|
بأثر رجعي
مجاهد الطيب
(Megahed Al-taieb)
الحوار المتمدن-العدد: 4087 - 2013 / 5 / 9 - 19:59
المحور:
الادب والفن
بأثر رجعي
استغربت بقوة ، لا ، صُعقتُ لعدم اندهاشه ، حزنت لأنه بدا سعيدا ، ما حصل كثير ، ليس عابرا بأي مفهوم كان ، ظللنا خلف الباب الذي خرجنا منه توا لأكثر من خمس ساعات . خلف الباب صديق جديد ، كريم للغاية ، أكلا وشربا وكلاما وكلاما ، جِن وليمون ، ثم شاي وشاي وشاي وجن ثانية لو أحببت . لكي أكون واضحا ولا تأخذ ما يلي من كلام على غير وجه ، الرجل لم يمسسني بسوء ، ولم أفعل ، أنا أستمع ، في حالة إنصات فوق الممتازة ، ربما هي المرة الأولى التي أتعرض فيها لهذا الصنف من الإنصات ، لكن أقسمُ ، الأمر لم يغضبني أبدا ، أنا لست غاضبا ، أنا معذب لأسباب لا تخص الرجل أصلا . ببساطة لأن رفيقي لا يستغرب .
" لماذا لا تندهش يا صديقي " . أقول لنفسي وللأيام . أربعة أدوار مرت سريعا ووصلنا إلى باب العمارة ، ثم الشارع ، من وصل أولا ؟! الاستغراب ثالثنا ، لكنه وحيد مُستغرَب . والدهشة - معنا - في موت سريري .
كالعادة لا أرى الوجوه في هذه اللحظات ، مسألة أن الناس مختلفون في تقديرهم للأمور ، وفي استجاباتهم ، ويجب تقدير ذلك . في هذه الظروف – سامحني - لا معنى لهذا كله .أنا أتعذب لمدة خمس ساعات ، عذابي وجهة نظر ؟ يمكن أن نتناقش حوله ؟! ما زاد الأمر سوءا أن صديقي حين تكلم محاولا كسر الشرخ البليغ الذي أصاب إيقاع مشينا ، كأن أحدنا يهرب ، كأن أحدنا متعجل ، ولديه من الأسباب ما يجعله يمشي سابقا صاحبه كالمجنون ، كأن من الطبيعي أن يمشى رفيقان مفترقين في شوراع مظلمة ، لن تفضي إلى شارع واسع إلا بالضالين . ما زاد الأمرسوءا أن صديقي حاول أن يضبط الإيقاع بتلكؤٍ إلى الخلف متوسلا بجمل مشوقة ، مثل : شفت بقى ؟ أو ما افتكرتش حاجة النهارده ؟ " . " لا ، ما افتكرتش ! " - لن تنجح أي قوة على الأرض في سحبي إلى الوراء . وصولي إلى الشارع الواسع البعيد المضيء إن شاء الله سيطمئنني – أتصور – ستصبح حقيقة أنني أصبحت بعيدا عن الأزقة المظلمة القريبة من باب العمارة الذي يفضي عبر سلالم إلى الباب الذي كنا خلفه لأكثر من خمس ساعات.
سأقول الحقيقة : صديقي كان في غاية السعادة والانسجام خلف الباب ، وبعد الباب .
نعم ، كنا بصحبة صديق جديد مشترك ( اشتركنا فيه من ساعات قليلة ) يكبرنا بسنوات ، بعد جلسة طويلة على مقهي بوسط البلد ، قال : الكلام ماخلصش . فأصدر قرارا باعتماد وقت إضافي في بيته ، ننهي فيه ما نريد أن ننهيه ، أو على حد تعبيره : نحط نقطة ، ما ينفعش كده !
مشينا إلي بيته ؟ ركبنا مواصلة ؟ لا أتذكر ، وربما أتناسي . ليس مهما بالفعل ، لأن الليلة- ليلته كان لها من الاستقلال والتفرد بمكان ما يدفع إلى حذف أية تفاصيل ثانوية أو حتى جوهرية .
في سنة بعيدة مترامية أعلن التلفزيون المصري محدود القنوات عن مفاجأة سارة، سيعرض " مدرسة المشاغبين " كاملة ، بعد أن تداولها الناس كثيرا على شرائط كاسيت ، أكثر من مرة حضرنا جلسات تقدم هذه الخدمة ، فقط تسمع - والضحك للركب ، فمابالك !
مسعد صبري في منزلة ابن عمي ، لا يحب بيت أهله القريب ، دائما عندنا ، خدوم كما تحب ، مهذب كما ينبغي ، أهلاوي لدرجة الجنان ، لم يلعب الكرة ، لكنه ضليع في سرد تاريخ الأهلي ، وبالطبع تاريخ الزمالك الأسود. كان يرافقنا - كمدير فني للفريق - في مباريات الكرة الشراب ، حين نلتقي فريقا من الأحياء المجاورة على أرضه ، يعزمنا على عصير قصب لو أجدنا ، محاضرته عن المبارة تكون بعدها.
