|
الغيطاني وجدلية المجرد والمحسوس في -متون الأهرام- *
خالد سالم
أستاذ جامعي
(Khaled Salem)
الحوار المتمدن-العدد: 4176 - 2013 / 8 / 6 - 15:41
المحور:
الادب والفن
إن تكن الرواية منذ ولادتها الجنس الأدبي الأشد فقراً بصفة عامة فإنها في الأدب العربي لم تكن جنساً أدبياً مقبولاً، إن لم نقل إنها كانت مرفوضة تماماً. لذا كان على الرواية أن تدافع عن نفسها إزاء كل أشكال التعالي والإزدراء، شبه الجماعيين. وكان هذا الرفض يرجع ظاهرياً إلى إنعدام الجذور، إذ كان نموذج الرواية "مستورداّ"، فضلاً عن ذلك فالرواية غزت ميدان الجنس الأدبي الأكثر أصالة في الأدب العربي، ونعني به الشعر الذي دعي مجازاً بـ "ديوان العرب"، نظراً للأهمية الفائقة التي حظي بها منذ العصر الجاهلي، لذا ضمت المعلقات عيون الشعر الجاهلي وعلقت على باب مكان مقدس كالكعبة. وظل الشعر يحتل هذه المكانة المميزة في الأدب العربي حتى إكتشفت الرواية في مطلع القرن العشرين، وذلك من خلال ترجمات مباشرة لمؤلفات باللغة الإنجليزية أو الفرنسية تم تعريبها. والنموذج الأشد تعبيراً في هذا الصدد هو رواية "زينب، مناظر وأخلاق ريفية"، وقد نشرها المؤلف الأديب السياسي المصري متعدد الإبداع محمد حسين هيكل، في عام 1913، باسم مستعار هو "إبن الريف"، درءاً للإزدراء، وشعوراً منه بالحياء لإقدامه على تعاطي فن على هذا القدر من الإبتذال: الفن القصصي، حسب المفاهيم السائدة آنذاك. وقد شاء كثير من الباحثين أن يرى في هذا العمل ميلاد أول رواية عربية حديثة، تجمع عناصر وتقنيات هذا الجنس الأدبي، ولو أنها مسألة ما زالت موضع نقاش ومثار جدل، نظراً لأن للفن القصصي جذوراً عربيةً في صيغ أدبية متعددة تعود إلى العصر الجاهلي، تتجسد في الملاحم والأساطير والحكايات وفي أخبار المآثر الحربية مروراً بقصص القرآن الكريم وكليلة ودمنة وألف ليلة وليلة وأسفار السندباد، إضافة إلى الحكايات التي أوردها الشعر نفسه والمقامات من بين مصادر أخرى. مع ذلك فقد أحدثت الآداب الأوروبية السائدة، آداب المرحلة الإستعمارية في القرن التاسع عشر وفي جزء كبير من قرننا الحالي، تغييرات جوهرية في الأدب العربي. إذ إستعار هذا الأخير صيغاً جديدةً منه، وخصوصاً في فن الرواية، لتكتمل بهذا حلقة من عمليات التأثير والتأثر الثقافي والحضاري بين ضفتي البحر المتوسط. من هنا يتضح لنا أن عمر الرواية كجنس في الأدب العربي المعاصر قصير مقارنةّ بعمر مثيلاتها في الأدب الأوروبي التي تعود بجذورها إلى العصور الوسطى، ولا يفوتنا هنا أن نذكر أن هذا الجنس الأدبي الأوربي يرجع في بداياته إلى الأدب العربي، وتحديداً إلى فن المقامة العربي وإلى مؤلًّف ذي تأثيرات عربية واضحة، ونعني به " Disciplina clericalis النظام الكهنوتي" للأندلسي موسى سفاردي الذي إعتنق المذهب الكاثوليكي عام 1106 واتخذ لنفسه إسم بدرو ألفونصو، كما أورد ذلك الكاتب والناقد المصري المختص بالدراسات الهيسبانية والأندلسية الدكتور الطاهر أحمد مكي (1) المعروف بنزاهته وجديته بوصفه باحثاً أكاديمياً في حقل الدراسات المقارنة والهيسبانية. وقد لقي تطور الفن القصصي آنذاك في مصر أرضاً خصبةً إذ كانت البلد العربي الوحيد في محيطه الذي نمت فيه طبقة برجوازية، وهو أمر يمكن رده إلى عوامل محددة من بينها وجود الأزهر كمؤسسة وحملة نابليون بونابرت على مصر (1799-1801م) ومحاولة محمد علي تأسيس دولة بالمعنى الحديث في النصف الأول من القرن التاسع عشر، مما هيأ الفرصة لإحداث تنامٍ في الروح الوطنية الإقليمية. إلا أن محاولة تحديث بلاد النيل هذه سرعان ما أجهضت على نحو ما من قبل القوى الغربية الممثلة آنذاك ببريطانيا وفرنسا وروسيا وذلك في معركة نافارين عام 1827 التي دمر فيها الأسطول التركي-المصري. برغم ذلك فقد أدت العوامل آنفة الذكر إلى النهضة العربية مع النصف الثاني من القرن التاسع عشر. كما حدث تطور في النشاط الأدبي مما أفسح المجال لولادة جيل أول من الأساتذة الكبار في ميدان الشعر الغنائي، غدوا فيما بعد قمماً حقيقيةً، في الشعر الكلاسيكي في مرحلة ما بين القرنين (2). وقد بدأ الفن القصصي في الإنتشار عموماً منذ العقد الثاني للقرن العشرين على نحو ملفت للنظر وأخذ يشهد نمواً حقيقياً، هذا دون أن نغفل التأثيرات الغربية فقد إتخذ من الإتجاه الطبيعي والإجتماعي أداة لهذا التغيير، خصوصاً في مجالي القصة القصيرة والرواية. وكانت مصر إلى جانب العراق ولبنان محور ذلك الإزدهار الذي بلغه الفن القصصي حيث برز أساتذة كبار كالأخوين تيمور وفيما بعد طه حسين وعباس محمود العقاد وتوفيق الحكيم وعبد الرحمن الشرقاوي