مروان عزمي نجار
الحوار المتمدن-العدد: 4315 - 2013 / 12 / 24 - 21:34
المحور:
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
الإنسان يعد احد أسمى مظاهر الصراع مع الطبيعة , و احد أسمى الطفرات ( البيولوجية ) التطورية التي حدثت على الإطلاق على كوكب الأرض , و له العديد من المغامرات و الصراعات الرائعة التي وضعت بمؤلفات ضخمة , تدل على عبقريته و تطور معرفته عبر القرون و العصور , فالإنسان قضية يبني قضاياه في هذا العالم الرائع و الغريب له , و من المهم جدا التعرف على التطور المعرفي لدى الإنسان و رسم خرائط هذه المعرفة و وضع الحدود فيما بينها , لأنها تشكل حصيلة الإنسان على الإطلاق , و تشكل قضية هامة و ينبوع دراسة لا ينضب , و استشرافا لمستقبل يتمحور على قدرة الإنسان على بناءه و تشكيله , نتيجة وعيه بالضرورة التاريخية و القوانين التي تعطيه السيطرة على الطبيعة و المستقبل .
فعلى الإنسانية أن تتعلم دروس آلاف السنين التي مرت عليها لكي تخرج من العتمة إلى النور .
و ندخل هذه المغامرة بالرحلة التي يعد لها الأب و ابنته " سلاف " - ذات التسعة عشر شتاءا, و هذه الرحلة من المقرر أن تكون على احد السفن الخشبية المهيأة للإبحار عبر الزمن , كانت هذه هدية عيد ميلادها لهذا العام .
" هل انتهيت من حزم أمتعتك ؟
لا يا أبي قليلا بعد , هل أخذت ما يلزمك من الكتب ؟ .
نعم إنها معي ألان , أسرعي قليلا إن السماء لم تمطر اليوم أعدك .
ها قد انتهيت لنذهب , و لكن إلى أين نحن ذاهبون ؟. سنذهب في رحلة عبر الزمن .
ماذا تقصد ؟ لابد انك تمزح !.
أنا أحب أن أمازحك دائما , لكن ليس الآن , و الآن هيا نمضي يا عزيزتي .
هذه الرحلة ستكون عن الإنسان و عن تطوره و تطور معرفته و أشكالها و بناءه المعرفي كما نعلمه نحن الآن فاستعدي جيدا إنها من أمتع الرحل التي سأقوم بها مع ابنتي المدللة .
فاستمعي إلي جيدا , منذ أن انتصب الإنسان على قدميه أول مرة و نظر إلى السماء الواسعة , و إلى امتداد الأرض أمام عينيه و الأفق البعيد الذي حاول أن يصله يوما من الأيام فباء بالفشل و يئس من محاولاته .
نعم الأفق نقطة الالتقاء الوهمية للسماء بالأرض , الم يكونوا على علم أنها خدعة بصرية لا أكثر يا أبي ؟
تريثي قليلا بابنتي لا لم يكونوا على علم بذلك بالحقيقة هذه المعلومة لم تأتي إلا بعد ثورة علمية كبيرة و معرفة الإنسان لمبادئ عمل البصر و أسس الضوء التي أرسى أسسها الحسن بن الهيثم بالعصر الكلاسيكي الإسلامي و لكن يفصلنا عن هذا التاريخ قرونا من الزمن , فاستمعي إلي جيدا لكي نستعرض التاريخ بخطه الزمني .
انظري إلى هناك , هذه الساحرة تقوم بإعداد تراكيب مختلفة من مواد تبدو طبيعية , اعتقد أن ذلك الرجل يريد شيء من اجله .
و كيف ذلك ؟ هل هي عالمة كيمياء ؟
لا يا بنتي يجب أن تنتبهي جيدا لنقطة أساسية و هي ألا تسقطي معرفتك الحالية و خبراتك على هذا الزمن القديم , نحن كل ما نفعله هنا هو المحاول لفهم العالم بطريقتهم و هذا لا يعنني أنها كذلك حقا و لكن نحاول أن نقترب شيئا فشيئا من طريقة رؤيتهم للعالم .
