الصحراء الحمراء1964(مايكل أنجلو أنتونيوني): (حتى الطيور تعلمت أن لا تطير في هذا المكان لأن هواءه مسموم)

بلال سمير الصدّر

الحوار المتمدن-العدد: 4168 - 2013 / 7 / 29 - 00:57
المحور: الادب والفن
    

الصحراء الحمراء1964(مايكل أنجلو أنتونيوني): (حتى الطيور تعلمت أن لا تطير في هذا المكان لأن هواءه مسموم)
الفيلم يعتبر الحلقة الأخيرة من سلسلة ضياع الانسان التي بدأت مع فيلم المغامرة وانتهت بالخسوف يتوسطها فيلم الليل،وإذا كان فيلم الصحراء الحمراء يحمل نفس الهم الوجودي للأفلام الثلاثة السابقة،إلا أنه لا يمكن اعتباره أبدا ضمن هذه الثلاثية لأسباب سوف نذكرها لاحقا....:
ربما أول هذه الأسباب يعتبر شيئا تقنيا بحتا يخص الفن السينمائي كاسلوب وطريقة عمل،ففيلم الصحراء الحمراء هو الفيلم الملون الأول لهذا المخرج الكبير،كما ان أنتونيوني استخدم تقنيات جديدة في التصوير مستخدما نوعا آخر من العدسات ونحن بغنى عن ذكره الآن...
والأسباب التي ذكرناها حتى الآن لا تعتبر اساسا للحكم على الفيلم بجعله مستقلا عن الثلاثية التي سبقته حتى لو كان يحمل نفس الهم الفكري إلى درجة المطابقة مع ما سبقه من الأقلام...
فالفيلم لا يتحدث عن شيء آخر رأيناه أو سمعنا عنه في الأفلام الثلاثة السابقة،كما أن الفيلم هو من بطولة (مونيكا فيتي) التي اصبحت بطلة تقليدية لهذا الهاجس الوجودي،كما أن أنتونيوني قد كتب السيناريو مع الايطالي الشهير (تونينو غويرا) الذي شاركه أيضا في كتابة فيلم (الخسوف) فما الذي جعل هذا الفيلم فيلما متفردا كما قلنا...
يتخذ أنتونيوني من العالم الحديث موطنا للقصة-وهو شيء استخدمه قبل ذلك في فيلم الخسوف- واللون الذي يعم الفيلم هو اللون الأحمر،لون الصناعة أو لون ميلانو....
أنتونيوني في الصحراء الحمراء،لا يطيل علينا ولا يدع مجالا للشك بأن جوليانا بطلة الفيلم إلى درجة المركزية الشديدة مريضة نفسيا ومن خلال ابسط تصرفاتها، ومن هنا ينتقل أنتونيوني انتقالا غير محسوس من سينما اللاحدث،أي من حالة عامة مقصودها العام وليس الخاص،إلى جزئية سردية أساسها مرض جوليانا النفسي وحالتها العصابية لأن الحالة النفسية التي تمر فيها البطلة لها دور كبير في رؤيتها ونظرتها إلى العالم ونحن لا نستطيع أن نتغاضى عن ذلك ابدا وهذا ربما يعتبر انتقالا من تحليل الحالة العامة للشخصيات بالاضافة إلى تحليل محيط هذه الشخصيات وما هو ضمن هذا التحليل من مكان أو زمان،إلى تحليل الحالة الشخصية للبطلة حتى لو كان المكان-وهو مقصود كعادة أنتونيوني-هو ميلانو أو الصحراء الحمراء،وبالتالي يصبح فيلم الصحراء الحمراء قريبا جدا من عوالم بيرغمان التحليلية وقريبا بعض الشيء من كيسلوفسكي....
وبالخلاصة فإذا كانت الافلام الثلاثة السابقة ضائعة حدث وفاقدة الهدف من السرد-ضمن اهداف في الحالة الطبيعية وليس في حالة أنتونيوني-فالأمر هنا مختلف لأن الفيلم حتى لو كان خالي من الحدث ولكنه مقصود السرد،بل كل مقصود السرد هو جوليانا،والبعض اطلق على الفيلم بمجمله بأنه دراما نفسية وهذا بحد ذاته إن كان صحيحا(حرفيا) إلا أنه بعيد عن أهداف أنتونيوني الحقيقية.
الفيلم،كمثل الأفلام السابقة تماما،يستخدم الفراغ والديكورات للتعبير الطبيعي والخلفيات الموسيقية الطبيعية،وقليل جدا في الكلام بحيث يجعل الفيلم يتحدث عن نفسه،ولكن الخواء في فيلم الصحراء الحمراء له دور أكبر من الأفلام السابقة خاصة بأن الشخصية العصابية هي التي تعبر عن نفسها أكثر من أي شيء آخر،ولكن هذا لا يعني في نفس الوقت أن هذا الفيلم لا يعتبر قليلا جدا في جمله وعباراته.
جوليا متزوجة من (آجو) الذي يعمل كمهندس ميكانيك في شركة في منطقة مصانع ميلانو،وهناك زميله (كواردو زيلر)-ريتشارد هاريس- وليس من الصعب أن نستشف أن هناك مسافة واسعة تفصل البطلة عن زوجها ولاحقا سنكتشف بأن هذه المسافة تخص كل شيء وليس زوجها وحده،والشيء الوحيد الذي من الممكن أن نحكم بأن هناك اتصال حقيقي بينها وبينه هو ابنهما (فاليريو).
