|
من سفر الإنسان – قراءة في الموت.
نضال الربضي
الحوار المتمدن-العدد: 4415 - 2014 / 4 / 5 - 19:39
المحور:
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
من سفر الإنسان – قراءة في الموت.
ستَّـة ُ لترات ٍ من الدم تضخُها عضلة ٌ صغيرة ٌ نشيطة دائمة ُ الفعل، لتجري في الشراين، إلى الأعضاء، تُغذيها، تستديم ُ عملَها، تضمن ُ الوجود الحي للكائن، حتى تتوقف العضلة، و يتوقف الدم، و تموت الأعضاء، و يُعلن َ حدث ُ "الموت".
حدث ُ الموت هو توقف الفعل في الكائن، هموُده، بداية ُ عودتِه إلى الطبيعة، مكوناتُه التي كانت قد تشكَّلت أعضاء ً تعود ُ إلى ذات الطبيعة ِ التي خرجت منها في شكل ٍ آخر، حين تحضُر الكائنات الأقل ُّ تطورا ً في سُلَّم العضوية، البكتيريا و الديدان و الحشرات الآكلة، تلك التي دعاها فعل ُ "انتهاء الاستمرارية" لكي تأخذ دورها، لكي تتعهد الجسد، لكي تُنفِّذ ما يجب أن يتم، و تعمل ما يجب ُ ان يُعمل، لكي تعود به إلى أصله الأول، جزءا ً من هذا الكون، في كينوناته الأخرى، فيتحلل الجسد و يذهب اللحم إلى الديدان و الحشرات و يتحلل في التراب، لكي يعود تُرابا ً من أديم الأرض، التي جاءت قبل مليار ٍ و مائتي مليون عام بالخلية الصغيرة الأولى، أُمنِا: آدم.
آدم، أديم الأرض، الخلية ُ الأولى في الشق ِّ الصخري في الماء، أديمُها هو مادة الحياة، و وعيها ما زال َ غائباً، انتظر مليارا ً ثم انتظر فوقها مئتي مليون عام، حتى أتينا، حتى انكشفت القوُّة ُ الكامنة ُ في الخلية، القُوَّة ُ التي استودعتها الحياة، حتى أتينا، حتى ظهرنا، حتى انتصب الإنسان ُ منفصلا ً عن جنس المخلوقات الأخرى، حين انقلبت الحبليات ُ ثديات، و تخصَّصت في الثديات ِ الأوليات، و من الأوليات ظهر جنس العاقلين، جِنسنا.
هذا الجنس القادر على أن يفهم الحياة، و يُدرك بالوعي و يعي مُدركا ً العلاقات بين الموجودات، ساعيا ً نحو الوجود، حتى إذا انتشى نشوة َ المعرفة ِ العُظمى و أحسَّ أنه يملك كل شئ، و يعلم ُ كل شئ، و يسيطر ُ على كل ِّ شي، حضر الموت في من يُحب، في من يعشق، في من يعرف، من حوله، ضاحكا ً ساخرا ً مُستهزءا ً، قاسيا ً، بشعا ً، لا رب َّ له، لا دين له، لا كتاب له، لا عقيدة له، لا أيدولوجية َ له، لا حزب له، لا عرق له، لا لون له، فقط له ُ "ذاتُه" التي هي عُنوان "التوقف"، عنوان "النهاية"، عنوان "نهاية الرحلة".
هو بوقُ ملاك ِ الموت ِ الغاضبُ، المُتشفـِّي، القاسي، الساخر، المُمهِلُ عن سادية ٍ شرسة لكن باردة، مُنتظرة، صبرا ً جليديا ً حارَّا ً يُنظرُهم إلى يوم َ "يتوقفون"، هو عنوان نهاية ِ رحلة الخلية الأولى التي بدأت قبل ذاك المليار ِ المتبوع ِ بالمئتي مليون ِ عام، إنَّه ذاك الوجودُ الأول حين ترجم نفسه إلى شكل الإنسان، ثم قرَّر أن هذا الشكل قد استُنفـِذ، و أن "وحدة الحياة Life Unit" قد انتهت صلاحيتُها، و آن وقت ُ انتقال ِ طاقتها و مادتها إلى الحياة ِ مرَّة ً أُخرى، تلك الطاقة ُ التي لا تفنى و لا تُستحدَث لكن "تتحول" من شكل ٍ إلى آخر.