ويحيى حقي ويوسف إدريس ونجيب محفوظ. وعلى يد هذا الأخير وآخرين سواه مثل توفيق الحكيم بلغت الرواية العربية المعاصرة ذروة تألقها كما أنه غدا معلماً لكتاب من الأجيال اللاحقة من الروائيين العرب، ومن بينهم جمال الغيطاني نفسه. وقد شهد الفن القصصي على أيدي هؤلاء الكتاب أبهى مراحله في فترة ما بعد الحرب العالمية الثانية،وصولاً إلى منتصف القرن الذي شهد تقسيم فلسطين عام 1947 وهو الحدث الذي هز الوطن العربي وثقافته ووسم جميع مظاهره الأدبية. لقد أسهم هذا الحدث في ولادة نظم ثورية وفي تنامي المد القومي العربي الذي بلغ أوجه وتجسد معلمه البارز في الزعيم المصري جمال عبد الناصر طوال الخمسينات والستينات. وهكذا بدأت الرواية بالإنتشار في معظم أقطار المنطقة، وأخذ تبرز كجنس أدبي مكرس لتغزو جزئياً ميدان الشعر الذي كان حتى تلك اللحظة أرضاً محرمةً. وفي أعوام الستينات تلك برزت في مصر الناصرية مجموعة من الروائيين الذين ينتمون إجتماعياً إلى البرجوازية الصغيرة وقد قدموا من الريف أو المدينة، وهم من بيئات متواضعة في أغلب الأحيان. أكبرهم سناً الروائي السكندري إدوار الخراط (1926م)- وقد صدرت ترجمة روايته "الأسكندرية، ترابها زعفران" باللغة الإسبانية عن دار نشر ليبرتارياس- في حين كان أصغرهم سناً هو الروائي جمال الغيطاني (1945). وبين هذين العامين ولد آخرون منهم صنع الله إبراهيم الذي ترجمت روايته "اللجنة" إلى الإسبانية وصدرت عن در النشر المذكورة آنفاً، وبهاء طاهر وإبراهيم أصلان ويوسف القعيد ويحيى الطاهر عبد الله وعبد الحكيم قاسم ومحمد مستجاب. وكانت هذه المجموعة من الكتاب شاهداً على عصر حافل بالأحداث الكونية الهامة، بدءاً بالحرب العالمية الثانية والحرب الباردة وانتهاءً بانهيار الإتحاد السوفيتي الذي مثل المرجع الأيدلوجي بالنسبة إليهم، وحرب الخليج. وعلى الصعيد العربي شهد أعضاء هذا الجيل بعمق أحداثاً أثرت فيه بشدة من بينها محنة تقسيم فلسطين وتنامي المد القومي العربي بتأثير الناصرية، ونكسة يونيو 1967 وآثار تدفق عوائد النفط إثر حرب أكتوبر 1973 واستبدال إشتراكية عبد الناصر بالإنفتاح الإقتصادي الذي قام به خلفه المباشر السادات، وعواقبه الإجتماعية والسياسية التي لا يزال تأثيرهاً قائماً. في هذا السياق تجدر الإشارة إلى أن عبد الناصر كان هو القائد الوحيد الذي حظي بدعم أغلبية أولئك الكتاب الشباب إذ وجدوا فيه وفي مشروعه السياسي تجسيداً لأحلامهم. بيد أن موقفهم هذا لم يحُل دون حدوث نوع من المواجهات بين بعض أفراد هذا الجيل والنظام، مواجهات أدت بأكثر من واحد منهم إلى السجن، ومن بينهم الغيطاني نفسه. يلاحظ أن هذا الوضع المعقد إنعكس على نتاج هذا الجيل القصصي الذي إستوعب جدلية كانت بدورها قد ولدت نتيجة للواقع المعقد ولحساسية عناصره المكونة. وبعيداً عن أي محاولة لتبسيط هذا النتاج ومن ثم حمله إلى التسطيح حري بنا أن نؤكد على جهود كتاب هذا الجيل في إستعادة الواقع من خلال الأيديولوجيا وذلك باللجوء إلى أدوات وتقنيات جديدة تهدف إلى الإرتقاء بالمستوى الفني لأعمالهم ولإنقاذ الفن القصصي من الوقوع في هوة السطحية التي إنزلقت إليها روايات بعض كتاب الخمسينات والستينات مثل يوسف السباعي والتي فسحت المجال لإشاعة نوع من الأمية الفنية والجمالية. في هذا المناخ ظهرت أعمال تجريبية تحولت إلى إنعكاس للواقع المصري، وبنحو ما للواقع العربي عموماً من خلال إتباع بناء زائغ ومعمار معقد وجمالية تصب في محاولة تطويق سذاجة النصوص والحد منها. خصوصاً تلك النصوص التي تهدف إلى إستثارة عواطف القراء على نحو مفتعل، وكذلك في محاولة تنمية الحس الجمالي للمتلقي والإرتقاء به بتحفيز ذاكرته التاريخية من خلال إقامة علاقات لغوية توحي إليه بتناولها على نحو مسبق، بإستخدام بعض التعبيرات والإستعارات والصيغ الجاهزة مسبقاً التي تبعث في ذهن القارئ بعض المعاني الدفينة الهاجعة في الذاكرة. كما إستعان أولئك الكتاب بشخصيات ووقائع تاريخية ذات دلالات دينية أو سياسية بهدف إفساح المجال لتقديم موازيات لها في المخيلة. فالأمر يتصل بواقع يعج بالمتناقضات، واقع تحاول الأيديولوجيا أن تحيده في طرح الأسئلة إزاء التراث الثقافي وإزاء "الآخر". وبهذا السياق كان هناك إتجاهان: إستعادة هذا التراث الجماعي الذي يمثل حاضنة ماضٍ مجيد في الوقت نفسه رفض "الآخر"، أو الإستعانة بالواقع سواء في الماضي أم في الحاضر من خلال منظور كلي. وكانت الكفة متعادلة نظراً لأن الإهتمام إنصب في الموروث، في الثراث الشعبي، ما كانت الأيديولوجيا قد همشته، أي الموروث المحلي: الفرعوني والقبطي والصوفي