|
حلم الزيارة / تقرير حول المعاناة الإنسانية لأهالي الجولان المحتل
ليلى الصفدي
الحوار المتمدن-العدد: 1255 - 2005 / 7 / 14 - 12:51
المحور:
حقوق الانسان
كل الوقت وابنتي الصغيرة تظن أن أباها هو أبي، فهي ولدت ولم تسمعني مرة أنادي أبي او أمي، وفي أول يوم تتركني فيه إلى الروضة تساءلت وللمرة الأولى بعمق وهي تبكي: "أمي وين اهلك أنتي"؟؟ تختلف الكلمات وتتنوع القصص والصور ولكنها تشترك جميعا في الحزن.. الألم.. الدمعة. تقصر او تطول مدة غيابنا.. يكبر او يصغر ألمنا.. ننسى.. نتذكر.. نتألم.. نبكي.. نكبر...... وربما تموت وحدك من يدري؟! ومن سيهتم لأمرك إن كبرت وعشت وحلمك البسيط البسيط ينازع فرحك الحاضر ويشاكسه، حلم العودة للبيت الأول للحارة للأصحاب لمكان حفر في القلب دمعة لن تجف، وربما تجف!! فهذا البعد يشتت، يشعرك بموت جزئي، فعندما تغادرك سنوات من عمر من أحببت دون تواصل حقيقي.. فهذا موت من نوع أخر. عندما تغادر وجه أمك صاف مشرق، وتلقاه بعد سنين مليء بالتجاعيد ربما أنت السبب في نصفها، تبكي على نفسك.. على أمك، فمن يدري في المرة المقبلة ماذا سترى او ماذا ستسمع. ربما حكاية عائلة واحدة من الجولان كانت تكفي لتلخص المأساة بكاملها، ولكنها فرصة للبوح.. ولا نعرف إن كان التكرار والتعداد وتمثيل الواقع بقسوته من الممكن أن يحرك ضمائر الحكام والقادة... والهيئات. ربما سيعتقد القارئ البعيد أننا هواة موت ومعاناة وبكاء.... ربما سيشعر أنه يتابع فيلما عربيا قديما مغرقا في العاطفية والشعورية... لكننا لا نملك إلا صوتنا ودموعنا.. بالأمس خرج هايل أبو زيد بعد عشرين عاماً قضاها في المعتقلات الإسرائيلية، خرج بسبب إصابته بمرض السرطان... لم يمض ستة أشهر قضاها في العذاب والمعاناة تحت رحمة الممرضات حتى وافته المنية على سرير المرض.. هذا جانب واحد من المأساة فقط... كان هايل يحلم بياسمين الشام.. بأن يأكل بوظة في الشام كما أخبرتنا أخته هدية... فهي تعيش في الشام، ولم تستطع رؤية أخاها لا في فرحه ولا في حزنه... ولا في مأتمه... لهايل في دمشق أخت وأعمام وأولاد أعمام ... كحالنا جميعاً.. كان وداعهم لهايل وتعزيتهم به عبر الانترنت...
