عدنان اللبان
الحوار المتمدن-العدد: 4208 - 2013 / 9 / 7 - 00:50
المحور:
الشهداء والمضحين من اجل التحرر والاشتراكية
عاد دريد من بغداد التاسعة ليلا , كان متعبا وقلقا , وقبل ان اسأله عن سبب سرعة عودته اخبرني : علينا ان نترك المكان بسرعة .
سألته : شنو السالفة ؟
دريد : البس, بالطريق احجيلك .
كنا نسكن في موقع العمل , وهو انشاء دار استراحة مع اثني عشر دارا للضباط على يمين نهر دجلة في مدينة الموصل, والسكن قاطرة بثلاث غرف صغيرة متراصة ( كرفان ) , الاولى لخزن المواد الكهربائية , والثانية لسكني وسكن دريد , والثالثة لصديقنا نوري الذي نعمل عنده .
اخبرني دريد : كنا قادمين من الوزيرية على دراجة نوري النارية ظهر اليوم باتجاه بيتهم في الكاظمية , لم اعرف لماذا لم يذهب مباشرة الى جسر الائمة – ربما بسبب الازدحام - , بل استدار عند سينما الاعظمية باتجاه المقبرة الملكية لكي يستدير عند الامام الاعظم ويعبر الجسر . نوري تباطأ عندما شاهد سيارة نجدة فيها مفوض وشرطي مع السائق يتحرشون بفتاة كانت تسير على الرصيف , سار بمحاذاة سيارة النجدة وبعصبية للمفوض : لك غيرة ماكو ؟! اخوات ما عندك ؟! مو انت المفروض تحافظ على عرض الناس .
اجابه المفوض : انجب قندرة , وانت منو ؟ ومالت السيارة وحصرتنا مع الرصيف وانفتحت ابوابها , وأكمل دريد : وقفت احجز بين نوري والمفوض , الا ان المفوض دفعني بشدة فسقطت على حافة الرصيف , انهال الثلاثة على نوري ضربا , نهضت بسرعة وهجمت على احدهم وكان السائق , ضربته بشدة على وجهه ودفعته بقوة على باب السيارة الذي كان مفتوحا , شق رأسه , ونفر الدم , هربت , وعدل للكَراج , وهاي جيتي .
تعرفت على نوري منذ فترة ليست بالقصيرة في "مكتب الاخوين شاكر وشكر حسين للمقاولات العامة وبيع المواد الكهربائية " , نوري كظماوي من الدبخانة , متوسط الطول وضخم اشبه بمصارع , خريج ثانوية الصناعة وقد كسب خبرة كبيرة في تأسيس الكهربائيات وتصليح الاجهزة الكهربائية , ونتيجة اخلاقه الجيدة وعلاقته المتينة بشاكر وشكر اصبح ( الاسطة ) الذي يشرف وينفذ المقاولات التي يأخذها المكتب خاصة في المحافظات , ومنها المقاولة التي نعمل بها الآن .
توجهنا الى فندق سعد في منطقة الدواسة وسط الموصل , ونحن مطمئنين لامتلاكنا هويات بأسماء اخرى غير التي حصلنا عليها من نوري لدخول الموقع العسكري . كنا قلقين ليس على العمل الذي حصلنا عليه وسنستمر به لثلاثة اشهر تقريبا , بل القلق الاكثر على المكتب الذي اصبح ملجئنا , والخسارة ستكون جسيمة للاخوين شاكر وشكر , ولصباح الذي اخذ يسير اعمال المكتب بعد سفر شكر الى الخارج بسبب الحملة على الشيوعيين , ثم التحاق شاكر بالعسكرية بعد ان سحبت مواليده عند بداية الحرب العراقية الايرانية .