و الآن انظري هذه الأبخرة المتصاعدة يبدو أنهم يعدون السحر لإنزال المطر باكرا هذا العام ,
الم تقل لي إنها لن تمطر !! , بلا وعدتك فهذا لن ينفع معهم الآن , و لماذا يا أبي ؟ لماذا لن ينفع و ما هو السحر ؟
كنت أقول لك أن الإنسان حين انتصب قائما و بدا له العالم غريبا و هو غريب عنه , و من خلال معرفتنا الآن بالبيولوجيا الحديثة , و هي أن الإنسان كما كل الحيوانات كان بسعي دائم للحفاظ على بقاءه و نوعه من الانقراض و هذا دافع جيني بالأساس , و بالتالي لقد حاول أن يحافظ على ذاته و أن يتقلد زمام الأمور و هو يتمتع بهبة مختلفة عن باقي الحيوانات ألا و هي العقل .
فقد اعتقد هذا الإنسان البسيط في هذا التاريخ من عصور السحر أن هناك قوانين و قواعد و طرق معينة و إن قام بإتباعها فإنه سيخضع الطبيعة لمصلحته و رغباته
. هذا الكلام يبدو مألوفا يا أبي . نعم و أريد منك أن تتذكري هذه العبارات جيدا اتفقنا . اتفقنا .
و قلنا انه إن استطاع اكتشاف هذه القواعد سيمتلك زمام الأمور و يخضع الطبيعة الغريبة له و وقتها لن تكون غريبة و ستكون ملك يمينه , و هكذا هؤلاء القوم يحاولن استجلاب الأمطار عن طريق هذه الممارسات السحرية , فتبدو لهم هذه الطقوس الآن هي القوانين التي تحكم العالم و من خلالها سيحصلون على المطر و أيضا هناك طرق أخرى للحصول على الطعام و للحصول على البيت و الزوجة , فالحقيقة تستطيعين أن تتصوري العديد من الأمور التي يحتاجها الإنسان و التي حاولوا أن يضعوا لها قواعد و طرق سحرية معينة مثل التي نشاهدها الآن , و قد تجمعت لديه سفرا متكاملة تستطيعين أن تتصوري ذلك نحن لا نعلم إن كانت اللغة حقا مكتوبة بهذا الزمن السحيق إلا أننا نود و لو كانت كذلك المهم أنهم قاموا بتجميع كل هذه الطرق و قاموا بحفظها و توارثها و من هنا نشأت شخصية الساحر أو الكاهن , و الآن لاحظي معي أنهم لا يدعون أي اله هم بالحقيقة لا يفكرون بالآلهة على الإطلاق , إن طرقهم السحرية تبدو لهم قوانين طبيعية متأصلة بالواقع ذاته لا خارجة عنه و لا متعالية عليه .
هكذا بهذه العبارات و المشاهدات المختصرة و نحن تعرفنا على حقبة معرفية في تاريخ البشرية , و على احد أشكال المعرفة , التي حاولت أن تتعامل مع الطبيعة مباشرة و هي رؤية مهمة سنتحدث عنها بحقبة العلم الحديث .
نعم سأتذكر هذا جيدا يا أبي , و لكن يبدو لي أن هذه القوانين لن تعمل معهم دائما أي انها ستعتمد على الحظ دائما و على الطبيعة ذاتها , و بهذا استطيع أن اعلم مقدار خيبتهم من هذه النظرة للعالم اقصد السحر و أنا انظر الآن إلى قوم سيخيبون تماما هذا العام بتلقي المياه من السماء و بالتالي هناك الكثير من القرى و الجماعات ستموت و ستنقرض نتيجة هذا الخطأ الفادح لتصور العالم و قوانينه .
نعم و هذا ما حصل يا سلاف لقد خابوا تماما و بالتالي هذه الحقبة المعرفية لم تعد ذات أهمية بالنسبة لهم و فوق هذا لقد حقدوا عليها فالساحر في العصور و القرون اللاحقة سيعاقب و يساق للموت و الهلاك . و لكن لماذا يا أبي ؟ . لمخالفته الأعراف السائدة بالعصر القادم و الآن استعدي نحن ننطلق بالزمن إلى الحقبة اللاحقة .
ها نحن ذا , اعتقد أننا الآن باليونان القديمة , سنتنقل في هذه العصور بين مصر و اليونان و اعتقد العراق كما نعرفهما الآن .
انظر يا أبي هذا الراوي يجتمع حوله الكثير من الناس و يستمعون له بإنصات غريب .