الإسلامي. أما عن " الآخر" فقد رأى فيه أولئك الكتاب وفي تراثه معادلاً وتلبيةً لحاجات واقع مختلف عن الواقع المحلي دون أن يعني ذلك رفضه تماماً. تدلل أعمال مجموعة الستينات على جهد جاد في إبداع رواية أصيلة مبتكرة هي إنعكاس لواقع تاريخي محدد، بكل قوته وعمق آثاره، ومعالمه التاريخية. وقد حملتهم هذه الأصالة على تجاوز إهتمام أسلافهم في الإستفادة المباشرة من القوالب الغربية، وذلك بأن أقاموا أعمالهم على أساس الواقع المحلي، برغم ذلك فقد إحتفظت نصوصهم بعلاقة إشتباك مع هذا الواقع دون أن يعني ذلك إطلاقاً رفض رموز الفن القصصي العالمي والإقليمي مثل جيمس جويس وتشيخوف وديستوفسكي وفوكنر وكامي ومحفوظ والمازني وإدريس ..إلخ. وكان عسيراً على أولئك الكتاب الشباب أن يجدوا أنفسهم في مواجهة العنف المنظم واحتكار كل أنواع السلطات من قبل فئة عسكرية متحكمة مما أجبرهم على مواجهة شبح كلي القدرة، مطلق الحضور، ممثل بالدولة. والخيارات المتاحة أمامهم لم تكن كثيرة فإما أن يتحول الكاتب إلى موظف في الجهاز الحكومي وهو خيار مرفوض، أو أن يلزم الصمت وهو ما لم يقدم عليه. إزاء هذا الوضع آثر الروائي الإنسحاب وعدم التورط فيما يحدث وتحويل عمله إلى أداة للتماهي مع المجتمع. لم يكن الواقع الذي حاربه نتاج هذا الجيل القصصي إنعكاساً لتاريخ مصر المعاصر، بل إنه إنعكاس لنظامها الرأسمالي الذي أرساه محمد علي حين إستبدل في النصف الأول من القرن التاسع عشر المجتمع بالدولة البيروقراطية. مذ ذاك تحول المثقف إلى ظل للحكام ولتبرير نظامهم السياسي والإداري. ومن عجب أن نرى اليوم في مصر ونحن على أعتاب القرن الحادي والعشرين أن العلاقة بين المثقف والجنرال- السلطة- لا تزال قائمة على حالها. وقد تعزز هذا النظام مع ثورة عبد الناصر التي حاولت تطبيق إشتراكية منقوصة، بعد أن ساد الإعتقاد أول الأمر بأن هذه الثورة التي أعادت السلطة إلى المصريين ستسعى إلى خلق نوع من الوحدة والتفاهم مع الحكام الجدد الذين كانوا مصريين لأول مرة منذ زوال آخر أسرة حاكمة فرعونية. إلا أن هذه الوحدة سرعان ما استحالت إلى وهم. فالسلطة الناصرية لم تكتف فقط بالحفاظ على النظام الذي أسسه محمد علي وإنما كرسته مما حدا ببعض كتاب هذه المجموعة الأدبية على تبني مواقف صدام مع النظام وهو في أوج قوته. في حين أنهم، وياللمفارقة!، دافعوا عنه عندما تهدده الخطر وكذلك فيما بعد، بعد هزيمته. إذ كانت الخلافات تكمن في الصيغة. فبينما كانوا هم يتوقون إلى التغييرات الثورية الحقيقية السريعة كان الظرف الإقليمي والعالمي يحول دون تجاوز الحدود، ولا يسمح بمثل تلك الثورات الإجتماعية السياسية. برغم ذلك حاول أولئك الكتاب أن يستعيدوا القيم التي كانت "الدولة" قد شوهتها بعدما إنقلبت الأوضاع وراح النظام الناصري يتداعى. من هنا تعاملوا مع التراث الشعبي وعاملوا "الأخر" كما هو - من حيث كونه واقعاً تاريخياً موضوعياً مختلفاً عنهم- من غير أن ينحرفوا إلى سياق آخر، وهو ما نجحوا فيه. وجمال الغيطاني مؤلف الرواية التي نتناولها هنا، يبرز من بين الكتاب لجديته وحماسه في الإفادة من هذا الموروث الثقافي. وبذا فقد تحول إلى واحد من أوائل الكتاب العرب الذين لفتوا الإنتباه إلى هذا المعين الذي عانى طويلاً من الإهمال وعدم الإكتراث، إن لم نقل الإزدراء من قبل الأجيال السابقة التي وقفت إزاءه موقف المتعالي ذلك أنها كانت تتجه بأنظارها صوب الغرب وصوب مظاهره الثقافية. وهكذا غدا كاتبنا روائياً مكرساً بين كتاب الستينات ورائداً في إعادة إكتشاف التراث الثقافي العربي وجعله في خدمة الأدب المعاصر. معروف أن هذا الروائي المصري ولد في إحدى قرى مصر العليا، وتدعى جهينة. وكان عليه أن يهجرها مع عائلته في سن مبكرة مرتحلاً صوب العاصمة التي عاش فيها نحو ثلاثة عقود في حي الجمالية الشعبي حيث عبق التاريخ الإسلامي في القاهرة القديمة التي شكلت مصدر إلهام لجزء كبير من أعماله الأدبية والتاريخية (3). إنتهج الغيطاني هذا المسار منذ روايته الأولى " الزيني بركات"- ترجمت حديثاً ونشرت في إسبانيا مع مراجعة لكاتب هذه السطور- وتمثل محاولةً لتناول واقع معقد متشابك من خلال إستخدام التراث العربي الجماعي، وبشكل خاص التاريخ المشترك، وكما يقول على نحو صائب الناقد والأستاذ الجامعي محمد بدوي " ...