سامى لبيب
الحوار المتمدن-العدد: 4154 - 2013 / 7 / 15 - 04:33
المحور:
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني
- لماذا يؤمنون وكيف يعتقدون (34) .
قدمت كتابات كثيرة تقدم رؤية أن الدين هوية إجتماعية لجماعة بشرية ترسم حدودها وتحدد ملامحها وسماتها من خلال إله ونبى وطقس يكون بمثابة شعار وراية ودستور تتجمع تحت لواءه محققة وحدتها وقوتها وخصوصيتها فى مواجهة مشاريع إجتماعية لجماعات بشرية أخرى لنجد هذا الملمح ماثل أمامنا فى تاريخ الأديان والمعتقدات قاذفاً بالكثير من الصور التى تعتنى برسم خطوط واضحة لهوية جماعة بشرية تبغى التحقق لتتجلى الأمور بصورة فجة فى المشروع العبرانى والإسلامى فحد الردة مثلاً فى المشروعين ينزعج من الخارج المفارق للجماعة كونه خصم من مشروعها الإجتماعى وإضافة لرصيد مشروع آخر .
من الأسباب القوية التى جعلت الإنسان يلتصق بالأديان والمعتقدات لتجد سبيلها إلى نفسه كونها تقدم له معنى وقيمة للحياة ولوجوده لتنتشله من حالة الإحساس بالعبثية والعدمية مانحة إياه حالة من الشعور بالقيمة والتمايز الوجودي فهو أفضل المخلوقات ومحور الكون والإله خلق العالم خصيصاً من أجله معتنياً بوجوده ليعضد الإنسان ذاته نحو مفارقة الطبيعة وتأكيد الأنا , وبلاشك أن من أبدع هذه الفكرة عبقرى بإدراكه الإحساس الكامن فى الإنسان بإغترابه وسط وجود مادى غير مُعتنى بوجوده فأبدع المعنى والإحتفال والإحتفاء ليجد صداه فى داخله , ومازالت هذه الرؤية تجد هوى فى نفسية الإنسان المعاصر حيث الرغبة فى الهروب من اللامعنى , فلك ان تتصور أن الوجود بلا إله مُعتنى سيجلب اللامعنى وعبثية الوجود لذا أعتقد ان الهدف الجوهرى من إبداع فكرة الإله هى خلق معنى وسيناريو وقصة للحياة تبدد الإحساس بعبثيتها .
لا يكتفى الفكر الدينى بإعطاء معنى وتمايز وجودى للإنسان فدوائر التمايز عديدة ومن الأحرى ان تُمنح للتابعين والمريدين فى المشروع الإجتماعى بإيهامهم بحالة فوقية متميزة , فكل تمظهرات الفكر الديني تدور فى فلك منح المنطوين تحت لواءه إحساس بالتمايز الفوقى على الآخرين كأصحاب حق وحقيقة والأكثر تفضيلاً لدى الإله , فلن نجد دين يعتبر الأديان الأخرى فى نفس قامته مكافئة له بل دوماً سنحظى بحالة من التعالي والرفض بل النفور والإحتقار تصل حدتها إلى العداوة والإضطهاد ولا يستثنى هذا دين عن آخر وإن تفاوتت بالفعل , فيكفى أن إيمانك هو المعتمد والباقى على ضلال لتصل الأمور فى تشرنقها بتضيق حلقة التمايز ليصبح النفور والتقليل لأصحاب المذاهب داخل الدين الواحد .
كتبت ذات مرة تأمل طريف يحمل معنى جدير بالإعتناء حيث قلت أننى أحترم البيض وأقر بأهميته ولكن أحب أكله مقلياً بينما هناك من يقول ما لم تأكل البيض مسلوقاُ فأنت من الخاسرين ... بالطبع أسقط هذا التأمل على فكرة الإيمان بالله وفقا للأديان لأشير أن الفكر الدينى يجعل الإله المُفترض لا يقبل ولا يعتمد الإيمان به إلا مشروطاً بالإيمان بنبى أو رسول وهذا يعنى ببساطة تقويض ألوهيته وربوبيته , ويعطى تأكيد على بشرية الأديان نحو التمايز من خلال إحتكار الإله لتجعل أكل البيض المسلوق هى الطريقة المثلى والوحيدة لتناول البيض .!!
بماذا نفسر هذه الحدة بين الأديان طالما تؤمن بإله احد وبكل منظومته الغيبية فلا معنى أن يكون الإيمان بالإله مشروطاً بالإيمان بنبى أو رسول معين وإلا فقد الله بذلك ألوهيته وتمحورت القضية فى الإنسان ... وبماذا نفسر الحدة والنفور بين أصحاب المذاهب المختلفة داخل الدين الواحد لتصل لحالة من العداء الشديد كما نرى الصراع المحتدم بين السنه والشيعة في الإسلام والتناحر البروتستانتى الكاثوليكي الأرثوذكسي فى المسيحية .