و انظري إلى هذا الشاعر المتباهي يلقي كلماته الموسيقية , بالحقيقة هذا لا يعتبر شاعرا كما نحن نعتبره اليوم فولادة الشعر أخذت زمن و كذلك الرواية و لكن نحن نقول إنهم شعراء و روائيين لنسهل على أنفسنا ذلك . و لكن ماذا يقول لهم ؟ و ما أهمية هذا القول حتى نشهد هذا الإنصات الشديد ؟ .
أسئلتك رائعة يا ابنتي , هذه الحقبة المعرفية من الزمن تتمحور حول الأسطورة .
قبل أن نتحدث عن ماهية الأسطورة سنشاهد إلقاء احد الفتيات الجميلات في نهر النيل في مصر القديمة .
و لكن لما هذا الفعل الشنيع يا أبتي ؟ ألا نستطيع فعل شيء لها ؟ . و من سيصدقنا إن أخبرناهم أن هذا لا يفيد ؟
عندما يئس الإنسان تماما من السحر و تحولت حياته إلى جحيم بسبب ذلك , فقد تشكلت بنفسه هواجس و أفكار غريبة عن آلهة تسكن هذا العالم و هي بالسماء و تتحكم به , نستطيع أن نتصور حقدهم الآن على السحر هو بسبب غضب هذه الآلهة عن عدم التوجه لها بطلب العون و التوجه لقواعد سحرية بدلا عن ذلك , و ربما اعتقدوا أن التعامل مع الطبيعة بشكل مباشر لا يجدي و بالتالي إن التوجه للآلهة لكي تحل لهم مشاكلهم و تلبي لهم احتياجاتهم و تفسر لهم مظاهر الحياة المختلفة كان مهم بالنسبة إليهم و كأنه كشف علمي جديد .
و لذلك نحن نراهم يستمعون باحترام شديد للشاعر و الروائي ؟ و أيضا يقومون بهذه الأفعال المشينة بالفتاة لاسترضاء الآلهة ! هذا غريب يا أبي و كأننا نتحدث عن الله أو الرب كما وصف بالإنجيل أو القران !
لا تستعجلي الأمور يا ابنتي إن ولادة الدين احتاجت مراحل زمنية كبيرة و كثير من العوامل التي لا يسعني ذكرها الآن .
لكن ما يهمنا أن الأسطورة كانت كل شيء بالنسبة لهم , فكانت تأملاتهم اليومية , و حكمتهم و منطقهم , و أسلوبهم بالحياة و المعرفة , و أدواتهم بالتفسير و التعليل , و هي قوانينهم و تشريعاتهم , و فنهم و أدبهم . فنظامهم الفكري المتكامل كان يتجسد بالأسطورة و تلك الأخيرة استوعبت قلقهم الوجودي و تفسيرهم للعالم و إضافة النظام عليه – لاحظي هنا أن هذا النظام كان حيا بشكل ما , انه كان يخضع للآلهة و رغباتها و أفعالها , أي أن الآلهة كانت دائما هي الأبطال و بالتالي هذا ما يجعلها مقدسة و ذات صلة مباشرة بالكون و الإنسان و بالتالي تتضمن معاني عميقة – و هذا كان يفسر لهم كل الأحاجي التي كانت تواجههم بالطبيعة , لا يفيض نهر النيل احد الآلهة في حالة غضب و يحتاج أن يروح عن نفسه , لا تمطر السماء مطرقة تور مسروقة من احد الآلهة الشريرة الحاقدة , لا تنبت المحاصيل , اله الخصوبة لم يخرج من عالم الموتى أو من عالم الآلهة إلى الأرض أو لم يتواصل مع حبيبته أو لم يتزاوج , و هكذا دواليك . بالحقيقة تستطيعين تصر الكثير من الحكايات التي سيقوم احدهم بنسجها , إنها بشكل أو بآخر تعبيرات نفسية داخلية و لذلك يستعملون علم النفس في تحليل الأسطورة في العصر الحديث.
اها استطيع أن أتخيل و أشاهد ذلك , يا للغرابة !
أين الغرابة ؟ . هي كيف أن تتمحور حياتهم حول هذه القصص الغريبة و التي تبدو حقا مختلقة أو مفتعلة . و التي تقوم بإسقاط الأوامر من فوق كأن البشر موجودون لإرضاء الآلهة ليس إلا ما هذه العبودية , استطيع أن افترض أنها وليدة أول غبي مع أول نصاب .
