أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات - رائد الحواري - الحضارة الهلالية والتكوين التوراتي (النص الكامل)















المزيد.....



الحضارة الهلالية والتكوين التوراتي (النص الكامل)


رائد الحواري

الحوار المتمدن-العدد: 4376 - 2014 / 2 / 25 - 19:30
المحور: دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات
    


مقدمة
إن إعادة إبراز تاريخنا القديم وتقديمه بما أهل به من عظمة يجيء في هذا الوقت كالماء للظمآن، حيث هناك الغيوم السوداء تعتلي فوق رؤوسنا وتجعنا في حالة من الضياع والاستسلام لما هو كائن وما سيكون، وأصبح إنساننا الذي هو عماد الوجود الحضاري يعيش في حالة من الإحباط في كافة نواحي الحياة، وأمسى مثل الجذع اليابس، لا حول له ولا قوة يجرفه التيار حيث شاء، رغم أن تاريخه فيه من القوة مما يجعله يتقدم في هذا التيار بشكل مبهر ومتألق، آخذاً بزمام الحاضر نحو مستقبل ساطع.
إن عملية التعتيم المتعمدة للتاريخ، وجريمة تزييفه، وأخيراً سرقة وانتحال تركتنا الحضارية والثقافية لغيرنا جعلنا ـ من مفهوم حضاري اجتماعي ـ عبارة عن قبائل بدوية ليس لها عمل سوى النهب والسلب –قديماً وحديثاً- ومن ثم نفي أي دور لنا سوى الذي وضعه أعداؤنا.
والمسألة الفكرية تبقى بين مؤيد ومعارض ومستحسن ومنفر، لها رجالاتها المتخصصون، وتبقى كـذلك إلى أن تتحول إلى فعل يرفع الإنسان أو يسقطه. ولقد تعرضنا قديماً لمجموعة من الهجمات الفكرية والعملية واستطاع أجدادنا أن يردوها ويعيدوا هؤلاء الغازين إلى مواقعهم الفكرية ـ والجغرافية ـ التي انطلقوا منها، وكان الموقف العملي دائماً هو المحرك نحو مواجهة الخصم، أما إنْ بقيت تلك الأفكار أو العقيدة داخل إطار الحوار والنقاش فلا تواجه بتلك الطريقة العنيفة وتتم عملية الرد عليها بأسلوبها الحواري نفسه، وهذا النوع من الصراع الفكري يوجد حتى داخل المجتمع الواحد، له من يتناوله من هذه الزاوية أو تلك. وما نتعرض له في الوقت الحاضر من هجمات داخلية وخارجية معاً، يدعونا لنقف في مواجهته بوعي وصلابة.
فالوجود الصهيوني في فلسطين، وتغلغل أفكاره بين مجتمعنا، فرض علينا العودة إلى التاريخ القديم وإعادة النظر فيه، حيث أنهم يزعمون الاعتماد على التاريخ التوراتي لتبرير وتأكيد سيطرتهم على أرض فلسطين من خلال (يهوه) الذي أعطاهم هذه الأرض.
["وقال الرب لإبرام بعد أن اعتزل لوط عنه. ارفع عينيك وانظر من الموضع الذي أنت فيه شمالاً وجنوباً وشرقاً وغرباً. الآن جميع الأرض التي أنت ترى لك، أعطيها ولنسلك أيضاً يعد قم أمش في الأرض طولها وعرضها لأني لك أعطيها" " "].
["وأقيم عهدي بيني وبين نسلك من بعدك في أجيالهم عهداً أبدياً لأكون إلها لك ولنسلك من بعدك وأعطي لك ولنسلك من بعدك أرض غربتك كل أرض كنعان ملكاً أبدياً وأكون إلههم" " "].
إن الكتب والبحوث العربية التي كتبت لصد هذه الأطروحة محدودة جداً، مقارنة مع ما نشر من كتب وبحوث أخرى في الوطن العربي، أو مع ما نشر من كتب إسرائيلية حول هذا الموضوع، وهذا الشح يعود إلى ندرة المواد التي نشرت عنه، خاصة إذا علمنا بأن عدد الكتب والأبحاث التي نشرت حوله في الغرب محدودة جداً، ونحن نعلم بأن نسبة كبيرة من الباحثين العرب يعتمدون على المراجع والكتب الغربية، وكذلك بسبب عدم وجود الكادر المؤهل الذي يتقن معرفة اللغات المسمارية، والأبجديات القديمة، كذلك لعدم وجود مؤسسات تمول هذه البحوث إذ أن من يقوم بمثل هذه المهام بحاجة إلى دراسة ميدانية وأكاديمية حتى يتمكن من تقديم كل ما هو جديد موثق، وأيضاً عدم احتفاظ متاحفنا الوطنية بالمكتشفات الأثرية، ونقل أغلبها إلى المتاحف الأوروبية، وهذا جعل بلادنا محرومة من تراثها الأثري مما جعل ذهنية علمائنا ترتبط بما يقوله الغربيون، وهكذا تعلق باحثونا بما كتب علماء الغرب عن تاريخنا وأخذوا يستخدمون مصطلحاتهـم ونظرياتـهم الخاطئة والصائبة بدون تمييز، فاستخدموا
كلمة (الساميين) ومن ثم أخذوا بتحليلاتهم لهذا التاريخ.
لقد بدأ الغربيون الخوض في هذا المضمار منذ القرن الثامن عشر وتوسعت حملاتهم بشكل كبير في القرن التاسع عشر، ومع نهاية النصف الأول من القرن العشرين كانت هناك الإنجازات التاريخية والأثرية الكبيرة التي حققها الغرب من خلال حل اللغة المسمارية والأبجدية الكنعانية، ومن ثم تحديد الفترة الزمنية والإنجاز الحضاري والثقافي لكل دولة من الدول التي ظهرت في منطقتنا.
إننا على يقين بأن الثقافة الغربية ورجالاتها ينتقصون من مقدرتنا في مجال الإبداع والإنجاز الحضاري والثقافي، وهذا الأمر يعمق الهوة بين مجريات التاريخ الحقيقية وبين ما هو مدون عنه من وجهة النظر الغربية، خاصة إذا تأكدنا بأن تلك الكتابات اعتمدت بشكل أساسي على الرواية التوراتية ، وهذه الرواية بعد الاكتشافات الأثرية والتاريخية وجد بأنها لا تملك المصداقية التاريخية بتاتاً، وما هي إلا خليط متناقض من الأحداث التاريخية، ومن هنا جاءت كتاباتهم سلسلة من الأخطاء المجحفة بحقنا وبحق الحقيقة التاريخية المجردة.
ومن الأمور التي دفعت هؤلاء الغربيين إلى تبني الموقف السلبي من إنجازنا الحضاري، هو بدء أعمال الحفر والاكتشافات الأثرية والتاريخية في منطقتنا فــي وقت كنا فيه أضعف ما يكون في مجال
القوى الحربية والعلمية والاجتماعية والحضارية والثقافية، حيث أننا منذ القرن السابع عشر وحتى دخولهم بلادنا لم نقدم أي شيء، وحتى أننا فقدنا صلتنا بالإنجازات العلمية والثقافية التي قدمناها في القرن العاشر وما تلاه، ولهذا نظروا إلينا من زاوية الاستهتار والاستهانة مجبولة بحقد ديني ومصلحة اقتصادية، ومن دوافع هذا الموقف قدومهم إلى منطقتنا وهم في أوج قوتهم العسكرية، حيث كانت بعثاتهم مرافقة للجيوش الغازية وكذلك نجد اهتمام بعض حكامهم وقادتهم بعلم الآثار والتاريخ.
إلا أن الحقيقة تبقى حقيقة رغم أنف المزيفين، ومع تزايد الاكتشافات الأثرية المبهرة والرائعة في منطقتنا، مثل اكتشاف بوابة بابل والأعمال الفنية المتنوعة والألواح المسمارية وترجمة ما فيها من روائع ملحمية وأسطورية وحكم وأمثال وحقائق تاريخية مدونة، تتطرق إلى كل مرحلة من مراحل المنطقة والدول المجاورة لنا، كل ذلك دفع بعض هؤلاء العلماء إلى جادة الصواب والحقيقة التاريخية والعلمية، من هنا بدأ بعض العلماء الحديث عن تاريخنا العريق وإظهار ما فيه من عظمة، ومنهم من خرج من ظلام أفكاره المترسبة وصرح علانية بأن الأحداث التوراتية ما هي إلا أغلاط وتزييف للأحداث التاريخية، ومنهم من تقدم أكثر نحو الحقيقة، وتحدث عن السرقة التي تمت لكل ثقافة المنطقة (الهلال الخصيب) ومن ثم انتحال هذه الثقافة والتركة وإضفاء بعد توراتي مغاير للحقيقة عليها.
لقد كان هؤلاء الباحثـون هـم الرواد الـذين اسـترشد بهم كتابنا
وباحثونا، وجاءت الأبحاث العربية في هذا الموضوع متميزة وناجحة بصورة ملفتة للنظر، وظهر بعض الكتاب كأعلام في مجال التاريخ القديم، لما في كتاباتهم من عمق متجذر في الحاضر المعاش لشعوب المنطقة، فكان هناك طه باقر وفوزي رشيد وأحمد سوسة وسامي سعيد الأحمد وفاضل عبد الواحد من العراق، وفراس السَّواح وتوفيق سليمان من سوريا، ووديع بشور ويوسف الحوراني وأنيس فريحة من لبنان، وظهر بعض الكتاب في مصر لا يقلون أهمية عن نظرائهم الهلاليين، وبعض هؤلاء وغيرهم من الكتاب أصبحت كتبهم وأبحاثهم تترجم إلى اللغات الأخرى لما فيها من تميز وتطوير وإضافات تاريخية حول تاريخ المنطقة.
وبرز من خلال المكتشفات الأثرية التي أكدت بأن اليهود لم يكن لهم وجود تاريخي في فلسطين نظريتين إحداها تاريخي، يتحدث عن اليهود الذين عاشوا فترة محدودة جداً في فلسطين، ثم طمست مملكتهم نهائياً على يد نبوخذ نصر، وبهذا كانت المملكة اليهودية جزءاً صغيراً جداً من الممالك التي انتشرت في المنطقة عندما ضعفت الدولة المركزية، وتأخذ هذه النظرية ببعض الأحداث التاريخية التوراتية وتنفي مجملها وتؤكد على وجود الأماكن الجغرافية الهلالية المذكورة في التوراة، من هنا جاءت هذه النظرية تؤكد وجود الأماكن الجغرافية وتتفق أو تختلف مع الحدث التاريخي التوراتي.
والثانية جغرافي والتي تبناها كمال صليبي، تعتمد هذه النظرية على نفي المكتشفات الأثرية لأي تواجد يهودي في فلسطين من جهة، وعلى إعادة أسماء الأماكن التوراتية ـ جغرافياً ـ إلى جذورها اللغوية ومن ثم نسب هذه الأسماء إلى أماكن ما زالت توجد في الجزيرة العربية وتحمل الأسماء نفسها، وهذه النظرية تعتمد على الجغرافيا التي تؤكد على عدم وجود آثار يهودية في فلسطين. ولها ما يؤيدها من الباحثين التاريخيين من خلال الحدث التاريخي الذي يتحدث عن الملك سليمان عندما طلب من ملك صيدا ببعث المهندسين ليبنوا له الهيكل في القدس، ونحن نعلم بأن الكنعانيين جميعاً سواء كانوا في الشمال أو الجنوب، كانوا يتقنوا عملية بناء المعابد الكنعانية، من هنا لو كانت المملكة السليمانية في القدس لما طلب من ملك صيدا تقديم المساعدة في عملية بناء الهيكل، وهذا يشير إلى أن تلك المملكة لم تكن في أرض كنعان وإنما خارجها.
ومن الأمور التي ساعدت في إبراز الاهتمام في هذا الموضوع عند كتابنا، هو وجود اتجاهات سياسية دفعت بعض المهتمين بالتاريخ لإظهار تاريخ المنطقة (الهلال الخصيب) ككتلة واحدة متميزة عن المناطق المجاورة لها، وهناك من رأى بأن التاريخ فيه من المتعة والمعرفة الشيء الكثير، ومن هذا المنطلق بدأ الخوض في هذا المضمار، ثم تحول هذا الدافع إلى حب وعشق (تاريخه) أكثر من كونه مجرد متعة ومعرفة للتاريخ المجرد، وأصبح ينظر إلى هذا التاريخ كجزء من ذاته واستمرار وجوده.
من هنا جاء الحديث عن التركة الحضارية والثقافية لسكان المنطقة، والتي ما زالت تتصل بما خلفه الأجداد من إنجازات علمية وفَنيَّه وعسكرية ومدنية وحضارية. فهناك من ربط بين تكرار المقاطع في ملحمة عشتار ومأساة تموز وبين الزجل الشعبي المغنى، وكذلك الأعياد الموسمية التي تقام في بعض مناطقنا وبين الاحتفالات القديمة بأعياد تموز وبعل، ومنهم من أعاد بعض الكلمات التي نستخدمها في الوقت الحاضر إلى عقائد دينية كانت سائدة عند أسلافنا مثل كلمة (بعل)، وهذا معروف بأنه إله كنعاني يرمز إلى الخصب، حيث أن هذا الوصف ما زال يستخدم حتى الآن لتميز الخضار (البعلية) التي تنمو بدون الري المباشر، ومنهم من تحدث عن إنجازاتنا فأصبحنا نعرف بأننا أول من استخدم العجلات وما يتبعها من تقدم صناعي وانعكاس ذلك على المواصلات، حيث استخدم أسلافنا العربات، وكانوا بذلك أول من أحدث ثورة في وسائل المواصلات. كذلك جاء اكتشاف اللغة السومرية كأول لغة مكتوبة في العالم وبذلك كنا أول من علّم وتعلم بلغة مكتوبة، ومن ثم علَّمنا هذا العلم إلى الشعوب المجاورة لينتقل هذا الاكتشاف ـ الكتابة ـ إلى العالم أجمع، ولقد استمر أسلافنا في تطوير هذا الاختراع إلى أن استخدموا الحروف الأوغارتية والتي تعتبر أول حروف أبجدية استخدمت على وجه الأرض، وهذا الأمر دفع المجتمعات الإنسانية إلى ترسيخ وتسريع التقدم الحضاري والثقافي لكل المنطقة، ومن ثم تحديد ثقافة كل مجتمع بشكل متميز عن غيره. وفي القوانين والشرائع كذلك كان لنا دور ملفت للنظر، فاكتشاف قانون (ارغو) في مدينة نيبور يعد أول أقدم قانون مكتشف في العالم، ومن ثم استمر تقدمنا القانوني على بقية الأمم من خلال اكتشاف القوانين الأخرى من قانون أورنامو إلى لبت عشتار وايشنونا وأخيراً جاءت شريعة حمورابي التي تعتبر أكمل شريعة مكتشفة حتى الآن، وكانت أرضنا أرض المصلحين والمشرعين والأنبياء فقد أظهرت المكتشفات الأثرية في لكش عن (أوكارجينا) الذي يعتبر أول مصلح في المنطقة، وكذلك تم الكشف عن أول أقدم إمبراطورية وجدت على الأرض وهي إمبراطورية (سرجون) الأكادي، الذي أقام دولته الممتدة من البحر الأسفل (الخليج العربي) إلى البحر الأعلى (البحر المتوسط)، وبالنسبة للمدينة وما يتبعها من مقومات، فقد كنا أول من أوجد المدن، من أريحا إلى دمشق وأورك ولكش وجيش وابلا وماري وبابل وآشور ومجدو وعسقلان وجبيل وبعلبك وصور وصيدا وحيفا وعكا واوغاريت وقرطاج وقادش وملقا، وهذه المدن كانت مدناً متطورة في زمانها ومرافقها تشابه المرافق العصرية في مدينتنا الحالية، فقد كانت هناك الأسوار المحيطة بها وأنظمة صرف المياه العادمة ونظام خاص بمياه الشرب، وكذلك كان انتظام الشوارع حيث تصل إلى كافة النواحي والمرافق العامة في المدينة، وقد علمنا من الاكتشافات الأثرية والتاريخية بأن معابد أسلافنا كانت عبارة عن مستودعات للأغذية يستخدمها السكان كاحتياطي في حالة القحط أو الحرب، وكان يستخرج ما في هذه المعابد ليتم توزيعه على عامة الشعب، ومن الأمور المبهرة والرائدة اهتمام أجدادنا بالتعليم والعلم، ولهذا أنشأوا المدارس والمكتبات، وقد اكتشف علماء الآثار أضخم وأول مكتبة في التاريخ، وجدت في مدينة نينوى وهي مكتبة (آشور بانيبال) التي تحتوي على عشرات الألوف من الرقم الطينية، وهذه المكتبة تضم بين محتوياتها الإنجازات الأدبية والعلمية المختلفة.
فكانت (الأنوماايليش) أول ملحمة في التاريخ كتبت بالأحرف المسمارية، ثم تبعتها (عشتار ومأساة تموز) ثم جاءت ملحمة جلجامش تلك القطعة الأدبية الكاملة التي أبهرت العالم بجماليتها وفنيتها الفكرية، وظهرت كذلك في بلاد الشام ملاحم وأساطير لا تقل أهمية عن الملاحم العراقية فكانت هناك (ملحمة بعل) وأسطورة (كرت) ثم (أقهات بن دانيال).
وفي الانفتـاح على العالم الخارجي كان لنا الدور البارز، فقد كنا أول من استخدم القوارب والسفن في صور وصيدا، وقمنا بإنشاء المدن والبؤر التجارية في ملقا وقادش وقرطاج، وكانت أوروبا وأفريقيا تخضع ولفترة تزيد عن الخمس مئة عام للنفوذ الفينيقي القرطاجي، وقد سُمَّيَ البحر المتوسط قديماً (بالبحر الفينيقي) نسبة إلى الفينيقيين الذين استطاعوا أن يفرضوا قدرتهم التجارية على محيط المتوسط، ولقد اكتشف في أمريكا على قطعة حجرية منقوش عليها باللغة الفينيقية (حتى هذا المكان وصلناه)، وهذا يؤكد المقدرة البحرية التي كانت عند الفينيقيين، أما الحديث عن لغتنا فقد كانت اللغة المستخدمة في دول المنطقة، فقد استخدمت اللغة السومرية في الأناضول وحتى رومانيا حسب المكتشفات الحديثة، وبعدها جاءت اللغة الأكادية لتحل محلها في الاهتمام والاستخدام، وبعد ذلك جاءت اللغة البابلية والتي لا تختلف كثيراً عن الأكادية لتحوي كل التركة السابقة وتضيف تطوراً جديداً على اللغة، والمكتشفات الأثرية في تل العمارنة تؤكد سيادة اللغة البابلية في المنطقة، أما إذا انتقلنا إلى الحديث عن القادة العظام فقد كانت بلادنا منبت هؤلاء من (لوجال كيسي) الذي يعتبر أول محرر لهذه البلاد من الغزو الخارجي، مروراً بسرجون وحمورابي وسنحاريب ونبوخذ نصر وآشور بانيبال وحانون وهاني بعل، الذي كانت تخيف به أمهات إيطاليا أطفالهن كي يخلدوا للنوم، فكان (البعبع) الذي أرهب إيطاليا لفترة طويلة، أما الحديث عن الديموقراطية فقد سادت في أغلب المدن العراقية، وقد أطلق عليها علماء التاريخ (الديمقراطية البدائية) وهناك نماذج مدونة كثيرة تؤكد وجود تلك الديموقراطية، منها تلك النصوص التي تتحدث عن أورك في عهد جلجامش الذي دعا مجلس الشيوخ ثم مجلس الشباب لمواجهة مدينة كيش، أما المدن التي أُنْشِئت في إفريقيا وأوروبا فقد كان هناك مجلس شيوخ في العاصمة قرطاج متماثل مع ذلك المجلس في روما الإيطالية.
إذن كان لنا دور حضاري متميز حققناه في الماضي، لذلك اندفعت أنظار الشعوب المجاورة إلينا ليقتبسوا منا ذلك التقدم، ولقد تكسرت تلك المقولات الخاطئة، ولم نعد أولئك البدو والقبائل المتناثرة المتناحرة التي لا يجمعها شيء، وإنما أمه قدمت للإنسانية أكثر مما قدمت الإنسانية جمعاء.
أما العامل الثاني الذي يدفع بمجتمعنا إلى العزوف عن تاريخنا القديم هو اقتصار البعض على إظهار الانجازات الحضارية والثقافية التي حققناها في الفترة الثانية من تاريخنا أي العصر الإسلامي، معتبرين ما دون ذلك ليس بذات أهمية، منطلقين من مفهوم شمولية وعالميه الرسالة الإسلامية، وهم بذلك يكونوا قد ألغوا فترة زمنية تقدر بأكثر من سبعة الألف عام من تاريخنا، وباترين بين حاضرنا وارثنا الحضاري والثقافي.
لذلك لا بد من العودة للتاريخ لفهم الكثير من الأمور الخافية علينا، ومن هنا اندفع بعض علماء الدين للتغلغل قليلاً في التاريخ القديم، وتحديداً في الفترة البابلية الثالثة وخاصة فترة نبوخذ نصر، ليفسروا بعض آيات القرآن الكريم التي تتحدث عن سبي اليهود، دون الخوض فيه بشكل متكامل وشامل، ونحن نعتقد بأن التوغل والخوض في التاريخ يوضح ويؤكد صحة ما جاء به القرآن الكريم ولا يتنافى معه، ومثل هذا التوغل سيترك فضاءات تضيء بعض المساحات الداكنة في التاريخ، خاصة إذا علمنا بأن القرآن فيه من المعرفة الشيء الكثير، من هنا فإننا ندعو الباحثين الإسلاميين إلى الخوض في غمار التاريخ القديم، ونحن على يقين بأن مثل هذه الخطوة -من الزاوية الدينية الإسلامية- ستساهم في نقض المقولات الصهيونية، وستسهم كذلك في رفع البحوث الإسلامية وستضيف إنجازاً علمياً جديداً يسجل للمسلمين.
ومن العوامل الذاتية المتعلقة بالمجتمع، اتجاه الأعلام الرسمي إلى تجهيل المجتمع وصب اهتماماته فقط على (الثقافية) السوقية، أما التعليم المدرسي فتكاد الكتب المدرسية تخلو من ذكر تاريخنا القديم، واقتصرت فقط على رَصْدِ الفترة الإسلامية والرومانية تحديداً، وهم بذلك يكونوا قد ساهموا بشكل فاعل على ترسيخ الشرخ بين ماضينا وحاضرنا، وهناك اتجاه يعمل على محو مرتكزنا التاريخي القديم مما يؤكد الفهم الخاطئ الذي يزعم، أننا لم نكن شيئاً قبل الإسلام.
من خلال ما تقدم يمكننا تفسير ندرة الكتب التي نشرت عن حضارتنا القديمة، واقتصار النشر على الموضوعات الأخرى. إلا أن هناك قطرين عربيين امتازا بالاهتمام في موضوع النشر لهذه الكتب، وهما العراق ومصر، فهناك زخم جيد تم إصداره في العراق لكتاب غربيين وعراقيين، تناولت كافة نواحي التاريخ ومن زوايا متعددة ومختلفة أثرى المكتبة العربية والعالمية بهذا الموضوع، أما في مصر فقد نشرت كتب عديدة عن الحضارة الفرعونية خاصة، وامتازت هذه الكتب بإضافة كل ما هو جديد حول حضارة مصر القديمة لمواكبتها الاكتشافات الأثرية المضطردة، حيث مازال يرزح تحت أنقاضها كم هائل من الآثار التي تنتظر من يخرجها إلى الحياة من جديد، أما في سوريا فقد كانت هناك نزعة لإصدار مثل هذه الكتب وقد تميزت إصداراتها باهتمام خاص فيما يتعلق بالأسطورة أكثر منها بالتاريخ ومساره، وفي لبنان كتب بعض الأساتذة اللبنانيين ترجمات عن اللغة السومرية والأوغارتيه والبابلية، أما باقي الأقطار العربية فلم يصدر منها إلا النزر اليسير وهذه الإصدارات لم يتم تسويقها بشكل تجاري بل بقيت محفوظة في مكتباتهم الرسمية.
الخطوط البارزة في التاريخ
الدويلات السومرية
إن قيام حضارة السومريين في جنوب العراق ترك أثراً في الحضارات التي أعقبتها، لما أوجدت من معالم حضارية متعددة ومتنوعة، أسهمت في تقدم المنطقة، أما المدن السومرية التي كانت أساساً للحضارات المدنية في العراق فقد تميزت بمواصفات كاملة لمعنى المدينة، ولم يكن ينقصها أي من مقومات التقدم الحضاري، وكانت كل مدينة تأخذ بزمام الحضارة حسب قوتها وموقعها، فمرة كانت بيد كيش وأخرى بين اورك*، وهكذا استمرت هذه الدول بالصعود بالسلم الحضاري للمنطقة بشكل منفصل سياسياً ولكنه في الوقت نفسه متكامل حضارياً وثقافياً، إلى أن جاء لوجال كيسي ووحد هـذه الدول تحت رايته، ومنذ ذلك الوقت بدأ يظهر عند الحكام الذين
تلوه مفهوم الوحدة السياسية للمنطقة، وخرجوا من مفهوم ملك المدينة الواحدة إلى ملك المنطقة، والذي تطور إلى معنى ملك الجهات الأربع.