إنه يسعى لإعلاء الصوت دفاعاً عن صيغة للإبداع والملاحظة والتطبيق، وهو ما يلاحظ من خلال دأبه على مماثلة ما هو جوهري في الواقع وفي أعماله الأدبية.... إلا أن التشابه لا يعني أن تغدو أعماله محض إنعكاس، مرآة، لما يشهده... ذلك أنه لا يستطيع أن يمتلك دقة عدسة آلة التصوير مما سيهبط بمستوى أدبه، لذا فإنه يسعى لتقديم إبداع أدبي قادر على بلوغ ما هو جوهري في الواقع، بهدف إغنائه وإتمامه" (4). والغيطاني، هذا التلميذ الوفي لأستاذ الفن العربي الروائي نجيب محفوظ وكاتب سيرته الذاتية، يجوب التاريخ لا رغبةً في كتابة رواية تاريخية بل في الإرتكاز إلى ما هو أبعد من التناص. بمعنى إنه في "متون الأهرام"، هذا العمل الأدبي الذي نحن بصدده، يفيد من واقع تاريخي معين، هو نصوص الأهرام التي خلفها قدماء المصريين (5)، كجزء من الموروث الفرعوني، مبرهناً على مقدرته الإبداعية في الكشف عن أسرارها وفي التألق من خلالها. وكان قد جرب هذا الأسلوب نفسه من قبل في رواية أخرى سابقة باستثناء كونه في هذا العمل الذي بين أيدينا الآن يتغلغل في الرافد الأشد قرباً، ونعني به الموروث الفرعوني، وفي جزئه الأكثر إلغازاً: الأهرامات. يقوم معمار هذا العمل الذي إختير كأفضل رواية في مصر لعام 1995 على أساس وضع نصوص، كتابات، تحل بدورها محل الفصول في السرد التقليدي، عبر أسلوب خاص تميز به الغيطاني. وهو يجسد ولع الكاتب بتاريخه المرئي إلى جانب التجارب العديدة المتراكمة التي تفسح المجال لتدفق شاعرية النص والمكان. يسجل الغيطاني بهذا العمل معلماً بارزاً جديداً في مساره الأدبي، وهو يتألف من أربعة عشر نصاً، أو متناً، والكلمة الأخيرة بالعربية أكثر إيحاءً ودلالة منها في الإسبانية، ذلك أنها تعني الصلب أو الجزء الأساس في مخطوط ما إزاء الهامش، مما يتطلب الشرح والتفسير المستفيضين في سياق آخر. ومن خلال هذه المتون، إستطاع الكاتب أن يشيد بناءً هندسياً يقوم على المتون نفسها، وصولاً إلى خلق تشكيل هرمي، مخروطي. إنه هرم مقلوب معمارياً، تبعاً للكيفية التي ينظر القارئ إليه من خلالها، قاعدته تبدأ بنصوص كبيرة تأخذ في الصغر حتى لتنتهي في المتن الرابع عشر، الأخير، بقمة حادة، بكلمة واحدة فقط هي: لا شئ. أي إنها القمة التي تنتهي فيه المادة ويبدأ العدم، حيث تلغى "الأنا" ليبدأ الفراغ. ونصوص الكتاب لها شكل هندسي صمم بعناية وهو شكل مخروطي ذو قاعدة مربعة، تتناقص تدريجياً مجسدة في كلمة واحدة ترتبط بالفضاء حيث يختفي ما هو مادي، ما هو واقعي وحسي، مخلياً المجال لعالم تجريدي، ما وراء المادة، لعالم تخيلي. إنه إعادة إكتشاف العناصر الجوهرية لمخيلة شعب وكينونته وذلك من خلال إتخاذ واحد من الأسس الأكثر تمثيلاً لثقافته، ونعني بها الأهرامات، محوراً لبناء هذا العمل. إنه بناء روائي يتطابق وشكل الهرم حيث يتوغل بعض الفتية بحثاً عن الحكمة في مسعى شاق هو ثمرة تخطيط وتأهب لبلوغ عمق الأهرامات. في هذا السياق المخروطي يمتزج المادي بالمجرد ليمثلا الطاقة الكامنة في هذه الصروح الفرعونية. نلاحظ في المتون الأربعة عشر التي تؤلف العمل أنها بدءاً بالمتن العاشر تقتصر على جمل ذات شحنات شعرية موجزة، تخزن معاني عميقة لتنتهي بكلمة واحدة ذات دلالة خاصة. وهنا يلاحظ التناقص الجلي في المادة مما يفسح المجال للفراغ بشكل عمودي حتى ليلامس الفضاء. إنه نموذج للكتابة الحديثة، إذ يتشابك فيه التراثان الفرعوني والإسلامي في نسيج كوني معاصر، مع أنه لا يزال تجريبياً في الفن الروائي العربي، وبرغم أن هذا النموذج يقوم أساساً على حيز فرعوني جداً كالأهرامات فإن الكاتب يمنح الرواية بعداً خاصاً إذ ينفخ فيها روحاً شرقياً. وهكذا يمثل أمامنا الرحالة المغربي الذي يفد إلى بلاد النيل سعياً وراء هدف خاص، محدد، هو الكشف عن اللغز الأعظم المتمثل بالقبور الملكية لأهرامات الجيزة. إن إنشغال الغيطاني بالزمن واهتمامه بالتراثه يحملانه على تقديم شخصية الرحالة الذي يقدم من أقصى نقطة في غرب الوطن العربي ليواصل تقليداً معيناً في أدب الرحلات العربي: المسافر مغربي دائماً، ولعل سبب ذلك يكمن في أن مركز الوطن العربي يقع في جزئه الشرقي، بدءًا بالقاهرة حتى بغداد، مروراً بأمكنة الحج المقدسة في مكة والمدينة، وكما نعرف فإبن بطوطة الذي يعد أكبر ممثل وكاتب كرس نفسه لأدب الرحلات كان من طنجة. وهكذا يتبع المسافر نصيحة شيخه، معلمه، ليصل إلى القاهرة الإسلامية حيث جامع الأزهر، أحد المعالم المميزة لهذه الجزء من العاصمة المصرية، إذ يقصده كثير من المغاربة الذين حصلوا على واحد من أروقته للدراسة، وصار لهم حي مجاور أيضاً. ومن خلال منارة الجامع يراقب الرحالة لوقت طويل مضي الزمن على قمم الأهرامات التي تقبع على حافة صحراء الجيزة، على بعد عشرات الأميال من القاهرة الإسلامية. إنها نتف، إلماحات، شذرات من أدب الرحلات، موضوعة في خدمة هدف محدد، هو كشف الغامض وفك مغاليق الملغز، لإماطة اللثام عنه، فضلاً عن وجود هدف آخر يكمن في توضيح العلاقة بين الإنسان والزمن ومحاولة تفسيرها. مما يشار إليه في هذا السياق أن الزمن بوجهيه المادي والفلسفي يمثل الهم الأعظم للغيطاني، وهو هم إنتقل إليه من قراءة كتب التراث الأدبي. وقد دفعه هذا الإحساس نفسه إلى الإهتمام بالزمن والتاريخ بغية فهمه. ففي صباه كان يتساءل:" أين مضى الأمس؟ وهل يمكن إستعادته؟" حتى إكتشف أن الزمن كالإنعكاس في المرآة، إذ يقول " التاريخ يعني الزمن بالنسبة لي. أنا لا أشير إلى عصر بعينه، إنه الزمن في إستمرارتيه وتحوله، والإنسان يقف بين لحظتين: واحدة إنقضت لا يمكن إستعادتها، وأخرى قادمة، قد يعجز عن بلوغها" (6). ويمكن أن نجد موازياً لهذا الإنشغال بالزمن في أعمال كتاب جيل الـ 98 في إسبانيا- الجيل الذي وقف متسائلاً عن ضياع آخر مستعمرات الإمبراطورية الإسبانية في نهاية القرن الماض، مثل أنطونيو ماتشادو وبيو باروخا وميغيل أنامونو- ولو إنه في حالة إسبانيا كان أكثر عرضيةً، وذلك يعود لإختلاف الدوافع وتباين الظروف. يمضي جمال الغيطاني في هذا الإتجاه مؤمناً بأن الفنان الحقيقي هو الذي يحتفظ بمسافة معينة تفصله عن الزمن وعن العدم. وهو يختلف عن المؤرخ في أنه يسجل ما لا يدركه هذا الأخير: صميم الواقع أو اللامرئي من الواقع، ما لا تدركه الحواس يكشفه الفنان ويحدده. وهكذا ففي حين أن المؤرخ يروي ويسجل ويحلل مقتصراً دوماً على الأحداث الواقعية، فإن الروائي يبيح لنفسه حرية التصور وتجاوز حدود الواقع التاريخي، ليغوص في أعماقه بحثاً عن معانيه، ودلالاته التي قد تكون رمزية. وانطلاقاً من هذه المقدمة القياسية، فإن الكاتب عندما يوظف بعض الأحداث التاريخية المعينة فإنه يتنبه إلى أن التاريخ محدد بإطار لا يمكن تجاوزه، في حين أنه يتحرر من كل أنواع القيود ويمنح نفسه حرية الإرتجال وإطلاق العنان لمخيلته. بهذا المعنى، فإن التراث بكل صيغه ليس سوى مسافة، برهة محددة، وهو ما استوعبه الغيطاني جيداً. من هنا نشعر بهذا الإهتمام الكبير بالزمن في هذا العمل الذي يطرح مسألة صوفية على هذا النحو كمسألة العدم، في القمة، حيث الصيغة الكاملة للكينونة التي تسمح بإلغاء "الأنا" نفسها. لذا ثمة تسليم في "متون الأهرام" بأن "الوجود في الفناء، والعكس صحيح"، وهو مفهوم تختتم به الرواية، ويتكرر ثلاث مرات مما يتيح لنا إمكانية تقديم وجه مادي آخر للتفسير: الأهرامات الثلاثة، مركز أحداث الرواية. يطرح هذا العمل الأدبي علاقة الإنسان بالمكان، باتخاذ الزمن خلفيةً سحريةً، إذ أن البداية لحظة ما تضم المكان والزمان. وهكذا يسعى المؤلف لبناء وعي واحساس بالفن والحكمة في مواجهة الأسرار العظيمة للحضارة الفرعونية. وعندما يستبد التعب بالرحالة المغربي يجلس مولياً ظهره للمسجد، مسدداً بصره صوب الغرب، نحو الأهرامات، بانتظار أن يصل أحد ما، حاملاً المخطوط المنتظر الذي سيفك له أسرار ذلك البناء الغامض. إنهما قمتان لصرحين معماريين ينتميان إلى ثقافتين محليتين: منارة الأزهر وقمة الأهرامات، موظفتان قطرياً لتنقلا الإحساس بالقلق، هاجس الإنسان إزاء الزمن. والرحالة يفد من إقليم لا يعوزه السحر والغموض، هو وادي زم، غربي المغرب. فأهل ذلك الوادي وهبوا القدرة على "النفاذ إلى المجهول"، مما سيسهل عليه مهمته وهو يتصدى لأهرامات مصر الملغزة، إذ وصل إلى القاهرة بحثاً عن لغزها الأعظم الهاجع في تلك القبور الملكية. ولابد لنا هنا من أن نؤكد أن إختيار هذين الأثرين، الأهرامات والأزهر، في تناول موضوع له مثل هذه القيمة الجوهرية كالزمن- وهو أحد محاور هذا العمل الأدبي- لم يكن من قبيل المصادفة فالكاتب يعرف ذلك بالتجربة، وهو واعٍ للخصوصية التي تمتلكها العمارة الإسلامية في مصر، نظراً للتأثير الذي تمارسه عليها العمارة الفرعونية. وقد أبرز الغيطاني هذه الخصوصية في كتابه "قاهريات مملوكية" آنف الذكر. كما أن هذا الكاتب يضمنُّ المتن الأول من الرواية عبارات مشحونة بالمعاني مما يجعلها تقترب دلالياً من الأقوال المأثورة العربية، وأحياناً يحملها نفساً قرآنياً، مستلهماً في ذلك التراث الصوفي والحكمة الشعبية. ثم إن عنوانات المتون، الفصول، نفسها تعكس مفهومات وثيقة الصلة بالصوفية. كما أن للفكر الفلسفي حضوراً نافذاً في هذا العمل مما حدا بالبعض على ربطه بفكر الشيخ الأكبر إبن عربي وهو أمر يستلزم دراسة أكثر عمقاً وشموليةً. في هذا السياق لنا أن ننوه بأن عبارة "الأمر نسبي" تعود إلى هذا الفيلسوف الأندلسي، وهي واحدة من تلك العبارات التي رصع بها جمال الغيطاني نسيج المتن الأول والتي تقودنا إلى التفكير في أنه إنما إستخدمها