|
بلزاك: الرواية والثورة( 8- 8)
عبدالله خليفة
الحوار المتمدن-العدد: 4032 - 2013 / 3 / 15 - 07:38
المحور:
الادب والفن
أنعطف بلزاك من كونه روائيا قريبا للمادية والواقعية وتحليل الصراعات الاجتماعية إلى كونه متصوفاً، يصور كائنات خارقةً، وهذا التذبذب من المادية بدون التوغل العميق فيها ثم القفز للمثالية غيرِ الموضوعية، وتلك العروض الفاحصة للكائنات الاجتماعية المخبرية ثم هذه القفزة للمطلق في زمنية ما قبل الرأسمالية، تعبرُ عن أدوات وعي البرجوازي الصغير في جمعه بين المثالية والمادية، بين اللاواقعية والواقعية، بين الإقطاع والرأسمالية. في رواية (سرفيتا) السابقة الذكر تعودُ عملياتِ التحول والنشوء الأرضية لمصدرٍ سماوي، وحتى عمليات الفعل الإرادي من حب وكره وأعمال أخرى تكون صدى للسماء. وهي مثاليةٌ ذاتية، لا موضوعية، تعودُ بالفكر لما قبل التنوير وهيجل. يدعو سرفيتوس (مينا) لتحبَّ(ولفرد)القوي الإنساني، وحتى هذه الرغبة فهي جزء من جدول السماء المُنزل (وُجدَ لكِ). يقول: أطيعي الحواس واشحبي مع الرجال الشاحبين. تغدو القيثارات وكلمات الشعراء والوجوه والأزهار كلها صدى للسماء. ويتحول سرفيتوس لضباب إلهي. وهو يستطيع أن يخضع المادةَ ويسيطر عليها ويتجاوزها كما يفعل في قمة الجبل العالية الثلجية! ينزلان إلى الأرض، فيصير سرفيتوس سرفيتا، وتبقى مينا فتاة، وتدخلان بيت الكاهن بيكر، حيث النص الديني المتوارث، الذي يحاول بيكر انتصاره في هذه البيئة الصوفية الغامرة بدون نجاح. يتحول سرفيتوس إلى سرفيتا وتعبر الأرض وتجثم في مرقدها قرب خادمها ديفيد العجوز. هو سرفيتوس والخادم يراه فتاةً اسمها سرفيتا، حيث الروح العليا تحول الكائنات برهافةٍ شعرية. حين تظهر سرفيتا بشكل مكتمل، وتستعيدُ طابعَها الأنثوي، يظهر ولفريد الرجل السائح المتغرب، والذي لا يريد أن يكوّنَ علاقةً مع مينا بل مع سرفيتا، التي تروي له كيف ذهبتا للقمة الجبلية وقد كانت بشخص سرفيتوس. هذه التناسخية الفنية البلزاكية تجعل الشخوص من عجينةٍ مطاوعة بيد السارد. يلخص ولفرد الطريقة البلزاكية الخالقة هنا المتداخلة مع الخلق الميتافيزيقي: (أنت لا تقبلين شيئاً من العالم، وتحطمين التسميات فيه، وتفجرين القوانين، والتقاليد، والعواطف والعلوم)، وكان يمكن أن يوجز: أنكِ تدمرين الواقعَ الموضوعي عبر الوهم. وترد: (إنني لستُ امرأة، فأنت على خطأ بحبي). وهي تتكلم بقدرة إلهية ثم تعود لتتكلم بصيغ أنثوية ممزقة تابعة للرجال، فتقيم تضاداً كلياً كذلك بين الرجال والنساء: (يا للنساء المسكينات! إنني أرثي لهن) ولكن القدرات السحرية لا تفعل هنا شيئاً في تغيير الواقع. عبر هذا السرد الحدثي الشخوصي التجريدي يتوجه بلزاك للصوفية ويقيم تشكيلةً بشريةً وجودية من ثنائيات: (فلسفتُهُ: ثنائيةُ الروحِ والجسم تصير واحدة مشتقة من فعل الصاعقة غير المرئي، بينما تتقاسم الأخرى مع الطبيعة الحساسة تلك الطبيعةَ الرخوة التي تتحدى الفناءَ مؤقتاً..). والتكويناتُ الميتافيزيقية تلجأُ للتعبير من خلال المادة الشعرية هنا. يدخل بلزاك في نشوة صوفية سردية محولاً النماذج إلى طيوف، والأرض الصلبة إلى بخار، فيذكر أن الأعراض: (تشبه غالباً الحلم الذي