مممم لا اعرف تماما من الصعب إطلاق الأحكام , لكن إن كان قصدك عدد الناس التي استفادت من وجود هذه الأساطير , فذلك جائز و اعتقد أن أولهم الحكومات و الملوك أي النظام الحاكم .
و كيف ذلك يا أبي ؟ .
نحن اتفقنا أن هذا النوع من القصص مقدس و مهم كما قلنا سابقا , و هذه القداسة تعمل على حفظه بمرور الزمن أي أنها تنتقل من جيل إلى آخر و بالتالي تصبح شكل من أشكال التقاليد المهمة و المتوارثة , مما يعطيها سلطة عليا , و مع اكتشاف الكتابة و الأحرف استطاعوا أن يحفظوها ببيوت خصصت للعبادة و بالتالي اكسبها هذا سلطة إضافية حيث أصبح هناك قنوات تعمل على تثقيف الناس و تطبيع العقول بقصص الأسطورة و ترسيخ هذه الثقافة بالعقول و بالتالي امتلكوا بطبيعة الحال سلطة عليا على الناس و العقول و سرعان ما تحالفت هذه السلطة مع السلطة السياسية الموجودة , فنجد بمصر على سبيل المثال يحكم الفرعون ارض مصر القديمة باختيار من الإله راع , بالتالي هو أشبه بالحاكم بأمر الإله .
كما الخليفة عند المسلمين أو البابا بالكنيسة بالعصور الوسطى يا أبي ؟ . نعم تستطيعين تصورين ذلك , و أيضا لقد تم صياغة طقوس معينة تلخص التجارب مع الكون و الآلهة و تدخل إلى الوعي بشكل مباشر مما يعطيها تأثيرا عميقا بالنفس و يساعد على تداولها و في ذات الآن تقدم ركيزة من ركائز الأديان الهامة التي تعمل على جمع الناس من الناحية الروحانية .
هناك شيء إضافي اعتقد انك لاحظتي طبيعة اللغة المستعملة و قدرتها على التأثير بالنفوس و بالتالي تعد الأسطورة أيضا نصا أدبي و هذا يزيدها سلطة, و أيضا الطابع الإيحائي للكلمات و القدرة على استعمالها بطرق متعددة و لمعاني مختلفة و بالتالي القدرة على عكس التجربة الكلية مع الكون و النفس الداخلية , و من هنا بدأت – مع الزمن , ولادة الشعر , فالشعر كما يراه الفلاسفة , أفلاطون على سبيل المثال يراه كما يجب أن يُرى بذلك العهد امتدادا للأسطورة و ابنها (اللغوي) الشرعي , بالتالي فقد أصر على إزاحة الشعراء جانبا بكتابه الجمهورية .
و هكذا نشهد عصر العداء للاسطورة و ولادة الفلسفة التي تحاول أن تبني تصورا عن العالم مغايرا تماما للاسطورة , مبني على التحليل و التفكير العقلي , لكن يجب أن تلاحظي أن ولادة عصر الفلسفة لم يأت بين ليلة و ضحاها إلا انه تطلب وقت كبير من الزمن و كذلك ولادة الأسطورة بعد السحر احتاج إلى وقت كبير هذه هي طبيعة التحولات المعرفية أي تحولات الأسس التي تقوم عليها المعرفة . كما أننا لن نشاهد التحول الراديكالي للحياة الاقتصادية و السياسية باليونان القديمة الآن لأنه خارج سياق حديثنا, علما أن هذا النوع من التحولات يا ابنتي أساسي جدا بصيرورة و تطور الحياة الفكرية و المعرفية , فالأخيرة تعد البناء الفوقي للحياة الاقتصادية و السياسية , فمثلا حالة الفقر تولد حالة من الزهد و الصوفية و الورع و اللجوء للآلهة , لكن الحالة الاقتصادية الغنية تولد شعورا بالسيطرة و قدرة الإنسان و بالتالي تشجع العلم و المعرفة و التفكر .
