عبدالله عبدالرحيم الاسدي
الحوار المتمدن-العدد: 4352 - 2014 / 2 / 1 - 23:17
المحور:
الادب والفن
هوجر وديامس
زحزح هوجر جذعا كبيرا كان يغطي فتحة جحره المحفور داخل شجرة عملاقة ، تسلل بعض الضوء الى الداخل ، تفرقت طيور كانت مجتمعة حول الشجرة وقربها ، اختبا ثعلب خلف شجيرات قريبة كان ينهش ببقايا حيوان مقتول منذ ايام ، استطاعت الشمس ان تتسلل من خلف الغيوم لتنشر ضوءها على الارض التي تبللت بالماء في الليلة السابقة .
قبل ان يهم بالخروج ، تطلعت عيناه بحذر خارج الجحر وخلف اغصان الاشجار القريبة حيث سماء غابات افيرون الفرنسية البعيدة . اردف الجحر خلفة حاملا رمحا بدائيا لايفارقه منذ زمن ، وبالتحديد منذ حادثة الشاطئ التي عاد بعدها الى جحره وهو يمسك باحد الاغصان القوية من غير ان ينتبه ، هذا الغصن تحول بعد ذلك الى الرمح الذي لايفارقه وكانه احد اعضائه . اما اخوه التوأم فيكتور فقد كان في نفس هذا الوقت قد تعلم الاكل بالشوكة والسكين في بيت ايتارد.
كان فيكتور اوفر منه حظا ، فقد عثروا عليه منذ خمسة سنوات وهو الان يعيش مدلالا بين احضان ايتارد ، فمنذ سبعة عشر عاما تخلت عائلة التوأمين عنهما وتركتهما في غابة افيرون وهما رضيعين ، لااحد يعلم كيف بقي فيكتور على قيد الحياة ، اما هوجر فقد تولت رعايته احدى الحيوانات مع صغارها في ذلك الجحر ، ولما كبر صغارها وتركتهم كالعادة ، تخلت عنه ايضا ، شق صغارها طريقهم ولم يبقى هناك ثمة رابط يربطهم بها ، اما هوجر فقد بقي فترة من الزمن يحاول اللحاق بها ولما ياس من تقبلها له ، صار يقف في اوقات محددة خلف الاشجار القريبة من الشاطئ ، ينتظر مجيئها لتشرب الماء وتظل عيناه جامدتين نحوها ، لكنه بعد فترة ينشغل بفرك عينيه المبللتين على طريقة الحيوانات ، وعندما يعاود النظر باتجاهها تكون قد رحلت .
اما بعد حادثة الشاطئ ، حين انقض عليها التمساح الجائع ، امام عينيه ، كان هوجر يركض نحوها بغصنه ، والتمساح يسحبها تحت الماء بفكه . بعد تلك الحادثة بالذات ، اشتدت الاضطرابات اكثر واكثر ، بين نفسة الانسانية واجهزة دماغة المعطلة ، حتى اهتزت اجهزة في راسه لم يستطع ايتارد تحريك مثيلها في راس ايفون .
عندما ابتدا يومه الجديد ، واردف الجحر خلفه حاملا رمحه ، برك خلف شجرة قريبة قابضا على رمحه بقوة ، ، وهو يجيل نظراته بين الادغال ، اقترب خنزير بري ، مضت لحظات ، جفل منطلقا نحوه ، صوب رمحه وحشره بين اجزاء راسه ثم سحب فريسته مبتعدا عن المكان ، وقرب الجحر اخذ ينهشها بشراهة .
انقضت ساعات ، كان يجول بنظراته بين الفراغات وهو يمشي بخطى واسعة ، وحين اكتشف انه يقترب من الشاطئ ، ويسمع تلاطم وارتجاج امواجه ، ارتعد واهتز جسده وهرع مسرعا وانكمش داخل حفرة ضيقة خائفا مذعورا ، كعادته منذ حادثة الشاطئ ، بيد انه لم يعلم ان الصوت هذه المرة ليس بسبب حركة التمساح وانما بسبب حركة قارب الانقاذ ، لقد انتشروا في الغابة ، يحاولون العثور على ديامس ، ابنة ايتارد الوحيدة ، الباحثة التي افترقت عن الفريق العلمي الاستكشافي قبل ساعات وظلت طريقها وتاهت عنهم في الغابة .
