نضال الربضي
الحوار المتمدن-العدد: 4465 - 2014 / 5 / 27 - 12:16
المحور:
المجتمع المدني
البابا فرنسيس في عمان – انطباعات
تأفأفت كثيرا ً عندما علمت ُ أن أول مناولة ريتا ستكون ُ يوم سبت، يوم عطلتي الأسبوعية، و تأفأفت أكثر عندما دعانا الأب طارق لاجتماع ٍ مساء الأربعاء الذي يسبقه لإطلاعنا كأهالي على ترتيبات الاحتفال، فعلمت ُ أنه على الرغم من كون الاحتفال مسائيا ًإلى أن الحضور صباحي و من العاشرة و النصف صباحاً. و قد احتمل الأب طارق تعليقاتي اللاذعة في الاجتماع بقلب ٍ محب و ابتسامة ٍ عفوية، جعلاني أخجل ُ من نفسي و أكفُّ.
و بين الاربعاء و السبت جلست مريم تسالني عشرات الأسئلة عن بعض التعليقات الظاهرة على النت عن "نجاسة البابا" و عن "لا أهلا ً و لا سهلا ً" و عن "الحروب الصليبية" مسمار جحا الذي يظهر كل حين ٍ و مين ٍ و يتم استدعاؤه بمناسبة و دون مناسبة حتى لو عطس مسيحي في شارع ٍ فجأة ً فهربت قطة ٌ من المكان! و عن و عن و عن و عن.
وجدت طفلتي الصغيرة تقول و بكل براءة: أنا بكره هذول الناس اللي بكتبو هيك!
شعرت ُ بالخوف، فجأة ً و بدون مقدمات، فرفعت ُ صوتي فيها: بتكرهي مين بابا؟ كيف بتحكي بكره؟؟؟؟؟؟؟!!!!!!
تجمد َ وجهها فلقد كان موقفي مفاجئا ً غاضبا ً لم أتوقعه أنا نفسي، اعتذرت ُ منها، و شرحت ُ لها أن الكراهية مرض ٌ يقتل ُ صاحبه قبل أن يقتل الخصم، و أن القلب يجب أن يمتلأ بالحب، و أن الحب يجعل منها إنسانا ً أفضل، و دار نقاش ٌ استخدمت فيه مريم كل ما علمتها من أساليب التفكير و النقد و الحوار بندية و إن كانت طفولية إلا أنها فعالة، دفعتني لأن أعترف لها بحقها في أن تغضب و تشعر بالكره لهؤلاء العنصرين.
أخبرتها أن الغضب و الكراهية لا يجب أن يستمرا، و أن عليها أن تخرجهما من نفسها فورا ً، بأن تفهم أن هؤلاء العنصرين الذين لا تعرفهم و لا يعرفونها لا يجب أن يصيغوا نظرتها للحياة، و لا أن يكونوا الأساس الذي ستبني عليه رؤيتها، ذكرتها بأبناء جيراننا المسلمين الذين تلعب معهم و يحبونها و تحبهم، ذكرتها بأصدقائنا، ذكرتها برجال الأمن، بالشرطة، بالجيش، ذكرتها بجميع المسلمين الذين التقتهم، و سألتها: هل هم مثل الأشخاص الذين على الفيسبوك؟ أجابت: لا.
أعلم أبنائي الحب، و أعلمهم أيضا ً فن الحوار، لرد من يتطاول عليهم، حتى إذا امتلأت قلوبهم بهذا الحب و استطاعوا رد المعتدي بالحجة بقي قلبهم صافيا ً لم يخالجه ظلم ٌ يدفعه لأن يتعكر أو يفسد. بقيت ُ أنا نفسي غاضبا ً مدة ً أطول لأنني شعرت بالحنق على أولئك الحمقى الذين تدفعهم عنصريتهم و طائفيتهم و ضيق أفقهم إلى كراهية الناس و التصريح بالكراهية، أولئك الذين يجعلون من مهمة تربيتي لأطفالي مهمة ً صعبة، يستنفذون من طاقتي و جهدي الكثير للتعامل معهم في الوقت الذي يجب أن أضع الوقت و الجهد فيما يفيد.