و الآن يمكن أن نشاهد سقراط و هو يحاول أن يسأل الناس و يتساءل عن أمور عديدة بالحياة اليومية , الأخلاق , القانون , السياسة , الحياة , كل هذه الأمور و أكثر اهتمت بها الفلسفة , بالحقيقة إن الفلاسفة اكتشفوا مدى جهل الإنسان بالحياة و ارتكازه على أساطير و قصص أشبه ما تكون بقصص الإنسان و هكذا حاولوا أن يوضحوا ذلك للعامة , لا يمكن أن تعتقدي أن سقراط أو أفلاطون و غيرهم متحررين تماما من الأسطورة إلا أن طريقتهم في صياغة الأسئلة و النظرة إلى الطبيعة تنحوا بمنحنى آخر بعيد عن الأسطورة و يناقضه تماما , اعتقد أن سقراط أصبح ضحية هذه التغيير و ضحية المعرفة الجديدة و هي الفلسفة فأسئلته كانت تتحدى العادات و الموروث و الأساطير و قصص الآلهة , و تسعى لبناء المعرفة اعتمادا على العقل بشكل أو بآخر و أهم ما في الأمر أنها تسعى للخير دائما , و هكذا تجرع السم بكل بكامل قواه لأنه كان معتقدا تماما بالفلسفة و أهميتها و ضرورتها ناهيك عن احترامه للقانون الذي كان لا يراه جيدا فكان على خلاف مع الدكتاتورية و أيضا الديمقراطية التامة و لكنه لم يرى بالتمرد على القانون حلا , بالحقيقة أن هذه القصة فيها جدلا , فحسبنا ما قلناه عنها يا ابنتي .
هنا تشهدين ولادة مدارس فلسفية مختلفة و متنوعة كما تشاهدين سقراط و خلفه افلاطون و أرسطو , و هناك الفلاسفة الطبيعيين أمثال هيرقليطس و غيرهم , و بالتالي من الصعب جدا صياغة تعريف للفلسفة , اعتقد أن صياغة تعريف لها هو فلسفة بحد ذاته و عليه اختلاف كبير.
لكن يا أبي اعتقد أن هناك تعريفا يرضينا , كما أنني أرى بالفلسفة نقلة نوعية بالمعرفة و مرحلة جديدة و مستنيرة و بالتالي تحديد كل من الأسطورة و السحر يشكل نوعا ما تعريفا للفلسفة بما أنها نقيض لهما .
هذا جميل يا ابنتي أنت تتعلمين بسرعة , و رائعة أيضا .
كما أخبرتك أن الفلسفة كشفت تناقض الأسطورة و سخافة تصورها للعالم من حيث هي قائمة على حاجة و مزاح الآلهة , و بالتالي كشفت مدى الجهل الإنساني و كم هي الأشياء التي كنا نعتقد أننا نعرفها , غير أننا لا نعرفها .
و عليه يا ابنتي نستطيع أن نقول إن الفلسفة هي التأملات في الموضوعات التي لم نصل فيها بعد إلى معرفة يقينية .
لكن كما أخبرتك يبقى الإجابة على هذا السؤال تفلسف بحد ذاته , فمنهم من سيقول أن الفلسفة هي التأملات التي تهتم بالمعرفة و الأخلاق و الطبيعة . و لكن اعتقد أن هذه بحد ذاتها أشكال للفلسفة ليس أكثر إلا أنها أشكال مهمة بالتأكيد و ضرورية للفيلسوف .
و الآن دعيني أخبرك بشيء مزعج , الفلسفة لم تدم باليونان .
لكن لماذا ؟ هل عادوا للاسطورة ؟ أم ما السبب .
اعتقد يا ابنتي , أن الشرق يلد الأنبياء و الغرب يلد الفلاسفة , لكن من الجيد أن محمد كان آخر الأنبياء أو على الأقل هكذا وصف نفسه .
لم افهم بعد يا أبي !
لقد توقفت الفلسفة باليونان نتيجة ولادة الدين المسيحي بالشرق و أيضا هناك من يقول وجود تأثير للدين اليهودي و أنا أؤيد ذلك , المهم أن الدين المسيحي احتاج لقرون قليلة للوصول إلى أوروبا و اكتساحها تماما .
نعم الآن انتقلنا من الفلسفة للدين , لكن يا أبي ألا يبدوا أن الفلسفة لم تأخذ نصيبها من التاريخ .
نعم انتقلنا للدين لكن هذا لا يعني الانتهاء من الفلسفة , هنا توجد حبكة تاريخية كبيرة و كأن التاريخ تآمر على العقل البشري و على سلطة العقل , ظهور الفلسفة و الدين في أزمنة متقاربة جدا أدت إلى إيجاد عقدة صعبة , إلا أن التاريخ يمضي بذاته بعيدا عن رغباتنا .
تذكري المثل القائل , إنما الأيام دول .