يشغف به الترياقيون حيث تغدو كل حليمة مركز نشوة مشعة). ص .44 انتقال بلزاك لهذا الجو الصوفي المضاد لواقعيته استقاه من قراءته لأعمال سويدنبرغ الصوفية: يعيش سويدنبرغ عالماً سماوياً وأرضياً، حيث يتكلم مع الملائكة ويعيش مع الناس في حياته اليومية! الإعجاز ناتج حسب التفسير الرائج الديني عنه من ضخامةِ مؤلفاته وأعدادها الكثيرة وهو أمر يبرر طابعها السماوي المساعد! وقد قام بلزاك بإدغام تصورات سويدنبرغ وعمل تحويرات في تصوراته مكيفاً إياها لرؤيته ولطبيعة النص الروائي، راجع الهامش في ص .67 (والاتحاد الذي يتم بين روح الحب وروح الحكمة يضعُ المخلوقَ في الحالة الإلهية حيث تكون روحُهُ امرأة وجسمُهُ رجلاً). هذه خلاصةٌ لفلسفته التي سوف يجسدها بلزاك روائياً. القدرات الخارقة لهفليتوس وسرفيتا الكائنين المختلفين المتوحدين العائدين للسماء، يدفعان المادي ولفرد للاقتناع العاطفي المتحمس للصوفية والاتحاد مع مينا. يتكون هذا العمل من أثر المناطق التي تعيش ما قبل الرأسمالية، ما قبل الحداثة، حيث تلعب الأرياف الفرنسية كذلك دوراً مؤثراً في هذا، كذلك يظهر أثر التباين بين وعي الناس المختلف، حيث يعود الوعي الديني بعد فورة التنوير الملحدة الفرنسية، ولهذا يعود السارد لمرحلة الديانات الأولى وكيف هي باقية حتى الآن، وللمعجزات الخرافية وحادثة السِن الذهبية التي طلعت لصبي بشكل إعجازي، تبين بعد ذلك كما يقول الشارح في الهامش أنها سِنٌ ذهبية مُركبة، ويذكر الشارح اهتمامات بلزاك المبكرة بالتنجيم، (ص 83). لكن المسألة تعود للوعي الديني المحافظ لبلزاك، الذي يساير الكاثوليكية وبالتالي الوعي الشائع، ويردد عبارات المدح للكتاب المحافظين في فترة الردة عن زمنية التنوير. (كما في رواية: آمال خائبة). إن بقاء الأفكار الدينية ومُثـُلها الأخلاقية يؤسّس أوضاعاً مستقرة للبشر لم تنجح الأفكارُ الثورية في تشكيل بناء اجتماعي علماني وعلمي قوي وثابت، ويغدو الكاتبُ البرجوازي الصغير في حالاتِ تذبذبٍ دائمة بين اليسار واليمين، بين مُثُل الثورة ومثل الثورة المضادة، بين الجمهورية والمَلكية، بين المادية والمثالية. إن النصَ الروائي يخضع لهذا التذبذب الذي تحددُهُ لحظة الموقف والبنية الاجتماعية الثقافية المتأسسة في حينه، فهنا تحدد اللحظةُ والبُنية الاجتماعية ما قبل الرأسمالية وجود وحراك الشخصيات والأحداث، فالبناءُ التقليدي الديني والوعي الصوفي المستثمر من خلال سويدنبرغ الذي عبرَ عن ذلك المجتمع وكل التاريخ القروسطي والقديم تعاونا في خلق الموقف والشخوص، فبلزاك قارب سويدنبرغ، وهنا الحداثي البرجوازي الصغير يمضي لأقصى اليمين الروحي، واستعان بأدوات فكرهِ الملغية للموضوعية والمادية المخترقة لها عبر الروح، ولهذا تم تكييف الأحداث والشخوص بمنهجها. كما بقيت الأدواتُ المنهجيةُ التعبيرية بمستوى المادة الاجتماعية اليومية الفرنسية التحديثية بصراعها الليبرالي والمَلكي، أو الثوري والتقليدي، المترددة في بناء اجتماعي سياسي قلق لبرجوازية حديثة في طور التكون لاتزال، تعودُ هنا في النرويج لما قبل الحداثة، وتلغي تناقضات المرحلة الفرنسية البرجوازية الملكية، لتحيا على مفردات الإقطاع الثقافي الدينية.
