ياسر المندلاوي
الحوار المتمدن-العدد: 1159 - 2005 / 4 / 6 - 12:29
المحور:
مواضيع وابحاث سياسية
الوعي الإجتماعي في العراق, مأزوم بما فيه الكفاية. فهو وعي منكفيء, لا يقوى على صياغة
المحددات الواجبة للنهوض الوطني, ويتخلف عن الوطنية العراقية بمقدار يتناسب مع حجم
الإنكفاءة في الكم والنوع. وهو أقرب إلى العصبية الطائفية والقومية, منه إلى الوطنية. وبما
أن العصبية, كما يقول إبن خلدون " تكون من الإلتحام بالنسب أو ما في معناه ", فإن مسارعة
دعاة الإنعزال الطائفي والقومي خطاهم, لتوجيه الوعي الإجتماعي وجهة غير وطنية, ما هي
إلا مسارعة لتكريس دعائم العصبية( بمعنى الإلتحام بالطائفة أو الجماعة القومية) التي من
نتائجها النعرة والتناصر بين أفراد كل جماعة طائفية وقومية, بمعزل عن الجماعات الأخرى,
أو بالتصارع معها. إن طائفة وقومية الفرد, تقومان مقام النسب, أو هما في معناه. إذ بهما
يقع الإلتحام بين أفراد الجماعة. وحيث أن العصبية لا تنهض من خمودها, ولا تكون فاعلة
إلا بعوامل التهديد الخارجي للمصالح المفترضة للجماعة الطائفية والقومية, فإن سادة القوم
وأئمة الطوائف والإحتلال بمعيتهم أو هم بمعيته, لا يألون جهداً لإستحضار هذا التهديد في
هيئة نزاعات طائفية وقومية, أو التلويح بها, لإدامة العصبية المفرقة للصفوف والنابذة
للتآلف بين المكونات المتنوعة للشعب العراقي. إن الأداء الوظيفي للعصبية الطائفية والقومية,
يتوزع في إتجاهين متعارضين, هما الإلتحام والإفتراق. فمن جهة, يتحقق الإلتحام بين أفراد
الطائفة أو الجماعة القومية, لنيل المصالح المفترضة أو الدفاع عنها. ومن جهة ثانية,
يحل التنازع محل التآلف بين الطوائف والجماعات القومية المتباينة, فيحصل الإفتراق الوطني.
فالعصبية هنا, تؤدي إلى التراص الطائفي والقومي في تناسب دائم مع التشرذم الوطني.
فوفق العصبية الطائفية والقومية, فإن للشخص الفرد, وجود مستقل في الطائفة أو الجماعة
القومية, أما خارجها, فهو الطائفة والجماعة كلها. ف (عبد الحسين) مثلا, هو (عبد الحسين)
ضمن الطائفة الشيعية, أما خارجها, فهو الشيعة كلهم. و(عثمان) هو (عثمان) داخل الطائفة
السنية, أما خارجها, فهو السنة جميعهم. وكذا الأمر بالنسبة ل(كاكه سه ردار), فهو شخص
مستقل في حدود جماعته القومية الكردية, أما خارجها, فهو الكرد بأجمعهم. وبهذا المعنى,
نستطيع القول بأن العصبية في هذا المقام, تشترط توحد الفرد مع طائفته أو جماعته القومية
إلى درجة الذوبان, فيتخلى عن (أناه) لصالح (أنا) الطائفة أو الجماعة القومية في علاقتهما
التنافسية أو التصارعية مع الطوائف والجماعات القومية الأخرى. إن دوام العصبية هو دوام
التنافس والتصارع مع الآخر الخارجي. فبهما تتعزز شوكة مشاعر الإنتماء إلى الكيان الجمعي
للطائفة أو الجماعة القومية, في حين تضعفها تباين المصالح الإقتصادية والسياسية للفئات
الإجتماعية المتباينة. وفي حقيقة الأمر, فإن واحدة من وظائف العصبية, إفتراض وحدة
مصالح أفراد الطائفة أو الجماعة القومية, لتمويه الواقع الإقتصادي - الإجتماعي, الذي يشي
وبإستمرار, بأن تلك المصالح المفترضة, ما هي إلا مصلحة خاصة بالفئات الإجتماعية
المهيمنة على الطائفة أو الجماعة القومية.
إن تعزيز مشاعر الإنتماء إلى الطائفة أو الجماعة القومية على حساب مشاعر الإنتماء إلى
الوطن, يؤدي إلى تمكين الفئات الإجتماعية السائدة من تحقيق أهدافها في خلق ظروف مؤاتية
لتشديد الإستغلال الداخلي لأفراد الطائفة أو الجماعة القومية, في ذات الوقت الذي تخوض
فيه, بإسم هؤلاء الأفراد, حروب مصلحتها الأنانية, مساومةً أو تصارعاً, مع مثيلاتها في
الطوائف والجماعات القومية الأخرى. وهذا هو بالتحديد ما يميز العصبية الطائفية والقومية
عن العصبية القبلية في المجتمع البدوي. فهناك, كانت مصلحة العصبة هي مصلحة جميع
أفرادها, كما وأن إنجازات أي فرد من العصبة, هي لصالح العصبة بأجمعها. فالفرد هو العصبة
والعصبة هو الفرد. أما هنا, فأن الفرد هو الطائفة أو الجماعة القومية, بينما هاتان الأخيرتان,
في ظروف الإنقسام الإجتماعي, ليستا سوى الفئات المهيمنة على الكيان السياسي - الإجتماعي
للطائفة أو الجماعة القومية. فالمكاسب المتحققة نتيجة التحرك الجمعي للأفراد تحت شعار
المصلحة الطائفية والقومية, تخص الفئات المهيمنة, أوأنها تستحوذ على الحصة الأكبر منها,
فتعضد هيمنتها بمزيد من أدوات السيطرة, التي تؤهلها لمزيد من الإستغلال لأفراد الطائفة أو
الجماعة القومية.
