|
هل ثمَّة ما يُبرِّر خوفنا من الموت؟
جواد البشيتي
الحوار المتمدن-العدد: 4088 - 2013 / 5 / 10 - 21:45
المحور:
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
"الخشية" مِنْ أمْرٍ ما إنَّما هي شعورٌ تولِّده فينا "التجربة"؛ فتجربة المرض، أيْ ما يعانيه المريض من عواقِب وتَبِعات المرض، هي التي تجعله يخشى المرض، ويتوقَّاه مِنْ ثمَّ. و"الخشية" من الحريق هي، أيضاً، شعورٌ تُولِّده فينا تجربة الحريق التي تَعَرَّضْنا لها من قَبْل، أو تَعرَّض لها غيرنا، فاتَّعَظْنا بما أصابه. إنَّ "الخشية" من "العواقِب والتَّبِعات" تتأتَّى من تجربة نخوضها مباشَرَةً، أو من تجربة خاضها غيرنا، ووَقَفْنا على نتائجها، أيْ على عواقبها وتَبِعاتها. و"الخشية من الموت" هي شعورٌ يلازمنا دائماً (أيْ ما دُمْنا على قَيْد الحياة). لكنَّ هذا الشعور لم يتولَّد فينا من أيِّ تجربة؛ فإنَّ أحداً مِنَّا لم يَعْدْ من الموت ليُحدِّثنا عن "تجربته في الموت"، أو عمَّا عاناه في موته؛ ولكم أنْ تتخيَّلوا عائداً من الموت شرع يُحدِّثنا عن مزايا وحسنات الموت؛ فهل نظل بعد ذلك نخشى الموت؟! ومع أنَّ "الخشية من الموت" هي شعورٌ لا صِلَة سببية له بـ "التجربة"، فإنَّه يُلازِمنا؛ وملازمته لنا هي شيء متناقِض الأثر في حياتنا؛ فإنَّ له أثراً حميداً إذا ما حَمَلَنا على فِعْل كل ما يُمكننا فعله (في زماننا ومكاننا) لدرء خطره عَنَّا، وإنَّ له أثراً سيِّئاً إذا ما تملَّكنا واستبدَّ بنا، فأقْعَدَنا عن عيش حياتنا، وألزَمَنا عيشاً نقضيه في الخوف من الموت؛ ونرى ضرراً مشابهاً يصيب حياة الإنسان الذي يعاني عقدة "الخوف من الفشل"؛ فهذا الإنسان يحجم عن القيام بكثير من الأعمال التي يمكن أنْ تعود عليه بالنَّفْع والفائدة مخافة أنْ يفشل؛ لقد أقعده الخوف من الفشل فأقعد، أي أصيب بالقعاد، وهو داء يمنع من المشي. وإنَّ استبداد الخوف من الموت بنفوسنا لمصيبة أدهى وأمر؛ لأنه يجعلنا أمواتاً ونحن أحياء، ويَحُول بيننا وبين أنْ نكون أبناء للحياة بكل أوجهها ومعانيها؛ فإذا غالى الإنسان، وأفْرَط، في شعوره بالخوف من الموت، فإنَّه يَحْكُم على نفسه بالموت وهو على قَيْد الحياة، فيغدو ميتاً على هيئة كائنٍ حيٍّ، يستبدُّ به الشعور بالعجز عن أنْ يحياة حياة طبيعية سوية.
