أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني - نهرو عبد الصبور طنطاوي - السنة ما لها وما عليها: الفصل الرابع عشر: (هل حفظ الله كتاب القرءان الكريم؟)















المزيد.....



السنة ما لها وما عليها: الفصل الرابع عشر: (هل حفظ الله كتاب القرءان الكريم؟)


نهرو عبد الصبور طنطاوي

الحوار المتمدن-العدد: 4023 - 2013 / 3 / 6 - 18:34
المحور: العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني
    


تنبيهان مهمان قبل تلاوة هذا الفصل:
الأول: (أنبه القارئ الكريم أن يستجمع تركيزه وصفاء ذهنه عند تلاوة هذا الفصل تحديدا، لكثرة تفاصيله وتشابكاته وتقاطعات محاوره وعناصره، وأنصح القارئ بتلاوته أكثر من مرة).

الثاني: (سوف يكون هناك نقاش حول موضوع ومضمون هذا الفصل على صفحتي في الفيسبوك لمن يريد مناقشة هذا الموضوع على الرابط التالي:)
http://www.facebook.com/nehro.tantawi.7

أحد القرءانيين أو أحد منكري أحاديث الرسول يقول: (إن الرسول لم يكتب الحديث لأنه كان يقصد أن لا يكتبه؛ وكانت رسالته موجهة أساساً إلى إلغاء كتب الحديث وتحرير النص المقدس من أهواء المؤسسات السياسية وجمع الناس على سنة نافعة واحدة وهي رسالة أبلغها الرسول حرفياً وأختار حجة الوداع لكي يسمع بشهادة المسلمين على أنفسهم بأن البلاغ قد وصلهم كاملاً؛ وأن النص الشرعي قد أكتمل في صيغة القرآن؛ وفي ذلك الوقت؛ لم يكن الحديث قد نشأ ولم يكن ثمة حاجة شرعية إلى نشوئه في شريعة " أكتملت وتمت " بشهادة من الله ورسوله معاً. إن ظهور علم السنة كان مجرد رد سياسي على "سنة الله" بالذات إن عالِم السنة الذي بايع الرسول في حجة الوداع على نص القرآن وحده؛ عاد يبايع الأسر الحاكمة على نص الحديث؛ وإذا لم تكن هذه البداية الرديئة خيانة عارية الرأس؛ فلابد أنها خيانة تغطي رأسها بمنديل). الكلام للسيد (الصادق النيهوم) من منشوراته على موقع التواصل الاجتماعي (فيسبوك).

ورداً على كلام السيد (صادق النيهوم) أقول: هل يستطيع السيد "صادق النيهوم" أن يخبرنا بأين هو كتاب "القرآن الكريم" الذي جمعه وخطه الرسول بيده، أو حتى بكتاب القرآن الكريم الذي خطه الصحابة من كتبة الوحي بأيديهم تحت إشراف الرسول ورعايته؟؟. فنحن لا نعلم ولا نرى ولا نجد سوى المصاحف المنسوبة لـ (عثمان بن عفان) التي جمعها وخطها ونسخها هو والصحابة من بعد وفاة الرسول بسنوات عديدة، وأمر بإحراق جميع النسخ الأخرى، كما جاء في الروايات، ما يعني أن من جمع القرءان وكتبه هم الصحابة وليس الرسول، والقرءان الكريم له أكثر من عشرين رواية مختلفة ما بين (متواترة وشاذة)، ولا ندري أي رواية من الروايات التي تزيد على العشرين هي الرواية الأصلية؟، فما الفرق بين تدوين روايات "القرءان الكريم" وتدوين روايات "الحديث"؟؟. وهل يستطيع السيد (صادق النيهوم) أن يخبرنا بكيف وصل إلينا القرءان؟ وبأي آلية؟ وكيف حفظ الله "القرءان الكريم"؟ وأي رواية من روايات القرءان هي الرواية الأصلية الحقيقية التي حفظها الله سبحانه؟. لأنه لا يمكن أن نقبل من "القرءانيين" أن يعطوننا "القرءان الكريم" برواية (حفص عن عاصم) ثم يقولون لنا هذا هو القرءان الذي حفظه الله واصمتوا واغلقوا أفواهكم ولا تتكلمون. كلا يا سيدي، لن نصمت ولن نغلق أفواهنا، ولن نشترى منكم سمكاً في ماء، ولن تبيعونا الوهم والسراب بهذه الفزلكات والتحزلقات الكلامية التي لا تسمن ولا تغني من جوع والتي تريدونا تسويقها بين البسطاء من محدثي المعرفة الدينية سواء منك أو من أمثالك من القرءانيين.

لا يمل القرءانيون من التساؤل بوعي أو من دون وعي وفي تمويه على بسطاء وحدثاء العلم والمعرفة الدينية ويقولون: (إذا كانت "الأحاديث" بها وحي من الله، وبها شرع ديني ملزم فلماذا لم يحفظها الله كما حفظ "القرءان الكريم"؟). ويتخندقون في تساؤلهم هذا داخل قوله تعالى: (إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون). وقبل أن نجيبهم على سؤالهم هذا، لابد من فحص وتفكيك هذا السؤال ابتداءً، لنرى هل هو سؤال صواب في مضمونه ومقدماته أم أنه يحوي تدليسا ما؟.
الجواب: لا يخفى على من له أدنى بصيرة أو أدنى حس نقدي أن هذا السؤال بمضمونه ومقدماته يحوي في طياته تدليسا فاقعا يدلس به القرءانيون على البسطاء والسذج من حدثاء العلم والمعرفة الدينية، وهذا التدليس يقع في جانبين:
الجانب الأول: إيهام الناس أن "الذكر" هو كتاب القرءان الكريم فحسب.
الجانب الثاني: إيهام الناس أن كتاب "القرءان الكريم" له رواية واحدة وحيدة لا شريك لها.
وهذا تدليس وكذب وتزوير من القرءانيين على الناس وإلباس الحق بالباطل، وتفصيل هذا على النحو التالي:

## أولا : (الذكر) ليس هو كتاب "القرءان الكريم" وحده:

لا يستطيع القرءانيون مهما تقولوا على الله ومهما التفوا على نصوص القرءان الكريم أن يقدموا لنا برهانا واحدا من القرءان الكريم على أن المقصود بـ (الذكر) في الآية الكريمة: (إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون). هو كتاب "القرءان الكريم" فقط، وهذه هي بعض آيات القرءان التي يراوغ بها القرءانيون ويدلسون بها على الناس لتمرير أفكارهم وأطروحاتهم:
قال تعالى: (اتَّبِعُوا مَا أُنزِلَ إِلَيْكُم مِّن رَّبِّكُمْ وَلاَ تَتَّبِعُوا مِن دُونِهِ أَوْلِيَاءَ قَلِيلاً مَّا تَذَكَّرُونَ). (3_ الأعراف).
وقال تعالى: (إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ مَا يُوحَى إِلَيَّ). (50_ الأنعام).
وقال تعالى: (فَاسْتَمْسِكْ بِالَّذِي أُوحِيَ إِلَيْكَ). (43_ الزخرف).
هل هذه الآيات القرءانية التي تتحدثت عن اتباع ما أنزل إلينا من ربنا واتباع ما أوحي إلينا من ربنا تعني أن الله أمرنا بالاقتصار والاكتفاء بنصوص كتاب القرءان الكريم وحده؟، وهل يجرؤ شخص قرءاني واحد على الزعم والقطع بأن هذه الآيات تنص على أن (ما أنزل إلينا من ربنا) و(ما أوحي إلينا من ربنا) هو كتاب القرءان الكريم وحده؟، فالآيات تقول: (اتَّبِعُوا مَا أُنزِلَ إِلَيْكُم مِّن رَّبِّكُمْ)، ولم تقل أن ما أنزل إلينا من ربنا هو (القرءان الكريم وحده)، وتقول: (إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ مَا يُوحَى إِلَيَّ). وتقول: (فَاسْتَمْسِكْ بِالَّذِي أُوحِيَ إِلَيْكَ). ولم تقل أن ما أوحي إلى (محمد) عليه الصلاة والسلام من ربه هو (القرءان الكريم وحده)؟، فبأي برهان قطع القرءانيون وجزموا بأن ما أنزل من الله وما أوحي من الله هو "القرءان الكريم" وحده؟، وبأي برهان قطعوا وجزموا أن (الذكر) هو كتاب "القرءان الكريم" وحده؟.

إذ لو كان الأمر كما يقولون فماذا نصنع بالآية التالية ومثيلاتها:
قال تعالى: (كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولاً مِّنكُمْ يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِنَا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُعَلِّمُكُم مَّا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ). (151_ البقرة).
قلت من قبل أن هذه الآية تقرر أن من مهام النبي الأكرم عليه الصلاة والسلام (تلاوة الآيات) و(تزكية المؤمنين) و(تعليمهم الكتاب) و(تعليمهم الحكمة) و(تعليمهم ما لم يكونوا يعلمون). هذه المهام هي مهام تعليمية في المقام الأول، وهذه المهام التعليمية لابد لها من علم يحصل عليه المعلم لأداء مهمته التعليمية المنوطة به، والعلم الذي يحصل عليه المعلم في أي مهمة تعليمية لا يمكن واقعا وعلما وفكرا وموضوعا أن يكون هو ذات الشيء المراد تعليمه للآخرين، فلو افترضنا مثلاً أن معلما لأي مادة من المواد المدرسية ولتكن مثلا مادة "الرياضيات"، أوكلت إليه مهمة تعليم كتاب "الرياضيات" للصف الثالث الثانوي، هل يقر في فكر أو في وعي أحد من الناس أن هذا المعلم سيقوم بتعليم الطلاب مادة "الرياضيات" المقررة عليهم من تلقاء نفسه وبمزاجه الشخصي وحسبما يرى هو؟ أم أن ذلك المعلم قد تأهل ابتداءً بعلم قد تحصل عليه عبر تأهيله وتعليمه وتخصصه من قبل أن يناط به هذه المهمة؟، الجواب: بكل تأكيد أن هذا "المعلم" قد تأهل وتعلم وتخصص وتحصل على علم الرياضيات ابتداءً حتى يتم تأهيله لأداء مهمة تعليم طلاب الصف الثلاث الثانوي "مادة الرياضيات". والقول بغير هذا واعتقاد غير هذا سيجعل من عملية ومهمة التعليم عملية عبثية عشوائية من الممكن أن يتصدر لها أي شخص آخر للقيام بها، بل هذا القول لا يقول به مفكر جاد ولا حتى هازل.