إن العصبية القبلية في المجتمع البدوي, تقوم على المصالح المشتركة, بينما العصبية الطائفية
والقومية, تقوم على وحدة المشاعرأكثر من أي شيء آخر. والمبالغة في حدة هذه المشاعر,
وسيلة العصبية لتجاوز التناقضات الإجتماعية الداخلية, وصرفها في قنوات المواجهة الخارجية,
بإفتراض مصالح موحدة, لا وجود لها بالمرة. وإذا كانت بداية فساد العصبية القبلية وإنهيارها,
هي تلك اللحظة التي يبدأ فيها بعض أفراد القبيلة بالإستئثار بمغانمها والتصرف بها على نحو
شخصي ومتعارض مع المصلحة العامة المتعارف عليها, فإن العصبية الطائفية والقومية تحمل
إبتداءاً بذور إنهيارها وفسادها بدلالة الإنقسام الإجتماعي إلى فئات تمتطي مشاعر الإنتماء إلى
الطائفة والجماعة القومية, لزيادة فرصتها في الإستحواذ على المال والجاه. وأخرى , تقدم كل
شيء على مذبح التعصب للطائفة أو الجماعة القومية, ولا تنال في النهاية, سوى المزيد من
القيود على حريتها, فضلاً عن الفقر والتخلف والإنعزال. وفي محاولة لدرء فساد العصبية
وإنهيارها, تلجأ الفئات المهيمنة إلى تعمية الوعي الإجتماعي, والسير به في دهاليزالفكر
الظلامي, لإستثارة أسوأ ما لدى الإنسان من خصال كالحقد والكراهية والبغضاء.
إن إشاعة ثقافة الريبة والخوف من الآخر بدوافع طائفية وقومية, تهدف إلى منع تبلور حركة
إجتماعية وسياسية على المستوى الوطني, تجسد المصلحة المشتركة للأكثرية المغلوبة
على أمرها. فالأغلبية التي يوحدها واقع حالها ومعاشها, تفرقها العصبية الطائفية والقومية,
بالإستناد إلى وعي مزيف يقوم على المقدس الديني والقومي, الذي يخاطب المشاعر
والعواطف, بدلاً من إستنطاق المصالح المتعارضة للأقلية السائدة والأكثرية المهمشة.
ومثلما تتعارض العصبية الطائفية والقومية مع الوطنية, فإنها تتناقض مع أية سلطة
غير سلطتها, ولاسيما سلطة الدولة عندما لا تكون في وارد من أمرها وإرادتها. فالعلاقة
بين قوة الدولة وقوة العصبية, علاقة عكسية, إذ كلما ضعفت الدولة, إزدادت العصبية قوة,
وتبلغ ذروتها مع غياب الدولة وإنهيارها. وقد شهدنا إرتفاع مناسيب المياه في قنوات التعصب
الطائفي والقومي تزامناً مع إنهيار الدولة العراقية بعامل الإحتلال الأمريكي للعراق. وتفسير
ذلك, هي أن الدولة تملك السلطة المادية لدفع عدوان الأفراد بعضهم على بعض, كما وأنها
تقوم بوظيفة الدفاع عن المجموعات المكونة للمجتمع, والحيلولة دون الإعتداءات فيما بينها
على خلفية إنتماءاتها المتباينة إلى قوميات وأديان ومذاهب, فضلاً عن واجبها في التصدي
للإعتداءات الخارجية من الدول المنافسة. فكلما تمكنت الدولة من أداء هذه الوظائف بطريقة
صحيحة, شعر الفرد بأنه في أمن وسلام, وضعفت حاجته إلى التناصر بغير الدولة, فتكمن
عصبيته وتخمد. أما إذا وهنت الدولة وعجزت أو تماهلت عن القيام بما يترتب على وجودها,
فإنها تدفع الأفراد إلى التلحف بلحاف العصبية, بمقدار يتناسب مع فشل الدولة في توفير
الأمن والأمان لمواطنيها. وذروة الفشل هي إنهيار الدولة وتلاشيها, وهي ذروة العصبية
كما نراها ونعايشها.
إن قوة الدولة( وضعفها) ترتبط إرتباطاً وثيقاً بمدى قدرتها على أن تكون دولة مواطنة. فهي
تكون ضعيفة عندما تقع في شباك التمييز بين المواطنين حسب إنتماءاتهم الطائفية والقومية,
فتشجع أولئك الذين يقع عليهم التمييز على الإنصراف عنها لصالح عصبيات طائفية وقومية
غير وطنية. وتكون الدولة قوية عندما تتمكن من إرساء أسس صحيحة للمواطنة, تقوم على
الولاء للوطن دون أي إعتبار آخر, فتتأكد الوطنية العراقية, دافعة العصبيات المحلية إلى
زوايا النسيان.
إن تعارض العصبية الطائفية والقومية مع مصلحة الغالبية العظمى من السكان, بالكيفيات التي
بيناها أعلاه, يجعل منها أداة للتراجع والتخلف والتشرذم. ويجعل مهمة التصدي لها, واجباً
وطنياً من الطراز الأول. فليس هناك ما هو أخطر على صورة العراق المستقبلي من العصبية
الطائفية والقومية. فهي تحرف الصراع الإجتماعي عن مساره الصحيح, وتقوده إلى شواطيء
بعيدة عن مصالح الوطن, هي شواطيء الفتنة والتنازع والحرب الأهلية وإنهيار المجتمع
وضياع البلاد والعباد.
#ياسر_المندلاوي (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