|
مشكلة البيدوفيليا في الفضاء العقائدي المسيحي
حسن محسن رمضان
الحوار المتمدن-العدد: 4404 - 2014 / 3 / 25 - 18:53
المحور:
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني
عندما أعلن الفاتيكان، بسبب الضغوط الأممية المستمرة، في شهر يناير الماضي أن البابا السابق بندكتوس السادس عشر (Benedictus XVI) قد أقصى ما يقارب من أربعمئة (400) كاهن مسيحي خلال (سنتين فقط) بسبب قضايا التحرش الجنسي بالأطفال (البيدوفيليا) مِن الجنسين [أنظر الهامش لرابط الخبر]، أصيب الجميع بالدهشة لضخامة العدد وقِصَر المدة في مؤسسة دينية بحتة. بل إن بعض ردود الأفعال كانت واضحة الغضب المفرط ليس فقط بسبب الانحراف الأخلاقي الشديد الذي مارسه هؤلاء الكهنة، ولكن لأن هذا (الانحراف الأخلاقي) قد طال الفاتيكان والبابا نفسه لأنهما اكتفا بـ (اعفاء) هؤلاء الكهنة المسيحيين من مناصبهم من دون مراعاة الجانب القانوني الذي كان يستوجب عليهما (أخلاقياً) إحالة هؤلاء الكهنة إلى دوائر الشرطة ومِنْ ثم القضاء. فهُما، أي البابا والفاتيكان، قد تسترا على هؤلاء الكهنة وأضاعا بذلك، عمداً، حق الضحايا في عقوبة الجناة مِن خلال ما ارتضاه المجتمع من قوانين، وأضاعا حق المجتمع كله في هيمنة القانون على الجميع من دون تفرقة. كما حملت أخبار اليوم نبأ إلقاء القبض وسجن كاهن مسيحي قد اعتدى جنسياً على سبعة أطفال من الذكور والإناث، هذا ما عُرف مِن أعدادهم فقط دون مَنْ لم يتقدم بالشكوى، خلال فترة عمله ككاهن من سنة 1957 إلى سنة 1991، ووصلت التُهم الموجهة له إلى 21 تهمة [أنظر الهامش لرابط الخبر]. بل نجد إشارات إلى تلك المشكلة الجنسية بين الكهنة المسيحيين منذ سنة 1741 م، حين أصدر البابا بنديكت الرابع عشر (Benedict XIV) أمراً بابوياً (constitutio apostolica) تحت مسمى (Sacramentum Poenitentiae) يتعلق بمشكلة (التحرش الجنسي) الذي كان يمارسه الكهنة الكاثوليكيين المسيحيين، وتطرق فيه (بالتحديد) إلى (التحرش بالأطفال). إلا أن السؤال الذي يتبادر في الأذهان هو: إذا كان هناك أربعمئة (400) كاهن قد مارس التحرش الجنسي بالأطفال خلال سنتين فقط، وهو عدد ما انكشفت تفاصيله دون الخافي منه، فما هو (العدد الكلي) المتوقع لِمنْ مارس هذا الانحراف الجنسي خلال العشر سنوات الماضية ضمن الكنائس المسيحية كلها على سبيل المثال؟ وما هو العدد المتوقع خلال القرن الماضي؟ بل ما هو تاريخ هذا الانحراف الجنسي في المؤسسة الدينية المسيحية منذ نشوئها حتى هذه اللحظة؟ إلا أن السؤال الأهم والذي ركز الضوء عليه الباحثون مؤخراً هو: ما الذي جعل المسيحية، كعقيدة، تعاني من انتشار الاعتداء الجنسي على الأطفال، البيدوفيليا، بين رجال دينها على الخصوص؟ هذه المقالة سوف تلقي الضوء على المشكلة والإجابة بصورة مختصرة. في البداية لابد لنا من تعريف البيدوفيليا. البيدوفيليا هو اضطراب نفسي [مرض نفسي] بحيث يكون الشخص البالغ فيه يشعر، بصورة حصرية ووحيدة، لانجذاب جنسي للأطفال دون سن البلوغ مِن الجنسين. وهو اضطراب في الشخصية والسلوك معاً، ويعاني منه الرجال بعدد أكبر بكثير من النساء. ولا يُشترط في هذا الاضطراب النفسي اكتمال العملية الجنسية، ولكنها قد تقتصر على الملامسة الشهوانية أو جعل الأطفال يقومون بأعمال محددة تثير الشخص البالغ جنسياً. إلا أن الملاحظ أن النسبة العامة في المجتمع لِمن يعانون من هذا الاضطراب النفسي هو (أقل بكثير جداً) من النسبة التي هي الآن بين (الكهنة المسيحيين) مع بروز هذه