لا يوجد مبرر لهذا الإحتدام والعراك كون هناك من يحبون البيض مسلوقاً وآخرين يفضلونه مقلياً فالأمور كلها تُحلق فى فضاء الخرافة والغيبيات ولا يوجد فكر يمكن إثباته ومعاينته لدى أى دين أو مذهب لتمنحه الحقيقة المطلقة كما لا يوجد أى مبرر لعداء أهل المذاهب كونهم يختلفون فى تفسير وفهم النص سوى إننا أمام باحثين عن حالة فوقية فى إطار المشروع الإجتماعى ورغبة فى ممارسة عملية تمايز داخل الجماعة الدينية الواحدة كهوية باحثة عن الفوقية من خلال مزيد من الإقصاء والتشرنق .
هنا الملمح الرئيسي فى تكوين الأديان لم يتطرق له الكثيرون بالرغم أنه واضح الملامح متى نفضنا عنه غبار المقدس , فنحن أمام فكر إنسانى إتخذ من الهوية سبيل لتحقيق التمايز والفوقية على الآخر ليتفاوت شكل الإستعلاء ما بين النعت بالكفر والضلال والمغضوب عليهم إلى الأنجاس الأدناس أحفاد القردة والخنازير وليحظى المؤمن على حالة متوهمة من التمايز بالنقاء والتقوى والطهارة والبر المُفضل لدى الإله
فكرة التمايز هى فكرة محورية فى السلوك البشرى نحو إثبات الأنا وإعلان القوة وتتويجها بلذة الهيمنة والسيادة فهو سلوك لا يبغى الترف بل يأتى من خلال الصراع الحياتى الوجودى فلا تقتصر الرغبة نحو الفوقية والتمايز كحالة إستعلائية متعجرفة متفردة بل فى خضم مشروع سطوة وهيمنة وإستغلال ليأتى الشعور بلذة الإنتصار والفوقية مكللاً لها .
الفوقية والإستعلاء والهيمنة هى نتاج المجتمعات الطبقية وطبيعة الصراع الداخلى التى تعتريها فهو نهج الملوك والسادة والكهنه لتحقيق لذة التمايز والهيمنة المُبتغاة التى لا يمكن إغفالها أو إهمالها أو التقليل من شأنها ولنعطى مثالاً عن معدن الذهب فهو يفضح النزعة الطبقية التى تهفو لحالة من التمايز والفوقية ... فالمعروف أن الذهب معدن نادر يحتاج لمجهود شاق فى البحث عنه ,,فما الذى دفع الإنسان القديم صاحب الإمكانيات الضئيلة تقنياً أن يجوب الجبال والصحارى ليحفر ويستنهض منها عدة جرامات من الذهب .. ما الذى جعل الملوك يُسخرون العبيد والعمال فى البحث الدؤوب الشاق عن الذهب بينما تلك الجهود كان حرياً أن تُسخر فى استصلاح الأراضى وبناء السدود وما شابه من تحديات وضروريات .
الفكرة المحورية لبحث الإنسان المُضنى عن معدن الذهب ليس لجمالياته فهو جميل بعيوننا وتقييمنا والهالة التى منحناها إياه كونه يمنحنا شعور بالفوقية فلا يوجد شئ جميل بذاته أى لا يوجد شئ يحتوى على جزيئات إسمها جمال , فالجمال إسقاط تقييم وإستحسان لشئ نكسبه معنى لذا هذا البحث الدؤوب الشاق عن الذهب كان يعتنى بفكرة التمايز التى لازالت سائدة حتى الآن كتعبير عن السعى لحالة طبقية تمايزية تأتى من تفرد من يملكون الذهب فى مقابل غالبية لا تملكه لتخلق حالة فرز طبقى , فهناك ملوك وأسياد من جهة وحرافيش وعامة وعبيد فى الجهة الاخرى ليختال المالكين بلذة التمايز والتعالى كونهم يمتلكون الذهب كمعيار للتفوق والطبقية.