إذاً فمهام النبي الأكرم عليه الصلاة والسلام المنوطة والموكلة إليه وهي: (تلاوة الآيات) و(تزكية المؤمنين) و(تعليمهم الكتاب) و(تعليمهم الحكمة) و(تعليمهم ما لم يكونوا يعلمون)، هي مهام تعليمية في المقام الأول، وبما أنها مهام تعليمية فهي تحتاج إلى علم وتعلم من خارج كتاب "القرءان الكريم"، كما سبق وأن ضربنا مثلا بمعلم "الرياضيات"، وأنه لابد من أن يكون قد تحصل ابتداءً على علم قواعد وأسس علم "الرياضيات"، حتى يتمكن من تعليم طلابه هذه المادة. وعليه فبكل تأكيد أن العلم الذي تعلمه الرسول عليه الصلاة والسلام "علم التزكية، وعلم الكتاب والحكمة، وعلم ما لم يكونوا يعلمون"، لا يمكن أن يكون علما ذاتيا شخصيا مزاجيا أتى به رسول الله من تلقاء نفسه، وكذلك بما أن هذا العلم هو علم يختص بهذا الكتاب "القرءان الكريم" فهو علم إلهي تلقاه رسول الله عن طريق الوحي الذي أوحاه الله إليه، وعليه فيكون "ما أنزله الله" و"ما أوحاه الله" إلى رسوله لا يمكن قصره وحصره في كتاب "القرءان الكريم" فحسب. فلا يجوز بعدها أن نقول إن "الكتاب" أو "ما أنزله الله" أو "ما أوحاه الله"، هو فقط كتاب "القرءان"الكريم"، فالقول بهذا هو عين التدليس والتلبيس على الناس وعين التزوير والكذب والتقول على الله وعلى رسوله.

## ثانيا : إيهام القرءانيين للناس بأن كتاب "القرءان الكريم" رواية واحدة فقط:

نعم قال الله: (إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون). هذا إذا افترضنا جدلا أن كتاب القرءان الكريم هو (الذكر) الذي تكفل الله بحفظه، لكن لم يقدم لنا القرءانيون دليلا واحداً على كيفية وآليات هذا الحفظ بعيدا عن الروايات والأحاديث التي يشككون في مصداقيتها وفي ثبوتها وفي صحتها، فهل لدى القرءانيين مصدر آخر سوى الروايات والآحاديث يثبتون به لأنفسهم وللناس كيفية حفظ الله كتاب القرءان الكريم؟؟، فقد سبق وأن قلت في الفصل الخامس بعنوان: (القرءانيون ومأزق حفظ وجمع القرءان) أن أقدم نسخة للقرآن الكريم هي من خط وجمع صحابة رسول الله، ولا يوجد على الإطلاق في أي مكان في العالم نسخة واحدة بخط النبي عليه الصلاة والسلام، وبالتالي فخط وجمع القرءان الكريم بهذه الهيئة التي بين أيدينا الآن هو عمل بشري قام به أصحاب رسول الله كما تذكر الروايات والأحاديث، وجميع القرءانيين بلا استثناء لفرد واحد منهم حين تسألهم: كيف تم جمع وخط القرءان الكريم، تجدهم على الفور يجيبونك: أنه تم جمعه وخطه بقرار من عثمان بن عفان الخليفة الثالث حيث قد طلب من أم المؤمنين (حفصة بنت عمر بن الخطاب) زوج رسول الله عليه الصلاة والسلام أن تسلمه نسخة القرءان الكريم التي كانت تحتفظ بها في بيتها. لينسخ منها عدة نسخ ويقوم بتوزيعها على الأمصار، وفي نفس الوقت أمر "عثمان بن عفان" بحرق جميع المصاحف والنسخ الأخرى التي كانت موجودة بين يدي الصحابة والمسلمين في ذلك الوقت، والاكتفاء بهذه النسخة التي قام بنسخها من مصحف أم المؤمنين (حفصة بنت عمر بن الخطاب) زوج النبي عليه الصلاة والسلام.

روى البخاري في "فضائل القرءان" حديث رقم: "4987": (حَدَّثَنَا مُوسَى حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ حَدَّثَنَا ابْنُ شِهَابٍ أَنَّ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ حَدَّثَهُ أَنَّ حُذَيْفَةَ بْنَ الْيَمَانِ قَدِمَ عَلَى عُثْمَانَ وَكَانَ يُغَازِى أَهْلَ الشَّأْمِ فِى فَتْحِ إِرْمِينِيَةَ وَأَذْرَبِيجَانَ مَعَ أَهْلِ الْعِرَاقِ فَأَفْزَعَ حُذَيْفَةَ اخْتِلاَفُهُمْ فِى الْقِرَاءَةِ فَقَالَ حُذَيْفَةُ لِعُثْمَانَ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ أَدْرِكْ هَذِهِ الأُمَّةَ قَبْلَ أَنْ يَخْتَلِفُوا فِى الْكِتَابِ اخْتِلاَفَ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى فَأَرْسَلَ عُثْمَانُ إِلَى حَفْصَةَ أَنْ أَرْسِلِى إِلَيْنَا بِالصُّحُفِ نَنْسَخُهَا فِى الْمَصَاحِفِ ثُمَّ نَرُدُّهَا إِلَيْكِ فَأَرْسَلَتْ بِهَا حَفْصَةُ إِلَى عُثْمَانَ فَأَمَرَ زَيْدَ بْنَ ثَابِتٍ وَعَبْدَ اللَّهِ بْنَ الزُّبَيْرِ وَسَعِيدَ بْنَ الْعَاصِ وَعَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ الْحَارِثِ بْنِ هِشَامٍ فَنَسَخُوهَا فِى الْمَصَاحِفِ وَقَالَ عُثْمَانُ لِلرَّهْطِ الْقُرَشِيِّينَ الثَّلاَثَةِ إِذَا اخْتَلَفْتُمْ أَنْتُمْ وَزَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ فِى شَىْءٍ مِنَ القرءان فَاكْتُبُوهُ بِلِسَانِ قُرَيْشٍ فَإِنَّمَا نَزَلَ بِلِسَانِهِمْ فَفَعَلُوا حَتَّى إِذَا نَسَخُوا الصُّحُفَ فِى الْمَصَاحِفِ ورَدَّ عُثْمَانُ الصُّحُفَ إِلَى حَفْصَةَ وَأَرْسَلَ إِلَى كُلِّ أُفُقٍ بِمُصْحَفٍ مِمَّا نَسَخُوا وَأَمَرَ بِمَا سِوَاهُ مِنَ القرءان فِى كُلِّ صَحِيفَةٍ أَوْ مُصْحَفٍ أَنْ يُحْرَقَ). رواه البخاري.

فهل يجرؤ شخص قرآني أو غير قرآني على القول بأن جمع ونسخ وخط القرءان الكريم كان عملا إلهيا لا دخل للبشر فيه؟؟.

نعم قال الحق سبحانه: (إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون). ولكن هذا النص أو هذه الآية ليست كافية للدلالة العلمية العملية على هذا الحفظ الإلهي لكتاب القرءان الكريم، نعم نحن المسلمون المؤمنون بهذا الدين نصدق هذا النص ونؤمن به ونوقن بمضمونه تمام اليقين، ولكن هذا لا يكفي في ميزان البحث والمنهج العلمي، وإنما نحن مكلفون بعدم الاعتماد على هذه الآية والارتكان إليها فحسب، هذا في حال كان لدينا دليلا علميا واحدا على أن (الذكر) المقصود في آية الحفظ هو كتاب "القرءان الكريم"، إنما نحن مكلفون أولا: بمعرفة ما هو (الذكر) المقصود في آية الحفظ؟ وهل هو كتاب القرءان الكريم أم لا؟. ثانيا: نحن مطالبون بالبحث والتنقيب العلمي والعملي عن كيفية وآليات الحفظ الإلهي للذكر. لأن القرءانيين ينسون أو يتناسون أن القرءان الكريم له أكثر من عشرين رواية، عشر قراءات متواترة، رواها عشرون راويا عن أصحابها الأصليين العشرة، وله روايات كثيرة أخرى شاذة غير معترف بها، وليس لدى القرءانيين من برهان علمي يقيني واحد يثبتون به صحة رواية واحدة من الروايات العشرين وأنها هي رواية النبي عليه الصلاة والسلام الأصلية، وبكل تأكيد لا يمكن أن يكون كلامي هذا تشكيكا على الإطلاق في حفظ هذا الكتاب العظيم، ولا تشكيكا في الآية الكريمة التي نصت على حفظ الله للذكر الحكيم، كما يتهمني بعض القرءانيين بهذا، وإنما القرءانيين وكثيرين غيرهم يظنون ظنا أن (الذكر) في آية الحفظ المقصود به كتاب "القرءان الكريم"، وهذا محض ظن من القرءانيين ومن غيرهم، والظن لا يغني من الحق شيئا.

