عبد العزيز الحيدر
الحوار المتمدن-العدد: 4199 - 2013 / 8 / 29 - 15:44
المحور:
الادب والفن
قصة قصيرة
الوجود والعدم في المدينة
عبد العزيز الحيدر
كان انتشار الضوء المشتد مع اشتداد سطوع الشمس,ووهج الحرارة المنبعث من كل شئ قد احال هذه الظهيرة الى ظهيرة مجردة....وحيدة .....ساكنة .... خرساء, اذ خلت الشوارع تقريباً والكل قد هرب الى محماً من السياط المسلطة... حتى اظافر الايدي كانت تصرخ من الم السخونة.......
عجيب امر هذه الظهيرة...!!! تبدو ولامرما اشد من الحرارة .. عديمة الاخلاق... انها وقحة بالفعل.
المدينة شبه المهجورة الا من شوارع تسرع فيها العجلات وهي تهرب... الارصفة الفارغة الا من بقايا المصطبات المهجورة للباعة المتجولين واكياس النايلون, والحفر والمطبات,وقطع البلوك, واكوام الازبال هنا وهناك.... المدينة الخالية هي المدينة المجردة...العارية.... التي تمارس اغراءاً فاحشاً وتفتح ذراعيها وسيقانها تاركة المكان فارغا,مهجوراً,عواءاً اجوفاً....
عجيب هو هذا المكان... الفراغ... انه الاخر يبدو صفيقاً وعديم الاخلاق.
مدينتي هي.... التي لم تشهد مدينة في العالم بؤسها وخرابها ومجانية القتل والموت والارهاب والانفجارات التي تنبثق فيها كما الفقاعات من البرك الآسنة وهي تنفجر هنا وهناك بعد ان تمتلأ بغازات الحقد والكراهية والجهل والتخلف... تمتلأ بانواع الفساد والرذيلة واللصوصية المعلنة والقوادة والدعارة المكشوفة.
المدينة هي محور ,(مصرع) تلتف حوله العباءات و(الدشاديش) والجبب والمسبحات الملونه والحزينه والعمائم ,الخواتم ,البدلات الجديدة ..الواسعة غير المتلائمة لمحدثي النعمة... محدثي اللصوصية وسرقة فجوات الزمان والمكان.
المدينة مدينتي...انها ببساطه عديمة الاخلاق.. وحين تجتمع عدمية الاخلاق في الزمان والمكان فان العدم المطبق يغدو ببساطه وجوداً...
لو نظر السيد سارتر لساعات من الغيمة التي يقيم فيها مذ غادر باريس ودفن في مقبرة شرق المدينة.... لو نظر السيد سارتر لانهال على راسه باجمع يديه لطما وضربا شرقيين ولتشظت نظارته الطبية السميكة وهو يضرب براسه اقرب حائط او شجرة في غابة غيمته الساكنة الوديعة حيث يواصل تاليف اجزاء اخرى من (الوجود والعدم).
في مدينتي هذه ,في ظهيرتها التنور..! اتسكع مع نفسي مرتبطا بخيوط واهية الى مجردات اتحدث عنها بثرثرة فارغة.. ساتجرد من كل الموجودات ,ساتجرد منكم ايضاً...
في مدينة الخوف, والخواء,والعدم,والفراغ... اركل من امامي الحصى ,والعلب المعدنية,وقشور الموز, وبقايا الفواكه المتفسخة.....تغادرني مسرعة وجوهاً ذاهبةً وقادمة,الوجوه تختبئ وراء اقنعة مغبرة,ملطخة الالوان والاشكال لحيوانات خرافية,اقنعة يتسرب من جوانبها الدم,وبقايا ادمغة بشرية متناثرة من رؤوس مهشمة... الاقنعة تبحث عن منافذ للخلاص.... للتخلص من كيانات مسخ تدعي انتمائها للكائنات البشرية.