رغم كل القسوة التي اتسمت بها كلمة آل الفقيد "عماد أبو صالح" إلا أنها لم تحرك فينا ساكناً، ربما لتثبت لنا كم فيها من الحقيقة: "فبالله عليكم هل يوجد على وجه البسيطة حال يشبه حالنا؟ الأم تمنع من لثم وجنتي ابنها لتودعه الوداع الأخير؟ ويحرم الأب من أن يمسك بيدي ابنه ليبعث به الطمأنينة على فراش الموت؟ .بالله عليكم من يقبل بهذا الوضع المرير سوى الأموات؟ فرحيلك عنا اليوم ونحن مازلنا على هذا الحال يثبت لنا دون شك أننا أموات نمشي وأجساد تأكل وتشرب وعقول مشلولة أتعبتها الشرذمة ومزقها التناحر وأعياها طول المسير". عماد أبن الجولان تعلم في دمشق وتزوج هناك ورزق بطفلتين، كان الموت أسبق إليه من حضن والديه وبلده، توفي إثر حادث أليم في دمشق وفي ظروف أكثر ألماً تم تشييعه في بلده مجدل شمس. عندما تبدأ مأساة في الجولان فمن الصعب أن تنتهي في ظل هذه الظروف، فعماد غاب لكنه ترك زوجة وطفلتين فيهم بعض العزاء لأهله، لكن الأم السورية والتي دخلت الجولان بظروف استثنائية لتودع زوجها الوداع الأخير ولتتعرف ولأول مرة على بلده وأهله كانت مضطرة للعودة إلى سوريا بعد شهر لأنها لا تحمل الأوراق اللازمة للبقاء، عادت وهي مثقلة بأحزانها وتساؤلاتها التي لا تنتهي... أين سأعيش؟؟ والطفلتين أين ستكبران؟؟ "هزاع" ما أن سألناه حتى بدأ يسرد ذكرياته المؤلمة بتفاصيلها الدقيقة وكأنها فرصته الوحيدة للبوح عن الآم سنين متراكمة، "حلمي كان أن يقعد خزاعي جانبي وأضع يدي على رأسه..على وجهه.. أتلمسه بعد هذا الغياب لكن…….." حتى نظرة وداع أو لمسة على جسد ميت حُرم منها هزاع، فلم يكن هناك ونحن نبكيه إلا صورة نلمس زجاجها لنبث فيه دفء اللقاء ودفء الحياة، فخزاعي رحل عنا مرتين. ولعمتي أم خزاعي حكاية أخرى.. امرأة شاخت باكرا لان الحزن والشوق لأولادها الغائبين قاسمها عمرها، لا احد يتذكرها في البلدة إلا وهي تحمل همها وشوقها وأملها بالزيارة، تروح وتجئ وتقدم طلبات لأجل ذلك وتتفاءل وتقول: "وعدونا"، "يا عمتي أني متوقعة بس شوف خزاعي موت من الفرح"، "جمعت ألف دولار وخبزت ، خلص الأسبوع الجاي بدي روح على سوريا". يوم وراء يوم، وأسبوع أخر قد مضى ومرت سنين كثيرة والحلم الذي كبر معها كان الفشل اكبر منه، ألمها وحزنها اللذان وارتهما خلف أملها وإيمانها تغلبا أخيرا عليها. توفيت عمتي أم خزاعي لسخرية القدر في ليلة زفاف حفيدها الذي لم يعلم بذلك إلا صباح اليوم التالي، ماتت عمتي أم خزاعي في حسرة أم كان حلمها الوحيد أن تضم أولادها الثلاثة وأحفادها الذين لم تعرفهم إلى صدرها، أن تقبلهم، أن تحن عليهم وتشكو لهم لوعة السنين والانتظار، ثلاثون عاما من الحزن المتراكم تكفي لتسحب روح إنسان. "أم رضوان": أم كباقي الأمهات تنغصها الحسرة ويؤرقها الشوق، زوجت ابنتها الكبرى إلى سوريا ولم ترها إلا مرتين خلال عشر سنوات، وعلمت أولادها الأربع أيضا هناك، منذ شهر كانت تتحايل على الوقت بالعمل والتحضير بفرح لاستقبال اثنين منهما بعد غياب سنة فهما سيأتيان بعد أسبوعين، لكنها……… وهاب وريدان سيأتيان البيت هذا العام ولكن لا أم هناك تنتظرهما، ولا رائحة لطعامها ولا رائحة للفرح ستكون، فهي رحلت مثقلة بحبها.. حنانها.. تعبها.. وأملها بأنها ستعيش حياة أجمل بجانب من تحب. "نجاح" قدمت إلى الجولان