وحتى نعرف ما هو (الذكر) الذي تكفل الله بحفظه في آية الحفظ، لابد أن نقوم ابتداءً بتشريح وتبيين كلمة (ذكر) ومشتقاتها في لسان قوم الرسول الذي نزل به كتاب القرءان الكريم، حتى نستبين الأمر بطريقة علمية عملية تقودنا إلى معرفة ما الذي تكفل الله بحفظه على وجه التحديد؟. وليس عن طريق الدروشة وإطلاق الأحكام المطلقة بغير علم ولا هدى ولا سلطان مبين، وهذا التشريح والتفصيل يكون على النحو التالي:

الفعل (ذَكَرَ) في لسان قوم الرسول يدل على حضور شيء في غلظة وصرامة وصلابة وشدة في هيئته وحقيقته. وكانت العرب تقول للحديد الجيد شديد اليبوسة والشدة (ذَكَر الحديد). وبذلك يُسَمَّى السَّيْفُ (مُذَكَّراً). و(المُذَكَّرَةُ) هي السُّيوف التي شَفَراتُها حَدِيدٌ قوي صلب وذات شدة وبأس. كذلك كانت العرب تقول عن الأيام الشديدة الصعبة: (أيام مُذَكَّرة)، و(يومٌ مُذَكَّرٌ)، أي: اليوم الشَّدِيدُ الصَّعْبُ الذي قد اشتَدَّ فيه القِتَالَ. وكانت تقول عن الطريق الوعر الخطر: (طَرِيقٌ مُذْكِرٌ) أَي مَخُوفٌ وعر خطر. وكانت تقول عن العشب الغليظ الخشن: (ذُكُورُ العُشْبِ). وكانت تقول عن الأرض التي تنبت العشب الغليظ الخشن أو الأرض التي لا تنبت: (أَرضٌ مِذْكارٌ)، أي: تُنْبِت ذُكُورَ العُشب، أو هي الأرض التي لا تُنْبِت أصلا. وكانت العرب تقول عن الطيب والعطور الفواحة دائمة الحضور التي لا تزول رائحتها بسهولة: (ذكارة الطيب)، وفي حديث أم المؤمنين عائِشَةَ: ( أَنَّه _عليه الصلاة والسلام_ كان يتَطَيَّب بذِكَارَةِ الطِّيب)، أي أكثره انتشارا ودواما، وفي حديثِ آخَر (كانوا يَكْرَهُون المُؤَنَّث من الطِّيب)، أي: الذي تزول رائحته بسرعة ولا تدوم طويلا.

ومن مشتقات الفعل (ذكر): أن العرب كانت تقول عن الرجل ذائع الصِيتٍ والشُهْرة َوالفخر والحضور: (رَجُل ذَكِيرٌ)، أَي حاضر أو ذائع الذِّكرِ. والذِّكْر الذي هو: (الحضور والصِّيتُ والشهرة)، يقال فيه: إِنَّ فُلاناً لرَجلٌ (ذَكِير) لو كان له (ذُكْرَة). أَي: (ذِكْرٌ) وحضور وصِيتٌ وشهرة بين الناس. ومنه قولُه تعالى للنبي الأكرم: (وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَّكَ وَلِقَوْمِكَ). (44_ الزخرف). أَي (القرءان) حضور وصيت وشهرة لك ولَقومك. ومنه قوله تعالى لقوم الرسول أهل مكة: (لقد أنزلنا إليكم كتابا فيه ذكركم). (10_ الأنبياء). أي: فيه حضوركم وصيتكم وشهرتكم. ومنه قَولُه تعالى للنبي الأكرم: (وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ) (2_ الإنشراح). أي حضورك وصيتك وشهرتك.

ومن مشتقات الفعل (ذكر): (الذَّكَر) الذي هو مقابل (الأنثى)، قال تعالى: (وليس الذكر كالأنثى). (36_ آل عمران)، وقال: (قل آلذكرين حرم أم الأنثيين). (144_ الأنعام)، وجمعه: (ذكور) و(ذكران)، قال تعالى: (أو يزوجهم ذكرانا وإناثا) (50_ الشورى). وكانت العرب تقول للعضو التناسلي للرجل: (الذَّكَر) لانتصابه وصلابته. وكانت العرب تقول عن المرأة التي تلد ذكورا: (إمرأة مَذْكَر). وكانت تقول عن المرأة التي نسميها اليوم (المسترجلة) أي: التي تشبه الرجل: امرأَةٌ (ذَكِرَةٌ)، و(مُذَكَّرةٌ)، و(مُتَذَكِّرَةٌ)، أَي: (مُتَشَبِّهَةٌ بالذُّكور). أي: تشبه الذكر في خلقته وغلظته وخشونته. وكان بعض العرب يقول عن مثل هذه المرأة: (إِيَّاكم وكُلَّ ذَكِرَة مُذَكَّرةٍ، شَوْهَاءَ فَوْهَاءَ، تُبْطِل الحَقّ بالبُكَاءِ، لا تَأْكُل من قِلَّة، ولا تَعْتَذِر من عِلّة، إِن أَقْبَلَت أَعْصَفَت، وإِن أَدبَرَتْ أَغْبَرَتْ). أي: (كأنها وابور سكة حديد).

ومن مشتقات الفعل (ذَكَرَ) في القرءان الكريم: (الذِكْر)، وكثير من الناس يخلط بين (الحفظ) و(الذكر)، فيظنوا أنهما بدلالة واحدة، فيقول أحدهم إن الذكر يعني الحفظ، وهذا خلط واضح بين دلالة الكلمتين، فأما الحفظ فيدلُّ على إحراز الشيء وتفقده وتعهده ورعايته، وهو ضد الغفلة، قال تعالى: (وإنا له لحافظون). (12_ يوسف)، وقال: (حافظوا على الصلوات). (238_ البقرة). وقال: (والذين هم لفروجهم حافظون). (5_ المؤمنون)، وقال: (والذين هم على صلاتهم يحافظون). (9_ المؤمنون). أما (الذِكْر) فيدل على: استحضار صورة وهيئة الشيء في الذهن أو في النفس أو في القلب، ولا يدل (الذكر) مطلقا على حضور مادي لشيء بمفرده، فكأنه يتعلق في جانب منه بالأفكار والتصورات والدلالات والمفاهيم والمعاني المتعلقة بأمر مادي ما أو حدث مادي ما، أي أنه: يدل على الحضور المعنوي للأشياء المذكورة وتطابقها مع الحضور المادي، والحضور المعنوي مكانه الذهن والنفس والقلب، وهو ضد النسيان، قال تعالى: (فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ) (165_ الأعراف).

ولنا هنا وقفة: لقد ذكرت منذ قليل أن (الذِّكْر) ضده (النسيان)، وهذا ما أكدته بعض آيات القرءان الكريم، لكن قد وردت آية واحدة فقط في القرءان الكريم تضع (الذِّكْر) في مقابل (الضلال)، ألا وهي أطول آية في القرءان، آية (الدَّيْن)، التي أمر الله فيها بأن يشهد على كتاب (الدَّيْن) (رجل وامرأتان) في عدم وجود رجلين، وعلل الحق سبحانه هذا الأمر بقوله: (أَن تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الأُخْرَى)، والسؤال هنا: لماذا وضع الحق سبحانه (الذِّكْر) في هذه الآية فقط في مقابل (الضلال) ولم يضعه في مقابل (النسيان)؟، فلماذا لم يقل: (أن تنسى إحداهما فتذكر إحداهما الأخرى)؟، وقال: (أَن تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الأُخْرَى)؟، مع أن (الضلال) يقابله (الهدى) وليس (الذكر).

أقول: لأن الأمر هنا في آية (الدَّيْن) تحديدا له أسباب موضوعية واقعية لا علاقة لها على الإطلاق بأفضلية الرجل على المرأة ولا بالتمييز النوعي بينها وبين الرجل، كما قد يظن بعض الناس في هذه الآية، فالأمر هنا في آية الدَّيْن تحديدا يتعلق بعملية الإشهاد على كتابة (الدَّيْن)، والإشهاد على كتابة (الدَّيْن) يقتضي أن يكون الشاهد لديه إجادة للتلاوة والكتابة والإملاء والحساب والعد والإحصاء، والمرأة في الغالبية العظمي من بني جنسها في ذلك الوقت كانت أمية لا تجيد التلاوة ولا الكتابة ولا الإملاء، ولم تكن على علم بعمليات العد والحساب والإحصاء، وكانت قليلة الخروج من البيت ونادرة الاشتغال بعمليات البيع والشراء والتجارة، وبالتالي كانت المرأة قليلة العلم جدا بالتلاوة والكتابة وبعمليات الحساب والعد والإحصاء، على خلاف الرجل في ذلك الوقت حتى ولو كان أميا، إذ كانت التجارة والبيع والشراء والعد والحساب والإحصاء هو عمله اليومي الذي كان يمارسه كنشاط دائم لتحصيل الرزق، لذلك أمر الحق سبحانه في هذه الآية تحديدا ودون غيرها من آيات الإشهاد على كافة الأمور الأخرى بقوله: (فَإِن لَّمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ).