صحيح يا أبي , اعتقد هذا يرمز إلا أن الحضارة التي يغيب فجرها بمكان ما , يولد فجر جديد لحضارة جديدة في مكان آخر . لكن أين هو هذا المكان ؟ الشرق ؟ هل وصلنا للحضارة الإسلامية ؟.
نعم إلا أننا لن ندخل بهذه التفاصيل هنا ( موجودة بالسؤال الثاني للامتحان ) , و تستطيعين القول إن المسلمين استفادوا من الفلسفة و من نقل هذا العلم و الإضافة عليه , وبالتالي حافظوا عليه إلى أن عاد لأوروبا .
و الآن شاهدي يا بنتي , هذا يخطب بالناس و يعدهم بالجنة و الخلود و الخلاص , و ذاك أيضا , أتذكرين الشعراء و الروائيين زمن الاسطورة ؟ كأنما كان الزمان يمازحنا بالاسطورة و الآن يأتي علينا بالدين , و الإيمان , و القداسة السماوية .
ما يهمنا هو الإيمان , و هي الفكرة الركيزة في هذا العصر , و بالتالي فإننا نخرج من هذا العصر بهذه الفكرة التي تحتاج لتعريف , لإرضاء غرورك بطرح الأسئلة , و قبل هذا سنتحدث قليلا عن الفلسفة الحديثة و السجال القائم بين المذهبين العقلي و التجريبي لنفهم فكرة الإيمان .
المذهب العقلي : و هو يحاول وضع أسس لكل المعرفة العلمية و الفلسفية , باستخدام التفكير العقلي القبلي ( أي المعرفة العقلية دون اللجوء إلى الخبرات الحسية أو الملاحظة ) , فيعتقد المذهب العقلي أن هناك بعض الأشياء على الأقل عن العالم المحيط يمكن معرفتها عن طريق العقل وحده دون أي مساعدة من الخبرات الحسية , و ان المعرفة القبلية تؤلف أساسا للمعرفة البشرية الباقية .
و الآخر النقيض له , هو المذهب التجريبي : و هو يشدد على وجوب ارتكاز المعرفة كلها على الملاحظة التجريبية و التي تأخذ شكل المعطيات الحسية , و يشدد على أننا لا نملك الحق في إعلان شيء إلا بعد أن نجري عليه التجربة .
و بالتالي للتوصل إلى فكرة الإيمان , باستعمال هذه المذاهب الفلسفية المتأخرة عن فكرة الإيمان , إلا انه يمكن القول أن فكرة الإيمان هي نتاج العقلانية , أي نتاج صيغة المذهب العقلاني الذي يوجهك للتصديق بمجموعة من المبادئ التي تحكم العالم و تكون هذه المبادئ قبلية و بالتالي عديد من العقلانيين وصلوا للتصديق بكفرة الإله , أمثال ديكارت و بيركلي .
اه يا أبي , اعتقد انه يحدث بالتاريخ أن نفهم احد الأفكار بعد زمن طويل من وجودها , هذا لغياب النقيض الذي يحدد الفكرة الأولى و يصوغ معناها .
نعم أنت على حق يا ابنتي هذا ما اعتقده أنا أيضا . و بالتالي يمكن أن يقول التجريبيين إن الإيمان ليس معرفة , لأنه حسب صياغتهم لموقفهم , و إلى ما يدعوا إليه الإيمان , لا يمكن بناء تجربة تمدنا بالمعطيات الحسية الضرورية لإطلاق الأحكام على هذا الإيمان , و بالتالي هم إما أن يرفضوا الإيمان , أو يتمسكون بالموقف اللا ادري .
هل تظن أن الإيمان شيء جميل يا أبي ؟
أنا لا اعتقد ذلك , بعد نشوء فكرة الشك التي تصاعدت بشكل كبير في عصر النهضة و التنوير , و من أمثالها الشك المنهجي ( الذي يتبنى الشك الأكثر تطرفا لمعرفة أي الاعتقادات لا تتأثر بالشك ) الذي اتبعه ديكارت , دخلت الفلسفة في صارع لإيجاد يقين ما و التمسك به لأنهم رفضوا فكرة وجود أو التعايش مع الشك , لكن لا اعتقد أن هذا الصراع ضروري , فانا لا اعتقد أن من واجب المرء أن يكون موقنا من أي شيء , فليس هناك أي شيء يستحق اليقين , و لذا يجب على المرء أن يعتنق كافة معتقداته بشيء من الشك و أن تكون لديه القدرة على التصرف بحيوية رغم وجود هذا الشك , و هذا ما يجب أن نتبناه أن نلغي فكرة الصراع مع الشك و أن نتصرف بحيوية بالرغم من افتقارنا إلى اليقين الكامل .