قبل أن يكمل زوجها دراسته فاضطرت للبقاء هي وابنتها حوالي سنة ونصف تعاني الغربة مرتين عن أهلها وزوجها. " هذه سنتي السابعة وكلما أحصي السنين أخاف أكثر ها هي تمضي ونحن ما زلنا نعيش على أمل، ولكن هذا الأمل بدا بالتلاشي، حتى لقائنا بأهلنا بالأردن لا يحل المشكلة فهو محكوم بالوقت والمكان والوضع المادي، وأنا لم اعد أؤمن بالحلول الجماعية فالوقت يمضي ونحن ننتظر الفرج، أنا مع المبادرات الشخصية لفتح الطريق إلى سوريا ، انتظار الحلول السياسية اكبر منا ومن عواطفنا" وتابعت لتقول: " أصعب شيء أننا يجب أن نظهر دائما أقوياء ونتحمل مسؤولية قرارنا فنحن كما يقولون لنا أننا كنا على علم بهذا الوضع فلم الحزن والتذمر الآن؟؟ ولكن بعيدا عن كل هذا نحن نعيش في غصة دائمة، وكلما رأينا حلما مزعجا، نسارع للاتصال لنطمئن على أهلنا وأصعب شيء أن تعاكسك الخطوط فتسود الدنيا في وجهي". "ميساء": بعد سنتها الثانية هنا توفي والدها الذي كانت قد وعدته بأنها ستعود. لم يخطر ببالي انه ستكون هناك قوانين صارمة تمنعنا من العودة، ذنبنا الوحيد أننا تزوجنا ممن نحب، هذه جريمتنا الوحيدة" "لا تتخيلي أن يمضي يوم دون أن أتذكر، أكثر ما اشتاق طريق الحارة وأنا امشي عليه، البيت أصحابي، حالة الحنين لا تقتصر على الأهل الحنين إلى البيت مرهق ومخيف وإحساس الغربة مخيف فأولادي يكبرون وأمي لا تراهم وكذلك أولاد إخوتي وأخواتي يولدون ويكبرون في غيابي" ميساء ما أن سألتها عن والدها حتى استعادت تلك اللحظات المؤلمة عندما تلقت نبا الوفاة وما تلاها. "أحس إني السبب فانا لم استطع رؤيته قبلا او العودة كما وعدته، إلى الآن أتخيل انه سيرد عليّ عندما اتصل، أتخيل صوته...ضحكته...كلماته... وهو يسألني عن الأولاد لن أنساه أبدا". "السيدة عذية": متزوجة منذ 32 عاما، وأخيرا وجدت من تقاسمها همها ودموعها وجزءا من ذكرياتها، بعد ثلاثين عاما تزوج ابنها الأكبر فتاة سورية. "لي هنا 32 عاما، توفي والدي وآخي الأكبر، وولد العشرات من الأولاد ولم أر أحدا، أولادي تعرفوا غالى أهلي وأقاربي وأنا لا اعرف الكثير منهم". "فايزة": تمثل شكل أخر من المعاناة، شباب وشابات يكبرون وهم يعرفون انه في الجانب الآخر من الشريط لهم أخوال وخالات وبيت جد، لكن البعد يبقى أقوى من صلة القرابة والعاطفة، ولكن الأمر يختلف بعد التعرف والعشرة ويصبح الفراق أصعب. قالت: "الوضع الآن أصعب فانا تعرفت إليهم جميعا خلال دراستي في دمشق وأمضيت ثلاث سنوات ونصف بينهم، أتمنى أن أعود ليوم واحد فقط، أحس أني سأعيش عمرا ثانيا، اشعر بالسعادة بقدوم طلاب دمشق أشم فيهم رائحة الوطن الذي جمعنا معا وعشنا فيه أياما رائعة". "أهداب": تعيد قصة حماتها بعد ثلاثين عاما. تقول: "أصعب لحظة وأبي يمسك يدي لأعبر أخر نقطة، إحساس مؤلم جدا أغمضت عيوني وقلت له رجعني لا أريد أن اعبر، انتفض أبي وقال:" قولي بدك ترجعي ويرجعك اسا"، ولكن الواقع كان في هذه اللحظة أقوى وأقسى ولا يحتمل طفولتي، كذلك أتذكر الآن نظرات أهلي في اللحظة الحاسمة وهم يرقبون المكان الذي سأذهب إليه، كما تعلمين عند المعبر لا معالم تظهر هناك لمجدل شمس او لأية قرية، لا تلمحي أثرا لمدينة او سكان، هذا أخر ما رايته عيون تقاسمني الحب والخوف والارتباك لعالم كلنا لا نعرف شيئا عنه".
