خالد الصلعي
الحوار المتمدن-العدد: 4071 - 2013 / 4 / 23 - 08:29
المحور:
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
لا أحد ينكر تأثيل غاستون باشلار لمفهوم القطيعة الابستمولوجية ، وهو المصطلح الذي أثار نقله الى الثقافة العربية لغطا كبيرا ولا يزال . دون تمحيص الدلالات العلمية للمفهوم والدلالات الفلسفية ، أو التركيز على وظيفته الاجرائية . بل لم يتم الانتباه الى خصوصية ميزت مسار باشلار المعرفي كباحث في العلوم الحقة ، وكعاشق للفن وخاصة الرسم والشعر . كما غاب عن مجموعة هامة من المثقفين العرب ، ذلك الصراع الخفي بين ايديولوجية مهيمنة وايديولوجية قادمة ، بل انهم لم ينظروا الى انتقال ذلك الرجل قصير القامة من مهنة موظف في مكتب بسيط للبريد الى محاضر كبير في أعرق الجامعات الفرنسية .
وغياب هذا الاستحضار الشامل للحقل العام الذي بلور ضمنه هذا الرجل الذي ابتدع مفهوم القطيعة الابستمولوجية ، هو ما أدخل الكثير من المثقفين العرب والمغاربة على الخصوص في مغالطات ابستيمية ضخمة ، كان آخرها نسبة هذا المصطلح الى فوكو كما أكد الدكتور عبد السلام بنعبد العالي ذلك في احدى لقاءاته الفكرية بمدينة طنجة .
بل ان محمد عابد الجابري اتكأ على هذا المفهوم وجعله عكازه المنهجي في دراساته الضخمة ، مما أفقد بحوثه كثيرا من الجدية والعلمية . لأن التقاط المفهوم غير الغوص فيه ، وتبنيه بحمولاته وشحناته الأصيلة يفرض على المتبني مراعاة الدقة في تداوله وتوظيفه ، وهو ما تغافله الكثير من المثقفين العرب ، ولن نخوض في قضية التهافت ، وهي واضحة ولا تحتاج الى التدليل والبرهنة ، كما لن نحيل الى تعسف الترحيل من ثقافة معينة الى ثقافة أخرى ، لأننا لم نتعود على تحميل أنفسنا عناء البحث الدقيق والجاد ومكابدة استحضار ظروف واهتمامات من نأخذ عنهم علومهم وبالتالي استراتيجيتهم في بناء نظرياتهم بكامل عدتها المفاهيمية والمنهجية . ويكفي شرف مثقفينا تنبيهنا الى وجود مثل تلك المفاهيم والمصطلحات .
وهنا لابد من الاشارة بدءا الى ارتباط مفهوم القطيعة الابستمولوجية عند باشلار ، بتلك الطفرة الهائلة التي أحدثتها التطورات العلمية في فترة وجيزة ، وهو ما لم يتأت للانسان منذ قرون طويلة ، " إن عقدا من زماننا في هذا المجال يساوي قرونا بأكملها من الأزمنة الماضية " 1- كما يرى باشلار نفسه ، ففي ظرف نصف قرن تقريبا استطاع الغرب أن يطور من امكانياته العلمية ، فمنح العالم فتوحات علمية ومعرفية في مختلف العلوم ، مالم يشهده العالم منذ أزمنة بعيدة ، وللتعبير عن هذه التحولات الكبيرة كان لابد من البحث عن سبيل اجرائي يخلخل بنية التفكير المعاصر ويثبتها عند منعطف تاريخي محدد ، وقد استطاع باشلار بعقليته النوعية ايجاد المفهوم الذي حير عقل أصدقائه وقرائه ، وأحدث ما يشبه الصدمة بين مجايليه من المفكرين والعلماء .
فاهتمام باشلار بتاريخ العلوم وتطوره منحه ريادة تأسيس مفهومه ، خاصة اذا علمنا ان تحولات ثورية شهدتها مجمل العلوم التجريبية ، كالهندسة مع العالم الروسي "لوبا تشيفسكي " ، الذي منح الهندسة الاقليدية أبعادا جديدة لم تكن مطروحة من قبل ، وتبعه في ذلك " ريمان " ، وقد اثبتا ضيق منطلقات أوقليديس في مفهوم نقطة الانطلاق ، اذ اثبت لوبا تشيفسكي انه بالامكان من نقطة واحدة خارج مستقيم نستطيع رسم عدد لامتناهي من المستقيمات الموازية لها ، عكس ما ثبت لقرون عند أوقليد الذي كان يرى أنه لايمكن أن يمر بين نقطتين الا خط مستقيم واحد .