بعد ساعات عاد مهرولا صوب مخبئه وعندما دخل تراجع مذعورا ، ان شيئا ما تسلل الى داخل جحره ، كانت ديامس تنكمش داخل جحره خائفة مذعورة وتلصق بجسدها المبتل تماما بجداره ويداها اللتان ترتجفان بشدة تحاول جاهدة ان تتمسك بهذا الجدار ، صرخ صرخته التي تشبه الزئير وهو يرفع رمحه القوي بوحشية مثل كل مرة حين يرى احد الحيوانات داخل جحره ، لكن فزعها الشديد وارهاقها الاشد حبس صوتها وشل حركتها ، فواجهته بنظرة يائسة متوسلة ، وبالصدفة التقت عيناها بعينيه قبل ان ينزل رمحه ، رمحه الذي وكانما تمسك بشيء مجهول فلم يستطع ان ينزله ، حاول ، ضاعف قواه وهو يحدق الى عينيها المتوسلتين ، احس بان جسده يرتج ويداه ترتجفان ، لكن عينيه بقيتا ثابتتين لاتتحركان ، اصابعه بدات تتراخى ، انزل ذراعه الممتدة وتراجع الى الخلف ، ومضى مسرعا تاركا الجحر .
رمى بجسده العاري خلف شجرة قريبة مذعورا مضطربا يلهث بقوة ، جسده يرتج اكثر ودقات قلبه تتسارع .
كانت السماء تمطر وهزيم الرعد المجلجل عاد مرة ثانية ، ظلت عيناها ثابتتين نحو فتحة الجحر ، تراخت اصابعها التي كانت تتمسك بالجدار ، جسدها بدأ يهدأ ، دقات قلبها بدات تتباطأ ، كأن الخوف انتزع من جسدها فجأة ، وتلاشى عنها الرعب الذي خيم على كيانها منذ افتراقها عن الفريق ، لم تعد تتذكر الاحداث ، لماذا جاءت ، وكيف ستعود ، اصبح التركيز لديها يبدو شيئا مستحيلا ، شيء مجهول سلخ ذاكرتها ، وشل تفكيرها ، وجعلها تحس بامان مريح في هذه الغابات المخيفة .
نهضت ، اقتربت من الفتحة ، قطرات المطر كانت تتسارع خلف فتحة الجحر ، اطلت براسها على الخارج حدقت الى الغابة ، كانت الظلال تملا ارجاءها ، والمطر قد البد الحيوانات ، واوقف سيمفونية العصافير والطيور المستمرة ، فلم تكن تسمع غير صوت المطر المنهمر وهو يصطدم باغصان الاشجار وبالارض ، ظلت لحظات تتامل ذلك السكون .
من وراء شجرة قريبة كان يرمق جسدها العاري ، كانه يحاول ان يجد تفسيرا لهذا الغموض العجيب الذي بدا يعيشه .
حين اطلت عيناها نحوه ، ظل هنيهة جامدا يحدق الى عينيها المتوسلتين ، خرجت حاولت الاقتراب منه ، لكنه هرع مسرعا تاركا مكانه ثم دوى هزيم الرعد .
من بعيد اخذ ينظر الى الشاطئ ويستشعر ضجيج امواجه الغاضبة ، تقدم خطوة ، اقترب اكثر ، كان يحس بان البحر سينفجر من الغضب ، لكنه تحدى خوفه ، لاول مرة ظل ثابتا في مكانه ، لكن وعلى اثر صوت الرعد الجديد ، تراجع وابتعد عن المكان .
في زاوية بين جدران الجحر الرطب ، جلست تصيخ السمع الى السيمفونية التي عادت تعزفها العصافير في الخارج ، حيث توقف المطر ، في هذه الاثناء سمعت صرخاته مجلجلة في الخارج ، نهضت فزعة واسرعت اليه وهي لاتعبا بما امامها ، قرب الشجرة القريبة كان مغمى عليه من جراء اصابة ، فقبل لحظات كان هائجا يضرب الاشجار برمحه ، يبدو ان الاضطرابات تتزايد ، سحبته الى الجحر بسرعة وبدات تعالجه ، لكنه مازال في غيبوبة عميقة ، حين استفاق ، رفع بصرة فاصطدمت عيناه بعينيها اللتين كانتا تحدقان الى وجهه ، فلم تعد الارض تحتمل جموده ، ارتعش بعنف ، وقد تشنجت يداه حاول ان ينهض فلم يستطع فالجرح مازال يوثقه ، دار على نفسه وهو يلوذ براسه بين ذراعيه ، اخذت اناملها تداعب جسده الساخن وشعره الاحمر الطويل ، احس بقشعريرة تجتاح جسده وتصعد الى شعرات راسه ، شيئا فشيئا واعصابه ترتخي بعد تقلص ، فاحست بانه ينام فعلا .