و فكرة اليقين الكامل أو الإيمان , كانت توصل العقلانيين في اغلب الأحيان إلى ما وراء الطبيعة ( الميتافيزيقيا ) .
ولكي أوصلك إلى فكرة الإيمان , يجب أن لا أهمل الدين و هو الذي بتمثل باختبار للقدسي من خلال حالة انفعالية سابقة على أي تصور عقلاني , و يتحول من سيكولوجيا فردية من الأساس و المنشأ إلى تيار عقائدي مؤسس و مصاغ في قوالب و تنشأ حولها طقوس و اساطير .
فالإيمان يا أبي كما افهم الآن , هو الاعتقاد الجازم المانع بأن شيء ما حصل بالترتيب أو التوليفة المعينة دون القدرة على الإجابة على أي أسئلة أو شكوك حوله أو أن يتحول إلى معرفة حسية نستطيع أن نصوغ من خلالها معرفة عقلية , و بالتالي هو الشيء اليقيني عند العقلانيين الذي يستعمل لتفسير للهروب من الشك, و يستطيع أن يهرب في ذات الوقت من كل التفاسير و هو يلازم الأديان أيضا و ركيزة رئيسية فيه.
نعم يا جميلتي اعتقد هذا ما قلناه عن الإيمان .
فلندع السفينة تمضي بنا إلى عصر العلوم آخر و أفضل أشكال المعرفة التي كونها و أسسها الإنسان على الأرض . و أنا أتساءل ماهية المعرفة التي ستخلف العلوم ؟؟.
لنشاهد غاليليو يقف أمام الكنيسة يدافع عن العلم الذي أسسه و يدافع عن مركزية الشمس للمجموعة الشمسية كما نسميها اليوم , و لنسمعه يقول " إن الفلسفة في هذا الكتاب الهائل الماثل أمامنا , مفتوحة دوما أمام الناظر , لكن لا يمكن قراءته إذا لم يتعلم المرء اللغة و الحروف المكتوبة به , الحروف هي الأشكال الهندسية , الدائرة , المثلث و غيرها , و اللغة هي اللغة الرياضية , و من دونها فانه من المستحيل بشريا فهم كلمة واحدة و من دون هذه الحروف تغدو الفلسفة سيرا مشوشا في نفق مظلم ".
لكن ما علاقة الفلسفة بالعلم يا أبي ؟ .
سؤال جيد سنحاول الوصول له , بعد تحديد ماهية العلم أولا , و لكن لنحاول فهم ما يقوله غاليليو لنا , هو يدعونا للتعرف على الكون مباشرة , فهو الكتاب الفلسفي الماثل أمامنا , أي انه يعترف بوجود العالم موضوعيا و مستقل بشكل كامل عنا أو مستقل بشكل كامل عن عالم الأفكار , و هي وجهة النظر التي تتبناها الفلسفة المادية , و هو يقول أيضا إن هذا الكتاب مكتوب بلغة الرياضيات ( هذا ما كان يعتقد به أفلاطون إلا انه لم يقدم أي عمل علمي كما نعرفه نحن , أو كما قدم أرسطو , و الفرق بين اليوم و بين أرسطو أن أرسطو لم يحاول أن يطبق الرياضيات على المعرفة العلمية التي قام بها و إنما اكتفى بتصنيف الأشياء و إيضاح ما بها من خصائص التي تستمد من الحواس الخام مباشرة ) , و بالتالي هو يعترف بوجود قوانين و علائق رياضية تحكم العالم كما هو , أتتذكرين الآن السحر ؟ , هذا هو أصل الفكرة , وجود عالم موضوعي يمكننا التعامل معه مباشرة و إمكانية فهمه و تسخيره لنا من خلال مجموعة من القوانين و القواعد .
نعم اذكر تماما لقد أخبرتك سابقا أن هذه الكلمات تبدو مألوفة بالنسبة لي .