الأرقام الجديدة في بداية هذا العام. هذه الزيادة الكبيرة في نسبة المصابين بهذا الاضطراب النفسي بين الكهنة المسيحيين لابد وأنه يتعلق إما بالمناخ العقائدي ذاته أو السلوكي الطقسي المسيحي. وهذه الملاحظة (ليست جديدة) على المؤسسة الكنسية المعاصرة. ففي عام 1971 قدم الدكتور كونارد بارس (Conrad Baars) تقريراً بعنوان (The Role of the Church in the Causation, Treatment and Prevention of the Crisis in the Priesthood) إلى الجمعية العامة لأساقفة السينود (General Assembly of the Synod of Bishops)، وهي هيئة استشارية لبابا الفاتيكان، قال فيه صراحة بأن "بعض رجال المناصب الكهنوتية يعانون من اضطراب نفسي جنسي"، وأن "اجراءات سريعة يجب أن تُتخذ بهذا الشأن"، وأعطى عدة مقترحات، وذلك بعد أن بنى دراسته على فحص ألف وخمسمائة (1500) كاهن مسيحي. ومنذ ذلك الحين لم يتم تطبيق أياً من هذه المقترحات حتى خرجت هذه المشكلة الأخلاقية إلى العلن وبشكل فضائحي مدوي. و (الطريف في هذا كله) هو أن أحد أعضاء الجمعية العمومية الذين تلقوا هذا التقرير في سنة 1971 هو الشخص ذاته الذي تم انتخابه سنة 1978 كبابا للفاتيكان تحت مسمى (يوحنا بولس الثاني). فما الذي يجعل المناخ العقائدي أو الطقسي المسيحي معرضاً لهذه الكارثة النفسية والأخلاقية؟
رافقت (المشكلة الجنسية)، وما يبدو أنها ممارسات ذات إشكالية أخلاقية تحررية فيما يخص ممارسة الجنس بالذات، بدايات نشوء العقيدة في يسوع، وبالتحديد في الكنائس التي أنشأها بولس. إذ نقرأ في رسالته إلى أهل كورنثوس هذا الاحتجاج على أتباع كنيسته من جانبه: (يُسمع مطلقا أن بينكم زنى، وزنى هكذا لا يُسمى بين الأمم، حتى أن تكون للإنسان امرأة أبيه) [رسالة بولس الأولى إلى أهل كورنثوس 5: 1]. وكالعادة، فقد (تعمد المترجم المسيحي العربي إبهام معنى الجملة) حتى لا تكاد تُفهم معناها. والحقيقة هي أن (الترجمات العربية) للكتاب المقدس هي (فاقدة القيمة مطلقاً) لأي نوع من أنواع الاستدلال بسبب الكمية الهائلة من التحويرات والابهام وتعمد تغيير معاني الكلمات المترجمة، بل يصل الأمر أحياناً إلى (تعمد استبدال جمل كاملة بأخرى) لتفادي النصوص المحرجة لعقيدتهم. فعلى الباحث دائماً أن يتعامل مع الترجمة العربية بحذر شديد، وعليه دائماً أيضاً أن يُلغي كل الكم الهائل من الاستدلال اللاهوتي المسيحي الذي بُنيَ على هذه الترجمة المزورة، إذ هي فاقدة القيمة بدورها. فالترجمة الحرفية لبداية الإصحاح الخامس من رسالة بولس إلى أهل كورنثوس هي هكذا كما في ترجمة [Amplified Bible]: (لقد أُفيد بالفعل بأن هناك أعمال جنسية لا أخلاقية بينكم، شوائب من النوع الذي يُدان، والذي لا يحدث حتى بين الوثنيين، وهناك مَنْ اتخذ زوجة أبيه)، (It is actually reported that there is sexual immorality among you, impurity of a sort that is condemned and does not occur even among the heathen-;- for a man has [his own] father’s wife)، [انظر أي ترجمة غربية حديثة أنت تختارها، أو ارجع للنص اليوناني مباشرة]. كما أن (القبلة المقدسة) التي روّج لها بولس في رسائله لاستخدامها بين الرجال والنساء بصورة مختلطة [للتفاصيل انظر مقالة: تزوير مسيحية يسوع – 18 – الجزء الأول] أثارت إشكالات خطيرة إلى الحد أننا نراها واضحة جداً في كتابات الآباء الأوائل مما (يدل بصورة قاطعة وأكيدة أنها كانت متبادلة بين الجنسين بدون أدنى شك، وأنها في شكلها المسيحي الأول كانت بدون تقنين وضوابط). فقد