الأديان سربت نفس هذا النهج من الفوقية والإستعلاء والتمايز ولكن منحته لقطاعات عريضة من التابعين لذا نجد شعب الله المختار والمخلصين بدم المسيح وخير أمة أخرجت للناس لتحقق للتابعين إحساس بالتمايز والفوقية , فهذا مؤمن وذاك كافر ومشرك وضال ومغضوب عليه .. نحن أحباب الرب والآخرين الكافرين المغضوب عليهم ..نحن أصحاب البركة والنعمة والآخرين أصحاب اللعنة والحسرة ... نحن أبناء الله والآخرين أنجاس
الشعور بالتمايز هو تعظيم لقيمة الأنا لتجد هوى ومتعة لدى الإنسان الباغى للهيمنة والسيادة والإستعلاء ليقوم الدين بدور خطير فهو لا يقتصر بإحتكار السادة والميسورين بخاصية التمايز والإستعلاء فحسب بل يفتح المجال أمام المهمشين والمحبطين والصعاليك للإحساس بنشوة التمايز والإستعلاء تجاه الآخر ومن هنا يجد الدين هوى وإيمان فى نفوس تابعيه ليس لكونه هوية إجتماعية مؤطرة للمجموع فحسب بل مانحة لحالة مزيفة من الفوقية والإستعلاء .
يمكن تفسير حالة التمايز الذكوري والقهر الأنثوى فى منهجية الفكر الديني من خلال منظور التمايز والفوقية فالذكر جعل عضوه الذكرى رمز للتمايز والهيمنة والسيادة لتجد هذه الوضعية هوى وحماس لدى الذكور ليُؤطر الدين حالة تمايز وهيمنة ذكورية تشمل القرار والسيادة والميراث , لذا تُعتبر الأديان الأبراهيمية تعبير عن الإنتصار النهائى للذكورة وتتويج تمايزها فلما لا يتشبث الذكور بالدين العظيم .
حالة المذهبية فى الأديان تأتى فى نفس السياق فهى رغبة تمايز لجماعة من داخل المجموع بحثاً عن وضعية متعالية فوقية فالإختلاف المذهبى لا يُبرر على الإطلاق حالة الفرقة فمن المُفترض أنه خلاف فكرى فى تفسيرات النصوص لا تستدعى الحدة والتشرنق ولكنها تبغى حالة فوقية تبغى مصالح محددة مثل الخلاف السنى الشيعى الذى جاء كحالة صراع سياسى ورغبة فصيل فى السيادة والحكم بدأ من حادث السقيفة ليظهر التباين المذهبى من على أرضية خلاف وصراع سياسى وتُختلق بعدها ملامح للخلاف الفقهى والعقيدى لم تكن متواجدة قبلها .
إعتمد الفكر الدينى على حالة التمايز والفوقية كحجر زاوية يؤسس عليه قضية الإيمان ويمنح المؤمنين حالة من التيه تصرفهم عن أى شك فهو لم يكتفى بمنح مشاعية التمايز فى مريديه ليدغدغ بها أحلامهم فى الإستعلاء على الآخر المختلف وهى من الأهمية بمكان فهى تخدر المُحبطين والمُهمشين لتمنحهم شعوراً تعويضياً مزيفاً تصرفهم عن حال قهرهم فهم الأعلى لدى الله رغم بؤسهم ولا مانع من فتح مجالات عديدة للتمايز فهناك فرقة واحدة ناجية من ثلاثة وسبعون فرقة وعبد صالح له درجات رفيعة فى ملكوت الرب وشهيد ذو منزلة خاصة عند الله لتخلق حالة من التنافس والرغبة فى التميز ونيل شرف الفرقة الناجية والدرجة الرفيعة ليتخلق سعار داخل المؤمنين لنجنى فى النهاية حالة من التغييب والتخدير وطحن بلا طحين تفسر لنا سر تشبث المؤمنين بالأديان .
التمايز حالة أصيلة فى الذهنية الدينية فهى تبدع أشكال مختلفة لمنح رخصة التمايز لتكون اللحية والزبيبة رخصة تمايز فهى دلالات على التقوى وكذلك الحجاب فى نشأته لم يعتنى إلا بخلق حالة تمايز بين الحرائر والأماء كما ورد فى أسباب التنزيل ليحتال المؤمنون بعد ذلك ويضيفون لها تمايز يعنى العفة والفضيلة .
الدعاة والأئمة والكهنه هم حالة تمايزية داخل المؤسسة الدينية تعتنى بمنح مديرى المؤسسة الدينية حالة من التعالى والتمييز والفوقية تدعم المشروع الديني فى بناءه الهرمى بترسيخ فكرة الفوقية من قمته لقاعدته وتمنح النخب وأصحاب المشروع ومروجيه النصيب الأوفر من التمايز كقضية أساسية.
" نحن قسمنا بينهم معيشتهم في الحياة الدنيا ورفعنا بعضهم فوق بعض درجات ليتخذ بعضهم بعضا سخريا" [ الزخرف : 32 ]- آية خطيرة بالقرآن تقر وترسخ التمايز الطبقى والرضوخ له ,ولا تعرف ما معنى , وما الحكمة فى خلقناكم طبقات وهل يتفق هذا مع العدالة والظروف المتساوية فى الإختبار الإلهى أم تعنى ترسيخ وتحصين مصالح طبقية بعدم النيل منها ,ولاننسى أن ننتبه لمقولة "يتخذ بعضهم لبعض سخريا" فهى رخصة للفوقية .