فكِّروا مليَّاً في أمْر "الإحساس بالجوع"، وهو أقوى الأحاسيس فينا، فَتَقِفوا على "الأهمية الحضارية" للشعور بالخشية من الموت؛ فالإحساس بالجوع هو الذي ألْزَم الإنسان العمل والتعلُّم؛ فلا دافِع للعمل والتعلُّم أقوى منه. والإنسان الذي علَّمته التجربة أنَّ "الجوع مميت"، أيْ يكمن فيه ما يجعل الموت عاقبة حتمية له، طفق يعمل ويتعلَّم؛ فنشأت "الحضارة". و"غريزة البقاء"، أيْ الرَّغبة الفطرية في البقاء على قيد الحياة، نراها كامنة في سعي الإنسان إلى أنْ يدرأ عن نفسه "خطر الجوع"، و"خطر الموت جوعاً"؛ ونراها كامنةً، أيضاً، في سعيه إلى معرفة واختراع وصُنْع كل ما من شأنه أنْ يدرأ عنه خطر الموت المتأتِّي من مَصادِر عدَّة، أهمها: "الوحوش" و"قوى الطبيعة" و"البشر أنفسهم". "الخشية من الموت" إنَّما هي، في أصلها الطبيعي، شعورٌ تولِّده فينا دائماً "غريزة البقاء"؛ وهذه خشية عُرِف فيها السبب، فَبَطُل العجب. لكنَّ البشر أنفسهم، ولأسباب تَضْرِب جذورها عميقاً في "واقع عيشهم" الجاري في مجرى التاريخ، اسْتَحْدَثوا للموت ثقافة، فيها ما يُنمِّي الشعور بالخشية من الموت، وفيها، أيضاً، ما يُنمِّي الشعور بعدم الخشية منه؛ فالموت (في ثقافته هذه) مُرُّ المذاق لِمَن أتى، في حياته، بما يضرُّ الجماعة التي إليها ينتمي، وحُلْوِه لِمَن أتى، في حياته، بما ينفع هذه الجماعة. وفي هذه الثقافة، يُسَدُّ النَّقْص (الموضوعي في أسبابه) في نظام الثواب والعقاب لدى المجتمع. ولقد شدَّد القتال وخوض الحروب الحاجة إلى إنشاء وتطوير ثقافة للتغلب على الخوف من الموت في نفوس المحاربين؛ فصُوِّر الموت في القتال على أنه ممرٌّ إلى حياة خيرٌ وأبقى من "الحياة". إنَّ ثمَّة صلة وطيدة بين "ثقافة الموت" و"ثقافة الحرب"؛ فالحرب، في أنماطها القديمة، على وجه الخصوص، شددت الحاجة لدى كثير من الأمم إلى إنشاء وتطوير ثقافة للموت تَحْمِل المحارب على استرخاص روحه، والسيطرة على قواه النفسانية بما يشحن دافعه القتالي بمزيد من الشجاعة والجرأة والإقدام والبسالة. وفي بعضٍ من هذه الثقافة، صُوِّر "الموت" على أنَّه أمْرٌ مكتوب ومقدَّر؛ وكان لهذا التصوير أثره العظيم في شحن نفوس المقاتلين بما من شأنه جَعْلِهم أقل خوفاً وخشيةً من الموت؛ فـ "القتال" ليس بسببٍ للموت، وعدم القتال ليس بسببٍ للبقاء على قيد الحياة؛ الموت يُدْرِك المرء ولو كان في مأمن من كل خطر، ولا يُدْرِكه ولو أُلْقي في حفرة من النار. مارتن لوثر كينغ قال في الموت: "مَنْ ينسى أنَّ الموت هو نهايته الحتمية، لا يَصْلُح أبداً للحياة"؛ وآرثر شوبنهاور قال: "بعد موتكَ لن تكون إلاَّ ما كنتَ عليه قبل ولادتك"؛ وصموئيل جونسون قال: "ليس من الأهمية بمكان كيف نموت، وإنَّما كيف نعيش؛ فِعْل الموت ليس بذي أهمية؛ فهو إنَّما يستغرق زمناً وجيزاً"؛ وليوناردو دا فينشي قال: "مَنْ يتعلَّم كيف يعيش، يتعلَّم كيف يموت"؛ وجوزيف أديسون قال: "خوف المرء من الموت يَحْمِلَه على السعي إلى ما يقيه من الموت، فتكون العاقبة أنْ يدمِّر نفسه بنفسه"؛ وجون روسكين قال: "مَنْ لا يَعْرِف متى يموت، لا يَعْرِف كيف يعيش"؛ وفريدريك نيتشه قال: "إذا لم تستطع العيش بفخر فعليك أنْ تموت بفخر"؛ والمتنبي قال: "إذا غامرت في شرف مروم فلا تقنع بما دون النجوم، فطعم الموت في أمر حقير كطعم الموت في أمر عظيم"؛ ويوهان فولفغانغ فون غوته قال: "حياة عديمة الفائدة إنَّما هي موت مبكر"؛ وبنيامين فرانكلين قال: "كثيرٌ من الناس يموتون في الخامسة والعشرين؛ لكنهم يُدْفَنون في الخامسة والسبعين"؛ ولوسيوس سينيكا قال: "ما لحظة الموت إلاَّ اكتمال عملية بدأت مع ولادتك". أنْ تخشى أنْ تموت (وأنْ تسعى، من ثمَّ، في درء خطر الموت عنكَ) فهذا إنَّما هو "الحكمة" بعينها؛ أمَّا أنْ تخشى الموت نفسه فهذا إنَّما هو "الحماقة" بعينها؛ ولقد حان لـ "ثقافة الموت"، في مجتمعنا، أنْ تتغيَّر بما يجعلها مَصْدَر تغذية لـ "ثقافة الحياة"؛ وهذا التغيير لا يمكن أن يظهر ويتأكد إلا بخوض صراع ضد كل تلك الجوانب من "ثقافة الموت" التي ترفع في النفوس منسوب الخوف من الموت، والتي نراها واضحة جلية في كثير من طقوس، وعادات، وتقاليد، الموت السائدة في مجتمعنا؛ فالخوف من الموت لا مبرِّر له، وينبغي للإنسان، من ثمَّ، أن يجتثه من نفسه؛ لأنَّ الموت نفسه هو لحظة انتهاء الخوف منه؛ وإنَّ منسوب الحياة، بأوجهها ومعانيها كافة، يعلو، في الإنسان، مع كل هبوط في منسوب الخوف من الموت. الموت الذي ينبغي للإنسان أن يخشاه حقا هو أنْ يصبح ابناً للموت وهو على قيد الحياة، وأن يموت، بعد موته، ذكراً، واسماً، وعملاً؛ فلا يخشى الموت إلاَّ مَنْ أساء فهم الحياة!