شنّ كلمنت (Clement of Alexandria) (توفي 215 م) هجوماً ساحقاً على الكنائس التي يبدو أنها قد (بالغت جداً) في استخدام القبلات بين أتباعها من الجنسين، فقد كتب: "إن القُبلة ليست محبة، ولكنها تُعرف بحُسن النية. ولكن هناك مَن لا يفعلون شيئاً سوى أن يجعلون الكنائس تُردد أصوات القبلات فيها، بينما لا توجد محبة ضمن أنفسهم. إن استعمال القبلات غير المنضبط هذا يؤدي إلى الشبهات والفضائح. هذا الشيء بالذات يجب أن يبقى غامضاً، والرسول [بولس] يسميه مقدساً" [انظر Kissing Christians: Ritual and Community in the Late Ancient Church, Michael Philip Penn، pp. 111، وانظر أيضاً: Paedagogus, Book 3, Chapter 11]. أما الإنسكلوبيديا الكاثوليكية (Catholic Encyclopedia) فتعترف ضمناً بوجود إشكالية مبكرة في هذا الطقس بين الجنسين: "ما يؤدي له سوء استخدام هذا النوع التحية قد تم تحصينه منذ تاريخ مبكر أيضاً. سواءٌ في الشرق والغرب، فإن النساء والرجال قد تم فصلهم في تجمعات المؤمنين، وأن قبلة السلام كانت تُعطى فقط من النساء للنساء ومن الرجال للرجال". فمن (الثابت)، ومن دون أدنى شك، أن هذه القبلات في القرن الأول على الأقل كانت مختلطة بين الجنسين، وهذا التبادل في القبلات قد سببت "شبهات وفضائح" كما يقول كلمنت، واضطرت الكنيسة إلى تقنين هذه القبل المتبادلة إلى أن اختفت تماماً من الطقوس المسيحية. مِنْ هذين المثالين نجد أن المناخ العقائدي المسيحي في صوره الأولى على الأقل، قبل تقنينه لاحقاً، قد ساعد بصورة أو بأخرى على بروز إشكالات تتعلق بالسلوك الجنسي بين أتباعها. إلا أن مشكلة البيدوفيليا بين الكهنة على الخصوص قد تكون برزت لأسباب أخرى.
في سنة 2010 أثارت فضائح متتالية لكهنة وقسيسين مسيحيين فيما يخص قضية التحرش الجنسي بالأطفال إلى عقد مناقشات علنية في ألمانيا عن هذه القضية وخصوصاً أن استطلاعات الرأي قد أشارت إلى أن 17% فقط من الشعب الألماني بات يثق بالمؤسسة الكنسية [انظر الهامش لرابط المصدر]. وفي هذه المناقشات أُثيرَت قضية الرهبنة وشرط ترك الزواج (الحياة العازبة) كمُسبب رئيسي لهذه المشاكل، إلا أن المؤسسة الكنسية بالإضافة إلى كل المتعاطفين معها يرفضون رفضاً قاطعاً ربط (الرهبنة والحياة العازبة) مع تلك الممارسات الشاذة [انظر المصدر السابق]. إلا أن المناقشات حول تلك النقطة قد ثارت مرة أخرى خلال العام الماضي ومؤخراً أيضاً حول ضرورة دراسة الرهبنة والحياة العازبة، كممارسة طقسية مسيحية، كمسبب لبروز الممارسات الجنسية الشاذة عند الكهنة المسيحيين. وقد تبنت بعض الدراسات التحليلة موقفاً حازماً جداً تجاه هذه القضية إلى حد اتهام الكنيسة علناً بأن "التحرش الجنسي بالأطفال لم يكن يُنظر له على أنه جريمة عند الأساقفة وعند مسؤولي الإدارات الكنسية (Diocesan chancery)"، وأن الحياة العازبة والرهبنة قد تكون بالفعل مسؤولة عن هذا الشذوذ السلوكي [انظر مقالة جيمس بيجلر بعنوان "سؤال عن الحقوق"، الرابط في الهامش]. والخلاصة هي أن بروز الشذوذ السلوكي الجنسي عند الكهنة المسيحيين بأعداد كبيرة لابد وأنها تشير إلى أن المناخ العقائدي والطقسي المسيحي قد ساعد بطريقة ما على بلورة هذا النوع من الاضطراب النفسي. وأيضاً، هناك إشكالية حقيقية فيما يتعلق بالموقف الكنسي في كيفية التعامل مع هذه القضية الخطيرة من جهة، ومن جهة أخرى هناك إشكالية حقيقية تواجه الكنيسة في أن بعض طقوسها التي تتبناها قد تؤدي إلى اضطراب سلوكي جنسي عند ممارسيها.