والحضارة السومرية حققت إنجازات حضارية ساعدت على تحقيق التقدم الحضاري، فمن استخدام الدورة الزراعية وأنظمة الري إلى تدجين بعض الحيوانات إلى ظهور التعدين (النحاس، والقصدير) الذي أبقى المنطقة محصنة من التدخلات الخارجية من خلال تطوير معدات الحرب، وكان هناك اختراع الكتابة التي وثقت وحفظت كل الإرث الثقافي والأدبي والحضاري من الضياع وأظهرت ثقافتنا بصورة متميزة عن جيراننا، وكانت الأختام الأسطوانية التي استخدمت بداية للأمور الدينية من قبل الكهنة، حيث كانت هذه الأختام تعبر عن المعتقد الديني للسومريين، وتم تطوير استخدامها من قبل المجتمع لتميز أملاك الأفراد بعضهم عن بعض، وقد ترك لنا هذا العصر من المعتقدات الدينية الشيء الكثير، والتي استمرت حية لأكثر من ثلاثة آلاف سنة، ولم يتم التغيير في هذه المعتقدات إلا بصورة قليلة، مثل تغيير أسماء أو تطوير بعض الأحداث دون الخروج عن الثوابت الأساسية للفكرة الدينية، فقد ظهرت ملحمة الأنوما إيليش التي تفسر كيفية خلق الكون وما فيه من كواكب وما على الأرض من كائنات وظواهر طبيعية، وقد تم تطوير هذه الملحمة من تراكمات فكرية سابقة، حيث تم تبديل أدوار الآلهة من أنليل" " وأنكي" " كأسياد مجتمع الآلهة، إلى مردوخ" " الذي أصبح المخـلص والمنظم للكون، وتراجع
أنليل وانكي إلى المرتبة الثانية، وهناك ملحمة عشتار ومأساة تموز" " والتي تتحدث عن الجنس والخصب اللذين يصيبان الأرض والأمور المتعلقة بالموت (العالم السفلي) عند السومريين، فمثل هذه المعتقدات بقيت حية حتى العصر الروماني عندما قام الرومان وقبلهم الأغريق باقتباس هذه المعتقدات، فظهرت أفروديت عند الإغريق والتي حملت أسم عشتروت عند سكان المنطقة، أما التركة الثالثة، فكانت الأهم والأعظم في تاريخ المنطقة ألا وهي ملحمة جلجامش، فمن الحديث عن الآلهة وعظمتها انتقلت هذه الملحمة لتحدثنا عن الإنسان وما يحمل من قدرات ومشاعر جياشة، فقلبت مضمون الكتابة من الآلهة إلى الإنسان، الذي طور هذا المضمون فيما بعد ليتحدث عن تاريخ الملوك وأعمالهم أكثر مما يتحدث عن الآلهة، وبذلك تراجعت الآلهة إلى المرتبة الثانية بعد الإنسان ، وتعتبر هذه الحالة أول تحول كتابي في المضمون والشكل أحدث على الأرض، فإذا كان راسين" " قد قلب أعمال العظماء من البطولة إلى الحب والعشق، فقد جعل كتابنا ما هو أكثر ثورة في مضمون الكتابة عندما وضعوا الإنسان كمنتصر على الآلهة، فكانت الانتصارات تتحقق لهذا الإنسان عندما تم الصلح بين جلجامش وانكيدوا، ومن ثم قتل خمبابا حارس غابات الأرز، وبعد ذلك رفض الاقتران بالربة عشتار وقتل ثورها السماوي وتسديد كيلاً من الشتائم لها، واستمر هذا الانتصار حتى بعد موت انكيدو، عندما قام جلجامش برحلته الطويلة للبحث عن الخلود، إن أهم ما في هذه الملحمة على صعيد المعتقد الديني، هو وجود نص عن الطوفان الإلهي (أسبابه، الهدف منه، كيفية حدوثه، وصف ردود الفعل ثم سكونه وعودة الحياة إلى الأرض) فهذا النص جاء ليؤكد بعض النصوص السومرية الأخرى التي تتحدث عن الطوفان، ولم يتم سوى إعادة صياغة هذه الأسطورة بشكل أدبي أكثر منه ديني، فتم تحويل أسم زيو سدره أو اتراخاسيس إلى أوبشتيم، كذلك ترك لنا العصر السومري مجموعة رائعة من القطع الأدبية والدينية المختلفة، وإنتاج هائل من الأشكال الفنية المنحوتة، هذا عدا عن القوانين التي تحدد العلاقات الاقتصادية والاجتماعية وكل ما يتعلق بحياة الإنسان.
قبل الحديث عن العصر الذي ساد بعد السومريين، نريد أن ننوه إلى أن ظهور أول سيادة دولة جديدة لم يكن يعني انتهاء أو إزالة الدول الأخرى، بل يعني بقاء تلك الدول تابعة للدولة المسيطرة، ومنها من احتفظ باستقلال خاص وذلك بعد عقد معاهدة صلح، أما عملية التدمير وهدم المدن (الإزالة الجغرافية) لم يكن يمارس بتاتاً في هذا العصر، ولهذا عندما ضعفت الدولة الأكادية كانت هناك مباشرة إعادة ظهور السيادة للمدن السومرية، وهذا يؤكد على أن شعب المنطقة يمتاز بحس حضاري متميز وبعيد جداً عن العقدة الحضارية اتجاه الغير، واعتقد بأن مسألة (الإزالة الجغرافية) جاءت إلى المنطقة من الخارج عندما قام العلاميون بإزالة مدينة أور" " المدينة السومرية، وقد أعاد هؤلاء همجيتهم عندما قام كورش" " الفارسي بإزالة بابل عن الوجود، وقد تكرر هذا الفعل الهدام على يد الرومان الذين أزالوا قرطاج" " الفينيقية عن الوجود، ثم انتقل هذا الفعل الرجعي إلى أدبيات بعض التجمعات السكانية كما حصل مع العبرانيين الذين تمجدوا بعبارة [لم يبق فيها نسمة حياة].