وهذا الأمر يذكرني بقصة طريفة حدثت معي منذ بضع سنين، حيث أرسلت لي إمرأة صعيدية أمية عجوز حفيدها الصغير وأخبرني أن جدته تريدني في خدمة، فذهبت معه إليها فوجدتها تريد بيع بعض المواشي وكان التاجر قد كتب لها أسعار المواشي في ورقة، وطلبت مني أن أجمع لها هذه الأسعار وأخبرها بالسعر الإجمالي، فحسبت لها الحسبة وقلت لها السعر الإجمالي هو (8000)، ففوجئت بها تسألني: (والـ "8000" دول يطلعوا كام فلوس؟)، فضحكت، وقلت لها يبقوا (8000 جنيه)، ففوجئت بها تقول لي: (يعني يطلعوا كام "100"؟)، فضحكت أيضا، وقلت لها: (إنت عارفة الـ "1000" فيها كام "100"؟). فقالت: (نعم فيها "10" "100"). فقلت لها: (الـ "8000" فيها "80" "100"). فصمتت برهة ثم قالت: (أيوه دلوقت عرفت يطلعوا كام فلوس). والشاهد أن هناك كثير من النساء الأميات اللائي لا يخرجن من بيتوهن ولا يبعن ولا يشترين ولا يذهبن إلى الأسواق وليس لديهن فكرة بعلم الحساب والعد والإحصاء، فهن لسن كالرجال حتى ولو كان الرجال أميين لا يجدون التلاوة ولا الكتابة، إلا أن الرجال يذهبون إلى الأسواق ويبيعون ويشترون ويتاجرون وبالتالي لديهم إلمام كبير بعلم الحساب والعد والإحصاء أكثر بكثير من النساء اللائي لا يخرجن من بيوتهن ولا يبعن ولا يشترين ولا يمارسن التجارة، لهذا أمر الله في ذلك الوقت في الشهادة على كتاب الدَّيْن تحديدا لما فيه من عد وحساب وإحصاء بقوله: (فإن لم يكونا رجلين فرجل وامرأتان)، وذكر العلة في هذا بقوله: (أن تضل إحداهما فتذكر إحداهما الأخرى).

ونجيب الآن على السؤال الذي طرحناه في أول هذه الوقفة، ألا وهو: لماذا جعل الله سبحانه في هذه الآية (الذِّكْر) في مقابل (الضلال) ولم يجعله في مقابل (النسيان)؟، الجواب: لأن النسيان هنا يغلب عليه الخلط والاختلاط الذي بمعنى الضلال، وهو النسيان الذي يكون نتيجة قصور علمي ومعرفي فرضته البيئة المحيطة والواقع الثقافي والاجتماعي، فهو ليس نسيانا مقصودا دافعه الانشغال بأهواء وأغراض أخرى، إنما هو نسيان نتيجة قصور علمي ومعرفي، فالضلال هو انحراف الشيء وابتعاده عن مقصده الحق، وكانت العرب تقول عن خلط اللبن بالماء: (ضَلَّ اللَّبَنُ في الماءِ)، أي تم حرف اللبن وإبعاده عن طبيعته وكينونته الحقيقية التي يجب أن يكون عليها. وكانت العرب تقول: (ضَل البعير)، إذا ضاع وانحرف وابتعد عن موطنه، وتقول: (ضَلَلَتُ الدار)، إذا انحرف وابتعد عنها ولم يهتد إليها، فالضلال ضلالان، الأول: ضلال لا دخل للإنسان به، ويكون نتيجة قصور علمي معرفي أنتجته ظروف بيئية ومجتمعية وثقافية معينة. والثاني: ضلال متعمد، وهو تعمد حرف الشيء وإبعاده عن مقصده الحق لهوى في نفس فاعله أو تحقيقا لغرض أو شهوة يبتغيها.

هذا هو كل ما في الأمر، ولا علاقة للأمر هنا بشهادة امرأتين مقابل رجل واحد أن الرجل أفضل أو أكثر ذكاء وفهما ووعيا من المرأة، كلا، وإنما لظروف اجتماعية بيئية موضوعية وتحصيلية تتعلق بإجادة العد والحساب والإحصاء. بدليل أن الله أمر بالشهادة وبالإشهاد على كثير من الأمور في القرءان الكريم ولم يتعرض على الإطلاق للتمييز بين الرجل والمرأة في الشهادة إلا في آية الدين فقط، وهذا للأسباب الموضوعية التي سبق ذكرها.
وهذه هي آية الدَّيْن:
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنتُم بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى فَاكْتُبُوهُ وَلْيَكْتُب بَّيْنَكُمْ كَاتِبٌ بِالْعَدْلِ وَلاَ يَأْبَ كَاتِبٌ أَن يَكْتُبَ كَمَا عَلَّمَهُ اللَّهُ فَلْيَكْتُبْ وَلْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الحَقُّ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ وَلاَ يَبْخَسْ مِنْهُ شَيْئاً فَإِن كَانَ الَّذِي عَلَيْهِ الحَقُّ سَفِيهاً أَوْ ضَعِيفاً أَوْ لاَ يَسْتَطِيعُ أَن يُمِلَّ هُوَ فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بِالْعَدْلِ وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِن رِّجَالِكُمْ فَإِن لَّمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّن تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ أَن تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الأُخْرَى). (282_ البقرة).

وهذه هي آيات الإشهاد في أمور أخرى لم يتعرض الحق سبحانه فيها لا للرجل ولا للمرأة:
قال تعالى:
(وَأَشْهِدُوا إِذَا تَبَايَعْتُمْ وَلاَ يُضَارَّ كَاتِبٌ وَلاَ شَهِيدٌ). (282_ البقرة).
وقال:
(فَإِذَا دَفَعْتُمْ إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ فَأَشْهِدُوا عَلَيْهِمْ وَكَفَى بِاللَّهِ حَسِيباً). (6_ النساء).
وقال:
(فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فَارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِّنكُمْ وَأَقِيمُوا الشَّهَادَةَ لِلَّهِ). (2_ الطلاق).
وقال:
(وَاللاَّتِي يَأْتِينَ الفَاحِشَةَ مِن نِّسَائِكُمْ فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِّنكُمْ). (15_ النساء).
وقال:
(وَالَّذِينَ يَرْمُونَ المُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوَهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً). (4_ النور).
وقال:
(وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ وَلَمْ يَكُن لَّهُمْ شُهَدَاءُ إِلاَّ أَنفُسُهُمْ فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ). (6_ النور).
وقال:
(لَوْلا جَاءُوا عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَإِذْ لَمْ يَأْتُوا بِالشُّهَدَاءِ فَأُوْلَئِكَ عِندَ اللَّهِ هُمُ الكَاذِبُونَ). (13_ النور).

ونعود لدلالات كلمة (الذكر) في القرءان الكريم، ونقول: ويدل (الذكر) كذلك على استحضار شيء في الذهن قد حدث بالفعل ونسيه الإنسان ثم ذكره، كقوله تعالى: (وما أنسانيه إلا الشيطان أن أذكره). (63_ الكهف). وأيضا يدل (الذكر) على استحضار في الذهن لتفاصيل حدث ما حدث في الماضي، أو أمر ما وقع في الماضي، سمعت به ولكن لا تعلم تفاصيله، هذه التفاصيل غير المعلومة تسمى (ذكراً)، كقوله تعالى: (وَيَسْأَلُونَكَ عَن ذِي القَرْنَيْنِ قُلْ سَأَتْلُو عَلَيْكُم مِّنْهُ ذِكْراً). (83_ الكهف). فهم كانوا يعلمون بـ (ذي القرنين)، ولكن لا يعلمون (ذكر قصته) أي: تفاصيل قصته، ومنه قوله تعالى: (لَوْ أَنَّ عِندَنَا ذِكْراً مِّنَ الأَوَّلِينَ). (168_ الصافات). ومنه قوله تعالى: (هل أتى على الإنسان حين من الدهر لم يكن شيئا مذكورا). (1_ الإنسان), أي: هل أتى على الإنسان حين من الدهر لم يكن له حضور لا في ذهن أحد ولا في نفس أو قلب أحد من المخلوقات، ولا أدري لماذا يصر معظم الفقهاء والمفسرين في الماضي والحاضر على أن كلمة (هل أتى) بمعنى (قد أتى)؟، أليس هذا عبثا بمفردات وكلمات القرءان غير مبرر على الإطلاق؟، فهو سؤال من كثير من الأسئلة التي وردت في القرءان الكريم والتي طرحها الله على الإنسان وتركها دون جواب، وترك الجواب عليها للإنسان نفسه ليتفكر فيها ويسير في الأرض ليبحث وينظر للوصول بنفسه إلى إجابة عليها، ومثله على سبيل المثال قوله تعالى في آخر آية في سورة القيامة: (أليس ذلك بقادر على أن يحي الموتى). (40_ القيامة). وقوله : (أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ). (53_ الأنعام). وقوله: (أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِّلْكَافِرِينَ). (68_ العنكبوت). وقوله: (أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ). (36_ الزمر). وقوله: (أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَحْكَمِ الحَاكِمِينَ). (8_ التين). وقوله: (قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الأَعْمَى وَالْبَصِيرُ أَفَلاَ تَتَفَكَّرُونَ). (50_ الأنعام). وقوله: (فَاعْبُدْهُ وَاصْطَبِرْ لِعِبَادَتِهِ هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِياًّ). (65_ مريم). وقوله: (وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُم مِّن قَرْنٍ هَلْ تُحِسُّ مِنْهُم مِّنْ أَحَدٍ أَوْ تَسْمَعُ لَهُمْ رِكْزاً). (98_ مريم). وقوله: (هَلْ ثُوِّبَ الكُفَّارُ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ). (36_ المطففين). وغيرها كثير من الأسئلة التي تركها الحق سبحانه دون جواب، وترك للإنسان أن يبحث هو بنفسه عن أجوبة لهذه الأسئلة. ومن هذه الأسئلة التي ترك الله جوابها للإنسان هو السؤال التالي: (هل أتى على الإنسان حين من الدهر لم يكن شيئا مذكورا). (1_ الإنسان).