#عبدالله_خليفة (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
بلزاك: الروايةُ والثورةُ (7 -8)
-
غيرُ قادرين على التوحيد
-
شيعةُ العربِ ليسوا صفويين
-
تبايناتُ القوى التقليدية
-
العقائدُ المتأخرةُ والثقافةُ
-
صراعُ الإقطاعِ والبرجوازية العربي
-
ممثلو الصوتِ الواحد كيف يتحاورون؟
-
الوعي الديني والإقطاعُ المناطقي
-
الرأسمالياتُ الحكوميةُ والربيعُ الدامي
-
المسلمون في مفترقِ طرقٍ
-
تسلقُ البرجوازية الصغيرةِ الديني
-
بلزاك: الرواية والثورة(6-6)
-
بلزاك: الروايةُ والثورةُ (5 - 6)
-
الحريقُ الطائفي ينتشر
-
طفوليةُ الكلمةِ الحارقة
-
اليمن والخليج بين المبادرةِ والمغامرةِ
-
بين ضفتي الخليج
-
الديمقراطيةُ البرجوازيةُ العماليةُ
-
الحزبُ الديني ورأسُ المالِ الوطني
-
التجربتان العراقية والإيرانية: تبادلُ أدوارٍ
المزيد.....
-
دراسة: الأطفال يتعلمون اللغة في وقت أبكر مما كنا نعتقد
-
-الخرطوم-..فيلم وثائقي يرصد معاناة الحرب في السودان
-
-الشارقة للفنون- تعلن الفائزين بمنحة إنتاج الأفلام القصيرة
-
فيلم -الحائط الرابع-: القوة السامية للفن في زمن الحرب
-
أول ناد غنائي للرجال فقط في تونس يعالج الضغوط بالموسيقى
-
إصدارات جديدة للكاتب العراقي مجيد الكفائي
-
الكاتبة ريم مراد تطرح رواية -إليك أنتمي- في معرض الكتاب الدو
...
-
-ما هنالك-.. الأديب إبراهيم المويلحي راويا لآخر أيام العثمان
...
-
تخطى 120 مليون جنيه.. -الحريفة 2- يدخل قائمة أعلى الأفلام ال
...
-
جائزة الشيخ حمد للترجمة والتفاهم الدولي تكرِّم المؤسسات الإع
...
المزيد.....
-
مختارات من الشعر العربي المعاصر كتاب كامل
/ كاظم حسن سعيد
-
نظرات نقدية في تجربة السيد حافظ الإبداعية 111
/ مصطفى رمضاني
-
جحيم المعتقلات في العراق كتاب كامل
/ كاظم حسن سعيد
-
رضاب سام
/ سجاد حسن عواد
-
اللغة الشعرية في رواية كابتشينو ل السيد حافظ - 110
/ وردة عطابي - إشراق عماري
-
تجربة الميج 21 الأولي لفاطمة ياسين
/ محمد دوير
-
مذكرات -آل پاتشينو- عن -العرّاب-
/ جلال نعيم
-
التجريب والتأسيس في مسرح السيد حافظ
/ عبد الكريم برشيد
-
مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة
/ د. أمل درويش
-
التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب
...
/ حسين علوان حسين
المزيد.....
|