(الإمبراطورية الأكادية)
بعد أن أستلم سرجون أمور مدينة كيش، انطلق إلى الوركاء" " حيث كانت معقلاً لوجال زاكيسي، الذي انتصر عليه ومن ثم قام بإخضاع المدن الأخرى، وأسس مدينة أكاد التي كانت بمثابة القلب للإمبراطورية الفتية، ومنها انطلق نحو أماكن التوتر، ويذكر لنا التاريخ حادثة تدور حول رعايا سرجون، الذين تعرضوا للظلم في مدينة بورشخندا على يد حاكم المدينة، مما دفعه للقيام بحملة عسكرية لانتزاع حق هؤلاء الرعايا، رغم وعورة الطريق وبعد المسافة، ولقد تم له ذلك، وبهذا يكون سرجون أول من مارس عملية القصاص ممن هم خارجون عن حكمه لصالح أفراد شعبه.
وعلى صعيد البناء فهو مؤسس مدينة أكاد وعمل على إعادة بناء المدن الأخرى وتوسيع أسوارها، وكانت التجارة في عهده مزدهرة جداً، وانتقلت من بين المدن القريبة جغرافَيْاً إلى ما وراء جبال طوروس وزاغورس، وهذا الأمر يشير إلى اتساع رقعة الإمبراطورية وإلى الأمان الذي تحقق في عهده، أما اللغة الأكادية التي كانت ضمن اللغات الجزرية فقد أصبحت اللغة التي يتراسل بها حكام الأقاليم، وقد استمرت الدولة في الازدهار والرقي والمحافظة على حدودها، حتى أن أحد ملوكها هو نيرام" " سين لقب بملك الجهات الأربع، والمتمعن في حدود الأكاديين، يجد بأنها تمتد من الخليج العربي جنوباً، إلى جبال طورس شمالاً ومن البحر المتوسط غرباً، إلى جبال زاغورس شرقاً، وبذلك تكون هذه الدولة قد أكدت اللحمة الحضارية والثقافية للمنطقة، ورغم اختلاف اللغة السومرية عن الأكادية، والجنس السومري عن الأكادي، إلا أن الوحدة الثقافية كانت كافيه لصهرهما معاً، ولقد استمرت اللغة الأكادية كلغة كتابة حتى ظهور السيد المسيح، وهذا يدل على أن هذه اللغة كانت من التطور بحيث بقيت حية لفترة تزيد عن الألفي عام. وللتأكيد على عظمة هذه الدولة وعلى استمرار التواصل الحضاري والثقافي في منطقتنا، نرى الدول التي أعقبتها قامت بتسمية ملوكها بأسماء ملوك الدولة الأكادية، فهناك أسماء سرجون ونرام سين الذين تكرر في الدولة الأشورية رغم البعد الزمني بين هذه الأسماء، وبعد خمسة ملوك حافظوا على وحدة البلاد، بدأت تظهر بوادر الانفصال في الدولة على يد حكام مجموعة من المدن أهمها: أور ولكش، وبذلك تكون بداية انهيار الدولة الأكادية، وأعادت المنطقة إلى حالة من التقسيم والتشرذم، إلى أن ظهرت مدينة
قويه استطاعت أن تعيد الوحدة لها من جديد.

عصر الدويلات السومرية // آور
لقد استطاع أور نامو أن يبني دولة قوية موحدة، وأن يضع القوانين والأنظمة التي حافظت على حقوق الأفراد وحدود الأقاليم، وقد سمىَ القانون الذي وضع في آور باسم ملكها الذي يعتبر من أقدم القوانين في العالم، وقد قام بتطوير نظام بناء الزقورة الذي انتشر في جميع المدن العراقية، وأصبح هذا النمط من المعابد نموذجاً يميز المدن العراقية عن غيرها من المدن، أن عملية تحديد صلاحية كل حاكم ووضع الحدود الجغرافية لمنطقته، كان يعتبر بمثابة أعطاء استقلالية ذاتية لهؤلاء الحكام، وكان هذا العمل هو بداية فكرة اللامركزية في الحكم التي انتشرت فيما بعد.
لقد كانت عملية انهيار الدولة في عهد آبي سين الذي يعتبر من أهم قادة المنطقة، رغم انهيار المملكة في عهده، فقد استطاع أن يمدد في عمر الدولة، رغم قساوة الطبيعة التي جعلت الأرض لا تصلح للزراعة بسبب زيادة نسبة الملوحة فيها، ورغم انسلاخ حكام الأقاليم عنه، ومحاولتهم انتزاع عاصمته من بين يديه، فقد أستطاع أن يبقى أور صامدة، ومن العوامل الخارجية التي ساعدت على انهيار الدولة وجود العلاميين، الذين كانوا يترقبوا الفريسة حتى ينقضوا عليها، وبذلك انتهى عصر السيادة الوطنية وحل محلها عصر الاستعباد والتخلف، وفي هذا العصر ظهر في مدينة لكش مصلح سياسي اجتماعي ترك بصمات واضحة في التاريخ، وهو كوديا الذي كان مثالاً لرجال الدين في التقوى والورع، ويعتبر هذا الحاكم الرجل الثاني بعد اوكرجينا في الإصلاح الاجتماعي.
الدولة البابلية
لقد اندفعت هجرات متعددة في المنطقة نحو مراكز الأنهار، فكانت حركة المهاجرين تتجه نحو الشرق ـ دجلة والفرات ـ وغرباً نحوه النيل، وهؤلاء قلبوا موازين القوى في المنطقة لما امتازوا به من مقدرة فائقة على ركب سلم الحضارة، ونحن في هذا الموضع سنتحدث عن تلك الهجرات التي حدثت في المنطقة الشرقية ـ الرافدين ـ وسنترك الحديث عن الهجرات الغربية -النيل- في موضع آخر، لقد استطاع هؤلاء القادمون من الغرب (بلاد الشام) أن يفرضوا سيطرتهم على مدينة بابل، وأن يؤسسوا مملكة خاصة بهم، وأن يتعايشوا مع جيرانهم بكل ود وبدون أن يفرض عليهم حظر (الجيتو)، لأنهم كانوا يعتبرون من نفس المنطقة ويحملوا ثقافتها ويتكلموا لغتها، فلم تكن ثقافة المهاجرين تختلف عن ثقافة سكان بلاد النهرين ولغتهم عن اللغة الأكادية، وهذا يؤكد بأن الأكاديين استطاعوا أن يجعلوا لغتهم هي الأكثر انتشاراً ومن ثم اللغة الأكثر تداولاً في المنطقة، إلى أن انتهت دولتهم وأخذت كل مدينة تسير حسب مصلحتها، وانعكس ذلك على اللغة، التي أخذت (اللهجة) في البداية تميز سكان المدن عن بعضهم البعض، ثم تطورت إلى لغات خاصة بهذه المدن، إلا أن تلك اللغات والتي أطلق عليها (جزرية) لا تختلف كثيراً عن بعضها فهي في علم اللغة تكاد تكون واحدة حيث مصدرها واحد.
وعودة إلى مدينة بابل التي سيطر عليها الأمور يون الذين يتحدثون بلغة أرض كنعان، فقد كانت هناك فكرة السيطرة على كل المنطقة سائدة خاصة بعد أن احتل العلاميون على قسم كبير منها، ففي عهد الملك حمورابي أخذ في تطبيق هذه الفكرة مرة عن طريق السلم وأخرى عن طريق الحرب، واستطاع هذا الملك أن يعيد اللحمة الجغرافية السياسية للمنطقة، وكان استعمال الأنظمة الرادعة لكل محاولات الانفصال عن المركز أو اتساع رقعة الحكام من الأمور التي ثبتت هذه المملكة، ورغم صرامة القوانين التي وضعت في عهد حمورابي، إلا أنه استطاع أن يحافظ على سير الحياة بانتظام وفق هذه القوانين، وسنتطرق هنا إلى بعض المواد من شريعة حمورابي لتبيان التطور الذي ساد في المنطقة، من خلال وجود القوانين التي تأخذ بالظروف الاستثنائية لأفراد الشعب.
المادة (48):
(إذا كان على رجل دين وخرب إله الأعاصير (ادد) حقله أو دمره الفيضان أو أن الغلة لم تنبت لقلة الماء. ففي هذه السنة لا يعيد الحبوب (التي اقترضها) إلى دائنة ويلغي عقده ولا يدفع فائضاً لتلك السنة)" ".
المادة (56):
إذا فتح رجل الماء وخرب العمل الذي أنجز في حقل جاره فعليه أن يدفع (لجاره) عشرة كور من الحبوب لكل بور (من مساحة الحقل)" ".
المادة (148):
( إذا أخذ رجل زوجة وأصابها مرض خطير، فإذا عزم على الزواج من امرأة ثانية فيمكنه أن يتزوج ولا يجوز له أن يطلق الزوجة المصابة بالمرض الخطير، ولها أن تسكن في البيت الذي بناه ويستمر (الزوج) في تحمل (مسؤولياته) ما دامت على قيد الحياة)" ".
هذا عدا العديد من القوانين التي تضرب بيد من حديد لكل من يتعدى حدود القانون، فمبدأ العين بالعين والسن بالسن هو من المواد الأساسية في هذه الشريعة، وهناك العديد من المواد التي تنظم حياة المجتمع والأسرة. وعلى صعيد العمران استطاعت بابل أن تبقي أجمل وأروع مدينة في المنطقة، خاصة بعد أن أضاف الملوك المتعاقبين عليها العديد من الإضافات ذات الروعة العمرانية فبوابة باب ومعبد عشتار وحدائق بابل المعلقة من المعالم التي بهرت لاسكندر عندما سمع بها، ولذلك حاول إعادة بناء تلك المدينة العظيمة بعد أن خربها الفرس، إلا أنه لم يستطع، وهذا يؤكد بأن بابل كانت مدينة ذات معالم فريدة جداً، واستطاعت أن تجعل من نفسها خالدة إلى الأبد، من خلال حدائقها المعلقة التي تعتبر من عجائب الدنيا السبع حسب الترتيب الإغريقي" ".

الدولة الآشورية
منذ بداية القرن العاشر ق. م أخذت الدولة الآشورية تنافس المراكز القوية في المنطقة لتأخذ مكانها في الصدارة، وتحقق حلمها في القرن التاسع ق . م، وخلال فترة حكمهم كانت آشور هي القوة الكبرى في المنطقة حتى أن قادتها دخلوا مصر وطوعوها لدوائرهم، ولقد تحدث التاريخ عن تلك الجحافل الآشورية وكأنها الإعصار المدمر في المنطقة، لأنها أرهبت كل الدول وفرضت هيبتها على الجميع، وبنفس الوقت كانت هناك عملية بناء معاكسة تجري في المنطقة قام بها الآشوريون. ولتأكيد ذلك سنورد نص آشوري يتحدث عما كان يجري في تلك الدولة:
(امتلكت فن سيدي أدابا: كنزاً لمعرفة الكتابية المكنون بأكمله، علامات الأرض والسماء، ودرست السماوات مع أساتذة زيت التقديس الجهابذة، وأوجدت حلولاً لأسئلة طويلة معقدة في القسمة والضرب، وقراءة الخط الفني السومري واللغة الأكادية الغامضة التي يصعب تعليمها، مستمتعاً بمطالعة أحجار ما قبل الطوفان)" ".
إن هذا النص الذي كتب على لسان آشور بانيبال" " يعبِّر عن مجرى الحياة الثقافية والعلمية الذي ساد في المنطقة، فنجد الاهتمام باللغات الأخرى وهذا يشير إلى التواصل الثقافي والحضاري لشعب المنطقة، والوحدة الثقافية الحضارية التي تميزت بها، فلم تكن الثقافة السومرية لتتناقض مع الأكادية والبابلية أو الآشورية، وإنما كانت عملية الإضافة والتطوير لهذه الثقافة هي المتبعة عند سكان الهلال الخصيب، أما فيما يتعلق بالعلوم والمعرفة فإن الاهتمام به كان يسير في نفس اتجاه الاهتمام بالعلوم الأخرى، ورغم قلة وشح المواد المتوفرة حول هذا الموضوع، إلا أن هناك نصوص متفرقة تتحدث عن عملية التعليم التي اتبعت، وينعكس ذلك في الأمثال الشعبية المستخدمة في ذلك الزمن.
فن الكتابة أبو العلماء وأم الخطباء" "
وإذا تتبعنا الفنون التي أبدعها أسلافنا، لوجدناها تتسم بالوحدة الثقافية، فلم تكن الفنون السومرية لتتناقض مع الأكادية أو البابلية أو الأشورية، وجاءت كل تلك الفنون لتصور لنا المعتقد الديني الذي يتمثل يعين الفكرة.
المدن الشامية
ظهرت في الشام مجموعة متعددة من الممالك والدول ليست بذات توهج عسكري كما هو الحال في العراق، وإنما ذات قدرات تجارية خارقة، استطاعت أن تفتح المناطق المجاورة للنفوذ الهلالي بطرق سلمية، وأن تبقى كقوة تجارية لها هيبتها الاقتصادية المؤثرة، فقد استطاعت مدن صور وصيدا على تكوين سلسلة من المدن على البحر (الفينيقي) فرضت نفسها في الساحل الجنوبي والشمالي للبحر المتوسط، وتم تشكيل إمبراطورية تجارية ضخمة صالت وجالت في محيط المتوسط لفترة تزيد عن أربعمائة عام، فمنذ القرن الرابع عشر ق.م والمدن الفينيقية في ساحل المتوسط، وحتى أنه سُمي باسمها (البحر الفينيقي)، والمكتشفات الأثرية في إسبانية توضح لنا المكانة الحضارية التي استطاع أجدادنا الفينيقيون أن يحققوها، وقد ظهر خلال الفترة الفينيقية قادة عظام لا يقلون أهمية عن أمثالهم العراقيين، فبرز هاني بعل" " الذي يعتبر من أعظم القادة العسكريين في العالم القديم، لما اتصف به من قدرات متعددة على تحقيق النصر، فكان يتعامل في كل واقعة حربية بصورة تتلاءم مع ظروفها، وكان يبتكر الأساليب الجديدة في حروبه، ففي إحدى المواقع استخدم قرون الأبقار كمشاعل نيران وكرأس حربة ضد الرومان، وقد تحقق له في تلك المعركة النصر، ولم يذكر لنا التاريخ بأن هذا القائد هزم في أي مع المعارك التي خاضها بتاتاً، أما على صعيد البناء والعمارة فقد كانت شهرة الفينيقيين واسعة، حتى أن الملك سليمان طلب من ملك صيدا أن يرسل له المهندسين ليخططوا له بناء الهيكل، وكانت مدينة قرطاج من أعظم المدن في ساحل المتوسط، لما اتسمت به من تنظيم واتساع ومواقف عامة، حتى أن القائد الروماني الذي أحرقها قال (لن يرحم الله روما على فعلتها) فهذا الروماني الذي شاهد قرطاج وهي شامخة، ذات الأسوار والميناء التجاري والحربي والمباني والمعابد وصاحبه الهيبة والعظمة البحرية، مجرد تل من الحجارة والبيوت المبعثرة والطرق الوعرة، جعله يندم على فعلته وهذا الأمر يشير إلى العظمة التي كانت عليها قرطاج، أما بقية المدن الفينيقية على سواحل المتوسط، فلم تكن أكثر من ممالك صغيرة تابعة إما للفرعون المصري أو للملك العراقي، وهذا لا ينفي أن يكون بعضها قد أخذ في الاتساع وتحقيق انجازات عظيمة مثل مدينة أوغاريت الكنعانية، إلا أن هذا التوسع والازدهار لم يدم طويلاً، وكذلك فإن العديد من المدن الشامية لم يتم نبش ماضيها بشكل كامل، وهذا الأمر يجعلها مجهولة التاريخ نسبياً، لكن المؤرخين يتحدثون بشكل عام عن بقائها ممالك صغيرة.
قبل الخوض في هذا الإصحاح، ننوه إلى أننا ارتأينا إلى أن نضيف نصوصاً من المعتقد الديني المصري إلى جانب الهلالي لما فيه من تأثير وتماثل مع المدون التوراتي، ونعتذر للقارئ عن هذا الخروج، ونرجو أن تكون هذه الإضافة فيها من الفائدة والمعرفة المبرر لوجودها.






