاجرُ موغادور: الفصل الثالث / 2
-
تاجرُ موغادور: مستهل الفصل الثالث
-
تاجرُ موغادور: الفصل الثاني / 6
-
تاجرُ موغادور: الفصل الثاني / 5
-
تاجرُ موغادور: الفصل الثاني / 4
-
تاجرُ موغادور: بقية الفصل الثاني
-
تاجرُ موغادور: تتمة الفصل الثاني
-
تاجرُ موغادور: الفصل الثاني
-
تاجرُ موغادور: تكملة الفصل الأول
-
تاجرُ موغادور: متابعة الفصل الأول
-
تاجرُ موغادور: بقية الفصل الأول
-
تاجرُ موغادور: تتمّة الفصل الأول
-
تاجرُ موغادور: الفصل الأول
المزيد.....
-
رحيل عالمة روسية أمضت 30 عاما في دراسة المخطوطات العلمية الع
...
-
فيلم -الهواء- للمخرج أليكسي غيرمان يظفر بجائزة -النسر الذهبي
...
-
من المسرح للهجمات المسلحة ضد الإسرائيليين، من هو زكريا الزبي
...
-
اصدارات مركز مندلي لعام 2025م
-
مصر.. قرار عاجل من النيابة ضد نجل فنان شهير تسبب بمقتل شخص و
...
-
إنطلاق مهرجان فجر السينمائي بنسخته الـ43 + فيديو
-
مصر.. انتحار موظف في دار الأوبرا ورسالة غامضة عن -ظالمه- تثي
...
-
تمشريط تقليد معزز للتكافل يحافظ عليه الشباب في القرى الجزائر
...
-
تعقيدات الملكية الفكرية.. وريثا -تانتان- يحتجان على إتاحتها
...
-
مخرج فرنسي إيراني يُحرم من تصوير فيلم في فرنسا بسبب رفض تأشي
...
المزيد.....
-
مختارات من الشعر العربي المعاصر كتاب كامل
/ كاظم حسن سعيد
-
نظرات نقدية في تجربة السيد حافظ الإبداعية 111
/ مصطفى رمضاني
-
جحيم المعتقلات في العراق كتاب كامل
/ كاظم حسن سعيد
-
رضاب سام
/ سجاد حسن عواد
-
اللغة الشعرية في رواية كابتشينو ل السيد حافظ - 110
/ وردة عطابي - إشراق عماري
-
تجربة الميج 21 الأولي لفاطمة ياسين
/ محمد دوير
-
مذكرات -آل پاتشينو- عن -العرّاب-
/ جلال نعيم
-
التجريب والتأسيس في مسرح السيد حافظ
/ عبد الكريم برشيد
-
مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة
/ د. أمل درويش
-
التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب
...
/ حسين علوان حسين
المزيد.....
|