وأيضا يدل (الذكر) على استحضار في الذهن لأسباب ودوافع حدث ما، رأيته، أو سمعت به، ولكن لا تعلم أسبابه ودوافعه، هذه الدوافع والأسباب تسمى (ذكراً)، كقوله تعالى عن العبد الصالح حين قال لموسى: (قَالَ فَإِنِ اتَّبَعْتَنِي فَلاَ تَسْأَلْنِي عَن شَيْءٍ حَتَّى أُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ ذِكْراً). (70_ الكهف). أي: لا تسأل عن حدث تراه أمامك حتى أحدث لك منه (ذكرا) أي: أحدثك بأسبابه ودوافعه. ويدل (الذِّكْر) أيضا على شيء حديث جديد لم يحدث قط وسوف يحدث في المستقبل، واقتضى التذكير به قبل حدوثه، كالتذكير بيوم القيامة، قال تعالى: (وَكَذَلِكَ أَنزَلْنَاهُ قُرْآناً عَرَبِياًّ وَصَرَّفْنَا فِيهِ مِنَ الوَعِيدِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ أَوْ يُحْدِثُ لَهُمْ ذِكْراً). (113_ طه). وقوله تعالى: (فَذَكِّرْ بِالقرءان مَن يَخَافُ وَعِيدِ). (45_ ق). وقوله تعالى: (إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ لِّلْعَالَمِينَ(87) وَلَتَعْلَمُنَّ نَبَأَهُ بَعْدَ حِينٍ). (88_ ص). وقوله تعالى: (مَا يَأْتِيهِم مِّن ذِكْرٍ مِّن رَّبِّهِم مُّحْدَثٍ إِلاَّ اسْتَمَعُوهُ وَهُمْ يَلْعَبُونَ). (2_ الأنبياء). وقوله تعالى: (وَمَا يَأْتِيهِم مِّن ذِكْرٍ مِّنَ الرَّحْمَنِ مُحْدَثٍ إِلاَّ كَانُوا عَنْهُ مُعْرِضِينَ). (5_ الشعراء). فالذكر (المحدث) هو الذكر الحديث أي: الجديد الذي لم يحدث من قبل قط، وإنما وقوعه وحدوثه سيكون في المستقبل.

ويدل (الذِّكْر) كذلك على استحضار الشيء على اللسان وترديده وتداوله على الألسنة، ومنه قوله تعالى: (فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِّنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِندَ المَشْعَرِ الحَرَامِ وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ). (198_ البقرة). وقوله: (فَإِذَا قَضَيْتُم مَّنَاسِكَكُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آبَاءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْراً). (200_ البقرة). ومنه قوله تعالى عن يوسف وهو في السجن: (وَقَالَ لِلَّذِي ظَنَّ أَنَّهُ نَاجٍ مِّنْهُمَا اذْكُرْنِي عِندَ رَبِّكَ فَأَنسَاهُ الشَّيْطَانُ ذِكْرَ رَبِّهِ فَلَبِثَ فِي السِّجْنِ بِضْعَ سِنِينَ). (42_ يوسف).

ومن اشتقاقات الفعل (ذَكَرَ) في القرءان الكريم: (الذِكْرَى)، و(التَّذْكِرَة)، و(ادَّكَرَ) بالدال، و(مُدَّكِرْ) بالدال.
أما (الذكرى): هي اسم مصدر من فعل (تذكر) الخماسي، وزنه على (فِعلى) بكسر الفاء، ولا يوجد مصدر على هذا الوزن إلا مصدر (ذكرى) فقط، ويسمى المصدر الصريح أو المجرد، أي: هو اسم يدل على حدث مجرد من الزمن، فمثلا حين ترى ابنك لأول وهلة وتفاجأ بأنه يجالس ويخالط رفقاء السوء، وتطلب منه ألا يجالس هؤلاء الرفقاء مرة أخرى، وتبين له مدى الضرر الذي سيلحق به من جراء مخالطته لأولئك الرفقاء، هذا الحدث المجرد عن الزمن وكل ما حدث فيه يسمى (ذكرى)، وتجريد هذا الحدث عن الزمن يدل على أهمية الحدث في ذاته فقط دون أدنى التفات لتوقيته أو زمانه. وهذا الحدث (الذكرى) هو أقرب ما يكون إلى حدث بعينه يشتمل على "نصح وإرشاد" أو حدث رأيته أو سمعت عنه من بدايته لنهايته قد اشتمل على عاقبة حسنة أو سيئة، يتم استحضاره في موقف مشابه له لا يتعداه إلى غيره، وقد دلت كثير من آيات القرءان على هذه الدلالة لكلمة (ذكرى)، فمنها مثلاً قوله تعالى: (وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ وَإِمَّا يُنسِيَنَّكَ الشَّيْطَانُ فَلاَ تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى مَعَ القَوْمِ الظَّالِمِينَ). (68_ الأنعام). فقوله: (بعد الذكرى) أي بعد استحضار الحدث في ذهنك أو في نفسك أو في قلبك، ومنه قوله تعالى عن قصص الأنبياء والرسل: (وَكُلاًّ نَّقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنبَاءِ الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ وَجَاءَكَ فِي هَذِهِ الحَقُّ وَمَوْعِظَةٌ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ). (120_ هود). ومنه قوله تعالى عن أيوب: (فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَكَشَفْنَا مَا بِهِ مِن ضُرٍّ وَآتَيْنَاهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُم مَّعَهُمْ رَحْمَةً مِّنْ عِندِنَا وَذِكْرَى لِلْعَابِدِينَ). (84_ الأنبياء). ومنه قوله تعالى عن القرءان الكريم: (قُل لاَّ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرَى لِلْعَالَمِينَ). (90_ الأنعام). أي: كل ما حواه القرءان من أحداث ومواقف بعينها مجردة عن الزمن اشتملت على "نصح وإرشاد" هو (ذكرى). ومنه قوله تعالى: (وَأَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفاً مِّنَ اللَّيْلِ إِنَّ الحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ). (114_ هود). وقوله: (وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنفَعُ المُؤْمِنِينَ). (55_ الذاريات). وقوله: (وَجِيءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الإِنسَانُ وَأَنَّى لَهُ الذِّكْرَى). (23_ الفجر).

وأما (التذكرة): فهي من اشتقاقات الفعل (ذَكَّرَ) مشدد الكاف، وهي مصدر سماعي للفعل الرباعي (ذَكَّرَ)، فتقول: (ذَكَّرَ تَذْكِرة، وذَكَّرتُه تَذْكِرَةً)، ولا تقول: (ذَكَرَ تذكرة)، والفعل (ذَكَّرَ) مشدد الكاف هو فعل رباعي لأن الكاف مشددة وأصله (ذككر)، واستعيض بالتشديد عن تكرار الكاف، والتذكرة على وزن (تَفْعِلَة)، وهو اسم يدل على افتعال شيء به يحصل الذكر والتذكير، أي: (التذكرة) اسم لما يتذكر به الشيء أو ما يُسْتَذْكَرُ بِه الشيء، وهو يشبه (الآلة أو الدلالة أو الأَمارة أو العلامة)، فالتذكرة أو التذكر يشتمل على آليات الاستذكار، كالخُطبة والوعظ والقصة والمثل والدرس والعلامة والأمارة والتعليم والبحث والاستقصاء بغية الذكر، قال تعالى: (وَيُبَيِّنُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ). (221_ البقرة). وقال: (أَن تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الأُخْرَى). (282_ البقرة). وقال عن القرءان: (مَا أَنزَلْنَا عَلَيْكَ القرءان لِتَشْقَى(2) إِلاَّ تَذْكِرَةً لِّمَن يَخْشَى). (3_ طه). وقال عن فرعون: (فَقُولا لَهُ قَوْلاً لَّيِّناً لَّعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى). (44_ طه). وقال عن عمر الإنسان: (أَوَ لَمْ نُعَمِّرْكُم مَّا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَن تَذَكَّرَ وَجَاءَكُمُ النَّذِيرُ). (37_ فاطر). وقال عن نار الدنيا: (أَفَرَأَيْتُمُ النَّارَ الَتِي تُورُونَ(71) أَأَنتُمْ أَنشَأْتُمْ شَجَرَتَهَا أَمْ نَحْنُ المُنشِئُونَ(72) نَحْنُ جَعَلْنَاهَا تَذْكِرَةً وَمَتَاعاً لِّلْمُقْوِينَ). (73_ الواقعة). وقال عن سفينة نوح: (إِنَّا لَمَّا طَغَا المَاءُ حَمَلْنَاكُمْ فِي الجَارِيَةِ(11) لِنَجْعَلَهَا لَكُمْ تَذْكِرَةً وَتَعِيَهَا أُذُنٌ وَاعِيَةٌ). (12_ الحاقة). وقال عن وصف القيامة: (فَكَيْفَ تَتَّقُونَ إِن كَفَرْتُمْ يَوْماً يَجْعَلُ الوِلْدَانَ شِيباً(17) السَّمَاءُ مُنفَطِرٌ بِهِ كَانَ وَعْدُهُ مَفْعُولاً(18) إِنَّ هَذِهِ تَذْكِرَةٌ فَمَن شَاءَ اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلاً). (19_ المزمل). وقال عمن يعرض عن التذكرة: (فَمَا لَهُمْ عَنِ التَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ(49) كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ مُّسْتَنفِرَةٌ(50) فَرَّتْ مِن قَسْوَرَةٍ). (51_ المدثر). وقال عن خلق الإنسان وشد أسره: (نَحْنُ خَلَقْنَاهُمْ وَشَدَدْنَا أَسْرَهُمْ وَإِذَا شِئْنَا بَدَّلْنَا أَمْثَالَهُمْ تَبْدِيلاً(28) إِنَّ هَذِهِ تَذْكِرَةٌ فَمَن شَاءَ اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلاً) (29_ الإنسان).