دراسة مقارنة لبعض النصوص المصرية والهلالية مع التوراة
سفر التكوين الإصحاح الأول*
ـ خلق الكون وما فيه من حياة ـ
يبدأ هذا الإصحاح بالحديث عن النور والظلمة، ثم ينتقل إلى المياه والفصل بينهما، وبعد هذه الأحداث الكونية، يبدأ الحديث عن خلق النباتات على اليابسة، ثم يرجع إلى الكون ليفصل بين الإجرام السماوية التي تحيط بالأرض، ويعيد ذكر تفاصيل المخلوقات المتنوعة عليها من مياه ويابسة، وكائنات حية من نباتات وحيوانات وبشر ومخلوقات أسطورية، قبل الخوض في هذا الأمر نود أن نسرد بعض النصوص الدينية التي كانت سائدة عند شعوب المنطقة، ثم نقارن هذه النصوص التي سادت مع ما هو مدون توراتياً، ونبدأ بالديانة المصرية القديمة.
ـ التكوين المصري والتوراتي ـ
(لقد خلق الله الكون وخلق كل ما فيه، أنه خالق جميع ما في هذا العالم، جميع ما قد كان وجميع ما يكون..، أنه خالق العالم وهو من صاغه بيديه قبل أن تكون ثمة أية بداية، ولقد أسسه بما قد انتشر منه، أنه خالق السماوات والأرض والأعماق والمياه والجبال، لقد بسط الله السماوات وأسس الأرض، فما يتخيله فؤاده يصير على الفور، وحين يكون قد تكلم فإن كلمته تتحقق وأنها سوف تدوم إلى الأبد) " ".
(لقد أنشأت نشوء الناشئات... جرثومة المادة الأولى، لقد نسجت إرادتي كلياً في هذه الأرض وانتشرت في الخارج وملأتها وقويتها بيدي، وكنت وحيداً لم أكن قد فصلت عن نفسي أياً من شوا أو تفنون، ولقد نطقت اسمي بوصفه كلمة القوة من ثغري الخاص...، ما من شيء كان على هذه الأرض، فلقد صَنَعْتُ كل شيء، ولم يكن ثمة من يشتغل معي في ذلك الزمن، ولقد اجترحت النشوءات طراً يومذاك بواسطة تلك النفس التي صنعتها ثمتئذ، والتي كانت قد ظلت عاطلة في الهاوية المائية ويومئذ، ما وجدت مكاناً أقف عليه...، وخلقت حشوداً من الأشياء أنشأت أنفسها كما فعلت نشوءات الإله خبيراً، وجاءت ذريتها إلى الكينونة من نشوءات ولاداتها، ثم أنني قد فصلت عن نفسي كلاً من الإلهين شو وتفنون) " ".
(لأنك لتشرق وتسطع وأنك لتصنع النور ليكون في أمك نون (أي السماء)... إن عدوك الأفعوان قد ألقي به في النار، والعفريت الافعواني سبارو قد سقط فعلاً " ".
(لأنك سيد الأرض، وصنعت البشر، وصنعت الهاوية المائية، وشكلت حابي (أي النيل)، وخلقت العمق العظيم، ووهبت الحياة لكل ما هو في الحياة، ولقد لحمت الجبال بعضها إلى بعض، ولقد جعلت البشرية وحيوانات الحقل تجيء إلى الوجود، ولقد صنعت السماوات والأرض...، لقد سقط ناك ذلك العفريت ألأفعواني ولقد بتر ذراعاً)" ".
إذا عدنا إلى هذه النصوص التي كتب بعضها في حدود (3000) ق. م والبعض الآخر في حدود (2000) ق. م. نجد التماثل في الخلق مع ما هو مدون في التوراة، وسنبدأ الآن بتفصيل هذا التماثل بين المعتقد الديني المصري القديم والمعتقد التوراتي، بداية تتحدث التوراة عن الفوضى والخراب والمياه التي تعم الكون، فهناك عدم التنظيم الذي يجتاح الكون بما فيه الأرض.
(وكانت الأرض خربة وخالية، وعلى وجه الغمر الظلمة، ورح الله يرف على وجه المياه).
إن هذا الوصف جاء كتطوير للنص المصري والذي يشير إلى
نفس المعنى (والتي كانت قد ظلت عاطلة في الهاوية المائية)، وجاءت التوراة بنفس الوصف، وذلك عندما أشارت إلى [(وروح الله يرف على وجه المياه)]، والتي تقابلها في النصوص المصرية (ما وجدت مكاناً أقف عليه)، وهذا يعني أن الله لم يطأ الأرض أو المياه لأنها في حالة فوضى، إذن هناك اتفاق بين المعتقد المصري والتوراتي على أن الكون في حالة من الفوضى، مع أقدميه النص المصري على التوراتي.
أما الحديث عن كيفية التنظيم لهذه الفوضى، فنجدها عند المصرين قد تمت بطريقتين، الأولى (فيما يتخيله فؤاده يصير على الفور) والثانية (وحين يكون قد تكلم فإن كلمته تتحقق)، (ولقد نطقت اسمي بوصفه كلمة القوة من ثغري الخاص)، إن استخدام التوراة للكلمة (قال) في كل عملية خلق جاء منسوخاً عن هذه النصوص، فنجد كلمة [(قال الرب ليكن)] هي المفتاح لوجود المخلوقات المتنوعة التي ذكرت في التوراة، ونود هنا الإشارة إلى أن النص المصري جاء (الله) فيه أقوى من النص التوراتي، وذلك لأن هناك صيرورة للأشياء تحدث بمجرد أن يخطر على قلب الإله، أما في التوراة فيجب أن ينطق الله ليكون هناك خلق، وكذلك هناك العدم الذي كان سائداً، والذي تحول إلى وجود ملموس أو مشاهد بواسطة القدرة الإلهية حسب النص المصري (إذا ما من شيء كان قد جاء بعد)، وهذه العبارة تؤكد على أن العدم كان سائداً قبل الخلق، وكانت هناك قوة تخلق من اللاشيء هذا الكون، لكنها عند التوراتيين خلق من شيء موجود، فجاءت عملية التكوين من مواد جاهزة يعتريها حالة من الفوضى والهيام بدون هدف أو شكل محدد، فهي إذن مواد خام تصلح لتكوين أشياء متنوعة ومختلفة، فكما يفعل الحِرْفِي من المواد الخام مصنوعات رائعة، فعل الآلة التوراتي كذلك، فكان أقرب ـ بعمله إلى الإنسان منه إلى آله، وهذا لتأنسن للإله التوراتي واضح من خلال الإصحاح [(فخلق الله الإنسان على صورته. على صورة الله خلقه)] أن هذا التدني لصورة الإله التوراتي ورسمه بصورة إنسان، جاء كنتيجة طبيعية لعملية (الخلق) الذي قام به الإله، والتي هي عملياً أقرب إلى عملية التصنيع منها إلى الخلق، فأي إله هذا الذي يعجز عن ابتكار شكل مغاير لشكله؟
إن رسوخ النص المصري جاء من خلال تدوينه حسب الاعتقاد الديني الذي ساد في مصر في تلك الأزمان، أما النص التوراتي فقد تعرض لعملية تأثير كبيرة قبل أن يدون من قبل كاتبيه، لهذا جاء هذا الانتقاص من قدرة الإله من خلال التأثير بالمعتقدات الدينية التي عمت المنطقة، فإذا كان في مصر الإله هوا لملك، وهذا ترك الكثير من الترسبات الفكرية عند التوراتيين، خاصة أنهم عاشوا فترة طويلة في مصر، فأن الملك عند الهلاليين كان يجسد فيه الإله وكان يحكم بأمر الله، ولا يغيب عن ذهننا طقوس الزواج المقدس التي كانت تمارس عند الهلاليين، فهذه العمليـة كانت تتم في مكان عام يمارس فيـه الملك ـ والذي يمثل الإله ـ طقـوس الحـب مـع الكـاهنة العـظمى في المعبد ـ والتي تمثل الآلهة ـ ونعتقد بأن هذه الطقوس كانت لا بد أن تترك أثاراً في فكرة الإله عند من يشاهدها، وإذا عدنا إلى الأسطورة المصرية وجدنا فيها الكثير من هذا النمط وعن الإله ذو الأفعال والأحاسيس الإنسانية، من هنا جاء احتفاظ النص الديني القديم بأصالته الدينية والتاريخية، حسب المعتقد الفكري للمجتمع القديم، وهذا الأمر انعكس دينياً وفكرياً على التوراتيين مما جعل إلههم يلبس الثوب الفكري والمسلكي لتلك الأفكار. وعودة إلى تفاصيل الخلق كما هي مدونة في التوراة [(وقال الله ليكن جَلَداً في وسط المياه. وليكن فاصلاً بين المياه ومياه... ودعا الله الجلد سماء)].
أن عملية التنظيم لتلك المواد بحاجة أولاً إلى عملية التنقية والفصل بينهما، لكي يكون هناك تمايز بين خصائصها، فكانت لا بد منها كفاتحة لعمليات تابعة لها وكمبرر لما سيحدث بعد عملية الفصل.
لقد وردت عملية الخلق في النصوص المصرية بعبارة (أنه خلق السماوات والأرض والأعماق والمياه والجبال، لقد بسط الله السماوات وأسس الأرض فيما يتخيله فؤاده) أن عملية الخلق عند المصريين جاءت كفعل الهي خلاق، وتمت بدون أن يكون هناك ثمة شيء، فكانت عملية خلق السماء من إلهام وجدان فؤاد ألإله المصري، وكذلك بقية المخلوقات الأخرى. ولقد تحدثت النصوص المصرية عن فعل (الفصل) وذلك عندما فصل شو وتفنون عن نبرتشر" "، فنحن نجد بأن هذه الكلمة (الفصل) قد جاءت بأكثر من موضع في النصوص الدينية المصرية، وهذا الأمر لا يمنع التوراتي قارئ تلك النصوص من أن يتأثر بها، خاصة إذا علمنا بأنها تتعلق بحدث كوني عظيم فصل السماء عن الأرض أو اليابسة والماء. من هنا جاء تأثير النص التوراتي بفعل (الفصل) المصري، ومع أن المصري يتحدث عن انفصال الهين عن جسم الإله أحداهما هو شو الذي قام بفصل السماء عن الأرض، وهذا الأمر اختصره التوراتيون وجعلوا عملية الفصل تتم بواسطة الإله الأول وليس الإله الابن، والمتمعن في الصورة المصرية للخلق يجد بأنها أهدى من تلك التوراتية، حيث أنها إضافة كلمة (بسط الله السماوات) وهذه أرفع وأجمل من كلمة (الفصل)، أما خلق اليابسة وتنظيم تواجد الماء عليها، فجاءت بـه التوراة على النحو التالي [(وقال الله لتجتمع المياه تحت السماء إلى مكانٍ واحدٍ ولتطهر اليابسة ودعا الله اليابسة أرضاً ومجمع المياه دعاه بحاراً)]، رداً على هذا النص نريد العودة قليلاً إلى ما اقتبسناه من الديانة المصرية، لنرى أن مصدر الأشياء والمخلوقات هو الكلمة التي يصدرها الإله، وهي بمثابة المبرر لوجود المخلوقات (وحين يكون قد تكلم فإن كلمته تتحقق وأنها سوف تدوم إلى الأبد) إذن حسب مفهوم الوجود عند المصريين والعبرانيين هو مفهوم واحد، لكن من أين تأتي أسماء هذه المخلوقات ؟ أن النصوص المصرية تتحدث عن خلق السماء باسمها وكأنها معروفة سلفاً بأنها سماء وكذلك بالنسبة لبقية المخلوقات، وهناك فقرة في النص المصري تشير إلى أن مصدر الأسماء كذلك هو من الإله المكون لهذا الوجود (لقد نطقت اسمي بوصفه كلمة القوة من ثغري الخاص) أن مثل هذه العبارة لتحمل بين معانيها أن الذي يمنح الموجودات (الوجود والأسماء) هو الإله، فهو صاحب الحق في إعطاء الأشياء أسماءها دون سواه، من هنا نجد التأثير المصري مرة أخرى في المدونات التوراتية، فهما يتماثلا تماماً مع بعضهما في الأفعال والأقوال والمميزات والقدرات، أما تفاصيل الخلق أن كانت في السماء وما فيها من أجرام، والأرض وما عليها من معالم وكائنات متنوعة، فقد ذكرت هذه التفاصيل في النصوص المصرية، فنجد فيها الحديث عن خلق المياه والبحار بالنسبة للمصرين ـ النيل ـ (وضعت الهاوية المائية وشكلت حابي (أي النيل)) نجد هذه العبارة متناظرة مع تلك التوراتية من حيث المضمون، وهناك فقرة أخرى تتحدث حول هذا الموضوع (وخلقت العمق العظيم... ولقد لحمت الجبال بعضها إلى بعض) أن تركيز التوراة على تفاصيل المخلوقات الأرضية جاء كتطوير لما ذكرته الديانة المصرية القديمة، ومع أن المصرين اكتفوا بإشارة إلى النباتات بعبارة (حيوانات الحقل) فكانوا بهذا يشيرون إلى النباتات والحيوانات معاً، أما التوراتيون فقد سردوا تفاصيل تلك المخلوقات، والحديث عن الشمس والقمر جاء في التوراة كما يلي [(فعمل الله النورين العظيمين)] أن هذا الوصف هو مبرر للرؤيا ولمعرفة الأيام والسنين، أما المصرين، فكانوا مهتمين بالشمس أكثر من القمر، على العكس من جيرانهم الهلاليين، الذين أعطوا القمر (سن) أهمية أكبر من الشمس، والتي هي إحدى أبناء القمر حسب المعتقد الهلالي. إن النصوص المصرية زاخرة بالحديث عن الشمس والتغني بها، خاصة في زمن (أخناتون) الذي رمز الإله (أتون) الأوحد كالشمس، ومنع بقية الرسوم الأخرى التي لا تحمل هذا الرمز (الشمس))، من هنا نجد التأثير المصري قد أنعكس بشكل مكرر في التوراة، فمن السطر الرابع عشر إلى التاسع عشر ذكرت كلمة النور ومشتقاتها ثمان مرات وهذا يعكس حجم التأثير المصري على كتبت التوراة، وإذا عدنا إلى البرديات المصرية نجد كلمة الشروق والنور مستخدمة بإسهاب في هذه النصوص (أنك لتصنع النور) ( أنك تشرق أنك تشع) (أحبك أيها القرص يا سيد الأشعة يا من تشرق على الآفاق يوماً بعد يوم)" " أننا نرى في هذه العبارات البصمة المصرية قد تركت آثارها بكل وضوح في التوراة، فمن يقرأ مثل هذه العبارات باستمرار ومن منطلق عقائدي لا بد أن يتأثر بها، خاصة إذا عرفنا مقدرة تأثير أهل السلطة على العبيد أو العامة. أما حديث التوراة عن [(التنانين العظام)] فهو تأكيد آخر على أن هناك اقتباس من المعتقدات المصرية والهلالية حيث هناك ذكر لهذه المخلوقات في النصوص المصرية (أن عدوك الأفعوان قد ألقيه في النار الأفعوان سبارو قد سقط فعلاً)، أما التنين عند الهلالين فجاء بأكثر من صيغة فهناك (خمبابا) حارس غابات الأرز الذي صرعه جلجامش، وهناك يم الذي يتصارع مع الإله بعل، وهناك ذكر آخر له في ملحمة في "العلى عندما"، هذا عدا عن المخلوقات الأسطورية الأخرى، خاصة تلك التي تتحدث عن العالم السفلي، أما في أدبيات الشعوب الأخرى فنجد هذا الكائن يكرر نفسه حتى أن بعض الشعوب في شرق آسيا تقوم بطقوس تمثل هذا الكائن، ويلفت انتباه القارئ للتوراة أن هذا المخلوق ذكر بشكل منفصل عن المخلوقات الأخرى [(وقال الله لتفض المياه زحافات ذات نفس حية وليطر طير فوق الأرض على وجه جلد السماء فخلق الله التنانين العظام وكل ذوات الأنفس الحية)] وجاء خلق التنين كحشو زائدة أدخلت على بقية المخلوقات، فهو ليس متميز عن (ذوات الأنفس الحية) فلماذا هذا التخصيص إذن!.
إذا تتبعنا تكملة الإصحاح نجده عبارة عن تفصيل لتلك المخلوقات، وجاء ذكر الإنسان من جملة ما ذكر، وهذا التخصص للإنسان ورد في جميع المعتقدات الدينية لدى شعوب المنطقة، وسنتطرق إلى كيفية خلق الإنسان عندما نتحدث عن الأسطورة الهلالية.
من خلال ما تقدم نستطيع القول بأن هذا الإصحاح فيه من الأفكار الدينية المصرية الشيء الكثير، ويكاد أن يكون صور منسوخة عما كان يعتقده المصريون، خاصة إذا علمنا بأن الأسطورة الدينية كانت تتطور باستمرار عند كافة شعوب المنطقة، دون أن تفقد مسارها العام، وهذه الإضافات كانت تمنحها صبغة أجمل، وتضيف إلى أعمال ألآلهة الاهتمام الأكثر بالمخلوقات وتفاصيلها.
ـ التكوين الهلالي والتوراتي ـ
والآن ننتقل إلى الحديث عن الأسطورة الهلالية وسنأخذ بالملحمة البابلية الأنوماايليش، والتي تسمى بالمفهوم الغربي (التكوين البابلي)، وهي رديف في مضمونها لسفر التكوين التوراتي، إلا أن القدم والأسبقية لهذه الملحمة على النص التوراتي، والتي تقدر بأكثر من ألف وخمسمائة عام على كتابتها قبل بعثة موسى عليه السلام، وإذا أضفنا إليها تاريخ بداية كتابة التوراة (500) ق.م يكون الفرق الزمني بين الملحمة الهلالية وكتابة التوراة (2200) عام، وهناك تأكيد بأن عصر بداية كتابة التوراة كان في بابل أيام سبيهم فيها وقد انتهوا من كتابتها في القرن الثاني الميلادي، ويضاف إليها إعادة ترجمة النص التوراتي القديم إلى النص المتداول وعملية تنقيط الأحرف التوراتية في القرن السادس الميلادي، فتكون عملية أخراج النص الحالي قد استغرقت حوالي (1100) عام، من هنا نؤكد بأن الأفكار الهلالية قد تركت معالمها في التوراة. ولقد اخترنا الأنوماايليش في هذا الموضوع ولم نتطرق إلى الأفكار الهلالية الأقدم منها، لأننا وجدنا هذه الملحمة قد جاءت حاملة مضمون فكرة وجود الكون وما فيه حسب المعتقدات والأفكار التي سبقتها، ولأنها تميزت عن ما سبقتها بالشمول والكمال، ولأننا وجدنا نصَّاً كاملاً لهذه الملحمة في أكثر من كتاب، أما عن الأفكار التي سبقتها فلم نحصل إلا على مقتطفات متفرقة ومبتورة ولهذا وبعد المقارنة بين الملحمة وتلك النصوص، وجدنا الأفضلية للأنوماايليش على غيرها، وهذا الأمر لا يقلل من أهمية تلك الكتابات بل يعطيها المفهوم الأساسي الذي تكونت منه الملحمة.
والآن نفتح صفحات الملحمة والتي تتحدث عن الفوضى التي تعم الكون، فلم يكن هناك أرض ولا سماء ولم يكن موجوداً من الإلهة سوى ابسو وممو وتعامة، وهذه الأخيرة قامت بإنجاب مجموعة من الآلهة الأخرى سببت الإزعاج لها، مما دفعها للبحث عن وسيلة تبيدهم فيها، فيعرف الأبناء بذلك، وينتخب من بينهم قائداً لمواجهة إلام تعامة وجيشها، ويختار مردوخ الأكثر شجاعة للقيادة، وتبدأ عملية الاستعداد لهذه الحرب من الطرفين، فتخلق الإلهة الآباء (تنانين ضارية تبعث الهلع وأفاعي هائلة وأبا الهول والأسد الجبار والكلب المسعور والرجل العقرب وعفاريت العاصفة والذبابة العملاقة) إلا أن هذه الأسلحة تنهار أمام صلابة مردوخ الذي يتخذ من الرياح سلاحاً فتاكاً فيبطش بكينغو زوج تعامة وينتزع منه ألواح القدر ثم يواجه تعامة ويرمي (بالرياح الشيطانية) عليها فتمزقها ومن جسدها تبدأ عملية خلق الكون
(شقها نصفين فانفتحت كما الصدفة
رفع نصفها الأول وشكل منه السماء سقفاً
وضع تحته العوارض وأقام الحرس
أمرهم بحراسة مائها فلا يتسرب
ثم جال أنحاء السماء فاحصاً أرجاءها
... ثم أعطى الانو وانليل وايا مساكنهم " "
خلق محطات لكبار الإلهة (يستريحون بها)
أوجد لكل مثيله من النجوم
حدد السنة وقسم المناخات
ولكل من الثني عشر شهراً أوجد ثلاثة أبراج
وبعد أن حدد بالأبراج أيام السنة
خلق كوكب المشتري ليضع الحدود
وعلى جانبيه خلق محطتي انليل وايا
فتح بوابتين في كلا الجانبين
ثم أخرج القمر فسطع بنوره وأوكله بالليل
وجعله حلية له وزينة وليعين الأيام
"أن أطلع كل شهر دون انقطاع مزيناً بتاج
وفي أول الشهر عندما تشرق على كل البقاع
ستظهر بقرنين يعينان ستة أيام
وفي اليوم السابع يكتمل نصف تاجك"
وبعد أن وكل بالأيام شمش (اله الشمس)
وفصل بين تخوم النهار وتخوم الليل
أخذ من لعاب تعامة
وخلق منها مردوخ
خلق منها الغيوم وحملها بالمطر والزمهرير
دفع الرياح وانزل المطر
وخلق من لعابها أيضاً خباباً
ثم عمد إلى رأسها فصنع من تلالاً
وفجر في أعماقها مياهاً
فاندفع من عينيها نهرا دجلة والفرات
ومن فتحتي أنفها...
وعند ثديها رفع الجبال السامقة
وفجر منهما عيوناً واحيا آباراً
لوى ذيلها وثبته في الأعالي
فانفتح شقاها ثبت في السماء
فغطاها جميعاً وشق رسخ أرضاً
... في وسطها أسال مجرى عظيماً
ثم نزع عنها شبكته تماماً
وقد تحولت إلى سماء وأرض
رسخت بينهما الحدود. " "
أما خلق الإنسان فجاء كما يلي:
"ثم قيدوه " " ووضعوه أمام أيا
انزلوا به العقاب فقطعوا شرايين دمائه
ومن دمائه جرى خلق البشر
وفرض عليهم العمل وحرر الإلهة
ذلك الفعل الذي يسمو عن الإفهام" " "
بعد هذه المقتطفات من الانوماايليش، يمكننا القول بأن الهلاليين أوجدوا أفكاراً عن عملية الخلق، فكل ما شاهدوه من ظواهر أرضية وكونية، وكل ما عكست الظواهر الطبيعية في تفكيرهم من خرافات وأساطير، أوجدوا له مبرراً لوجوده، وأصبح كل ما هو مرئي يوجد له فكرة أو طريقة أوجدته، من هنا كان الحديث عن السماء والنجوم والمشتري، وحتى أشكال هذه النجوم أوجدوا لها فكرة ومعتقدات ما زالت سائدة حتى الآن، ألا وهي فكرة الأبراج السماوية وتأثيرها على حياة الفرد، أما الحديث عن الشمس والقمر وكيفية تأثيرهما على الأرض من خلال الليل والنهار. وعدد الأيام والأشهر والفصول ثم تحديد السنة، فقد عرفوا هذه المسألة وربطوها بشكل منطقي، أما خلق الأرض وما عليها فجاءت الملحمة بكل التفاصيل المتعلقة بها، فنجد فيها ذكر خلق المياه العذبة والهواء والغيوم والضباب والرياح والجبال ثم خلق الإنسان، وهذا التسلسل في إيجاد المعالم الأرضية وتلك التي ترى من الأرض، نجدها في التوراة وحسب التسلسل الملحمي، وكأن التوراة جاءت بكتابة الأفكار الهلالية عن الأرض والكون، وهذا يؤكد التفوق الثقافي والحضاري الذي حققه سكان المنطقة وعلى التأثير الذي تركته على الدخلاء عليها.
الانصهار الحثي في الهلالية
وإذا عدنا إلى التاريخ نجد بأن الأفكار والمعتقدات الهلالية قد سادت على الحيثيين والعلاميين، حيث كان هناك انسلاخ عند الحيثيين عن معتقداتهم وأفكارهم التي حملوها، وأخذوا بالمعتقدات والأفكار الهلالية، ولم يقتصر الأمر على ذلك بل تعداه إلى استخدام اللغة البابلية، وحلت الثقافة الهلالية عليهم حتى أنهم تشربوا بالهلالية التي ذوبتهم في بوتقتها ومن ثم أصبحوا جزءاً منهما، فكانت عملية أزاحت الحيثيين من الهلال الخصيب بواسطة تذويبه في الثقافة الهلالية، وبذلك يكونوا قد انسلخوا عن جذورهم وأصبحوا جزءاً من المنطقة، وسنورد هنا نصاً مقارناً مع نص هلالي كنعاني لنرى المستوى الرفيع للثقافة الهلالية وكيف استطاعت تلك الثقافة أن تفرض وجودها على غير أهلها ومن ثم تجعلهم جزءاً منها:
(لحق الضباب النوافذ ولحق الدخان البيت
وفي المجمرة كتمت الأخشاب (محترقة)
وعلى الحضيرة (كتمت) الأغنام
ودفعت الشاه سخلها والبقرة عجلها
أن الشعير والقمح لا ينموان بعد
والماشية والأغنام والناس لا يحبلون بعد
وحتى الحبالى لا تلد
وجفت الأشجار
بحيث لا تنبت البراعم
وجفت المروج وجفت الينابيع
وأعد له (الشمس العظيم) مأدبة ودعا الآلهة الألف.
فأكلوا ولكن لم يشبعوا جوعهم
وشربوا ولكن لم يرووا ظمأهم
وقال أبو إله العواصف للآلهة
أن أبني ليس هنا لقد صار محنقاً
وأخذ النماء
وأخذ كل شيء طيب فزع الآلهة العظمى والصغرى
وأرسل اله الشمس النسر السريع (قائلاً)
اذهب فتش الجبال الشم)
وبعد أن يجدوا اله العواصف نجد الصورة التالية:
لقد عاد رب العواصف إلى بيته واعتنى بأرضه
فترك الضباب النافذة وترك الدخان البيت
وفي المجمرة قومت الأخشاب
وفي الحظيرة قومت الأغنام
والسياج قومت الأبقار
واختارت الأم ولدها
واقتادت الشاهَ سخلها
واقتادت البقرة عجلها
واقتاد رب العواصف الملك والملكة" "
هناك أكثر من نص هلالي يتحدث عن القحط الذي يصيب الأرض، بسبب ذهاب اله الخصب (بعل. تموز) إلى العالم السفلي، إلا أننا سنورد هنا نصين فقط وذلك للإيجاز في طرح هذا الموضوع وحتى لا نخرج عن موضوعنا الأساسي.
(لحظت أن الأهراء فرغت
الأخضر على وجه الأرض يبس
السنابل وعرانيس الذرة ذبلت
وفوق بيت أبيها تحوم النسور
ذعرت بكت في داخلها
سكبت دمعاً خفيفاً راحت تمزق رداء أبيها
لن يكون مطر على الأرض لن تنزل بواكير الأمطار على الأرض
لن يكون على عناقيد العنب ندى
سبع سنوات يحبس البعل أمطاره
راكب السحب ميازيبه
لن تنفتح طاقات الغمرين
لن يسمع صوت الرعد" "
أما الحديث عن عودة الخصب إلى الأرض فسنقتبس مقتطف من ملحمة (البعل) التي تتحدث عن الخصب والقحط معاً.
(ذهب البعل إلى الصحراء
راح يطلب صيداً
رأى الوحوش المخيفة اشتهى أن يصطادها
طاردها، طاردها توغل في الصحراء
وقع في مستنقع في حماه طينٍ سقط
جاءت الوحوش المخيفة، قيدته
حمي أنفه، أصاب متنه حرارة
فسدت الأرض جفت الحقول يبس العشب
سبع سنوات ثماني دورات
لبس أخوته لباس الدم
... وأنت أيتها البتول عناة
إلى التلال، إلى الجبال
تكلمي، قولي: أن البعل حيّ
أن راكب السحب موجود هو
فيفرح جند الكواكب
السماء ترسل أمطارها من جديد
البعل يعود إلى الأرض، الناس ينعمون بالحياة
العشب ينجو من الهلاك عطشاً
لأنه تحنن عليه، سقاه مطر السماء" "
من خلال هذه النصوص نستطيع أن نقول، بأن سحر الثقافة الهلالية استطاع أن يصيب عقلية كل من دخل هذه الأرض، فيمتثل لثقافتها ولحضارتها، فأما أن يصبح جزءاً منها بعد أن ينصهر فيها، وأما أن يعود إلى موطنه حاملاً معه آثاراً من ثقافتها وحضارتها، وهذا ما حصل مع العلاميين والمصريين والإغريق والرومان، فإذا كان الحيثيون الذين تواجدوا على هذه الأرض قبل العبرانيين، قد تركت ثقافة المنقطة آثاراً واضحة فيهم حتى أنهم انصهروا وكانوا فيما بعد من البناة لها، وهم شعب متميز اجتماعياً وثقافياً عن الهلاليين، فكيف لا تترك مثل هذه الثقافة التي استطاعت أن تبهر العالم، آثاراً على تجمع بشري عاش فيها وأطلع عليها ؟