جميل جدا يا ابنتي , و بالتالي هذه القوانين و القواعد هي قوانين رياضية و علائق بين كميات فيزيائية يمكن قياسها مثل الطول و الزمن و المساحة و الزخم و الحرارة و غيرها , فلسفيا تسمى هذه الخصائص للمادة الخواص الأولية , التي تتأصل بالمادة نفسها , و يمكن قياسها من حيث المبدأ , أما الخصائص الثانوية فهي ذاتية نوعية , أي أنها لا تخضع للدراسة الفيزيائية و إنما هي من وقائع هذا النظام الفيزيائي على الحواس و على العقل .
و بالتالي نستطيع أن نقول إن غاليليو و تبعه بذلك نيوتن في بناء التفاضل و التكامل من خلال أسس رياضية منطقية و تطبيقه على العالم الفيزيائي فأوجد بهذه الحالة ماكينة تقوم بفهم العالم من خلال البيانات الناتجة من الحواس و الملاحظة و التجربة و بناء العلائق الرياضية المناسبة بينها , و في نفس الوقت هذه الماكينة الرياضية الضخمة تعمل على التنبؤ بالكثير من العلاقات الرياضية التي لم تكتشف بالحواس أو بالتجارب بعد بل و القيام بتأسيس التجارب من اجل ذلك و الكثير من الأجسام التي لم تكن معروفة بعد و بالتالي نتج نوع من التكامل و الديالكتيك بين العقل و المعرفة الرياضية المنطقية و بين التجربة و الملاحظة .
و لكن يا أبي , ماذا عن النظريات العلمية التي سقطت و التي دحضت ؟.
هذا سؤال جيد يا بنتي , هذه النظريات لا تشكل شيء إلا الطعام الذي يتغذى عليه العلم , أو بصورة أخرى هذا هو الزيت الذي يمد هذا الماكينة بدوام العمل و المحافظة على نفسها و استمرارها .
و اعتقد يا ابنتي انك لاحظتي كيف يرتبط كل من الفلسفة و العلم , و سأخبرك بشيء اخر , هو ان الفلسفة و العلم ولدا من رحم الاسطورة , أي أن الفكرة الأساسية لهم جميعا , أو ربما تستطيعين القول أن الفكرة الأساسية من عملية المعرفة ككل بكل أشكالها , هي اختزال تجربتنا مع العالم و تقديمه إلى الوعي و قد تم تفسيره و ترتيبه , و لكن الاختلاف يبقى دائما بالأسلوب , فالفلسفة و العلم يعتمدا كل الاعتماد على الاختبار و البرهان باستعمال العقل التحليلي , و لكن الاسطورة تضع الإنسان في مواجهة العالم بكل ما يملك في مواجهة العالم دفعة واحدة و من ثم تقدم رؤية متكاملة كلية غير مجزئة . و سبق و أن أوضحت لك التقارب بين السحر و العلم .
و القضية صادقة إذا تطابقت مع الواقع . و هذا ما كان يبحث عنه الإنسان يحاول و يغامر يعمل عقله يتوه يخرج بالسحر و الأساطير و الأديان و الفلسفة و العلم . و مازال يبحث عن قضية تطابق كليا مع الواقع و تعكسه تماما .
لكن يا أبي كيف ذلك ؟ كيف يمكنني أن افهم سلوك السمك على سبيل المثال و أنا لست بواحدة ؟
هذا سؤال رائع و يشكل احد المدارس الفلسفية التي تدعي أننا لن نستطيع أن نصل لمعرفة الواقع ماهو , و لكن يجادلهم آخرين , انك لو كنت سمكة فلن تفهمي سلوك السمك , و لماذا برأيك هم يأكلون طعم الصيد ؟ , و يقولون بشكل آخر , انك إن كنت داخل كأس الماء لن تدرك أن الكأس ناقص إلا إذا أصبحت جافا تماما .
يبقى كل هذا جدلا فلسفيا طويلا , و لكن العلوم الآن تمنحنا الكثير و قد تطورت كثيرا بالأربعة قرون الماضية , و لقد باتت جريئة كفاية لتقتحم الكثير من الحقول التي لم تكن تستطيع أن تقترب منها و كانت حكرا على الدين أو الفلسفة .
هذه هي مغامرة العقل يا ابنتي و هذا هو الإنسان القضية الذي يبني قضاياه بيديه ,
و قصتنا هذه ستصبح نوعا من الأساطير بعد ألفي عام .
عيد ميلاد سعيد يا ابنتي " .
#مروان_عزمي_نجار (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