أن اعتياد الألم في حياتنا أكبر مصيبة، والتعايش معه وكأنه جزء طبيعي من الحياة، قد يكون ذلك من الحكمة حين يكون الألم قدر لا مفر منه.. كالموت.. والمرض... ولكن عندما يكون مصدر هذا الألم حلم بسيط... حلم العودة للبيت وملامسة الأهل، وعندما يكون العائق أمام هذا الحلم عسكري يقف هناك، أو بيروقراطي يكبسك مع أوراقه في الدروج المنسية، عندها تشعر بضآلتك وقلة حيلتك في هذا العالم الظالم... وعندها يصبح اعتياد الألم تخاذلاً ومذلة... أنا الآن بصحة جيدة، وأهلي بخير، لكن كل ما أتمناه أن ألمح بيتنا القديم ولو مرة، أن أرى أمي تدق بابي في صباح دافئ وتقول لي: شو مشغولة اليوم؟؟ يمكنكم قراءة التقرير مع الصور على الرابط التالي: http://www.banias.net/nuke/html/modules.php?name=News&file=article&sid=572
#ليلى_الصفدي (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
ديزني! الملعب الوحيد لأطفالنا 24 ساعة من أفلام الكرتون كيف ت
...
-
العنف ضد النساء لمن تلتجيء المرأة المعنفة؟؟؟
المزيد.....
-
مجلس الأمن الدولي يحذر من محاولات حل أو تقليص -الأونروا-
-
مركز حقوقي: عصابات تقود متسولين أطفال عراقيين وأجانب
-
دورة استثنائية للجامعة العربية لبحث الرد على قرار الاحتلال ح
...
-
غدا.. اجتماع طارئ في الجامعة العربية لبحث الرد على حظر إسرائ
...
-
الجزائر.. توقيف مئات المهاجرين غير الشرعيين قبل سفرهم إلى أو
...
-
الغزيون يتخوفون من تداعيات حظر الأونروا
-
بيان لمجلس الأمن بعد -حظر الأونروا- وسط تراجع المساعدات إلى
...
-
مجلس الأمن الدولي يحذر من محاولات حل أو تقليص الأونروا
-
الاحتلال يشن غارة على محيط خيام النازحين غربي خان يونس جنوبي
...
-
مجلس الأمن يحذر الكيان الاسرائيلي من المساس بالأونروا
المزيد.....
-
مبدأ حق تقرير المصير والقانون الدولي
/ عبد الحسين شعبان
-
حضور الإعلان العالمي لحقوق الانسان في الدساتير.. انحياز للقي
...
/ خليل إبراهيم كاظم الحمداني
-
فلسفة حقوق الانسان بين الأصول التاريخية والأهمية المعاصرة
/ زهير الخويلدي
-
المراة في الدساتير .. ثقافات مختلفة وضعيات متنوعة لحالة انسا
...
/ خليل إبراهيم كاظم الحمداني
-
نجل الراحل يسار يروي قصة والده الدكتور محمد سلمان حسن في صرا
...
/ يسار محمد سلمان حسن
-
الإستعراض الدوري الشامل بين مطرقة السياسة وسندان الحقوق .. ع
...
/ خليل إبراهيم كاظم الحمداني
-
نطاق الشامل لحقوق الانسان
/ أشرف المجدول
-
تضمين مفاهيم حقوق الإنسان في المناهج الدراسية
/ نزيهة التركى
-
الكمائن الرمادية
/ مركز اريج لحقوق الانسان
-
على هامش الدورة 38 الاعتيادية لمجلس حقوق الانسان .. قراءة في
...
/ خليل إبراهيم كاظم الحمداني
المزيد.....
|