الإصحاح الثاني
قدسية الرقم سبعه
يتحدث هذا الإصحاح عن الراحة التي يأخذها الرب في اليوم السابع [وجبل الإنسان من طين فرغ الله في اليوم السابع من عمله الذي عمل فاستراح في اليوم السابع من جميع عمله الذي عمل] أن الرقم سبعة كان وما زال يحمل معنى القدسية وله مكانته في الأديان، وما يهمنا في هذا الموضوع هو الإشارة إلى أهمية هذا الرقم عند الهلاليين وكيف كانوا ينظرون إليه، لذلك سنقتبس من ملحمة البعل بعض النصوص لتوضيح هذا الأمر، بالإضافة إلى أسطورة دانيال:
(جاء الحطابون أرز لبنان
اتجهوا نحو سيريون
الأرز أجوده في لبنان
أجمله في سيريون
النار اشتعلت في القصر
ألسنة اللهب امتدت في الهيكل
يوماً وثانياً وثالثاً ورابعاً
ألسنة اللهب تغلف البناء
يوماً خامساً وسادساً وسابعاً
خمدت النار، بانت قطع الفضة
لمعت سبائك الذهب
البعل شعر بالفرح، امتلأ قلبه بالحبور
ها أني بنيت بيتي من فضه
من الذهب الخالص شيدته)" "
(حملت عناهَ البعل على كتفها
صعدت به إلى جبل صافون
بكته، ندبته، دفنته في حضرة آلهة الأرض
نحرت سبعين ثوراً وسبعين خروفاً
نحرت سبعين إيلاً وسبعين وعلاً
نحرت سبعين حماراً وحشياً
ثم اغتسلت، تطيبت )" "
(لبس دانيال الرفائي الإزار
دانيال الهرنمي أقام مأدبة للإلهة
مدّ بساطاً، وضع عليه فراشاً نام
في اليوم الثاني لبس الإزار، قدم طعاماً للإلهة
وشراباً لبني القدس
يوم ثالث ورابع وخامس وسادس
دانيال يولم للإلهة، يسقي بني القدس
مد بساطاً، وضع عليه فراشاً، نام
وفي اليوم السابع أشفق البعل على دانيال الرفائي الهرنمي)" "
(وانقضت أشهر، والأشهر تلتها سنون
وفي السنة السابعة ظهر موت
فجأة عاد إلى الأرض)" "
نستطيع مما سبق الاستنتاج بأن الرقم سبعة ومضاعفاته كان له صبغة دينية عند الهلاليين، فإذا تمعنا في الاقتباس الأول نجد بأن عملية الانتهاء من بناء القصر للبعل قد تمت في اليوم السابع، وفي هذا اليوم شعر بالفرح والسرور بعد أن رأى لمعان الفضة وبريق الذهب، وهذا ـ الشعور ـ يتماثل مع شعور الرب التوراتي، فمفهوم الاستراحة فيه من المعاني ما يتقارب مع الشعور الذي حل ببعل، إضافة إلى أن عملية الاستراحة والفرح لكلٍ منهما ـ البعل. والرب التوراتي ـ جاءت بعد الانتهاء من عمل البناء، من هنا نستطيع القول بأن السرد التوراتي جاء منقولاً عما كان سائداً عند الهلاليين، وإذا عدنا إلى أدبيات المنطقة لوجدنا بأن هذا الرقم – سبعة – كان يتكرر باستمرار ونكاد لا نجد أي قطعة دينية أو أدبية تخلوا منه، ففي ملحمة جلجامش تنتهي عملية بناء السفينة في اليوم السابع وهذا مشابه لما ورد سابقاً. وقد أردنا من تعداد الاقتباس حول هذا الموضوع الرد على ذلك الزخم الهائل المستخدم للرقم سبعة في التوراة، فلم يأت هذا الاستخدام المتكرر في التوراة من فراغ، بل هناك جذور دينية له جعلت منه رمزاً لمعنى الاستمرار والبقاء.
ـ بعل راكب السحب ـ
وبعد راحة الرب يعود الإصحاح إلى تفاصيل توضح الظواهر الطبيعية على الأرض [الرب الإله لم يكن قد أمطر على الأرض] أن استخدام التوراة لمثل هذه العبارة لهو تأكيد آخر على أن المعتقد الديني الكنعانيين قد ترك آثاراً واضحة على من دوّن التوراة، لأن من صفات البعل عند الكنعانيين كانت تتمثل في (راكب السحب) وهذا المشهد كان يوحي بالحدث الذي يليه من أمطار أو رعد أو برق، وسنورد هنا النص الكنعاني لتوضيح ذلك.
(فيرسل المطر في حينه
يرسل صوته رعداً
وضياءه برقاً)
سيفرح البعل سينزل المطر في حينه
سيرسل صوته رعداً، ضياءه كالبرق)" "
مما يلفت النظر هو التشابه في استخدام الكلمات والمعاني والصور، فكل من الإله الكنعاني والتوراتي يقومان بنفس الفعل، لقد كان الإله بعل من رموز الخضرة التي تصيب الأرض بسبب أمطاره والتي يرسلها حيث شاء، وكان الكنعانيون يقدموا القرابين ويدعوه لكي يرسل عليهم الخير من السماء وقد ذكر في القرآن الكريم في سورة الصافات ما يؤكد صفات الخير التي يحملها الإله بعل ـ في نظر الكنعانيين ـ.
{وأن إلياس لمن المرسلين (123) إذا قال لقومه ألا تتقون (124) أتدعون بعلاً وتذرون أحسن الخالقين (125)}
إذن من صفات هذا الإله الكنعاني ـ حسب المعتقد الكنعاني ـ إرسال الأمطار إلى الأرض، وقد ذكر في أكثر من نص أدبي بهذه الصفات، فليس غريباً أن يترك (البعل) بقدراته الخارقة شيئاً على من عبدوه، وأن ينقلوا إلى معتقداتهم أعماله وصفاته ثم ظهورها في مدوناتهم الدينية.
ـ خلق الإنسان ـ
وتعود التوراة إلى كيفية خلق الإنسان، وهذا الأمر جاءت به النصوص الدينية القديمة وبأكثر من نص وسنورد هنا بعض هذه النصوص التي تتحدث عن خلق الإنسان :
(قتل كينغو فقطعت شراينه سال الدم
ومن الدم خلق الإنسان)" "
(أنت الرحم الأول الأزلي، أنت خالقه البشرية فاخلقي (اللو) (الإنسان إليّ يرجع ضع كل شيء نطق فليكن إنسان ليكن من طين ولتدب فيه الحياة بالدم)" "
ويضيف طه باقر في كتابه:
(وفي رواية أخرى للأسطورة من العصر الأشوري الحديث (القرن السابع ق.م) ذكرت كيفية خلق ألإلهه (مامي) للإنسان بأنها جمعت أربع عشرة قطعة من الطين وضعت سبعاً منها إلى اليمني وسبعاً إلى اليسار وفصلت بين المجموعتين بأجر (اللبن) فخلق من مجموعة الذكور ومن المجموعة الثانية الإناث. وصاروا بشر تدب فيهم الحياة)" ".
الجنة
هناك مجموعة كبيرة من الأفكار وجدت في المنطقة حول خلق الإنسان والكيفية التي تمت بها، كذلك التماثل في الغاية التي أوجبت خلقه، فعند الهلاليين كان العمل بدل الآلهة، وفي التوراة (يعمل الأرض) وهذا التقارب في الفكر يدل على التأثير الذي تركته الثقافة الهلالية على التوراتيين، أما حديث التوراة عن تفاصيل الجنة والأنهار التي فيها (وكان نهر يخرج من عدن يسقي الجنة) ثم حديثها عن أفرع النهر الأربعة، فهذه الفكرة تداولت عند السومريين ومن خلفوهم على هذه الأرض ـ أنظر إلى الشكل رقم (1) ـ إن مثل هذه اللوحة التي تكررت على مر العصور في المنطقة جاءت كتأكيد آخر على الاقتباس والنقل من فيض الثقافة الهلالية، وفكرة الأنهار تطرق لها المصريون والهلاليون، وذلك لأهمية الأنهار في حياتهم، فكما ذكرت الأسطورة المصرية (وشكلت حابي (أي النيل) تطرق لها الهلاليون بتفاصيل أدق.
أما ذكر الجنة وما فيها من نعيم فقد تعددت النصوص الهلالية التي تتحدث عنها، وقد أجمع علماء الآثار على أن الجنة ـ أرض الخلود ـ عند الهلاليين هي (دلمون) أي البحرين:
أرض دلمون مكان طاهر
أرض دلمون مكان مضيء
في أرض دلمون لا تنعق الغربان
... حيث لا أحد يعرف رمد العين
ولا أحد يعرف آلام الرأس
حيث لا يشتكي الرجل من الشيخوخة
ولا تشتكي المرأة من العجز
حيث لا وجود لمنشد ينوح
ولا لجوال يعول" "
إن هذه الكلمات تعطينا صورة عن فكرة الجنة التي اعتنقها الهلاليون في السابق، فلم يكن يحوي هذا المكان إلا الخصب المتجدد، والمتنوع، وهناك نص آخر يتحدث عن الجنة وما فيها، تطرقت إليه ملحمة جلجامش.
"هناك كان بستان الآلهة
وحوله انتصبت الشجيرات تحمل الجواهر
.. تتدلى فيه العناقيد وثمار من عقيق
جميلة كانت للناظرين
وأوراق الأزورد تغطيها الثمار
بدل الشوك والعوسج كانت الحجارة النادرة" " "
هذا الوصف لتلك الجنة جاء كاستمرار للأفكار الهلالية عن حياة أخرى غير حياة الأرض،
خلق البشر
أما حديث التوراة عن خلق الإنسان (ذكراً وأنثى) لتبرير استمرار الحياة البشرية عليها، فهذا الأمر لم يكن إلا ترجمة لأفكار هلالية تطرقوا لها في معتقداتهم الدينية (حملت أربع عشر قطعة من الطين وعملت من سبعة منها الذكور وسبعة الأخرى أنثى)" ".
وإذا عدنا إلى الأفكار الدينية الهلالية، وجدنا بأن الأنثى إن كانت ربه أم بشراً لها أهمية خاصة في حياة المجتمع الهلالي من خلال محافظتها على استمرار الوجود البشري على الأرض، فعملية الزواج المقدس التي كانت تتم بين الملك والكاهنة العظمى، تأتي كدليل على أهمية الأنثى، والمكانة الدينية التي احتلتها، وقد تضمنت الأفكار الهلالية الكثير من الآلهة الأمهات وقد حملت رموزاً عديدة. من الخصب (عشتار) إلى الموت (اريشكيجال).