يشرح آجو سلوك زوجته الشاذ الحاصل من صدمة عصبية بالاساس نتيجة حادث سيارة،وقد تلقت العلاج لمدة شهر في المستشفى ولكنها لم تشفى بعد..
جوليانا حاولت الانتحار في المستشفى ذات مرة،ولكن لايعرف هذا سوى كواردو المتحفظ على اهتمامه الجنسي بها والطبيب نصحها في ذلك الوقت أن تحب شخصا ما ...زوجك ابنك أو حتى كلب
هذا الشعور نابع من قلة اتصالها بهذا العالم إلى درجة العدمية...
الشيء المهم الذي يقوله أنتونيوني في هذا الفيلم-ولم يلمح إليه في جزء من الثلاثية-هو أن الانسان لا يستطيع أن يعيش وحيدا بل لابد له من الاتصال بالآخرين وهذا قريب جدا من سارتر عندما قال (الوجود هو الجحيم).
إذا السمة التي يتحدث عنها أنتونيوني هي سمة حضارية،لها علاقة بالقفر وتفسخ العلاقات في العالم الحديث،والأمر الثاني يتعلق بالانسان وقدرته على الاتصال في هذا العالم وهي حالة جوليانا نفسها...
لتوضيح هذه الافكار علينا أن نتحدث عن ثلاثة مشاهد رئيسية في الفيلم...
في جلسة لآرجو مع اصدقائه ومن بين الحضور زوجته جوليانا،يتحول الحوار إلى شيء أقرب إلى العربدة الكلامية مع بعض اللمسات الجنسية للحاضرين التي نستطيع القول عنها بانها عشوائية،وحتى آرجو يقوم بمثل هذه اللمسات أمام اعين ومرآى زوجته الباردة اتجاه هذه التصرفات مثل الآخرين تماما...
هنا يتحدث أنتونيوني عن فساد طبقة مثقفة (برجوازية)أيضا بالاضافة إلى الحديث عن تفاهة بشرية...عن شيء من أنواع الاتصال السطحي جدا بين الآخرين...هذا الموقف الجنسي الطويل نسبيا قد يوحي بالقفر...أي بالصحراء
الموقف الذي يطرحه هنا أنتونيوني تحليلي أكثر منه سردي وهذا يقودنا إلى أن أنتونيوني هو الفنان القصدي بامتياز.
في ظل هذا الموقف ترسو سفينة بالقرب من الكوخ الذي يجلسون فيه الآن سرعان ما سترفع العلم الأصفر(أي الوباء) وهذا قد يوحي بشيء خاص يتعلق بالمشاركين في الجلسة أو عام يتعلق بالانعزال البشري برمته.
المشهد الثاني عندما تروي جوليانا قصة لأبنها عن فتاة تريد أن تعيش وحيدة فتجد جزيرة منعزلة وجميلة في نفس الوقت لايوجد بها أي أحد، ولكنها سرعان ما ستسمع صوتا لشخص ما يغني وهي تبحث عن هذا الشخص ولكنها لاتجده في مشهد يحتل وقتا طويلا من الفيلم...
تفسير المشهد ضمن خيارين لا ثالث لهما هو ان الانسان من المستحيل أن يجد مكانا يعيش فيه وحيدا ولا بدله من الاتصال بالآخرين،والخيار الثاني للتقسير تعترف به جوليانا نفسها...
تقول لكواردو متسائلة: لماذا أنا دائما في حاجة إلى الآخرين..؟!
تطلب من كواردو مساعدتها في خائفة من كل شيء...الشوارع..المصانع...الألوان ومن كل شيء
فكرة الاتصال يبرز أنتونيوني مشكلتها عندما يستغل كواردو انهيارها النفسي الذي يبدو بأنه في أوج حالاته لحاجته لمضاجعتها جنسيا...
وهذا يبرز الحقيقة الخفية المتشائمة فعليا من التصرف البشري لأن جوليانا تقول له:
حتى أنت لم تساعدني يا كواردو
وهذا ما تحدثنا عنه في الجمل الأخيرة هو المشهد الثالث الرئيسي في الفيلم
استخدم أنتونيوني نفس تقنياته،من الصمت إلى الفراغ،إلى الهدوء الخانق،إلى التجول غير المفهوم سوى من وجهة نظر تحليلية فقط...
ولكن وعندما تكون الجملة الختامية على لسان جوليانا لابنها:
(حتى الطيور تعلمت أن لا تطير في هذا المكان لأن هواءه مسموم)
هذا الايحاء المختلف اللحن والايقاع يحعلنا نقول أن أنتونيوني قال ما يريده بوضوح الأمر الذي لم نلحظه في اي جزء من الثلاثية السابقة.
`

#بلال_سمير_الصدّر (هاشتاغ)      

---

---

الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 

اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل	حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين

كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على:

الفيسبوك

التويتر

اليوتيوب

RSS

الانستغرام

لينكدإن

تيلكرام

بنترست

تمبلر

بلوكر

فليبورد

الموبايل

كيفية إشراك-إيصال مواضيعكم أو مواضيع تهمكم  إلى اكبر عدد ممكن من القراء والقارئات