كان المكتب في عكَد النصارى , وهو المدخل الاول الى اليسار بعد الشورجة في شارع الرشيد وانت متوجه الى حافظ القاضي , كان في مقدمة زقاق " عكَد النصارى " صيدلية رمزي , . عكَد النصارى الذي ينتهي عند شارع الجمهورية يعد اكبر سوق لبيع المواد الكهربائية في العراق , وأول فرع بعد صيدلية رمزي الى اليسار - عمارة الراوي – وهي بناء حديث من ثلاثة طوابق , نصف الطابق الارضي يشغله مكتب الاخوين , وكان من قسمين الاول مكتب والثاني معرض للادوات الكهربائية , وفوقهما "بسطة " خشبية استخدمت كمخزن . وفي البناية كان يوجد معامل للخياطة ومكاتب شركات , وهو ما وفر الامكانية للرفيقين شاكر وشكر في مساعدة بعض الرفاق للاختفاء في المكتب في تلك الايام الصعبة , ومن بينهم الرفيق محمد جاسم اللبان عضو المكتب السياسي الحالي الذي اختفى فيه لفترة من الزمن .
بتنا ليلتنا في الفندق قلقين , كنا نخاف في تلك الفترة من التماحك مع اي واحد من افراد السلطة ومنتسبي منظمات البعث حتى وان كان في منظمة اشبال , فكيف التجاوز على شرطة النجدة وإصابة احدهم ؟! كان الخوف من نوري الذي سيدلهم على مكتب الاخوين اذا ضغط عليه وسيقول : انه يعرف دريد من خلال المكتب . وقد يتوسع التحقيق ويعرفوا تفاصيل وضعية صباح مما سيثير الشك في كل المكتب . صباح جمعة طباع في مطبعة الحزب " دار الرواد " , كان قصيرا ووسيما , وافتراق محبب بين سني مقدمة فكه الاعلى يزيد من سعة ابتسامته , صباح من عائلة طباعين وأخوه الصغير فؤاد طباع ماهر ايضا ويعمل في صحيفة " التآخي " الكردية . في احد الايام كان فؤاد هو الخفر وغاب خفر التحرير , وكان العنوان الرئيسي في الصفحة الاولى " رئيس الجمهورية السيد احمد حسن البكر يفتتح بناية معمل الاسمنت الجديد " , وسقط الباء من البكر لتطبع " احمد حسن الكر " , وانتبه لها عند توزيع الدفعة الاولى من الصحيفة والتي جمعت على عجل , قبض على فؤاد وخضع لتعذيب وحشي في الامن العامة , وفي وقتها كان المرحوم عامر عبد الله وزيرا للدولة , وبعد تدخلات كثيرة اطلق سراح فؤاد بعد اربعة اشهر , ولم يعد بعدها للعمل في المطابع .
استمر صباح بالعمل في مطبعة الرواد كواحد من اربعة عمال , بعد ان صرف الحزب الجميع نتيجة اشتداد الهجمة , اعتقل صباح صباح احد الايام عند خروجه من المطبعة التي تجاور مديرية الامن العامة بعد ان قضى الليل في طبع آخر عدد من صحيفة " طريق الشعب " . استمر اعتقاله لأكثر من شهرين , وعندما اطلق سراحه لم يكن منكسرا مثل الكثيرين الذين اجبروا على توقيع التعهدات بعدم العمل مع الحزب الشيوعي , لم يكن يشعر بالذل , ولم يكن يعني انه تعاون مع النظام وأصبح مثل بعض الحثالات التي مسخها البعث وجعل منها اخبث ادواته في التنكيل بمن حافظ على شرفه ولم ينجرف في قذارات النظام , وعندما وقع التعهد اراد كسب الوقت ليعاود المسير في دروب الحرية التي حولها النظام الى دروب دموية . لم يتمكن صباح من الحصول على عمل في المطابع بعد اغلاق صحافة الحزب , خاصة وانه كان من الوجوه النقابية المعروفة , فاخذ يتردد معي على مكتب الاخوين , ومع الايام تدرب على يد شاكر في ادارة بعض اعمال المكتب , وعندما استدعي شاكر لخدمة الاحتياط عند قيام الحرب العراقية الايرانية كان صباح قد تمكن من ادارة المكتب واخذ يسير اعماله .