الشوارع خالية ، همهمات الجيران كأنها في بيتنا ، حالة من الانتظار بها هرج يتململ ، سيزول عاجلا ، تماما كاللحظات الطويلة الطارئة التي تسبق عبد الحليم أو وردة أو شادية في حفلات أضواء المدينة التي ينقلها التليفزيون .
ظهر المشاغبون ؛ فعم الصمت الأخضر واليابس ، السكون يجمع ولا يفرق . الصمت سيذهب ويجيء ، وتنطلق الضحكات ، ستختلط قهقهات الجيران بضحكاتنا . في الفواصل يمكن تمييز فقرات يقوم بها الجيران ، ويقوم بها بعضنا على عجل قبل انتهاء الفاصل - إعادة حية لمختارات من الإفيهات الطازجة ، التكرار يأخذ قيمة مضافة ، يثبِّت في الأذهان ما ألقاك أرضًا ضحكًا من ثوان ؛ لأنه ببساطة سيكون شغلة الناس . إفيهات عالية الجودة ، مشروع قومي للضحك ، كل إضافة أو لمسة مهمة بشرط أن تحافظ على الفكرة ، ولك أن تبددها - لكن بأمارة . الإفيهات المخدومة ، وإن كانت مستعارة ، تمد حبل الود على طوله.
طوال المسرحية كنت أرقب مسعد ، لكني لم أعط الفرصة للأسى أن يتجاوز حدوده الواجبة ، في الحقيقة ما حدث من مسعد صبري في أمسية ضمت جمهورية مصرالعربية بالكامل لم يعكر صفوي ، فأنا أضحك من كل قلبي على المشاغبين ، وعلى متفرجة في المسرحية ( هي جزء من العرض ؟ ) بصوت مسرسع ، كانت تقود الضحك ، تنفجر قبل أن يأتي الإفيه . فتسحب خلفها أمما من الضحكات في المسرح ، وفي البيوت ، وأحيانا تركض وحيدة .
مسعد صبري – أنا شاهد عيان – طوال المسرحية لم يضحك مرة واحدة ، يجلس ساكنا ، تلبسته حالة من الأدب الساكت ، كأن عزيزا لديه قد مات ، إلا أنه لا يتذكر هذا العزيز تماما ، لكنه يحاول . الناس تموت من الضحك حوله ، وعن بعد . وهو على العهد.
لماذا لم يعنف أحد زميلنا في الثانوي ، عندما حكي متضررا بشكل (جزئي ) من أن البنت بتاعته تحب عبد اللطيف التلباني ، وتحفظ أغانيه . لا أقصد أن الموضوع عبر بسلام بيننا بعد هذه الواقعة ، لم يمر بالطبع ، لا من ناحيتي ولا من ناحية أصدقاء مخلصين مختصين بالشاردة والواردة ، أعني لم يكن رد الفعل مناسبا ولا ممتدا .
حين شملتنا الشوارع المظلمة أنا وورفيق الدرب ، حصل أن اقتربت خطانا ، وحافظنا على معدل معقول يليق بصديقين يسيران في الليل البهيم ، يرغبان في الخروج إلى الشارع الواسع ، وعندها ستفرقهما المواصلات ، في هذه الأثناء فكرت مرات ، وقلت صراحة بعض ما فكرت فيه ، إلا أن رد الفعل لم يكن مناسبا ، ولم يكن بمقدار الفعل .
نافذة واطئة جدا انطلقت منها ضحكات لفتيات شابات ، ضحكات محايدة ،كانت تشير فقط إلى الجنس ( النوع) . كغلاة الرومانسيين ، دفعنا هذا إلى التسامح .أصواتهن رطبت روحين يسيران في غير وئام . منحت الأزقة فسحة ليست فيها . الضحكات انتهت إلى لا شيء ، إلا أننا نسير ، نتقدم إلى الأمام فعلا .
صديقنا الكبير كان قد أمضى الخمس ساعات يتنقل بخفة ( في عرفه ) بين موضوعات شتى ، الموضوع يظل على قيد الحياة لدقائق معدودة . بدا الأمر كأنه مدرس قدير ، يملأ السبورة ملايين المرات ، وفي كل مرة فور امتلائها يمسحها بريموت كنترول ؛ ليبدأ سبورة جديدة . ليست مشكلته ولا مصلحته مع سامعيه ، كان صديقي يتنقل معه ويسأله في السبورات الممسوحة والسبورات الآتية ، دون أي استغراب ، وأحيانا يساعده في المسح ، مستمتع تماما ، الحوار بينهما حاصل وعلى أشده . بحياد أشهد : " التردد " يعمل بكفاءة رغم تقلبه بين الرأسي والأفقي ، " الإشارة " في أفضل حالاتها ، كل ما هنالك أن " الصورة " تتغير بوتيرة مفزعة : رياضة – فن – مزيكا- مُقبِّلات – السفر – الخليج – أحوال البلاد – تربية الأطفال - المرض – أم كلثوم - آيس كريم في جليم – قصيدة النثر. الرفيق لم يستغرب ، كان مشاركا ، وبقوة.