عند بوابة المدينة...وهي بوابة قزم,حديثة الانشاء ,يدلف القليل من المرتجلين ,فيما تقف العجلات في طوابير للتفتيش العبثي...ادخل راجلاً...متاخراً...ادلف من الباب الكبير للنادي,مجتازاً حديقة ميتةً محترقة من العطش ومن ضربات سياط ملاك الصيف القائض,حديقة صفراء... ادلف ممراً ظليلاً...اتقدم...ادلف من باب خشبي مطرز بالتخريمات والطلاسم , افتح الباب..ارتد للوراء...جمهرة كبيرة مندفعة تخرج من الباب..ارتد مجددا جانباً ....القرد يخرج ,بعد ان انهى وصلته الاولى او الثانية,الصحافة والاعلام تحيطان به من كل جانب وتسير معه الكامرات,اللقطات تتراقص على الشاشات,حفنة من مبجليه تحيط به...يسمع من الجهة الشرقية للنادي ثغاءاً عالياً... ثغاء خراف المسلخ...لعلها تحتفي وتشارك في التبجيل.
ساسترسل في هلوستي وعبثي ..متسكعاً في مدينة لا توصد ابوابها واتجول في شوارعها,اقف عند اكشاك الصحف والكتب الفارغة...القراء الهزيلون,الصفر الوجوه لوحدهم يتطلعون الى العناوين المتضاربةعن اعداد المفخخات والقتلى والجرحى,بعضهم يضحك عن افواه درداء ومن عمق ذاكرات نخره ككرات اسفنجية تجتذب اليها ازبال الشوارع وهي تتدحرج وتتقلب وسط القناني الفارغة والقناني المكسوره.
الصحف المعلقة بخلاعة واضحة تغمز للمتفرجين...الملابس الداخلية النسائية معلقة معها...اقتتاحيات عارية, مقالات ودراسات مشوة تتكئ على عكازات او تركب عجلات المعوقين,,قصائد تحمل مظلات سوداء واخرى ملونه صغيره تضحك بعبث,صحف ملعونة تعوي في ظهيرة المدينة بشبق وتمارس ارتدادات وارتعاشات ماجنة كلها اجزاء من جسد المدينة العاري.
ادلف من ابواب مختلفة... من صحاى...وديان.... تلال وهضاب عالية... اتقطر بكاءاً...اتسائل؟كم عليَ ان استمر في البكاء لكي اتمكن من ان امحو جانباً من صورة وجهي الكئيب؟ وكم ان استمر في البكاء لكي اتمكن من اعادة صياغة جملي وترتيب الفقرات الملوثة بعدمية ومجون متفسخ... ومن الابواب المختلفة...ادلف الى حديقة غير محترقه بعد...انها في طريقها لاعلان انها بريئة من الاخلاق ولذلك اتسكع في ارجاءها المشاعة... اجلس تحت سدرة كبيرة... السدرة تذرف اوراقا محترقة صفراء...مطأطأ الراس داخلاً دوامات حزني...تربت السيدة العجوز باغصانها على كتفي ...انها تدعوني بحنان ....يا ولدي تجلد.
الحديقة ملاصقة للنهر... اتجه الى النهر... يتقلب النهر بماءه وغرينه عابثاً مستهزءاً,انظر اليه بغضب,ينظر لي بوقاحة...اتقدم مجتازاً ادغال الشاطئ نحو الجرف الندي مقرراً ان انتحر بغرفتين من غرينه القاتل... انظرفي البعيد لجثتي وهي تطفو مغادرة مدينة العدم هذه...رجال يقلبون مكتبتي,يعبثون بدفاتري,ستكون كل اوراقي عديمة القيمة ولا تحتاج الى اضافات اخلاقية هشة مجددا...عندها يمكن نشر كتاباتي وقصائدي العارية العدمية.
#عبد_العزيز_الحيدر (هاشتاغ)
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