وأما (ادَّكَرَ) و (مُّدَّكِرٍ) بالدال في قوله تعالى: (وَقَالَ الَّذِي نَجَا مِنْهُمَا وَادَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ أَنَا أُنَبِّئُكُم بِتَأْوِيلِهِ فَأَرْسِلُونِ). (45_ يوسف) وقوله: (وَلَقَدْ يَسَّرْنَا القرءان لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِن مُّدَّكِرٍ). (17_ القمر). (ادَّكَرَ) بالدال المهملة أصلها (اذتكر) و(اذدكر)، وهي على وزن (افتعل) من الذكر. و(مُدَّكِرْ) أصلها (مذتكر) و(مذدكر) وهي على وزن (مفتعل) من الذكر، وقلبت التاء في (اذتكر) إلى دال لثقل الكلمة على اللسان ولتقارب مخرجيهما، وقلبت الذال إلى دال في (اذدكر) ليتأتي إدغامها في الدال لأن الدال أخف على اللسان من الذال. وهنا يثور سؤال: ما الفرق بين (ذَكَرَ) و(ادَّكَرَ). الجواب: إن (الذِكْر) أمر يسير لا يحتاج إلى جهد ومشقة، أما (الادكار) أو (الاذدكار) أو (الاذتكار) فعلى وزن (افتعال)، وهو يدل على الطلب والتحصيل والتكلف والجهد والمشقة في فعل الشيء، ومن هنا كان قول الله عن القرءان الكريم: (وَلَقَدْ يَسَّرْنَا القرءان لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِن مُّدَّكِرٍ). (17_ القمر)، يدل على أن القرءان الكريم يحمل يسرا وسهولة في جانب منه، ويحتاج إلى طلب وتحصيل وتكلف وجهد ومشقة في الجانب الآخر، فقوله: (لقد يسرنا القرءان للذكر)، أي: للترديد والتلاوة والحفظ، بحيث نجد كثيرا من الأطفال في كثير من بلدان العالم الإسلامي يحفظون القرءان الكريم كاملا وهم لا يتجاوزن العاشرة من أعمارهم، هذا بالنسبة للقرآن كذكر مُيَسَّرْ، أما قوله: (فهل من مدكر)، أي: (مذدكر) أو (مذتكر)، على وزن (مفتعل)، أي: يحتاج إلى (افتعال) أي: يحتاج إلى طلب وتحصيل وتكلف وجهد ومشقة عن طريق البحث والمدارسة والاستقصاء والتعليم والتعلم. وواضح أن اختيار الحق سبحانه لصيغة (مفتعل) في قوله: (فهل من مُدَّكِر) مناسب لفهم مدلولات وحقائق ومفاهيم القرءان الكريم لما يلزم الوصول لهذا من طلب وتحصيل ومشقة وجهد وتكلف، ويدل على هذا قوله تعالى لبني إسرائيل: (خُذُوا مَا آتَيْنَاكُم بِقُوَّةٍ وَاذْكُرُوا مَا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ). (171_ الأعراف). وقوله لموسى: (وكَتَبْنَا لَهُ فِي الأَلْوَاحِ مِن كُلِّ شَيْءٍ مَّوْعِظَةً وَتَفْصِيلاً لِّكُلِّ شَيْءٍ فَخُذْهَا بِقُوَّةٍ). (145_ الأعراف). وقال ليحيى: (يَا يَحْيَى خُذِ الكِتَابَ بِقُوَّةٍ). (12_ مريم).

وكثير من القرءانيين وغيرهم يرددون هذه الآية الكريمة: (وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ). ثم يقولون هذه الآية تقطع بأن (القرءان الكريم) سهل جداً وواضح جداً وميسر جدا ولا يحتاج إلى بيان ولا إلى توضيح من خارجه، ويقولون كيف تمنعون الناس من تدبر القرءان وفهمه بأنفسهم؟، فنحن لسنا بحاجة إلى متخصصين في أي شيء كي يفهمونا القرءان، ويقولون بل يستطيع أي شخص يجيد القراءة والكتابة أن يتبين القرءان ويفهم مدلولاته بسهولة ويسر. لكن الواقع يخالف هذا تماما، إذ ما أن يبدأ أحدهم في فهم نصوص "القرءان" إلا ويجد نفسه يصطدم بمئات الكلمات والمفردات والأحداث والأحكام والتشريعات وووو....إلخ، التي تستعصي على البيان وعلى فهم مدلولاتها بسهولة ويسر. فيصبح المرء في حيرة من أمره، هل "القرءان الكريم" ميسر للفهم والذكر وفق فهم القرءانيين لهذه الآية؟، أم أن فهم "القرءان الكريم" لابد له من طلب وتحصيل وتكلف وجهد ومشقة عن طريق البحث والمدارسة والاستقصاء والملاحظة والاستقراء والتعليم والتعلم ووووو.....إلخ كما جاء في آخر الآية (فهل من مدَّكر)؟.

الجواب كما سبق القول: إن المقصود بقوله تعالى: (لقد يسرنا القرءان للذكر)، أي: للترديد والتلاوة وسهولة الاستحضار في الذهن، بحيث نجد كثيرا من الأطفال في كثير من بلدان العالم الإسلامي يحفظون القرءان الكريم كاملا وهم لا يتجاوزن العاشرة من أعمارهم، وأيضا نجد آيات القرءان الكريم مصاغة بطريقة تسهل استحضارها في الذهن بسرعة حتى دون حفظ، فنجد مثلا جموع الناس بمحض سماعهم لمقرئ يقرأ القرءان إلا ويرددون معه دون حفظ منهم للقرءان لسهولة صياغته ويسرها، هذا بالنسبة للقرآن كذكر مُيَسَّرْ، أما قوله: (فهل من مدكر)، فهذا أمر آخر مختلف تماما، أي: (مذدكر) أو (مذتكر)، على وزن (مفتعل)، أي: يحتاج إلى (افتعال) أي: يحتاج إلى طلب وتحصيل وتكلف وجهد ومشقة عن طريق البحث والمدارسة والاستقراء والملاحظة والكشف والمقارنة والاستقصاء والتعليم والتعلم، فليس الأمر بهذه السهولة والبساطة التي يروج لها القرءانيون.

نخلص من كل ما تقدم بأن الفعل (ذَكَرَ) ومشتقاته تدل على الآتي:

• الفعل (ذَكَرَ) يدل على حضور شيء في غلظة وصرامة وصلابة وشدة في هيئته وحقيقته.
• ومن اشتقاقات الفعل (ذكر): الحضور والصِيتٍ والشُهْرة َوالفخر.
• ومن اشتقاقات الفعل (ذكر): (الذَّكَر) الذي هو مقابل (الأنثى).
• ومن مشتقات الفعل (ذَكَرَ): (الذِكْر)، الذي يدل على: استحضار صورة وهيئة الشيء في الذهن أو في النفس أو في القلب، ولا يدل (الذكر) مطلقا على حضور مادي لشيء بمفرده، فكأنه يتعلق في جانب منه بالأفكار والتصورات والدلالات والمفاهيم والمعاني المتعلقة بأمر مادي ما أو حدث مادي ما، أي أنه: يدل على الحضور المعنوي للأشياء المذكورة وتطابقها مع الحضور المادي، والحضور المعنوي مكانه الذهن والنفس والقلب، وهو ضد النسيان، قال تعالى: (فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ) (165_ الأعراف).
• وأن (الذِّكْر) قد يأتي في مقابل (الضلال) وليس في مقابل (النسيان)؟، إذا كان النسيان يغلب عليه الخلط والاختلاط الذي بمعنى الضلال، وهو النسيان الذي يكون نتيجة قصور علمي ومعرفي فرضته البيئة المحيطة والواقع الثقافي والاجتماعي.
• ويدل (الذكر) على استحضار شيء في الذهن قد حدث بالفعل ونسيه الإنسان ثم ذكره، كقوله تعالى: (وما أنسانيه إلا الشيطان أن أذكره). (63_ الكهف).
• ويدل (الذكر) على استحضار في الذهن لتفاصيل حدث ما حدث في الماضي، أو أمر ما وقع في الماضي، سمعت به ولكن لا تعلم تفاصيله، هذه التفاصيل غير المعلومة تسمى (ذكراً)، كقوله تعالى: (وَيَسْأَلُونَكَ عَن ذِي القَرْنَيْنِ قُلْ سَأَتْلُو عَلَيْكُم مِّنْهُ ذِكْراً). (83_ الكهف).
• ويدل (الذكر) على استحضار في الذهن لأسباب ودوافع حدث ما، رأيته أو سمعت به، ولكن لا تعلم أسبابه ودوافعه، هذه الدوافع والأسباب تسمى (ذكراً)، كقوله تعالى عن العبد الصالح حين قال لموسى: (قَالَ فَإِنِ اتَّبَعْتَنِي فَلاَ تَسْأَلْنِي عَن شَيْءٍ حَتَّى أُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ ذِكْراً). (70_ الكهف). أي: لا تسأل عن حدث تراه أمامك حتى أحدث لك منه (ذكرا) أي: أحدثك بأسبابه ودوافعه.
• ويدل (الذِّكْر) على شيء حديث جديد لم يحدث قط وسوف يحدث في المستقبل، واقتضى التذكير به قبل حدوثه، كالتذكير بيوم القيامة، قال تعالى: (وَكَذَلِكَ أَنزَلْنَاهُ قُرْآناً عَرَبِياًّ وَصَرَّفْنَا فِيهِ مِنَ الوَعِيدِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ أَوْ يُحْدِثُ لَهُمْ ذِكْراً). (113_ طه).
• ويدل (الذِّكْر) على استحضار الشيء على اللسان وترديده وتداوله على الألسنة، ومنه قوله تعالى: (فَإِذَا قَضَيْتُم مَّنَاسِكَكُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آبَاءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْراً). (200_ البقرة). وقوله تعالى عن يوسف وهو في السجن: (وَقَالَ لِلَّذِي ظَنَّ أَنَّهُ نَاجٍ مِّنْهُمَا اذْكُرْنِي عِندَ رَبِّكَ فَأَنسَاهُ الشَّيْطَانُ ذِكْرَ رَبِّهِ فَلَبِثَ فِي السِّجْنِ بِضْعَ سِنِينَ). (42_ يوسف).
• ومن اشتقاقات الفعل (ذَكَرَ)، (الذِكْرَى)، وهي: حدث بعينه يشتمل على "نصح وإرشاد" أو حدث رأيته أو سمعت عنه من بدايته لنهايته قد اشتمل على عاقبة حسنة أو سيئة، يتم استحضاره في موقف مشابه له لا يتعداه إلى غيره. ومنه قوله تعالى: (وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ وَإِمَّا يُنسِيَنَّكَ الشَّيْطَانُ فَلاَ تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى مَعَ القَوْمِ الظَّالِمِينَ). (68_ الأنعام).
• ومن اشتقاقات الفعل (ذَكَرَ)، (التذكرة)، وهي: اسم يدل على افتعال شيء به يحصل الذكر والتذكير، أي: (التذكرة) اسم لما يتذكر به الشيء أو ما يُسْتَذْكَرُ بِه الشيء، وهو يشبه (الآلة أو الدلالة أو الأَمارة أو العلامة)، فالتذكرة أو التذكر يشتمل على آليات الاستذكار، كالخُطبة والوعظ والقصة والمثل والدرس والعلامة والأمارة والتعليم والبحث والاستقصاء بغية الذكر، قال تعالى عن نار الدنيا: (أَفَرَأَيْتُمُ النَّارَ الَتِي تُورُونَ(71) أَأَنتُمْ أَنشَأْتُمْ شَجَرَتَهَا أَمْ نَحْنُ المُنشِئُونَ(72) نَحْنُ جَعَلْنَاهَا تَذْكِرَةً وَمَتَاعاً لِّلْمُقْوِينَ). (73_ الواقعة).
• ومن اشتقاقات الفعل (ذَكَرَ)، (ادَّكَرَ) و (مُّدَّكِرٍ) بالدال، و(الادكار) أو (الاذدكار) أو (الاذتكار) فعلى وزن (افتعال)، وهو يدل على الطلب والتحصيل والتكلف والجهد والمشقة في فعل الشيء، ومنه قول الله عن القرءان الكريم: (وَلَقَدْ يَسَّرْنَا القرءان لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِن مُّدَّكِرٍ). (17_ القمر).