صباح السبت انطلقنا لموقع الاحتفال، انتشرت على جانبي الطرقات قوات الدرك الأردني النبيلة، جباها ً سمرا ً لوحتها الشمس، مئات ٌ منهم تقف واجبا ً عسكريا ً لا يعرف ُ التخاذل، يعاملون الناس بكل الاحترام و المحبة، تحس فيهم روح القرية الأصيلة، و روح البادية ِ الأردنية ِ الطيبة، أردنين كراما ً كما عرفناهم و عرفونا. ذهب من نفسي كل ما قرأتُه على النت من بذاءات بوقفات أبناء وطني الحبيب.
شدني في البابا فرنسيس ابتسامته التلقائية، حضوره العفوي غير المتقيد بالبروتوكولات، هالة ُ الحب المحيطة به، لم أحس أنه سياسي أو قيادي، أو رجل سلطة، أحسست أنه أب ٌ محب، يقود ُ اليوم َ كنيسة ً عليها ما عليها و لها ما لها، كنيسة ً فيها بذرة ُ خيرٍ، و تدعو إلى خير، و تريد خيرا ً.
يذكر ُ الكثيرون أخطاء الكنيسة التاريخية، و صدقوني أني أعرف هذه الأخطاء جيداً، لكني لست ُ بظالم ٍ أو حاقد، كما أنني لست ُ من محبي أسلوب "عنزة و لو طارت" و هو الأسلوب الذي يحمل ُ موقفا ً مسبقا ً يريد أن يسوقه بأي طريقة، و لا أسلوب النعامة الدافنة َ رأسها في الرمال و التي لا ترى حقا ً و لا باطلا ً، إلا ما في حفرتها.
يذكر الناس الكنيسة َ الكاثوليكية ليتكلموا عن الحروب الصليبية، و مجازر الهنود الحمر، و محاربتها للعلم و العلماء، و اغتصابات الأطفال، و وقوفها ضد أساليب منع الحمل و استخدام الكوندومز و يتهمونها بالمشاركة في نشر فيروس ال HIV المسبب لمرض الإيدز، و كأنها تقول للناس: أقيموا العلاقات كيفما شئتم لكن بدون كوندومز، بينما هي تقول: امتنعوا عن الجنس قبل الزواج، و عندما تتزوجوا أخلصوا لأزواجكم و زوجاتكم. يذكرها الناس دوما ً بالسوء، دوما ً محاطة ً بالفضائح و الفظائع دون دافعها، يسوقون الجمل المُجتزءة دون سياقها، و يأتون بالمجمل لتميع القضايا و تغيب المعاني، و يتهمون و يكررون الاتهامات و و و و و
لا أريد أن يُفهم من مقالي أنني مُدافع عن الكاثوليكية، فأنا دوما ً مع الإنسان و مع الحق. لكن يجب أن تُقال الحقائق كاملة ً ما عليها و ما لها، ما زالت الكاثوليكية قلعة ً صلبة ً ضد كل ما ينتهك كرامة الإنسان في الحياة، فالإجهاض الذي أصبح اليوم "موضة"، هو عار ٌ على الضمير و التشريع الدستوري، و الكنيسة مُزعجة جدا ً لهؤلاء الذين يسعون لفتح أبواب الإجهاض على مصاريعها، و أنا أرى أن الأم التي تفشل إنسانيا ً في احتضان ِ الحب الذي ينمو في داخلها تقتل نفسها أولا ً قبل أن تقتل طفلها، و أن تشريع الإجهاض هو خطر على الجنس البشري كاملاً، أي ُّ خير ٍ ظل فينا إن أصبحنا قتلة ً لصغارنا قبل أن يولدوا؟
ترتفع أعداد ُ المصابين بالأمراض المعدية كالكبد الوبائي B و C و الـ HIV و الـ HPV و غيرها من أكثر من عشرين مرضا ً ، و كلها تنتقل ُ جنسيا ً أو عن طريق الدم، و على الرغم أن على الكنيسة أن تتطور لتقبل استخدام الكوندومز و هذا ضروري جدا ً برأي، إلا أنها ما زالت تتجه للشباب و الشابات و تتكلم معهم بصراحة و وضوح، لتبرز أمامهم التحديات الأخلاقية التي تواجههم، و تعلمهم أن حل المشاكل في الحياة يكون عن طريق الاعتراف بالصعوبة أولا ً و العمل متكلين على النعمة الإلهية و الإرادة متحدتين. لن أناقش هنا الجانب اللاهوتي، لكني سأناقش الجانب الإنساني، و هو الإرادة التي تركز عليها الكنيسة كل التركيز، و التي من شأنها أن تجعلهم قادرين على حل مشاكلهم دون اللجوء للمخدرات، كما و تساعدهم على تصريف طاقاتهم دون اللجوء للجنس قبل الزواج، و بواسطة قنوات اختلاط مدروسة لجماعات أصدقاء في العلن في نوادي اجتماعية، أو علمية أو رياضية أو كنسية .