#جواد_البشيتي (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
لماذا يصر نتنياهو على اعتراف الفلسطينيين بإسرائيل على أنَّها
...
-
شبابنا إذا حُرِموا -نِعْمَة- العمل!
-
الظاهِر والمستتِر في الضربة الإسرائيلية
-
في الجواب عن سؤال -الاعتداءات العسكرية الإسرائيلية-
-
-إنجاز- كيري!
-
طريقتنا البائسة في التفكير والفَهْم!
-
عيد -المحرومين في وطنهم-!
-
مهاتير يُحذِّرنا وينصحنا!
-
العراق على شفير الهاوية!
-
أُمَّة تحتضر!
-
عندما يتسَّلح العرب!
-
في -الحقيقة-.. مرَّة أخرى
-
كيري في جهوده -الحقيقية-!
-
حتى لا يصبح هذا -الرَّقَم- حقيقة واقعة
-
مصر التي تحتاج إلى استئناف ثورتها!
-
مواطِنة أردنية تصرخ وتستغيث.. و-الدولة- صَمَّاء!
-
أهو النسور أم فوكوياما؟!
-
أوهام جماعات -الإسلام هو الحل-!
-
-جلالة الإعلان- و-صاحبة الجلالة-!
-
كيري الذي يبني -الثقة- ب -التنمية-!
المزيد.....
-
مسؤول إسرائيلي لـCNN: معبر رفح لن يُفتح إذا تكررت -الفوضى- م
...
-
أمريكي ينتشل أجزاء من طائرة منكوبة تحطمت في نهر بواشنطن
-
كيم جونغ أون غاضب ويحاسِب.. إقالة عشرات المسؤولين تورّطوا في
...
-
واتساب يتصدّى لعملية تجسس واسعة استهدفت صحافيين وناشطين
-
الجيش الاسرائيلي يعلن تعرض قواته لإطلاق نار داخل سوريا
-
ترامب يتعهد بالحديث مع بوتين لإنهاء الصراع في أوكرانيا
-
ترامب: الأردن ومصر سيستقبلان سكانا من غزة
-
-الشبكة- يرصد أثر مشاهد تسليم أسرى الاحتلال على البريميرليغ
...
-
نادى الأسير يكشف عدد الفلسطينيين الذين سيطلق سراحهم السبت
-
ترامب يكرر تصريحه عن -تهجير- سكان من غزة إلى مصر والأردن
المزيد.....
-
حوار مع صديقي الشات (ج ب ت)
/ أحمد التاوتي
-
قتل الأب عند دوستويفسكي
/ محمود الصباغ
-
العلاقة التاريخية والمفاهيمية لترابط وتعاضد عالم الفيزياء وا
...
/ محمد احمد الغريب عبدربه
-
تداولية المسؤولية الأخلاقية
/ زهير الخويلدي
-
كتاب رينيه ديكارت، خطاب حول المنهج
/ زهير الخويلدي
-
معالجة القضايا الاجتماعية بواسطة المقاربات العلمية
/ زهير الخويلدي
-
الثقافة تحجب المعنى أومعضلة الترجمة في البلاد العربية الإسلا
...
/ قاسم المحبشي
-
الفلسفة القديمة وفلسفة العصور الوسطى ( الاقطاعية )والفلسفة ا
...
/ غازي الصوراني
-
حقوق الإنسان من سقراط إلى ماركس
/ محمد الهلالي
-
حقوق الإنسان من منظور نقدي
/ محمد الهلالي وخديجة رياضي
المزيد.....
|