الإصحاح الثالث
الحية والخروج من الجنة
يتحدث هذا الإصحاح عن آدم وحواء والحية التي تغويهما فيأكلا من الشجرة الحرمة وبذلك يخرجان من الجنة. (أنظر إلى الشكل رقم 2)
أن مثل هذه الصورة السومرية والتي يعود تاريخها إلى (3000) ق.م توضع لنا ـ آدم وحواء ـ وهما جالسان أمام الشجرة وكل منهما يمد يده ليلتقط الثمر المتدلي، و الأفعى التي تتلوى خلف حواء المرأة، إن المتمعن في هذه اللوحة يجد أن هناك علاقة وتداخل بينها وبين النص التوراتي، فقد ترك الهلاليون هذه الفكرة مصورة ومكتوبة، وهم استخدموا هذين الأسلوبين في التعبير عن معتقداتهم، فأسلوب الرسم يكون أكثر ثباتاً من الكتابة لأنه يحفظ الفكرة كما هي دون تطوير، أما الكتابة فتكون بأكثر من نص وتتعرض للتطوير، وما يلفت النظر في الرواية التوراتية أنها استخدمت الحية كمسبب للخروج من الجنة، ولم تستخدم كائناً آخر أسطوريا أو حقيقياً، وهذا يؤكد بأن هذا الإصحاح لا يعدو عن كونه نسخةـ شارحة ـ للرسم الهلالي السابق، وإذا عدنا إلى رمزية الحية في المعتقدات الهلالية نجد بأنها (العدو) للآلهة والبشر معاً، فهناك الأفاعي التي خلقتها تعامه في حربها ضد ألإله مردوخ.
(خلقت الأفعى الخبيثة)" " وهناك الحية التي تسرق عشبة الخلود من جلجامش (في عمق البركة كانت حية تنشقت الأفعى رائحة العشبة الطيبة خرجت من الماء واختطفتها)" " والحية التي تتصارع مع البعل في الملحمة الكنعانية
(الآن وقد قضيت على الحية الملتوية
الحية الملعونة ذات الرؤوس السبعة)" "
إذن لقد كانت الحية صورة من صورة الشر والعداء للبشر وللآلهة الخـيرة في المـعتقد الهلالي وعلى مـر العصـور المتلاحقة، وهذه الفكرة ـ رمزية الحية للشر ـ لم يستطع كتبة التوراة أن يتناسوها بتاتاً، ولهذا أعادوا التأكيد على اقتباسهم لهذه الفكرة الهلالية، من خلال النص التوراتي [فقال الإله للحية لأنك فعلت هذا ملعونة أنت من جميع البهائم، ومن جميع وحوش البرية، على بطنك تسعين، وتراباً تأكلين كل أيام حياتك، واضع عداوة بينك وبين المرأة، وبين نسلك ونسلها، هو يسحق رأسك وأنت تسحقين عقبة].
لكن لماذا هذه السرمدية في العداء والصراع بين الإنسان والحية؟ وهل لها جذور هلالية؟ إن الفكرة الكنعانية حول الصراع بين البعل والحية جاءت كتعبير عن حدث طبيعي يتكرر على الأرض ما دامت هناك أرض، ألا وهي تعاقب الفصول، فمنذ أن استقرت الأرض وهناك تعاقب بين الخريف والربيع، فمرة يظهر المنتصر ألإله البعل في الربيع، وأخرى يظهر أ الإله موت العائد في الخريف وهذا الاستمرار انعكس كذلك في التوراة .
(تعال أيها البعل، تذكر أني أبقيت عليك
فلم أدخلك شدقي، لم أبتلعك كجدي)" "
وهكذا هناك صراع أبدي بين الخصب المتمثل بالإله بعل من جهة، والقحط المتجسد بالإله موت من جهة أخرى، والذي استمر وما زال قائماً إلى أن يرث الله الأرض من عليها، وإذا عدنا إلى مفهوم الحية عند الشعوب القديمة وجدنا بأن معلوماتهم - المعرفة العلمية - عنها محدودة جداً، فقد تطرقت ملحمة جلجامش إلى الحية ـ بعد أكلها عشبة الخلود ـ بأنها تجدد حياتها أي أنها حصلت على الخلود، وعملية انسلاخ جلدها اعتبروه تجديداً آخر لعمرها، واستمرت هذه الفكرة طويلاً في الهلال الخصيب، وانعكس هذا الأمر على التوراتيين، فلم يقدروا أن يخرجوا من ثوب المعرفة الهلالية، ووقعوا في الخطأ المعرفي ذاته عندما كتبوا [وتراباً تأكلين]، إن هذا تأكيد آخر على أن هناك نقلاً واقتباساً من الثقافية والمعرفة الهلالية من قبل كتبة التوراة.
أما حديث التوراة عن الشقاء والتعب الذي وقع على الإنسان جراء أكله من الشجرة [بالتعب تأكل كل أيام حياتك] فهي عين الفكرة الهلالية التي تتحدث عن خلق الإنسان ليريح الآلهة من العمل، (ففرض (أيا) عليهم العمل وحرر الآلهة)" " من هنا استخدمت التوراة الفكرة الهلالية وهي فرض العمل على الإنسان من قبل الله، وكلماتها مشابهة للكلمات الهلالية.