مقتفياً في ذلك أثر الكتابات الهيروغليفية التي زينت جدران الأهرامات والتي تواصل بث سحرها لنا وعظمتها. حري بالتوكيد أن الغيطاني واحد من الأدباء الرواد الذين إستلهموا الفكر الصوفي وافادوا منه في سياق إهتمامهم وانشغالهم بالتراث الثقافي العربي وهو ما يتضح جلياً في هذا العمل. ومن جانب آخر يدرج الغيطاني في العمل مقاطع من سيرته الذاتية، ولنا أن نهتدي إلى ذلك في المتن الأول عندما يصور لنا المؤلف-الرواي مشهد الشيخ تهامي الذي يبيع الكتب القديمة على رصيف جامع الأزهر. فنحن الذين عرفنا الكاتب نعلم جميعاً أن أول كتاب إحتازه إبتاعته له أمه من ذلك المكان الذي سيتردد إليه لاحقاً للهدف نفسه: إقتناء الكتب القديمة. وستمنحه قراءة تلك الكتب خصوصية معينة، نستشف من خلالها ذلك النفس الصوفي الذي ينفتح على آفاق سحرية والذي يعين على خلق أجواء تصويرية، مجازية، تتجاوز المحسوس، لتقيم عالماً من الإشارات ينأى بها عن المباشرة. إن هذا المظهر الثرُّ من الثقافة العربية ومن تراثها الثقافي كان مهملاً عن عمد قبل الغيطاني إن لم نقل إنه كان مزدرى، وكان هناك ما يشبه الفراغ فيما يتعلق بالأشكال السردية في الأدب العربي المعاصر وفي تلك الموروثة، على الرغم من ثراء هذه الأخيرة في الشكل والمضمون والأسلوب. الأمر الذي أفاد منه هذا الروائي مما منحه شخصية أدبية مميزة، ومن ثم أسلوباً وتجربةً أدبية ولغوية خاصة، راحت تتنوع من عمل إلى آخر. من هنا فإن كل رواية يضعها تمثل عالماً مختلفاً في إطار نتاجه الأدبي. إنه كاتب في حالة بحث دائم عن خصوصية معينة له بين أقرانه. مع ذلك لم يتحدد الغيطاني في مساره الأدبي بالموروث المحلي، بل إنه إنفتح على رموز الأدب العالمي مثل ديستوفسكي وثيربانتيس وهرمان ملفيل وأغاثا كريستي وفيكتور هوغو من بين آخرين كثيرين. إلى جانب هذا العامل يمكننا أن نضيف ما لولادته في واحدة من قرى مصر من أثر وإنتقاله إلى أحد أحياء القاهرة الإسلامية بجوار جامع الأزهر وحي الحسين ذائع الصيت، حيث إبتاع كتبه الأولى وتسنى له أن يقرأ أعمال الكتاب القدامى مثل إبن إياس والجاحظ إضافة إلى المؤلفات التراثية في علم التنجيم وتفسير الأحلام. وكذلك الحكايات الشعبية القادمة من الريف والمدينة، وما لكل ذلك من أثر في تشكيل مادته الخام وأداته الروائية. وفي تمسكه بما هو أصيل مما يجعله يمتنع عن الحديث مع أهله بلهجة أهل القاهرة، مؤثراً التعبير عن نفسه بلهجة المنشأ الصيعيدية التي تحمله إلى الجذور. كما أن الحي القاهري الذي أمضى فيه الغيطاني طفولته وشبابه ترك في أعماقه طابعه وبصماته التي لا تنمحي مما إنعكس بوضوح في أعماله، ومن بينها الرواية التي نتحدث عنها والتي تزخر بعناصر السيرة الذاتية المرتبطة بهذا المكان، خصوصاً في الصفحات الأولى حتى لتنحل في شخصية الرحالة المغربي. إذ ليس عسيراً على من يعرف سيرة الغيطاني الذاتية أن يتعرف هذه العناصر والمواقع والآثار التي تشكل جزءاً من حياته في تلك المنطقة التي يكن لها مشاعر الحب والحنين والتبجيل. إلا أن هذا لا يدفعه إلى الوقوع في إغراء النقل الحرفي المباشر، ذلك أنه يلجأ إلى التصويرية التي تبرز في هذه الرواية، إلى جانب التناص والذاكرة الجماعية للشعب والأمة. كما يمكن لنا أن نلحظ في فنه الروائي تحريضاً للوعي الجماعي يهدف إلى تسليط الضوء على مقاطع من الماضي وفحصها من خلال تجربته في قراءة الكتب القديمة التي تنطوي على قيمة نوعية في الثقافة العربية. والكاتب يبيح لنفسه حرية تناول الهوية العربية والتفكير فيها وتأملها، من خلال الوعي الجماعي للمثقفين المصريين إزاء ماضي بلادهم وحاضرها، هوية تتجسد روحها في أحجار الأهرامات الفذة وفي مخيلة ناسها، دون أن ينسى الإستعانة بأهل هذه الأمكنة الحافلة بالآثار وهم أناس بسطاء إلا أنهم مزودون بخلفية هائلة من الأساطير والحكايات المروية شفاهاً التي إنتقلت إليهم من جيل إلى آخر منذ فجر التاريخ. نحن في هذه الرواية إزاء كتابة جديدة تمثل إتجاهاً جديداً في مسار الكاتب الأدبي. وتكمن دلالة هذا العمل في نقطتين: البداية والنهاية، وما بين هاتين النقطتين تدور النصوص الحكائية حول محور واحد هو أهرامات الجيزة. فالقمة هي الفراغ، العدم، هي تلك النقطة التي ينتهي عندها البناء العملاق والزمن الذي يجري ليؤشر بداية اللامرئي، دون أن ندرك أي منهما يحدد الآخر "ينفد المحسوس القادم من أسفل، ويبدأ اللانهائي.... تبدأ النقطة غير المدركة بالنظر، ما هي إلا البداية والنهاية معاً لما يعسر على الإفهام إدراكه أو إستيعابه". وإذا كان أجداده، المصريون القدامى، قد إنشغلوا كثيراً