صديقنا الكبير لديه تلك السلطة التي تحدد مسارات الحديث وتضع شروطه من البداية . أضربُ مثلا : حين يبادئ محادثه تليفوينا يقول " إزيك يا جميل " ، هواء أكثر من اللازم يصاحب الكلمات في خروجها ( بالنسبة له هذا ميزان الذهب !) ، كأنه يحمل هذه الجملة ومايليها في كفين مرفوعين إلى أعلي خافضا رأسه قليلا ؛ ليعلو أو يعتلي . " جملته ومايليها من فواتح للحديث تضع الـ " تِرَاك " الصلب ، الذي لن يخرج عنه الكلام ، لذا بعد وقت – مطمئننا – يكتفي بالسماع من محدثه ، يستلسم استسلام الواثق ، بعد أن أحكمَ ، فهدأ بالًا . يقف على ناصية " سطحيةٍ " ما ، يمكن وصفها بالعمق . هي شغلته وحظه في الحياة ، لذا فيما لا يهتم بـ " التالي " ، سيتبحر في المداخل بكافة أنواعها . يغطس إلى مستويات سحيقة في السطح ، ويتحقق من فروق دقيقة بين ألوان جد متشابهة ، تعز على غيره . تخصصه يقف عند المقدمات ، وهذا ما يفسر وقوفه الدائم على منصة إطلاق رءوس الموضوعات بصياغات غاية في التماسك ، لكنها سرعان ما تذهب إلى هدف مجهول ، ويستمر في الإطلاق . هنا – عن حق - ميلاد الأفكار ، أما الحياة أو الموت أو.. ، فالله العالم . حين تنظر بعين الإنصاف ( هل كان رفيقي ينظر بهذه العين ؟! ) . لا بد لك أن تدرك أن إنجازه هو تعب السنين . لكن ، لكن أنت في حضرة " مختارات " - " فهرس " - واحد من كتب " الحماسات " كُتِب بلا تحمُّس . الحل أن تكون أنت هو ؛ ليحدث الطرب . هناك حل آخر أن تتذكر عزيزا لديك ! أخيرا وصلت والرفيق إلى الشارع الواسع الكبير .
" سلام " " سلام "
أشرت إلى التاكسي الممتلئ إلا قليلا ، توقف السائق وأنزل زجاج الشتاء بهدوء متصاعد . كممثل قديم قال : " هنوصّل الجماعة وبعدين هانطلع على طول " ، التحقت بقطارالحياة ، تقريبا مررنا بكل شوارع القاهرة ، تلبستني حالة من الرضا القسري ، أو الأدب الساكت . نزل الركاب الأولون والتحق آخرون ، وآخرون . في النهاية ، في النهاية وصلت إلى البيت ، وكان هذا دليل السائق القاطع الذي أشهره في وجهي.
#مجاهد_الطيب (هاشتاغ)
Megahed_Al-taieb#
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
شارع الحب
-
مصر الجديدة - الرابع والخامس من ديسمبر 2012
-
ليلي نهارك
-
نُؤْنُؤ
-
حراس الفكرة
المزيد.....
-
علاء مبارك يهاجم ممارسات فنانين مصريين
-
وزير الثقافة التركي: يجب تحويل غوبكلي تبه الأثرية إلى علامة
...
-
فيلم -استنساخ-.. غياب المنطق والهلع من الذكاء الاصطناعي
-
بردية إدوين سميث.. الجراحة بعين العقل في مصر القديمة
-
اليمن يسترد قطعة أثرية عمرها أكثر من ألفي عام
-
-قره غوز.. الخروج من الظل-.. افتتاح معرض دمى المسرح التركي ف
...
-
لقطات -مؤلمة- من داخل منزل جين هاكمان وزوجته وتفاصيل مثيرة ح
...
-
من السعودية إلى غزة.. قصة ’فنانة غزية’ تروي معاناة شعبها بري
...
-
سفير روسيا في واشنطن: الثقافة يجب أن تصبح جسرا بين الدول
-
شطب سلاف فواخرجي من نقابة الفنانين السوريين -لإنكارها الجرائ
...
المزيد.....
-
فرحات افتخار الدين: سياسة الجسد: الديناميكيات الأنثوية في مج
...
/ محمد نجيب السعد
-
أوراق عائلة عراقية
/ عقيل الخضري
-
إعدام عبد الله عاشور
/ عقيل الخضري
-
عشاء حمص الأخير
/ د. خالد زغريت
-
أحلام تانيا
/ ترجمة إحسان الملائكة
-
تحت الركام
/ الشهبي أحمد
-
رواية: -النباتية-. لهان كانغ - الفصل الأول - ت: من اليابانية
...
/ أكد الجبوري
-
نحبّكِ يا نعيمة: (شهادات إنسانيّة وإبداعيّة بأقلام مَنْ عاصر
...
/ د. سناء الشعلان
-
أدركها النسيان
/ سناء شعلان
-
مختارات من الشعر العربي المعاصر كتاب كامل
/ كاظم حسن سعيد
المزيد.....
|