الفلاح والراعي
يتحدث في هذا الإصحاح عن قصة هابيل الراعي وقابيل الفلاح وعملية القتل التي تعرض لها هابيل الراعي على يد الفلاح قابيل، إذا عدنا إلى الفنون الهلالية نجد الإناء ألنذري الموجود في المتحف العراقي والذي يعطينا القصة بشكل مصور انظر إلى الشكل رقم 3، فنجد رجلاً يتقدم ومعه سلال مليئة بالخضار، ورجل أخرى ممسكاً بإحدى الماشية، وخلفه عدد آخر منها، وهذا الإناء يعود تاريخه إلى (3000)ق.م، وهذا العمل الفني يتحدث عن تلك القصة الهلالية التي دونت بأكثر من نص أدبي. ففي ملحمة عشتار ومأساة تموز نجد هذه الفقرات:
... كلا إنما فتى قلبي: فتى قلبي" "
إن الذي حظى بقلبي
إنه من يحرث الأرض ويملأ مخازن الغلال
يأتي بالحنطة إلى المستودعات بانتظام
إنه الفلاح، حنطته تملأ كل المخازن
... أختاه تزوجي من الراعي" "
أيتها العذراء أنانا: لم لا تقبلي؟
فسمنه طيب، ولبنه طيب
الراعي يداه تجعل كل شيء ناضراً
يا أنانا تزوجي من الراعي دموزي
... أنا لن أتزوج من الراعي
وسوف لن ألبس ثيابه الخشنة
ولن أقبل بصوفه الخشن
إني أنا العذراء سأتزوج الفلاح
... الفلاح عنده أكثر مني: ما لذي عنده أكثر مني؟" "
إذا أعطاني دقيقه الأسود
فسأعطيه ـ للفلاح ـ نعجتي السوداء.
... وإذا سقاني صفوة جعته
فسأسقيه ـ الفلاح ـ لبن الدسم
... وإذا أعطاني من فاكهة (الخلخالا) الحلو
فسأعطيه ـ للفلاح ـ لبن (أنزدا)
... وإذا أعطاني خبزه الجيد
فسأعطيه ـ للفلاح ـ جبني المعسول
... سأترك له سمناً فائضاً
سأترك له لبناً فائضاً" "
من خلال هذا النص نجد تشابه القصة الهلالية مع التوراتية لما فيهما من عناصر مشتركه تتمثل في بلي:
أولاً: أبطال القصة نفس الشخصيات (راعي وفلاح وأنثى وإله).
ثانياً: الإله يقف إلى جانب الراعي ويتعاطف معه في كلا النصين.
ثالثاً: الأنثى هي المسألة المتنافس عليها بين الفلاح والراعي.
والخلاف في النتيجة المنافسة، ففي النص الهلالي النصرة للراعي الذي يفوز بالأنثى بطريقة سلمية، وفي التوراة النصرة للفلاح بطريقة دموية يقتل فيها الراعي.
إن القصة الهلالية جاءت بطريقة أدبية فيها من الفن ما يجعلها شيقة، فهي تحوي الحوار لكلٍ من شخصيتها، وما يثير فيها تلك الجمل العاطفية التي تحكى على لسان عشتار أولاً ثم دموزي، فهي قصة حب رائعة لا تحوي أي عنف، أما القصة التوراتية فهي مختصرة جداً ولا يبرز منها إلا النفور من خلال الدم الذي سُفك فيها، وإذا تمت مقارنة النصين من ناحية أدبية، فلا نجد هناك أي نواحي أدبية يمكننا متابعتها في النص التوراتي لنقارنها مع النص الهلالي.
أما حديث الإصحاح عن الآلات الموسيقية (الذي كان أباً لكل ضارباً بالعود والمزمار)، فهذا الجملة وضعت كتزيين لهذا الإصحاح، الذي لا يعدو عن كونه فكره غير منطقية، وضعت كتعليل لوجود المدن والمجتمعات المختلفة، فهناك سكان الخيام البدو وسكان المدن ومن ضمنهم الزمارون والعازفون، وهؤلاء تعرضت لهم الفنون والأدب الهلالية على حدٍ سواء، وسنورد هنا نص يوضح ذلك.
(حول كتفي عروسة المحبوبة كان يضع ذراعه
... وذوو الرؤوس السود" " يمرون من أمامها (مرددين)
على دقات طبل صوته من الرعد
وعلى أنغام عذبة من ألكار" "، زينة القصر
وقيثارة تنعش الروح
أيها المغنون دعونا نغني أغنية تبهج القلب)" "
إن الشيء الذي يجعلنا نشك في الجملة التوراتية، أنها جاءت بتأثير من الأفكار الهلالية هو أنها خصصت قوم أو جماعة محددة يقومون بهذه المهنة، وهي عين الفكرة التي وردت في الملحمة، فهناك الأكاديون أو سكان غرب جنوب الرافدين هم وحدهم ـ حسب النص ـ الذين يقومون بهذا العمل.

الإصحاح الخامس
سجل بأسماء الملوك
إن هذا الإصحاح لا يعدو عن كونه سجِّلاً لأسماء أولاد آدم، وهذا السجل ألسلالي هو نسخة مكررة لما كان يقوم به السومريون والأكاديون والبابليون والآشوريون في منطقتنا، والمصريون في وادي النيل، فنجد هناك تاريخاً مفصلاً لكل دولة، واسم الملوك الذين حكموها، وفترة حكم كل ملك، واسم الوريث الذي أعقبه في الملك بالتسلل، وحتى أن هذا السجل قام به بعض حكام المدن، الذي كانوا يعتبرون أنفسهم خارج إطار الدولة المركزية، فلم يكن هذا السجل يشكل أي تميز أو استثناء فهو عبارة عن إثبات تاريخي يؤكد على عراقة الدولة والمدينة الهلالية، فقد دلت المكتشفات على (لوح الإثبات) الذي يعطي أسماء المدن السومرية وأسماء الملوك الذين حكموها بالتسلسل، ومن خلال هذا السجل استطاع علماء الآثار معرفة تاريخ الدويلات السومرية وتثبيت شخصية ملحمة جلجامش على أن شخصيتها حقيقية وليست أسطورية، ولقد تمكن من متابعة تاريخ كل مدينة، والفترة الزمنية التي تعايش الحكام فيها، فأصبح من السهل معرفة جلجامش حاكم أورك قد تزامن مع أجا حاكم مدينة كيش، وكذلك بالنسبة لبقية المدن والممالك الأخرى.
أما حديث هذا الإصحاح عن الأرقام الخيالية للفترات التي عاشها أولاد آدم [فكانت أيام بادن تسع مائه واثنتين وستين سنة ومات] وهذا الأمر تكرر لكل أبناء آدم في هذا الإصحاح. إذا عدنا إلى المدونات السومرية، وخاصة تلك التي تتطرق إلى فترة (ما قبل الطوفان) نجد هذه الأعمار الطويلة (وطبقاً إلى قائمة الملوك السومريين، فقد أنزلت الملكية من السماء في مدينة إريدو أولاً... وبعد فترة لا تقل عن (64.800) سنة حكم إريدو خلالها ملكان اثنان، فقط نقلت الملكية بسبب غير معروف إلى (باد ـ تبيزا)، حيث حكم ثلاثة ملوك كان أحدهم الإله تموزي نفسه، لمدة (108.000) سنة. ومن (باد ـ تبيرا) انتقلت الملكية إلى (لاراك) ملك واحد (28.800) سنة ثم إلى (سبار) ملك واحد (21.000) سنة ثم إلى (شروباك) ملك واحد (18.600) سنة)" " وما يثير الدهشة هو أن السومريين أعطوا ملوك ما قبل الطوفان نفس الأهمية الني أعطيت للملوك ما بعد الطوفان، فتخبرنا السجلات السومرية بأن هذه الفترة الطويلة للملوك قد تقلصت كثيراً فيما بعد الطوفان، وأصبحت هذه الفترات تقدر بألف عام وما دون، وهذه الأرقام تكررت في التوراة وبنفس المقدار، من هنا نستطيع القول بأن هذا الإصحاح جاء كنسخة منقولة عن سجلات ملوك السومريين ليس أكثر.