الليل بدا ينشر ظله على الغابة ، اصوات الحيوانات في الخارج تشق جراحا في صمت الليل ، زحزحت الجذع ، استلقت قربه وغرقت في النوم . بعد ساعات فتح عينيه لتصطدم بظلام دامس ، انتشل جسده من مكانه بصعوبة ، ظل ساهرا يعاند النوم الى ان تعالت اصوات كائنات الصباح الباكر ، استطاع ان يرى جسدها الممدد ، استدار ، توقف امامها ، على بعد خطوات ، ثم انحنى في ذهول ، مد يده وتحسس وجهها الناعم وضغط عليه مضاعفا قواه ، لكن سرعان ماانتشل يده وتراجع الى الخلف قليلا ثم ابتعد وهو يحدق الى عينيها المتوسلتين تراقبانه من جديد ثم مضى مسرعا الى الخارج .
الشمس ارتفعت مع اعمدة النهار ، اقترب من البحر اكثر وهو يدك الارض بقدميه ويرصد امواجه بعينيه اللتين كانتا تقدحان شررا ، اقترب اكثر ، واكثر من المرة السابقة ، تامله بغيض ، ثم جذب قدميه وعاد ليجلس قرب تلك الشجرة القريبة من الجحر ، لمح خنزيرا بريا صغيرا ، انتبه لرمحه ، فلم يجده معه ولاول مرة ، عاد واسند ظهره الى الشجرة وهو يعبث باصابعه .
ظلت طول النهار تبحث عنه في ارجاء الغابة وقرب الشاطئ ، دون جدوى ، فكرت عائدة الى الجحر بقنوط .
بدا الليل ينشر ظله من جديد ، جلست في زاوية داخل الجحر وعيناها تحدقان الى الخارج ، لحظات وتجلى طيفه قادما ، اسرعت اليه بشوق ولهفة ، ثم فجاة توقفت امامه ، على بعد خطوات ، اقترب منها قليلا ، سارت نحوه بخطى وئيدة ، مدت ذراعها نحوه في حركة متشنجة وبدأت تعصر اصابعة ، شعر ببرودة قاتلة تلتوي على قدميه وبانه لايستطيع بعد الوقوف عليها ، ضمته اليها وتذوقت ملوحة شفتيه ، وقضيا الليل سوية في ذلك الجحر المحفور داخل الشجرة العملاقة .
في الصباح ، فتحت عينيها لتصطدم بشعاعات الشمس المتسللة من الخارج ، قامت وهي تتثائب ، نظرت حولها فلم تجده ، خرجت ، بحثت عنه طويلا ، وعندما اقتربت من البحر ، وجدت جثته مرمية قرب الشاطئ ، لقد قتله التمساح بعد معركة طويلة ولم يستطع ان يسحب جثته بفكه المهشمة ، اقتربت من الجثة بذهول ، وراحت لحظات تحدق الى وجهه ، ثم امسكت يديه الباردتين وبدات تبكي وتبكي كطفل صغير ، فجاة ، انتشلت ذراعيها بقوة ، وتراجعت وابتعدت عن الجثة خائفة مذعورة ، نظرت الى الشاطئ ، الى الجثة ، الى الغابة ، لقد اصبح كل شيء امامها يتسع في ذعر ، فظلت تطلق صرخات هستيرية وهي تستغيث متوسلة ، يبدو ان بعض فريق الانقاذ الذين مازالوا يبحثون عنها سمع صوتها ، تجمعوا حولها ، لقد نجحوا في انقاذ الباحثة التائهة اخيرا ، حاولوا تدثيرها ونقلوها الى القارب ، عادت تئن بهستيرية وفي عينيها اكثر من توسل غريب لم يعرفوا كنهه ، تذكرت الليلة الماضية ، فراحت تتحسس جسدها وبطنها وتحاول الابتعاد عنهم وكانها تحتفظ بشيء ثمين تخشى ان يخطفه منها احد .
#عبدالله_عبدالرحيم_الاسدي (هاشتاغ)
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