بالخلود لدحر العدم، الفناء، من خلال المادة، ممثلة بهذه القبور الهائلة، الأهرامات التي تقاوم الزمن، فإن الغيطاني يلجأ إلى الإبداع الأدبي، إلى الكتابة التي تعني بالنسبة إليه فعلاً يوازي تلبية الغريزة الجنسية. بهذا النحو، فإن الكتابة تمثل حاجة يجد نفسه من خلالها، إذ يشعر بتحقيق ذاته في مواجهة هذا التحدي الفريد: الزمن. وبهذا الخصوص يؤكد الغيطاني نفسه:" إكتشفت أنني كاتب في سن مبكرة مثل معظم أبناء جيلي، فاتجاهنا إلى الكتابة كان غريزياً، تلقائياً، وشققنا طريقنا بأنفسنا، والفعل الغريزي إذا لم تكتمل دورته يصاب الإنسان بأمراض جسدية، فالكتابة عندي شكل من أشكال التوازن مع الحياة" (7). ينطلق المؤلف في عمله هذا من لغة خاصة تجيد مزاوجة التاريخي والصوفي في القمة الإبداعية الرمزية للبناء المادي المجرد. إلا أن لغته الخاصة تضيع في لغة أخرى هي لغة المؤرخين، كما في مقاطع معينة من الرواية، على وجه التحديد حينما يتصدى لموضوع سعي الخليفة العباسي لفتح نفق، حسبما يروي المؤرخ القديم إبن إياس، بحثاً عن الحكمة، إذ سمع ذلك الخليفة بوجود خرائط فريدة في علم التنجيم، وأنواع من زجاج لا ينكسر ومعادن نقية داخل الأهرامات. مواقف مثل هذه التي يوردها الكاتب، إضافة إلى مشهد الشبان السبعة والعاشقين اللذين إستحالا رماداً عندما جرؤا على إقتراف فعل الحب داخل الهرم، تطلق إسار مخيلة القارئ مما يضفي على الرواية أجواءً من الواقعية السحرية إذ يمتزج الواقعي بالغرائبي من خلال إستخدام التراث الأدبي الشفاهي. وهكذا نجد أن التفحم سيكون عقاب من يجرؤ على إطلاق رغباته الجسدية داخل الأبنية المقدسة. وهذا بدوره يطرح فكرة تدنيس المقدسات، من خلال تصوير فعل الجنس والأهرام كقطبين متضادين، وهما يمثلان حلقتين، رمزين للحياة وللعالم الآخر، على الرغم من أن الكاتب لا يفسح المجال لكثير من التأويلات بهذا المعنى. وقد يكمن سبب ذلك في أن الجنس في الثقافة العربية لا يزال بمثابة "تابو"!. إن البحث عن أسرار الأهرامات والزمن، عن ألغازها، هو الخيط الذي ينتظم متون الرواية، من خلال تجاور أحداث وشخصيات مستقلة يربط بينها الصرح الذي له وظيقة المحور في العمل: الهرم. فالأهرامات تكشل عمود الرواية الفقري ونسغها في آن واحد، بيد أن هذا لا يحول دون إحتفاظ كل متن أو فصل بمضمونه المرتبط بعضه ببعض. وفي هذه الرواية نجد أنفسنا إزاء مواقف غير إعتيادية، صوفية وميتافيزيقية، إذ يغيب الكاتب عن عمد المجتمع والتاريخ مخلياً المجال للأبدية، الخلود الذي يمثل عنصراً جوهرياً في علاقة الإنسان في مصر برموز الزمان والمكان. وبهذا يقيم علاقة ما بين روح البلد، ممثلاً بآثاره- الأهرامات في هذه الحالة- وبين مخيلة المثقف الفنية، وريث هذه الحضارة، بأساطيرها وحكمتها المكتسبة على مر التاريخ وعلى مدى الزمن، والهندسة الشعرية لهذا الأثر، لهذا المكان. والغيطاني، ينسج ببراعة مصمم سجاد فارسي- وقد زاول هذه المهنة في صباه- خيوط التراث والرموز الصوفية من خلال هذا البناء الدلالي، مطلق الحضور، والموحي بهذا السياق. وبهذا المعنى لابد أن نقول إن إختيار كلمة "متن" لم يكن إعتباطياً البتة، أو وليد صدفة، ذلك أنها وثيقة الصلة بالتراث. من كل هذا أراد الكاتب أن يخلق لغة ذات نفس تقليدي وأن يمنحها أصالة لغوية سردية، وهو ما نلمسه في هذا العمل وإن على نحو أقل مما نجده في أعماله الأخرى. الأمر الذي جعل مهمة ترجمة الكتاب تغدو عسيرة إلى حد ما، دون أن يعني هذا إتخاذ مقولة "الترجمة خيانة" أو "الأدب الجيد لا يترجم" ذريعة في هذا الصدد. فالحق أننا نعتقد بعدم دقة كليهما. لا يفوتنا هنا أن نذكر أن أسلوب الغيطاني الرشيق، المتأثر بلا ريب بتجربته الطويلة في الكتابة كصحفي، منح الرواية إيقاعاً وشكلاً مختلفين. فهما مفعمان بالسلاسة، دونما إغراق في تفاصيل الحياة اليومية، وعلى نحو يتيح المجال لطرح الأسئلة بخصوص العلاقة الملغزة القائمة بين الإنسان والزمن، وهي معادلة ثابتة في النتاج الأدبي للروائي لهذا الكاتب. يضاف إلى ذلك أن واحدة من فضائل الغيطاني في الكتابة هي عدم وقوعه في غواية تكرار الأسلوب اللغوي القديم عندما يجعل مركز الحدث في عمله الأدبي منتمياً إلى زمن تاريخي، والفضل في ذلك يعود بلا شك إلى أنه يستلهم التاريخ دون أن يسقط في حرفيته. بقي أن نقول إن هذا العمل هو تأويل آخر لأهرامات مصر الشهيرة، ومحاولة لإيجاد العلاقة ما بين هذا الصرح والوجد الصوفي. ولبحث قدر الإنسان في مسيرته الأكيدة نحو القمة، نحو النقطة الأخرى: الفناء. الأمر الذي يطرح بدوره السؤال التالي: ترى إلى أين يمضي بنا هذا الفناء؟!.