وقد جاء باشلار كاجابة عن طبيعة المعرفة المهيمنة آنئذ ، وهي الفلسفة المثالية التي ألهت الغيب وأعطت للعقل بعده المفارق بتأثير من المدرسة الكانطية بشقيها القديمة والحديثة ، ولتخليص مبحث فلسفة العلوم من ميتافيزيقيتها وتعاليها ، ولتأسيس تاريخ جديد للفكر العلمي كان لابد من البحث عن عدة مفهومية ، استطاع باشلار بعبقريته الفذة تلخيصها في مقولة " القطيعة الابستمولوجية " التي تتألف من تركيب ثلاثي ، القطيعة =Rupture ، المعرفية = Epistimie ، النقد أو العلم ،أو الدراسة = LOGIE . وبهذا التفكيك للمصطلح أو لمقولة القطيعة الابستمولوجية يتضح مدى الايغال والتكثيف المفاهيمي الذي نحته باشلار في مفهومه حسب بعض الدارسين .
فالقطيعة وان جارينا جدلا مصطلح باشلار تقتضي شيئا منقطعا عنه ، وقاطعا له -الذات -أو الأداة ، وتركيبا لهذه القطيعة او ابدالا للمقطوع عنه ، أو بديلا له ، فثمة تجاوز اذن يهجع في صلب القطيعة . كما أن محورية الجدل قائمة في كل ابدال أو وتعويض ، لكن السؤال الفلسفي الكبير هو الذي يطرح نفسه تلقائيا ، ولماذا نحن ملزمون باحداث قطيعة ما ؟ وما هي الدوافع الحتمية التي تدفع مشتغلا بحقل من الحقول الى تجاوز او احداث قطيعة ما ؟ .طبعا لايمكن توقيف ينابيع السؤال في الاشتغال الفلسفي ، فالأسئلة تنهض أحيانا من ذاتها ، في هذا الحقل المعرفي الحيوي ، بل هي مضمرة في صلب السؤال نفسه . ان السؤال في الفلسفة " لاينقطع بجواب " كما يرى بفذاذة طه عبد الرحمان . 2-
فباشلار يصدر فصله المعنون بالعائق الابستمولوجي ، في كتابه "تكوين العقل المعرفي "LA FORMATION DE L ESPRIT SCIENTIFIQUE " ،و يبدأ خطابه بالعبارة التالية " عندما نبحث في علم نفس تطور العلوم ، نصل سريعا الى هذه القناعة ، يجب طرح اشكال المعرفة العلمية من خلال مصطلح العوائق " . اذن فالمنظور الذي يتبعه باشلار في تناول مفهوم المعرفية العلمية من خلال اهتمامه بالتطور التاريخي للعلم لا ينفك عن جانب مهم من جوانب المعرفة المعاصرة آنئذ وهي علم النفس ، الذي استطاع من خلال توظيفه مع المنهجية العلمية الدقيقة أن يجدد الفلسفة الظاهراتية الألمانية .....
فالعقل العلمي يتأسس حسب باشلار على مجموعة من الأخطاء القابلة للتعديل " ;وتصحيح هذه الأخطاء واجب كل عالم يأتي بعد هذه الأخطاء " 3، اذن فالعلم هو ما قد يكون ، وليس ماكان ، وما قد يكون ليس بالضرورة مطابقا لما كان ، فمنطق التجاوز الزمني ،كما المكاني ، منطق علمي صارم لايحتاج الى ترابطات تقليدية ، بقدر ما يحتاج الى قفزات او تجاوزات أو طفرات ابداعية .
وما يقربنا كثيرا الى فلسفة القطيعة العلمية ، كما سبقت الاشارة الى ذلك ، لكن من وجهة أخرى ، هو محاولة قراءة أحد فصول كتابه "تكوين العقل العلمي / وهو الذي يتحدث عن العوائق الابستمولوجية ردا على الفلسفة الوضعية التي تأسست على يد أوغست كونت ، الفيلسوف الفرنسي الذي أسس علم الاجتماع والمدرسة الوضعية ، التي كانت ترى التطور العلمي هو مجموعة تراكمات تحكمها سلسة من الترابطات . بينما يرى باشلار ان العلم لا يمكنه أن يتطور الا عبر مجموعة من القطائع المعرفية من شروطها السابقة ، أي أن العقل العلمي نفسه قد حدث فيه تغييرات كثيرة ، ولم يبق مرهونا لاكراهات النظريات والقواعد العلمية القديمة ، وهو ما يفضي حتما الى معطيات ونتائج علمية جديدة . لكن يبقى العلم القديم والعلم الجديد يلعبان في نفس مجال العلم الذي ينفتح على المجهول والغامض والممكن . وهذا ما أجبر غاستون باشلار نفسه على الاعتراف بنظرية " دميتري مندليف " الذي يرى أن الكون هو عبارة عن هرمونية مركبة ومتنوعة من العناصر ، ولا يمكن تحديد اولوية ما لهذا العنصر على الآخر " 4 .
المصادر والمراجع :
----------------------
1- بوخونبسكي ، تاريخ الفلسفة المعاصرة في أوربا ..ترجمة محمد عبد الكريم الوافي ..ط:2 - بنغازي منشورات قار يونس ..بدون تاريخ ص 152
2- د.طه عبد الرحمان :فقه الفلسفة -الفلسفة والترجمة ،ط:1- الناشر المركز الثقافي العربي ،الدار البيضاء ،المغرب ص :11
3- Revue : Les classics des sciences sociales ...GOOGLE
4-Revue : Sciences Humaines
#خالد_الصلعي (هاشتاغ)
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