ونخلص من كل ما تقدم بمفهوم جامع شامل للفعل (ذَكَرَ) ومشتقاته على النحو التالي:
فيما سبق تبين لنا من خلال لسان قوم الرسول الذي نزل به الكتاب الكريم، ومن خلال نصوص الكتاب الكريم أن الفعل "ذَكَرَ" وجميع مشتقاته يدل على حضور أو استحضار لهيئة أو صورة ذهنية نفسية قلبية لشيء له وجود مادي حقيقي تتطابق معه وتدل عليه وتشير إليه، ويكون حضوره (ذكراً) بهيئته وصورته في النفس أو في الذهن أو في القلب أو على اللسان، سواء لشيء حدث في الماضي أو لشيء سيحدث في المستقبل، وهو ضد النسيان وضد الضلال الذي بمعنى الخلط والاختلاط الذي يكون نتيجة قصور علمي ومعرفي، ولا يدل (الذِكْر) مطلقا على هيئة وصورة ذهنية قلبية نفسية فقط لشيء ما، إنما لابد وأن يكون معه الحضور المادي لذات الشيء المذكور، فكأن الذكر لا يتعلق فقط بالأفكار والتصورات والدلالات والمفاهيم والمعاني المجردة المتعلقة بأمر مادي ما أو حدث مادي ما، إنما يدل على الحضور المعنوي للأشياء المادية المذكورة في صورة وهيئة ذهنية نفسية قلبية تدل وتتطابق مع الحضور المادي ذاته، والحضور المعنوي مكانه الذهن والنفس والقلب، وأما ذكر اللسان فليس هو ذات الذكر إنما جُعِل اللسان آلة لنقل صورته وهيئته الذهنية النفسية القلبية وحمله عبر الكلمات إلى الآخرين لتثبيته في النفس والقلب، فكأن الذكر يجمع بين مكونين أساسيين لا ينفصلان عن بعضهما، الأول: واقع مادي حقيقي، والثاني: صورة ذهنية نفسية قلبية تتطابق معه وتدل عليه وتشير إليه. هذه الصورة الذهنية قد تأتي في شكل (خبر، أو نبأ، أو كلام، أو قصص، أو موعظة، أو غيرها)، ولو فقد الذكر أحد هذين المكونين الأساسيين فلا يعد ذكراً).

وهنا قد يثور في ذهن القارئ سؤال مهم يقول: إذا كانت دلالة الفعل "ذَكَرَ" وجميع مشتقاته تدل على الحضور المعنوي لشيء مادي وليس الحضور المادي ذاته فقط فما علاقة هذا المفهوم بالغلظة والصرامة والصلابة والشدة الواردة في دلالة هذا الفعل كدلالته مثلا على (شدة الحديد ويبوسته) وعلى غلظة وقوة وشدة (الذَّكَر الذي هو مقابل الأنثى) وغيرها؟. الجواب هو: لأن كل ما يتم حضوره واستحضاره في الذهن والقلب والنفس من أشياء لا يعد شيئا منها (ذِكْراً) ولا يصلح أن نطلق عليه اسم (ذِكْر) إلا إذا كانت هيئة أو صورة ذلك الشيء (المذكور) الذهنية والنفسية والقلبية لها وجود حقيقي موضوعي وآثار علمية يقينية مغلظة وصارمة وصلبة وشديدة الوضوح والجلاء، فينتج عن المطابقة بين الهيئة أو الصورة الذهنية وبين الوجود الموضوعي الحقيقي (ذِكْر) أي هيئة أو صورة في النفس والذهن والقلب مستمدة من أشياء مادية حقيقة لها وجود موضوعي حقيقي، أي: إن صلابة حضور الشيء ووضوحه وغلظة وقوعه وصرامة حدوثه أصبح في الذهن كحقيقة علمية قطعية يقينية على هيئة أو صورة ذهنية نفسية قلبية، فكما أن هناك حقائق علمية يقينية لها هيئة أو صورة مادية ملموسة مرئية محسوسة، فهناك أيضا حقائق علمية يقينية عبارة عن هيئة أو صورة ذهنية نفسية قلبية مستمدة من أشياء مادية حقيقة كان لها أو مازال لها وجود حقيقي موضوعي أو سيكون لها وجود مادي موضوعي حقيقي إلا أن لها هيئة أو صورة في الذهن والقلب والنفس.

والآن نعود إلى سؤالنا الرئيس في هذا الفصل ألا وهو:

هل حفظ الله الكتاب؟ أم القرءان؟ أم الذكر؟:

يقول تعالى: (إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ). (9_ الحجر). من يقوم بتلاوة هذه الآية بتمعن سيجد أن هناك سؤالا كبيرا يطرح نفسه على هذه الآية ألا وهو: لماذا قال الحق سبحانه: (إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ). ولماذا لم يقل: (إنا نحن نزلنا القرءان وإنا له لحافظون). أو لماذا لم يقل: (إنا نحن نزلنا الكتاب وإنا له لحافظون). ولماذا اختص الحق سبحانه (الذكر) بالحفظ دون القرءان ودون الكتاب؟. وللجواب على هذا السؤال الهام أقول: هذه الآية كما هو واضح من مفرداتها أن الحق سبحانه تكفل بحفظ (الذِّكْر) فقط وليس حفظ القرءان وليس حفظ الكتاب. وهنا قد يعترضني القارئ بسؤال مشروع: وهل من فرق بين: (الكتاب) و(القرءان) و(الذكر)؟ أليس الذكر هو القرءان وهو الكتاب؟، للجواب على هذا السؤال أقول: لا، الذكر ليس هو القرءان وليس هو الكتاب، وهنا قد يعترضني القارئ الكريم بسؤال مشروع آخر ألا وهو: فماذا يكون (الذكر) الذي تكفل الله بحفظه؟ وما الفرق بينه وبين الكتاب والقرءان؟.

للجواب على هذه الأسئلة أقول: لا يمكننا القول أن الذكر المحفوظ هو الكلمات والحروف المخطوطة في كتاب المصحف الكريم أي: ليس هو الصياغة اللسانية أو الصياغة اللغوية لكتاب القرءان الكريم، وللأسف الشديد أن أكثر المسلمين في الماضي والحاضر إن لم يكن جميعهم قد اعتقدوا أن الله قد تكفل بحفظ كلمات وحروف الكتاب الكريم المخطوطة في المصحف الشريف، بل إن المهندس "محمد شحرور" في كتابه: (الكتاب والقرءان) أكد أن الله قد تكفل بحفظ الصيغة اللغوية للكتاب، أي: كلمات وحروف الكتاب الكريم، فقال شحرور: (الذكر هو الصيغة اللغوية الإنسانية للكتاب كله والذي جاء بلسان عربي مبين وهو الصيغة التعبدية بغض النظر عن فهم المضمون وهو الذي تكفل الله بحفظه وهو محدث كله) انتهى.
المصدر: محمد شحرور، "الكتاب والقرءان".