* ترجمتها عن الإسبانية الكاتبة العراقية باهرة محمد عبد اللطيف.
هـــوامـــش: * هذه الدراسة نشرت مع الترجمة الإسبانية "متون الأهرام" للروائي جمال الغيطاني، وقدم لها الكاتب الإسباني خوان غويتيسولو، وصدرت عام عن دار نشر "ليبرتارياس" في مدريد. (1) مكي، الطاهر أحمد، "القصة القصيرة، دراسات ومختارات"، دار المعارف، القاهرة 1977، صفحة 37 والصفحات التالية. (2) مارتينيث مونتابيث، بدرو، " مدخل إلى الأدب العربي الحديث" (الطبعة الثانية)، دار نشر كنتأرابيا، مدريد، 1985، ص. 40. (3) أصدر الغيطاني "قاهريات مملوكية"، دار المعارف، القاهرة، 1996. وفيه يتجول الكاتب في جزء مهم من الأحياء التاريخية في العاصمة المصرية ليكشف بأسلوبه الأدبي الخاص أسرارها، من خلال كتب التاريخ والآثار الإسلامية. (4) تراجع الدراسة القيمة التي وضعها هذا الناقد الشاب الأستاذ في جامعة القاهرة "الرواية الجديدة في مصر. دراسة في التشكل والأيديولوجيا"، المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر والتوزيع، بيروت، 1993، ص. 63. (5) عنوان رواية "متون الأهرام" مستلهم من "نصوص الأهرامات" التي خلفها قدماء المصريين على جدران القبور داخل أهرامات بعض ملوك الأسرتين الخامسة والرابعة. وهي نصوص دينية وصلوات وطقوس تهدف إلى حماية المومياء وضمان العيش الرغيد والسعادة في الحياة الأخرى للملك، لتكفل له حياة تشبه حيوات الآلهة العظام. وتعد هذه المتون أولى نماذج الأدب الديني. (6) سالم، خالد" الغيطاني: مفهوم الزمن هو مفتاح الأدب العربي". تعليق على سلسلة المحاضرات التي ألقاها جمال الغيطاني في جامعة مدريد أوتونوما وجامعة مدريد كومبلوتنسي ومدرسة اللغات الرسمية، في أبريل 1995، ونشر في عدد 4991، بتاريخ 6 يناير 1996 في صحيفة "الراية"، الدوحة، قطر. (7) سالم، خالد، "مقابلة مع جمال الغيطاني" نشرت في جريدة "الشرق الأوسط"، لندن، العدد 6130، في 10 سبتمبر 1995.
#خالد_سالم (هاشتاغ)
Khaled_Salem#
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
الشاعر رفائيل ألبرتي : تأثرت بالشعر العربي الاندلسي وغارثيا
...
-
الإسلاميون والديمقراطية في مفترق طرق
-
سورية في قلب أم الدنيا
-
الرؤيا في شعر البياتي
-
لا تجبروا جيش الشعب المصري على أن يكون فاعلاً على غرار جيوش
...
-
أزمة اللغة في -المسرح الجديد- في إسبانيا
-
مشاهد بعد معركة الإخوان المسلمين
-
العرب بين الإنتحار واللهو بتطبيق الشريعة: مصر على شفا جَرف ه
...
-
من البنية إلى البلاغة في السميوطيقا البصرية
-
التأليف الموسيقي في خدمة الصورة السينمائية (الخطاب الموسيقي
...
-
توظيف وتطبيق العلامات المسرحية
-
حركة الإستعراب الإسبانية من الداخل
-
مكان الطقس في سميوطيقة العرض
-
السارد في المسرح
-
سميولوجيا العمل الدرامي
-
الشاعر أوكتابيو باث في ذكراه:على العالم العربي أن يبحث له عن
...
-
المسرح والخيال
-
عبد الوهاب البياتي محلقًا عبر أشعاره وحيواته في العالم الناط
...
-
مسرحية -القبيحة- وتقاليد إسبانيا العميقة عبر إقليم الأندلس
-
الصراط المستقيم وتخلف العرب المبين: الهنود الحمر نموذجًا
المزيد.....
-
-البحث عن منفذ لخروج السيد رامبو- في دور السينما مطلع 2025
-
مهرجان مراكش يكرم المخرج الكندي ديفيد كروننبرغ
-
أفلام تتناول المثلية الجنسية تطغى على النقاش في مهرجان مراكش
...
-
الروائي إبراهيم فرغلي: الذكاء الاصطناعي وسيلة محدودي الموهبة
...
-
المخرج الصربي أمير كوستوريتسا: أشعر أنني روسي
-
بوتين يعلق على فيلم -شعب المسيح في عصرنا-
-
من المسرح إلى -أم كلثوم-.. رحلة منى زكي بين المغامرة والتجدي
...
-
مهرجان العراق الدولي للأطفال.. رسالة أمل واستثمار في المستقب
...
-
بوراك أوزجيفيت في موسكو لتصوير مسلسل روسي
-
تبادل معارض للفن في فترة حكم السلالات الإمبراطورية بين روسيا
...
المزيد.....
-
تجربة الميج 21 الأولي لفاطمة ياسين
/ محمد دوير
-
مذكرات -آل پاتشينو- عن -العرّاب-
/ جلال نعيم
-
التجريب والتأسيس في مسرح السيد حافظ
/ عبد الكريم برشيد
-
مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة
/ د. أمل درويش
-
التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب
...
/ حسين علوان حسين
-
التجريب في الرواية والمسرح عند السيد حافظ في عيون كتاب ونقا
...
/ نواف يونس وآخرون
-
دلالة المفارقات الموضوعاتية في أعمال السيد حافظ الروائية - و
...
/ نادية سعدوني
-
المرأة بين التسلط والقهر في مسرح الطفل للسيد حافظ وآخرين
/ د. راندا حلمى السعيد
-
سراب مختلف ألوانه
/ خالد علي سليفاني
-
جماليات الكتابة المسرحية الموجهة للطفل في مسرحية سندس للسيد
...
/ أمال قندوز - فاطنة بوكركب
المزيد.....
|