لو تأملنا آية " قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر ولا يحرمون ما حرم الله ورسوله ولا يدينون دين الحق من الذين أوتوا الكتاب حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون "وانصرفنا عن قهر الأخر وإكراهه على الإيمان لنتوقف ملياً أمام كلمة " صاغرون" التى تجسد معنى التمايز الإستعلائى فى صورته السادية البشعة , فلا يكفى أن يقدم المسيحى واليهودى الجزيه نظير بقاءه على إيمانه بل لابد أن يقدمها صاغراً مذلولاً ليفسر العلماء "صاغرون" بشد أهل الذمة من لحاهم وصفعهم على قفاهم وهم يقدمونها لنجد أننا أمام إشكالية كبيرة وضعها مُسطر النص لتابعيه , فالله لن يقبل أن تُقدم الجزية بدون إذلال وتحقير لأهل الذمة ولا يعنى غير ذلك إلا إهمال أوامر الله !! ,,,ولكننا سنعتنى بإلقاء الضوء على مشهد الإستعلاء الفوقى الذى يتسم بسادية قميئة كملمح من ملامح منح الدين لمريديه ممارسة حالة تمايزية فجة.
لا يكون التمايز والفوقية والإستعلاء مشاعر شوفينية مستقلة فلا مشاعر بدون حاجات مادية تبغى التحقيق ,فالهدف هو الإستئثار والإستحواذ والهيمنة ليكون الشعور المصاحب لها هو لذة الإنتصار بالإستعلاء والتمايز .
المؤسف أن الأديان ترسخ حالة من التمايز الفوقى والإستعلاء لا تحمل أى ملمح بإستحقاق التمايز فالصور هشة وسطحية وساذجة مغمورة بالقسوة والغطرسة الخاوية من أى مضمون ليتموضع التمايز فى إطار عنصرى يحتفى بمظهر معين كالإيمان بدين معين أو الذكورة المانحة لحالة تعالى وإستعلاء متعجرفة .. فالتمايز بالإيمان لا يعنى شئ ولا يقدم شئ سوى العنجهية والصلف فما معنى أفضليتك وتمايزك كونك تُفضل أكل البيض مسلوقاً فهذا شأنك لا يجعلك متميزاً فى عيونى , وما معنى تمايزك كونك لديك عضو جنسى ذكرى فهو عضوك فى النهاية الذى يقوم بوظيفته كما للمرأة عضو وظيفى فلا يعنى هذا أى تمايز .. ما معنى تعاليك كونك ولدت وسط جماعة بشرية تؤمن بخرافات معينة فهى خرافاتك وفى مقابلها توجد خرافات أخرى يُعظمها أصحابها ,فخرافاتك لم تقدم شيئا يستدعى إستعلاءك على الآخرين.. لا معنى الإستعلاء بالإمتلاك فأنت لم تفعل شيئا يستحق التبجيل فهو ميراث نهب الأجداد أو نهبك فلا ملكية بدون نهب وبلطجة
لا ننفى التميز والتمايز كرغبة إنسانية تبحث عن إثبات وجود من خلال إثبات حضور الأنا كحراك فى الصراع ولكن يبقى ماهو التميز والتمايز الذى يرتقى بالإنسان ولا يظلم الآخر أو يُجحف حقوقه أو يهدر كرامته..فالتميز يجب أن يُضيف ويجعل المُتميز مستحقاً لتميزه كونه يقدم للآخرين قدراته وإبداعاته لتحقق حالات رائعة ترتقى بالإنسان وتسقط بنفعها على الجميع.
نفهم ونحترم التمايز المؤسس على الإبداعات الفكرية للبشر كأعمال تعتمد على القدرات الذكية غير مؤسسة على حالة من التعنت والحظوظ والوهم والصلف ليتصور صاحبها أنه الأعلى دون أن يقدم مسوغات تميزه فيكون شعوره الزائف هذا مقوضا لكرامة الآخر منتقصاً من كينونته كإنسان , بينما المُبدع لا يعيش بإبداعه لذاته بل هو لا يُدرك إبداعه إلا عندما يغمر الآخرين به لذا من حقه ان نمنحه شارة التميز .
دمتم بخير .
-"من كل حسب طاقته لكل حسب حاجته " حلم الإنسانية القادم فى عالم متحرر من الأنانية والظلم والجشع .
#سامى_لبيب (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