هذا موتنا للحياة، مجرَّد ُ تحوُّل ٍ في الطاقة، نحن نسعى لديمومة ِ الوعي الذي نعرفُهُ لكن الحياة َ تسعى لتغير شكل وعينا إلى شكل ٍ آخر، لا نعيه، و لا نحياه ُ نحن ُ بهويتنا، بكينونتنا، بذكرياتنا، لكنه يحيا في "الوجود"، يحيا في "الحياة"، يحيا في "تحولات المادة"، و "تحولات الطاقة"، يحيا بدون هويتنا نحن، بدون وعينا نحن، بدون ذكرياتنا، بدون إحساسنا، بدون"شخصيتنا"، بدون ما "يُميزنا"، بدون ما يجعل جسد كل منا "منفصلا ً" عن الآخر، بدون ما يجعله "مختلفا ً" عن الآخر.
الموت هو تحوُّل ُ شكل هذه "الوحدة" هذه "الكينونة" هذا "الكيان" المنفصل إلى "شئ ٍ آخر"، هو تحُّول ٌ و استمراية، لا عدم، لا فناء، لا انتهاء، لكنه ليس بذات الوعي، لذاك قلنا عنه موتا ً، لكنه في الحقيقة "حياة"، إنه حياة ٌ أخرى، تختلط ُ فيها أجزاء ُ الأجساد ببعضها، عن طريق كائنات التراب، الديدان و الحشرات و البكتيريا، و المكونات التي تتغذى عليها النباتات،و التي تتغذى عليها الحيوانات، و التي نتغذى نحن عليها، الأحياء َ منا أعني، حتى إذا ما إذا أردنا الصدق ففي داخل كل واحد منا مليارات ٌ من البشر و الحيوانات و الكائنات الأخرى بفعل استمرارية الحياة. في داخل كل ٍّ منا "كلــُّنا"، نعم في داخل كل ٍّ منا قصة الحياة، و كائنات الحياة، و مكونات الحياة، في داخل كل ٍّ منا البشرية ُ في تحولات المادة و تحولات ِ الطاقة و المواد، و شعاع ُ الوجود الأول، القاع الأساسي، الوحدة الكلية الأساسية التي لا تتجزأ.
أمام الموت تضمحل ُّ النصوص، و تتقزَّم ُ الديانات، و تنقشعُ غمامة ُ الدين، و تنهزم ُ الأيدولوجية، و يظهر ُ كيان ُ "الوجود"، يظهر الكيان ُ الجمعي "الواحد" و "الأوحد"، الذي لا شريك له، ذاك َ الكيان ُ الذي يصيح ُ "أنا هو"، الكيان ُ البراهماني، الهيولي، الساكن، الذي من سكونه وُلدت الديناميكية التي عَرفت التجزِئة و أتت بالكينونات و "الشخصيات"، تلك الأخيرة ُ التي تعودُ بالموت لِتَتَّرجم َ بانعكاس ٍ نحو ما كانت عليه ِ قبل الشخصنة، نحو الوحدة ِ عائدة ً نحو الكل، نحو الـ "لا انفصال"، نحو الـ "لا حواجز".
الموت هو الحياة، من رحِمِه ِ القاسي يولد ُ الكيان ُ الجديد، من كيانات ٍ مليارية ٍ غير محدودة، لتتكون شخصيتُه التي ستعود ُ مجدَّدا ً إلى ما كانت حينما تنتهي صلاحية ُ الكيان، ليعوُد َ إلى حضن ِ الوجود، وجودا ً كما كان، دون هوية، دون شخصية، دون تمايز، دون تميز، كيانا ً فقط، لا أكثر.
من الموت ِ نحيا و تولد الحياة، و غاية ُ الحياة أن تتحوَّل َ إلى شكلها الديناميكي الآخر، شكل الموت، حتى تعود َ حياة ً من جديد، فالحياة هي ذاتُها الموت الذي يغدو مجرَّد مرحلة ترجمة ِ الشكل ِ إلى شكل ٍ آخر، و الموت ُ هو ذاتُه الحياة ُ بعد أن ترجمها للشكل ِ الجديد. إننا لا نموت لكن نتحول، و لا نحيا لكن نموت، إننا حياة ٌ تُحب ُّ الموت لكي تستطيع أن تحيا، و إننا موت ٌ يُرافق الحياة كي تستمر الحياة. إن الحياة َ بدون موت ٍ عدم، و الموت لا يكون ُ بدون الحياة، إننا الحياة و الموت، إننا: الوجود.