الإصحاح السادس حتى التاسع
لقد ارتأينا أن نجمع هذه الأصاحيح معاً، لأنها تتحدث عن قصة واحدة، هي قصة الطوفان الذي عم الأرض، ولتسهيل عملية تفصيل الحدث حسب النص الهلالي والتوراتي كذلك، وقبل الخوض في قصة الطوفان نود أن نذكر بأن هناك ثلاثة نصوص هلالية تطرقت إلى هذا الحدث، واحد كأن اسم بطلها سزيو سدرا والثاني اتراخيس والثالثة أوتنبشتم وسنستشهد بواحد منها فقط وهو الثالث أو تنبشتم، لأنه متوفر لدينا بأكثر من ترجمة، ولتسهيل عملية المقارنة بين النصين جعلنا هذه القصة تسير حسب الحدث بالتسلسل.
1) أسباب نزول الطوفان على الأرض، حسب النص الهلالي والتوراتي
(تكاثر الناس وصار العالم مكتظاً
علا ضجيج العالم كخوار الثور البري، وأثار الصراخ الإله العظيم)" "
[كان في الأرض طغاة في تلك الأيام، ... ورأى الرب أن شر الإنسان قد كثر في الأرض]" " هناك انزعاج من البشر يضيق الإله في كلا النصين.
2) رد فعل الإله على هذا الشر أو الضجيج.
(سمع انليل الضجة فقال للإلهة في المجمع
صراخ البشر لا يحتمل، هكذا اتفقت الآلهة على إبادة البشرية)" "
[فحزن الرب أنه عمل الإنسان في الأرض، وتأسف في قلبه، فقال الرب أمحوا عن وجه الأرض الإنسان الذي خلقته]" " تقرر إزالة هذا الانزعاج، بواسطة التخلص من مسببه - البشر-.
3) الاستثناء الذي تم في عملية الإبادة الكلية للبشر.
(أنليل فعل ذلك لكن (أيا) جاء محذراً)" "
[إني حزنت أني عملتهم، وأما نوح فوجد نعمة في عين الرب]" "
تم اختيار أوتنبشتم أو نوح كناجي من الطوفان، وفي كلا النصين الاستثناء تم بواسطة الإله في الأول بواسطة (أيا) أحد الآلهة السومرية، وفي الثاني بواسطة الرب التولاتي.
4) وسيلة النجاة من الطوفان:
(فجاء يحذرني بالحلم... يا بيت القصب يا بيت القصب
... اهدم بيتك وابني قارباً)" "
[أصنع لنفسك فلكاً من خشب جفرٍ]" " السفينة وسيلة النجاة من الطوفان، وقد اختيرت من قبل الإله وليس من الناجي البشري، وموادها أيضاً حددها الإله كانت من القصب في الأول، و من الخشب في الثاني.
5) حجم قارب النجاة وأقسامه:
(مئة وعشرين ذراعاً كان طول كل جانب
بنيت فيها ست طبقات سفلية
سار مجموع أسطحتها سبعة
تسعة أقسام قسمتها تفصل بينها الحواجز)" "
(ثلاثة مئة ذراع يكون طول الفلك وخمسين ذراعاً عرضه وثلاثين ذراعاً ارتفاعه)
جاء الحجم في النص الأول محدد وكذلك الثاني، إلا أن الأول أعطانا كتلة مربعة متساوية، وهذا الشكل جاء كتأكيد على أسطورية الحدث أكثر من حقيقته، أما الثاني فركز على حقيقة الحدث فجاءت الأطوال مختلفة وهي متزنة مع مخيلة الإنسان للسفينة.
6) كيفية صناعة السفينة:
(اجعل عرضها كطولها وسقفها كقبة ألابسو" "
مع بزوغ أول فجر جمعت أهل بيتي
أحضر الصغار القار والكبار باقي اللوازم
وفي اليوم الخامس بنيت هيكلها وضعت القاعدة والأضلاع ثم ثبت الألواح صببت على الموقد ست سارات" " مكاييل من القار
ثلاثة سارات من الإسفلت أيضاً حببت
ثلاثة سارات من الزيت الذي نقله الحمالون
زيادة على سار الزيت لسد الشقوق
وساران من الزيت اختزنهما قائد السفينة
وفي اليوم السابع اكتمل بناء السفينة)" "
[وتطليه من داخل ومن خارج بالقار، وتضع كواً للفلك وتكمله إلى حد ذراع من فوق، وتضع باب الفلك في جانبه مساكن سفلية ومتوسطة وعلوية تجعله]" "
في كلا النصين هناك استخدام لمادة القار بالإضافة إلى الخشب، وهناك أقسام في السفينة سفلية وعلوية، وأيضاً الكوة التي من خلالها تشاهد السماء، فهنا نجد التشابه الكبير في بنية السفينة.
7) كيف سيعيد الناجي مظاهر الحياة المختلفة على وجه الأرض،
(وجعلت كل عائلتي وأقاربي يصعدون إلى السفينة)
مع حيوانات البرية ووحوش الغاب والضباع كلهم" ")
[فتدخل الفلك أنت وبنوك وامرأتك ونساء بنيك معك، ومن كل حي من كل ذي جسدٍ اثنين، من كل تدخل إلى الفلك ألاستبقائها معك. تكون ذكر وأنثى. من الطيور كأجناسها ومن البهائم كأجناسها ومن كل دبابات الأرض كأجناسها]" "
لقد تم إضافة ناجين آخرين إلى الناجي الأول، وهم أقاربه وأهله، وهؤلاء هم من سيعيدون الحياة البشرية على الأرض، أما المخلوقات الأخرى فتمت إضافتها لكي يكون استمرار لها على الأرض، وقد ذكر ذلك في كلا الصين.
8) مدة الطوفان:
(وبحلول اليوم السابع انسحبت عاصفة الطوفان)" "
[وكان الطوفان أربعين يوماً على الأرض]" "
هناك فترة محددة للطوفان في النص الهلالي، سبعة أيام، والتوراتي أربعين يوماً.
9) عملية انسحاب الطوفان:
(وبحلول اليوم السابع انسحبت عاصفة الطوفان
هدأ البحر وخفت سرعة الريح وتوقفت عاصفة الطوفان
نظر إلى الجو فكان السكون قد حل فتحت الشباك ووقع النور على وجهي
ووقفت السفينة على جبل نصير
وأمسك جبل نصير بالسفينة ولم يسمح لها بالحركة
ليوم واحد وليومين قد أمسك جبل نصير بالسفينة ولم يسمح لها بالحركة
وعند حلول اليوم السابع أرسلت الحمامة وأطلقت)" "
[ وأجاز الله ريحاً على الأرض فهدأت المياه وانسدت ينابيع الغمر وطاقات السماء فامتنع المطر من السماء، ورجعت المياه عن الأرض رجوعاً متوالياً، وبعد مئة وخمسين يوماً نقصت المياه واستقر الفلك في الشهر السابع في اليوم السابع عشر من الشهر على جبل أراراط، وكانت المياه تنقص نقصاً متوالياً إلى الشهر العاشر وفي العاشر في أول الشهر ظهرت رؤوس الجبال]" "
بداية انسحاب الطوفان بدأت أولاً بالرياح في النصين، ثم كان السكون بعد أن توقف المطر، أما ذكر النص التوراتي لرقم سبعة عشر خلافاً مع الهلالي الذي حدد المدة بسبعة أيام، فهذا الأمر كان متبعاً بكثرة توراتياً حيث تتم عملية الإضافية أو النقصان في الأرقام، وجاء النصان باستقرار السفينة على رأس جبل، كان في النص الأول (نصير)، والثاني أراراط، وكذلك المدة التي أبقت السفينة عليه.
10) عودة الحياة إلى طبيعتها السابقة:
(وعند حلول اليوم السابع
أرسلت الحمامة وأطلقت
ذهبت الحمامة ورجعت إلى
لم تجد مكان وقوف لها تشاهد فرجعت
أرسلت السنونو وأطلقت
ذهب السنونو ورجع إلي
لم يجد مكان وقوف له يراه فرجع
أرسلت الغراب ورأى جفاف الماء
أكل ودار وتجول ولم يرجع)" "
[وحدث من بعد الأربعين يوماً أن نوحاً فتح طاقة الفلك التي كان قد عملها وأرسل الغراب فخرج متردداً حتى نشفت المياه على الأرض، ثم أرسل الحمامة من عنده ليرى هل قلت المياه عن وجه الأرض. فلم تجد الحمامة مقراً لرجلها فرجعت إليه إلى الفلك... فلبث أيضاً سبعة أيام أخر وعاد فأرسل الحمامة من الفلك فأتت إليه الحمامة عند المساء، وإذا ورقة زيتون خضراء في فمها فعلم نوح أن المياه قد قلت عن الأرض فلبث أيضاً سبعة أيام آخر وأرسل الحمامة فلم تعد ترجع إليه أيضاً"." "]
لقد استخدم في النصين الطيور كرسل استطلاع لحالة الأرض بعد الطوفان، فهناك ذكر ثلاثة أنواع من الطيور في النص الهلالي، وهي الحمامة والسنونو والغراب، مقابل طائرين في التوراتي وهما من تلك التي ذكرت في الهلالي (الحمامة والغراب)، وهناك ثلاثة طلعات استطلاع تمت في النص الهلالي، وكانت نتيجة الثالثة منها الفجر الجديد، وفي النص التوراتي أربع طلعات كانت أحدها زائدة عملياً وهي عودة الحمامة بورقة زيتون خضراء، ثم كانت الطلعة الأخيرة وفيها كانت بداية ظهور اليابسة من جديد. وقد استخدم النص التوراتي (اليوم السابع) الذي استخدم بداية في النص الهلالي كفاصل بين رسل الاستطلاع التي أرسلها نوح، وجاءت النتيجة النهاية للنص التوراتي هي نفس النتيجة التي ذكرت في الهلالي وهي (لم ترجع) وهذا يؤكد التأثير الذي قد تركه الهلاليون على مدوني التوراة، فكتبت التوراة قلبوا (البشارة) الهلالية من الغراب إلى الحمامة، محاولين جعل هذه القصة من إنتاجهم الخاصة، والواقع أن حتى هذه الإضافة التي تمت بالطلعة الثالثة للحمامة ثم رجوعها (بالورقة الخضراء) هي كذلك من التأثير الهلالي عليهم ومن ثم على نصهم التوراتي، فكما أكدت النصوص الهلالية بأن (الخضرة) هي أحد رموز آله الخصب الكنعاني بعل والذي كان بسببه ينتشر الخصب - النباتي والحيواني والإنساني - على الأرض.
11) ندم ألآله على إحداث الطوفان
(وفتح ايا فمه وقال إلى انليل المحارب أنت أكثر الأرباب عقلاً المحارب
كيف كيف لم تستشر وعملت
على المذنب تقع ذنوبه وعلى المعتدي تقع تعدياته
فبدلاً من تسليطك الطوفان هلا قدمت الأسد وجعلته يقلد الناس
وبدلاً من تسليطك الطوفان لو أحللت القحط في البلاد
وبدلاً من تسليطك الطوفان لو جعلت الرب ايررا يتقدم ويفتك بالناس)" "
[وقال الرب في قلبه لا أعوده العن الأرض أيضاً من أجل الإنسان لأن تصور قلب الإنسان شرير منذ حداثته ولا أعود أيضاً، أميت كل حي كما فعلت مدة كل أيام الأرض زرع وحصاد وبرد وحر وصيف وشتاء ونهار وليل لا تزال]." "

تشابه الندم الذي حل بآله التوراتي مع ذلك وقع في مجمع الآلهة الهلالي، وهذا الفعل جاء كاستمرار في تكامل الحدث القصصي، إلا أن هناك مسألة تعمق هذا التشابه، وهي حديث النص الهلالي عن محاوره بين أيا وأنليل وقد استخدم النص (وقال إلى انليل) وهذا الفعل (القول) ورغم الفارق الزمني الهائل بين النصين جاء النص التوراتي ليستخدم عين الفعل الهلالي (فقال الرب في قلبه) ومثل هذا الأمر لا يمكن أن يكون صدفة أوضع بلا تأثير أو اقتباس من الثقافة الهلالية. أما إشارة التوراة إلى احتمال إصابة الأرض بظروف سيئة فهي عين الفكرة التي تطرق إليها النص الهلالي كعملية عقاب للإنسان إذا تجاوز حدود الآلهة وهي ما تطرق له ألإله أيا في حديثه مع ألإله انليل
12) عودة العلاقة الحميمة بين الإنسان والآلهة:وتجاوز الحالة الطوفان وأسبابها ونتائجها.
(وقدمت الأضاحي دموية على قمت الجبل
وقدمت من أوعه السكائب سبعة وسبعه
وجمعت تحتها القصب والأرز اليأس
شم الأرباب رائحتها
شم الأرباب ألعطره
وصعد الرب انليل إلى السفينة
وأخذ يدي واصعدني
وجعل زوجتي تصعد وتركع إلى جانبي
ولمس جباهنا واقفاً في وسطنا وباركنا) " "
(وبنى نوح مذبحاً للرب وأخذ من كل البهائم الطاهرة ومن كل الطيور الطاهرة وأصعد محروقاتٍ على المذبح فتنسم الرب رائحة الرضا)
[أقيم ميثاقي معكم فلا ينقرض كل ذي جسدٍ أيضاً بمياه الطوفان ولا يكون طوفان ليخرب الأرض]" "
وبعد العملية القاسية اتجاه البشر، ومن ثم أسف ألإله على فعلته تعود العلاقة إلى طبيعتها بين الإنسان والرب، لقد تطرق النصان الهلالي والتوراتي إلى تقديم الأضاحي للرب على مكان مرتفع أن كان جبلاً أم معبداً، وجاء فعل الرب أو الآلهة وأحد، ففي كلا النصين كان - الأنف - هو أداة الفعل عند الرب. وفي النص الأول استخدم فعل (شم)، وفي التوراتي استخدم [فتنسم]، فهل هذا الفعل لرب بكل ما تحمل هذه الكلمة من هيبة وعظمه؟ أم هي من متخلفات دينيه حملت الرب أفعال وصفات إنسانية؟. وقد تطرق النص الهلالي والتوراتي إلى عملية الرضا على الإنسان من قبل الرب فكان في الأول باستخدام كلمة (باركنا) وفي الثاني [أقيم ميثاقي]، وبذلك يكون حدث القصة الهلالية والتوراتية متشابه من حيث النقاط السالفة الذكر.














المراجع
1 ـ الديانة الفرعةنية،السير ولس بدج، ترجمة يوسف سامي اليوسف
2 ـ مغامرة العقل الاولى، فراس السواح
3 ـ أساطير العالم القديم، هانز بوك، ترجمة أحمد عبد الحميد يوسف
4 ـ ملاحم وأساطير، أنيس فريحة
5ـ مقدمة في أدب العراق القديم، طه باقر
6ـ المنثولوجيا السورية، وديع بشور
7 ـ عشتار ومأساة تموز، فاضل عبد الواحد
8 ـ محلمة جلجامش، سامي سعيدالأحمد
9 ـ سمير اميس، سامي سعيد الأحمد
10 ـ العراق القديم، جورج دو، ترجمة حسين علوان حسين
11 ـ الشرائع العراقية، فوزي رشيد
12 ـ نرام سين، فوزي رشيد
13 ـ سرجون الأكادي، فوزي رشيد
14 ـ أـبي سين، فوزي رشيد
15 ـ نظام القرابين في المجتمع السومري، ترجمة خليل سعيد عبد القادر
16 ـ القرآن الكريم
17 ـ الكتاب المقدس
18 ـ مجلة آفاق عربية
19 ـ فخر الدين المعني، عزيز الأحدب
20 ـ مدينة المغرب العربي في التاريخ، أحمد صقر
21 ـ الحضارة الفينيقية في أسبانيا، ترجمة يوسف أبي فاضل
22 ـ التوراة جاءت من الجزيرة العربية، كمال صليبي
23 ـ سومر حضارتها وفنونها، أندرية باور، ترجمة عيسى سلمان وسليم طه
24 ـ بلاد أشور، أندرية باور، ترجمة عيسى سلمان وسليم طه
25 ـ الفن في العراق القديم، نطون مورتكان



#رائد_الحواري (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- الحضارة الهلالية (الفلاح والراعي)
- قصة حب مجوسية
- الحضارة الهلالية (الجنة)
- الحضارة الهلالية (البعل راكب السحب)
- اللغة في غير محلها
- سفر الموت في -مفتاح الباب المخلوع
- الحضارة الهلالية (قدسية رقم سبعة)
- التكوين الهلالي والتوراتي
- نحن العرب
- التأثر المصري في التكوين التوراتي
- الخطوط البارزة في التاريخ (المدن الشامية)
- الخطوط البارزة في التاريخ (الدولة الاشورية)
- الخطوط البارزة في التاريخ ( الدولة البابلية)
- عصر الدويلات السومرية (آور)
- الخطوط الباروة في التاريخ ( الدولة الأكادية)
- الحضارة الهلالية والتكوين التوراتي الخطوط البارزة في التاري ...
- الحضارة الهلالية والتكوين التوراتي المقدمة
- -حبر- لمحمود ابو هشهش
- ادب القفز بالمظلات لمعين بسيسو
- رائحة النوم


المزيد.....




- السعودية تعدم مواطنا ويمنيين بسبب جرائم إرهابية
- الكرملين: استخدام ستورم شادو تصعيد خطر
- معلمة تعنف طفلة وتثير جدلا في مصر
- طرائف وأسئلة محرجة وغناء في تعداد العراق السكاني
- أوكرانيا تستخدم صواريخ غربية لضرب عمق روسيا، كيف سيغير ذلك ا ...
- في مذكرات ميركل ـ ترامب -مفتون- بالقادة السلطويين
- طائرة روسية خاصة تجلي مواطني روسيا وبيلاروس من بيروت إلى موس ...
- السفير الروسي في لندن: بريطانيا أصبحت متورطة بشكل مباشر في ا ...
- قصف على تدمر.. إسرائيل توسع بنك أهدافها
- لتنشيط قطاع السياحة.. الجزائر تقيم النسخة السادسة من المهرجا ...


المزيد.....

- الانسان في فجر الحضارة / مالك ابوعليا
- مسألة أصل ثقافات العصر الحجري في شمال القسم الأوروبي من الات ... / مالك ابوعليا
- مسرح الطفل وفنتازيا التكوين المعرفي بين الخيال الاسترجاعي وا ... / أبو الحسن سلام
- تاريخ البشرية القديم / مالك ابوعليا
- تراث بحزاني النسخة الاخيرة / ممتاز حسين خلو
- فى الأسطورة العرقية اليهودية / سعيد العليمى
- غورباتشوف والانهيار السوفيتي / دلير زنكنة
- الكيمياء الصوفيّة وصناعة الدُّعاة / نايف سلوم
- الشعر البدوي في مصر قراءة تأويلية / زينب محمد عبد الرحيم
- عبد الله العروي.. المفكر العربي المعاصر / أحمد رباص


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات - رائد الحواري - الحضارة الهلالية والتكوين التوراتي (النص الكامل)