هــــــــــــــــــــوامــــــــــــش:
1- خبر اعفاء الفاتيكان ما يقارب 400 كاهن مسيحي بسبب قضايا التحرش الجنسي بالأطفال:
http://www.bbc.com/news/world-europe-25788864
2- نبأ اعتقال وسجن كاهن مسيحي اعتدى على سبعة أطفال مِن الجنسين على الأقل خلال فترة عمله:
http://www.bbc.com/news/uk-england-derbyshire-26715036
3- تدني نسبة الثقة في المؤسسة الكنسية والمناقشات العلنية لأسباب تكاثر قضايا التحرش الجنسي بالأطفال عند الكهنة المسيحيين:
http://news.bbc.co.uk/2/hi/8604800.stm
4- مقالة (James E. Biechler) بعنوان (A Question of Rights)
http://astro.temple.edu/~arcc/rights7.htm
#حسن_محسن_رمضان (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
كتابي في نقد النص المسيحي المقدس
-
تزوير مسيحية يسوع – 28
-
تزوير مسيحية يسوع – 27
-
عندما يُنتحل اسمي في مقالة
-
تزوير مسيحية يسوع – 26
-
عندما تسحب السعودية والبحرين سفيريهما
-
تزوير مسيحية يسوع – 25
-
تزوير مسيحية يسوع – 24
-
تزوير مسيحية يسوع – 23
-
تزوير مسيحية يسوع – 22
-
تزوير مسيحية يسوع – 21
-
تزوير مسيحية يسوع – 20
-
تزوير مسيحية يسوع – 19
-
تزوير مسيحية يسوع – 18 – الجزء الثاني
-
تزوير مسيحية يسوع – 18 – الجزء الأول
-
تزوير مسيحية يسوع – 17 – الجزء الثاني
-
تزوير مسيحية يسوع – 17 – الجزء الأول
-
تزوير مسيحية يسوع - 16
-
تزوير مسيحية يسوع - 15
-
تزوير مسيحية يسوع - 14
المزيد.....
-
المقاومة الاسلامية بلبنان تستهدف قاعدة حيفا البحرية وتصيب اه
...
-
عشرات المستوطنين يقتحمون المسجد الأقصى
-
مستعمرون ينشرون صورة تُحاكي إقامة الهيكل على أنقاض المسجد ال
...
-
الإعلام العبري: المهم أن نتذكر أن السيسي هو نفس الجنرال الذي
...
-
ثبتها فوراً لأطفالك.. تردد قناة طيور الجنة 2024 على نايل سات
...
-
الجنائية الدولية تسجن قياديا سابقا في أنصار الدين بمالي
-
نزع سلاح حزب الله والتوترات الطائفية في لبنان.. شاهد ما قاله
...
-
الدعم الأميركي لكيان الاحتلال في مواجهة المقاومة الإسلامية
-
إيهود باراك يفصح عما سيحدث لنتنياهو فور توقف الحرب على غزة
-
“ألف مبروك للحجاج”.. نتائج أسماء الفائزين بقرعة الحج 2025 في
...
المزيد.....
-
مأساة العرب: من حزب البعث العربي إلى حزب الله الإسلامي
/ حميد زناز
-
العنف والحرية في الإسلام
/ محمد الهلالي وحنان قصبي
-
هذه حياة لا تليق بالبشر .. تحرروا
/ محمد حسين يونس
-
المرحومة نهى محمود سالم: لماذا خلعت الحجاب؟ لأنه لا يوجد جبر
...
/ سامي الذيب
-
مقالة الفكر السياسي الإسلامي من عصر النهضة إلى ثورات الربيع
...
/ فارس إيغو
-
الكراس كتاب ما بعد القرآن
/ محمد علي صاحبُ الكراس
-
المسيحية بين الرومان والعرب
/ عيسى بن ضيف الله حداد
-
( ماهية الدولة الاسلامية ) الكتاب كاملا
/ أحمد صبحى منصور
-
كتاب الحداثة و القرآن للباحث سعيد ناشيد
/ جدو دبريل
-
الأبحاث الحديثة تحرج السردية والموروث الإسلاميين كراس 5
/ جدو جبريل
المزيد.....
|