حاولنا الاتصال بصباح في المكتب ثلاث مرات من بدالة بريد شارع الدواسة لكن دون جدوى , كان التلفون يرن ولا احد يرفع السماعة والساعة قاربت الواحدة ظهرا. اخذ القلق يتصاعد دون ان نتحدث بذلك , وأخيرا اتفقنا على ان نحجز في القطار الذي ينطلق الساعة التاسعة مساءا ويصل بغداد عند الصباح . كان نوري لا يعير اهتمام للوضعيات الاجتماعية , بما فيها الشعور بخطورة المجابهة مع البعثيين رغم انه قريب منا ويدرك حساسية وضعنا , وان قفل ذهنه على شئ حتى في مجال عمله فلا فائدة من مناقشته . وعلى سبيل المثال كان الطابق الثاني لدار الاستراحة والبيوت التي معه تفتقد لأنابيب مد الكهرباء , حيث يجب حفر الجدران التي هي من الطابوق وهذا ممكن رغم صعوبته , اما السقوف الخرسانية المسلحة فلن ينفع معها اي شئ إلا السقوف الثانوية التي توضع بمثابة ديكور كي تخفي ايضا خلفها خلل البناء , الا انه اصر على حفر السقوف وهو ما دفعنا للتفكير في ترك العمل . اتصلنا بصباح للمرة الاخيرة عند الساعة الثالثة ووجدنا عنده نوري , ضحك صباح وقد فهم سبب قلقنا , واخبرنا نوري بأنه سيكون عندنا في موقع العمل غدا صباحا . كان نوري يودنا كثيرا , وهو سريع في اداء عمله ولم نكن نستطيع اللحاق به , وفي احدى المرات نتيجة تسرعه بدل ان يطلق برغي من مسدس كهربائي لتثبيت قاعدة خشب في الجدار اصاب انفه , وبعد شفائه لازمته حساسية العطاس . كنا نسير ثلاثتنا في شارع النهر وتوقفنا عند عربة لبيع الملابس الداخلية , وفاجأته بفرك انفه بلباس نسائي , فسيطر عليه العطاس , دريد يقف بجانبه عاتبني : لو اللباس رجالي ما جان عَطّس , نوري شاط لربه فركض خلفه وتركني .
لم يكن دريد على عادته في الفترة الاخيرة وبالذات بعد ان ترك الوظيفة , كانت الابتسامة لا تفارقه حتى في لحظات احراجه , كان من يسمع اسمه ويرى وسامته لا يصدق انه من عائلة فقيرة جدا , واضطرت ظروف الحرمان والده لتزويج اخته الكبيرة لرجل يكبرها بثلاثين عاما لسداد ديونه التي تراكمت عليه . كانوا ستة اخوة وخمس بنات , ورغم انه الثاني بين اخوته الا انه كان الداينمو الذي يدير شؤون العائلة التي فقدت الوالد بشكل مبكر , ونتيجة استقامته وحبه لعائلته اصبح مثالهم , واندفع جميع اخوته وأخواته للعمل في الحزب الشيوعي .
انتشر البعث كالسرطان في جسم المجتمع العراقي , وكان اشد فتكا في الوسط الفني نتيجة الاغراءات الكثيرة كالشهرة والعطاءات المالية الكبيرة . كان النظام يعتقد ان الفنان يمكن ان يصور الحياة كما يوجهه , وقد نجح في سحب كثيرين لساحة ارتزاقه بشكل مذل , وبعضهم من الاسماء المعروفة , حيث انزلقوا لتمجيد صدام وقادسيته وتعاموا عن كل الكوارث التي حلت بالعراق . وفي المقابل ترك الساحة الفنية الكثير من الفنانين الحقيقيين حيث رفضوا الانجراف الى هذا المستنقع الآسن , البعض اضطر للسفر الى الخارج , وآخرين التحقوا مع مفارز الانصار في كوردستان , وقسم آخر اختفوا عن اعين شرطة الامن واخذوا يعملون في مهن اخرى , ومنهم الفنان المسرحي دريد ابراهيم . كان دريد يشعر بالرعب عند التفكير فقط بالسفر الى الخارج , كان لا يستوعب الابتعاد عن بغداد , وفي نفس الوقت لم تكن لدينا الامكانية في معرفة الوصول الى قواعد الانصار في كردستان . كانت مشكلة دريد انه وجه معروف , وكلنا نذكر مسرحية " الخان " التي قدمتها فرقة المسرح الفني الحديث , وقد اختار الفنان يوسف العاني دريد لوسامته في تمثيل الشخصية الرئيسية في المسرحية وهي شخصية يوسف العاني ذاته , كان اداء دريد جيدا والنجاح حليف العمل . دريد خريج اكاديمية الفنون الجميلة قسم المسرح , ومنع من العمل في المؤسسة العامة للإذاعة والتلفزيون والفرقة القومية للتمثيل لكونه شيوعي , واخذ يعمل في التلفزيون التربوي التابع للنشاط الفني في وزارة التربية , كان له حضور متميز بين الاصدقاء والمعارف لتواضعه الشفاف , وكان يجيد المبالغة في تمثيل خطابات البكر واللهجة التي يتكلم بها صدام في مقابلاته الصحفية , مما يجعلها كريكاتيرات تثير الضحك . اضطر للاختفاء عن اعين النظام بعد الهجمة على الشيوعيين عام 1979 .