و حتى يحين موعد ُ التحوُّل فلنفرح بالحياة، و لنحبَّ بعضنا بعضنا، و لنبن ِ مجتمعاتنا، و لنرتقِ في الوعي و الإنسانية و الإنجاز، و لنفرح.
أتمنى لكم كل الفرح!
#نضال_الربضي (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
قراءة من سفر التطور – كرة القدم شاهدا ً.
-
قيمة الإنجيل الحقيقية – لماذا المسيحية كخيار 4 (من وحي الألب
...
-
ماري
-
من سفر الإنسان – الوحدة الجمعية للبشر و كيف نغير المجتمعات 2
-
خاطرة - قرف ُ المازوخية عند المُستسلمة
-
عودة حركة 24 آذار – تعبير ٌ عن الرأي في الوقت الخطأ
-
صور ٌ من الكراهية – عن الموقف من الأستاذ سامي لبيب
-
قراءة في الوحشية – الوجه الآخر للإنسان
-
قراءة في الشر – مباعِثُه، مظاهره، و ارتباطه بالدين و الألوهة
-
في اللاهوت و حرية الإنسان
-
قيمة الإنجيل الحقيقية – لماذا المسيحية كخيار؟ - 3 (من وحي ال
...
-
لماذا يُقتل رائد زعيتر؟
-
قراءة في تحريم الخنزير
-
في تحرير المرأة – مُمارساتٌ عملية للتمكين 2
-
في تحرير المرأة – مُمارساتٌ عملية للتمكين
-
قراءة في الإنسان.
-
لما ضحكت موناليزا
-
في تحرير المرأة – انتفضي سيدتي الآن
-
داعش – فرض الجزية على المسيحين في الرقة السورية
-
قراءة في القداسة – بين الجذر الديني و الاستحقاق الإنساني
المزيد.....
-
-العين بالعين-.. كيف سترد الصين على أمريكا بعد فرض ترامب رسو
...
-
ساعة رونالد وثمنها بلقطة مع تركي آل الشيخ بحلبة UFC
-
دراسة صادمة .. الأرض قد تحتوي على 6 قارات فقط!
-
قوانين جديدة لاستخدام الذكاء الاصطناعي تدخل حيز التنفيذ في ا
...
-
تسع دول تشكل -مجموعة لاهاي لدعم فلسطين-
-
وفاة الرئيس الألماني الأسبق هورست كوهلر
-
مهاجم مدرسة قازان أراد تدميرها بالكامل
-
دراسة جديدة تفنّد الفرضيات السابقة حول علاقة صحة الأم باضطرا
...
-
من السلطان سليمان إلى أردوغان: تطور الاستخبارات في تركيا
-
عصر القطب الواحد انتهى – ماذا ستفعل الولايات المتحدة؟
المزيد.....
-
حوار مع صديقي الشات (ج ب ت)
/ أحمد التاوتي
-
قتل الأب عند دوستويفسكي
/ محمود الصباغ
-
العلاقة التاريخية والمفاهيمية لترابط وتعاضد عالم الفيزياء وا
...
/ محمد احمد الغريب عبدربه
-
تداولية المسؤولية الأخلاقية
/ زهير الخويلدي
-
كتاب رينيه ديكارت، خطاب حول المنهج
/ زهير الخويلدي
-
معالجة القضايا الاجتماعية بواسطة المقاربات العلمية
/ زهير الخويلدي
-
الثقافة تحجب المعنى أومعضلة الترجمة في البلاد العربية الإسلا
...
/ قاسم المحبشي
-
الفلسفة القديمة وفلسفة العصور الوسطى ( الاقطاعية )والفلسفة ا
...
/ غازي الصوراني
-
حقوق الإنسان من سقراط إلى ماركس
/ محمد الهلالي
-
حقوق الإنسان من منظور نقدي
/ محمد الهلالي وخديجة رياضي
المزيد.....
|