أجد ُ أنه من شديد الخبث و التدليس أن يتم اتهام الكنيسة بأنها داعمة ٌ للموت في الوقت الذي تتجه ُ فيه لزرع قيم الحب و الحياة في النفوس، كما أجد ُ أن من شديد الظلم و التبخيس أن لا تُذكر إلا بشرٍّ مستطير و وبال ٍ و نذير، و أن يتم تجاهل كل ما ساهمت به حضاريا ً حتى اليوم من تطوير ٍ للغات، و العلوم (مع اعترافنا بأخطائها) و آخرها الراهب غريغوري مندل مكتشف قوانين الوراثة. تُرى هل صدفة ً أو جهلا ً أو خُبثا ً لا يتحدث أحد ٌ عن ست ِ آلاف ٍ و ثمانِمئة مدرسة ٍ كاثوليكية (6800) يدرس فيها مليونا (2 مليون) تلميذ ٍ و تلميذة ٍ حسب إحصائيات العام 2013؟ هل صدفة ً أو جهلا ً أو خُبثا ً لا يتحدث أحد ٌ عن ما مجموعه مئة و خمسةٍ و ثلاثين ألف (135 ألف) مدرسة ٍ تم إحصاؤها كعدد ٍ تراكمي للمدارس الكاثوليكية خلال المئة عام الماضية، تخرج منها حوالي ثمان ٍ و أربعين مليونا ً (48 مليون) تلميذا ً و تلميذة ً؟
لا يتحدث أحد ٌ عن المشتشفيات و المراكز الطبية الكنسية و التي بلغ عددها في العام 2010 حوالي مئة و سبعة عشر ألف مركزا ً و عيادة ً و مستشفى ً (117 ألف) تتوزع على جميع أنحاء العالم، تقدم الخير للجميع بدون تميز، و منها تتربع ُ تسع ٌ على قائمة ِ أفضل 100 مستشفى في الولايات المتحدة الأمريكية.
ليست الحقيقة ُ الجانب السلبي فقط، و ليست كذلك الجانب الإيجابي فقط، إنما هي الصورة ُ الكاملة ُ الناتجة ُ عن تفاعل ِ كل عناصر ِ التأثير في كيان ِ ما بحسب هويته و صفاته و رؤيته و منهجه. و هي أي الصورة ُ الكاملة الوحيدة ُ التي يمكنها أن تخبرنا عن ماهية ِ هذا الكيان، لا جزئياتها منفردة ً، و إني أعلم أن الكثير يفهمون هذا لكنهم ينساقون َ نحو الحل الأسهل و الأضمن لتمرير ِ وجهات نظرهم المسبقة و التي لا شأن لها بالموضوعية لكنها مجرد تنفيس ٍ عما يعتمل ُ في داخليتهم أو لتبرير ِ موقف ٍ غير إنساني على حساب الآخر.
تبقى زيارة البابا فرنسيس مناسبة إنسانية ً كبيرة، نجتمع ُ فيها على الحب الذي من دونه لسنا شيئا ً بكل علومنا و تكنولوجيتنا و تقدمنا، فإن مصدرنا الأساسي هو الحب الذي جمع الأب و الأم، فخرجنا ثماره. فإن كنا نضع الحب جانبا ً أو نقاتله حتى ننتصر على الآخر، فبئس البشر قد أصبحنا! لكن ثقتي في الطيبين الخيرين قوية ٌ لا تتزعزع!
أهلا ً بفرنسيس!
معا ً نحو الحب، معا ً نحو الإنسان!
#نضال_الربضي (هاشتاغ)
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