اخبرنا نوري ان النجدة تمكنت منه بعد عدة ضربات على رأسه في الهراوة التي كان يحملها المفوض وسقط ارضا , ونقلوه الى مركز شرطة فاروق , واخذوا " يحققون " معه على معرفة صاحبه الذي ضرب الشرطي وهرب . وبعد ما يقارب الساعة " حسب توقيت نوري وهو تحت الحكَه " دخل مركز الشرطة الحكم الدولي لكرة القدم العقيد فهمي القيمقجي مدير العاب الشرطة , ووجد نوري في حالة تعيسة , وطلب منه ان يضرب المفوض بالقدر الذي آذاه فيه , ولكن نوري لم يجرؤ فأمره ان يفعل , وانتقم نوري لنفسه بعدة صفعات من المفوض . يقول نوري ان من حسن حظه ان الفتاة كانت تربطها علاقة قرابة مباشرة بالعقيد فهمي القيمقجي , المهم اقسم نوري ان لا يعبر جسر الائمة بعدها , وعندما يأتي الى السوق سيأتي عن طريق الكرخ ويعبر جسر الشهداء خوفا من مفوض النجدة .
اعطت عائلة دريد ثلاثة شهداء في مقاومة الفاشية البعثية , الاول شقيقه الاكبر قيس , وكان خطاطا واعتقل في مكتبه في الكرادة , وبعد اكثر من عام بلغت عائلته بإعدامه وترك زوجة وطفلين . الاخر شقيقه الاصغر قصي , وكان طالب مدرسة اعدادية لا يتجاوز عمره السادسة عشرة , اعتقلوه في بيتهم الصغير في الكرادة وتلقت العائلة خبر اعدامه ايضا . اعتقل دريد وصباح في مكتب الاخوين ولم يعرف عنهما شئ لحد الآن .
عاد شاكر في آخر اجازة عسكرية , وفي صباح اليوم الثاني ذهب الى مكتبه , تفاجأ لعدم وجود صباح , نظر الى الخلف عله يرى صباح قادما بأقداح الشاي بعد ان رأى شخص يجلس خلف المكتب وآخر يتصفح مجلة . نظر باستفسار الى الشخص الجالس خلف المكتب والذي قطع اتصاله الهاتفي واستفسر : ها اخي تريد شي ؟!
شاكر : اريد شي شنو؟! هذا المحل مالي .
الشخص : يا اهلا وسهلا بسيد شاكر , صار شكَد واحنه ننتظرك .
وفي الامن , رغم كل وسائل التعذيب تمكن شاكر من الاصرار على افادته بأنه لا يعرف ان صباح ودريد ينتميان الى الحزب الشيوعي , ومع ذلك احيل الى محكمة الثورة التي حكمت عليه بسبع سنوات سجن ومصادرة امواله المنقولة وغير المنقولة . ويعتقد شاكر ان صباح ودريد استشهدا تحت التعذيب في الايام الاولى من اعتقالهما , لان شرطة الامن لم يواجهوه معهما رغم ان الامن ادعا بأنهما اعترفا عليه .
#عدنان_اللبان (هاشتاغ)
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