لقد علمنا وتيقنا من كلمات النص الكريم: (إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون). أن الذي تكفل الله بحفظه هو (الذِّكْر) وليس القرءان وليس الكتاب، لماذا؟، لأن (القرءان) ليس هو كلمات وحروف كتاب المصحف الشريف، وإنما هو صفة لمحتويات هذا الكتاب، وكذلك (الذكر) ليس هو كلمات وحروف كتاب المصحف الشريف، ولنبدأ الآن في تفصيل ماهية (الكتاب) وماهية (القرءان) وماهية (الذكر) على النحو التالي:

أولا: الكتاب:
بداية لا أريد هنا التوسع والتفصيل في مدلولات ومفاهيم أسماء وصفات كتاب (القرءان الكريم)، فلي كتاب لم أنشره بعد، حول: (كتاب القرءان الكريم: أسماؤه، صفاته، موضوعاته)، ويحوي ردا مفصلا على كتاب: (الكتاب والقرءان) للمهندس محمد شحرور، سوف أقوم بنشر فصوله تباعا في حينه إن شاء الله. وفي موجز مختصر أقول الكتاب: هو مجموعة من موضوعات عدة تم جمع بعضها إلى بعض ومن ثم تم خطها على أوراق أو على أي شيء مما يستخدمه الناس في خط موضوعاتهم، تلك الموضوعات التي يتم جمع بعضها إلى بعض ثم يتم خطها على أوراق هي (كتاب). وليس شرطا أن نطلق مسمى (كتاب) على عدة موضوعات مخطوطة على أوراق مجموع بعضها إلى بعض، فقد تكون تلك الموضوعات مثلا في علم الله وحده، وهي أيضا تسمى (كتاب)، ككتاب الأجل، قال تعالى: (لكل أجل كتاب)، وقد يكون مدلول كلمة كتاب يتعلق بمجموعة الأوامر والنواهي والضوابط التي تخص شعيرة من الشعائر أو عبادة من العبادات ككتاب مواقيت الصلاة مثلا في قوله تعالى: (إن الصلاة كانت على المؤمنين كتابا موقوتا). أيضا لا يعني مدلول (كتاب) أن تكون موضوعاته في شئون مختلفة ومتفرقة، بل قد يكون الكتاب في موضوع واحد ولكن فيه عدة تفصيلات لذلك الموضوع، ومنه مثلا: (كتاب الدَّيْن)، وسمي الدَّيْن كتاباً لأنه يضم مجموعة من الاتفاقات والشروط والمواقيت والعد والإحصاء الخاصة بحجم الدَّيْن وتسلمه واستلامه وسداده، ويضم أيضا شهادة الشهود وغيرها من موضوعات تتعلق بالدَّيْن، قال تعالى: (يا أيها الذين آمنوا إذا تداينتم بدين فاكتبوه). وعليه فكتاب: (المصحف الشريف) أو كتاب: (القرءان الكريم) هو عبارة عن جمع لموضوعات عدة تم تضمينها وخطها في هذا الكتاب، فسمي هذا الكتاب: (القرءان الكريم) أو (كتاب الله).

والسؤال الآن: هل هذا الكتاب (القرءان الكريم) من حيث كونه (حروف وكلمات) هل تكفل الله بحفظه؟، الجواب: بكل تأكيد (لا)، لم يتكفل الله سبحانه بحفظ (كلمات وحروف) كتاب (القرءان الكريم) كما يظن كافة المسلمين، لماذا؟، لأن الله لم يقل: (إنا نحن نزلنا الكتاب وإنا له لحافظون). وإنما قال: (إن نحن نزلنا الذكر وإن له لحافظون). و(الذَّكْر) قطعا ليس هو (كلمات وحروف) كتاب (القرءان الكريم)، إذ لو قلنا أن الله قد تكفل بحفظ الكتاب الذي هو (كلمات وحروف) القرءان الكريم، لأصبح هذا الحفظ حفظا إلهياً مطلقاً وفيه تحدٍ وتعجيز لأي مخلوق ولأي شيء في هذا الكون أن يبدل فيه أو يغير حرفا واحداً سواء بالزيادة أو بالنقصان، ولانتفى حتما وقطعا وجود أي تغيير أو تبديل لا بالزيادة ولا بالنقصان في حرف واحد منه لا في داخل الكتاب ولا في خارجه على الإطلاق، وأضرب مثلا على العجز البشري في مقابل التحدي الإلهي بخلق (الذباب)، فقد تحدى الله الإنس والجن وتحدى معبوداتهم التي يعبدونها من دون الله تحديا صريحا لا لبس فيه ولا غموض في أن يخلقوا (ذبابا)، قال تعالى: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ لَن يَخْلُقُوا ذُبَاباً وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ وَإِن يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئاً لاَّ يَسْتَنقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ). (73_ الحج). هذا التحدي التعجيزي قائم منذ ألف وأربعمائة عام وسيظل قائما إلى ما شاء الله، ولن يستطيع الإنس والجن ولو اجتمعوا أن يخلقوا ذبابا، هذا هو مفهوم التحدي والتعجيز الإلهي الذي لا يمكن للإنس والجن ولو اجتمعوا له أن يتحدوه ويفعلوه.

ولي هنا وقفة قصيرة، ألا وهي: قد يتبادر إلى ذهن القارئ سؤال يقول: أنه قد ورد في بعض نصوص القرءان الكريم أن الله قال عن (المسيح عيسى بن مريم): (أَنِّي أَخْلُقُ لَكُم مِّنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْراً بِإِذْنِ اللَّهِ). أليس هذا تعارضا مع آية التحدي في خلق (ذبابا)؟، الجواب: إن الآيتين التي ورد فيهما هذا الموضوع (آية سورة آل عمران: "49") و(آية سورة المائدة: "110" )، لي معهما وقفة مطولة في أحد فصول كتابي: (الجهاز العلمي في الإنسان)، وسوف أنشر فصوله تباعا في حينه إن شاء الله، وما يمكنني قوله الآن في هذه اللفتة القصيرة: أن آيتي خلق المسيح بن مريم من الطين كهيئة الطير كان هذا الخلق (بإذن الله)، أما آية التحدي بخلق (ذبابا) فقد جاء فيها قوله تعالى: (مِن دُونِ اللَّهِ)، فهنا فرق كبير بين قوله: (بإذن الله) وبين قوله: (من دون الله). فتأمل.

وعليه فلو قلنا أن الله قد تكفل بحفظ كتاب (القرءان الكريم) كحروف وكلمات لأصبح وجود حرف واحد زائد أو ناقص في كلمة واحدة من كلمات الكتاب سواء في داخل الكتاب أو في خارجه أمرا تعجيزيا وتحديا إلهيا مطلقا للإنس والجن لا يمكنهم فعله حتى ولو اجتمعوا له، كما هو الحال في التحدي التعجيزي في أن يخلقوا (ذبابا). وبالتالي فلو قلنا أن الله سبحانه قد تكفل بحفظ كتاب (القرءان الكريم) كحروف وكلمات سنغدو أمام خيارين أحلاهما مر، الأول: إما أن نصدق الله ونكذب الواقع. والثاني: إما أن نصدق الواقع ونكذب الله. فالواقع الذي لا يستطيع أحد إنكاره إلا مشعوذ أو دجال أو درويش يقول: إن أقدم نص لكتاب (القرءان الكريم) موجود في العالم بأجمعه الآن هو (مصاحف عثمان بن عفان)، وقد أجمعت الروايات التاريخية بلا استثناء في كل مراجع التاريخ أن الخليفة الثالث (عثمان ابن عفان) هو من جمع الأمة المسلمة على هذه (المصاحف) بعد أن نسخها في عدة نسخ وقام بتوزيعها على جميع الأمصار، وأصدر أمرا للأمة بحرق ما لديهم من مصاحف أخرى، وقد كان، فلم يتبق لنا الآن سوى بعض نسخ مصاحف عثمان التي وزعها على الأمصار وتم نسخ جميع المصاحف الموجودة في العالم الآن من هذه النسخ (العثمانية).

ولكن المصاحف التي أمر (عثمان بن عفان) بنسخها وتوزيعها على كافة الأمصار، كانت بلا (تشكيل) وبلا (تنقيط)، فكانت جميع كلمات مصحف (عثمان) على سبيل المثل: (تَقُولُونَ) (تَعْلَمُونَ). كانت بلا هذه النقط وبلا هذا التشكيل فوق وتحت الحروف، فكان من الممكن مثلا لمن لا يعرف اللسان العربي أن يتلو مثل هذه الكلمات: (يقولون) بدلا من (تقولون)، و(يعلمون) بدلا من (تعلمون) هذا من ناحية تلاوت صوت الحروف، أما من ناحية تلاوة إمالة صوت (تشكيل) الحرف فكان من الممكن مثلا أن من لا يجيد اللسان العربي أن يتلو هذه الكلمة: (الله) بالكسر، أن يتلوها: (اللهُ) بالرفع، أو (اللهَ) بالنصب، وكذلك كلمة (من) من الممكن أن تكون: (مَنْ) بفتح الميم، أو (مِنْ) بكسر الميم، أو (مَنَّ) بتشديد النون، وكما هو معلوم للجميع أن تشكيل الكلمة في لسان قوم الرسول يحدد بصورة قطعية دلالة الكلمة، وبدون هذا التشكيل الآن لا يمكننا معرفة دلالات الكلمات ولا إلى ماذا تشير، فالكلمة في لسان قوم الرسول الذي نزل به القرءان لها جهات لسانية (لغوية) أربع هي: (الصوت)، (البنية)، (التركيب)، (الدلالة)، وبدون علم هذه الجهات الأربع للكلمة فلن يكون هناك فهم على الإطلاق لأي كلمة من كلمات لسان قوم الرسول الذي نزل به كتاب (القرءان الكريم).

وهنا قد يرد في ذهن القارئ الكريم سؤال هام يقول: كيف تغلب "عثمان بن عفان" والمسلمون في ذلك الوقت على مشكلة (عدم وجود تنقيط أو تشكيل) لكلمات المصاحف التي نسخها (عثمان بن عفان) وقام بتوزيعها على الأمصار في حين أن أغلب الأمصار المفتوحة في ذلك الوقت لم تكن تجيد تلاوة لسان (لغة) قوم الرسول؟، الجواب على هذا السؤال الهام قد أجاب عليه (ابن الجزري) في كتابه: (النشر في القراءات العشر)، وقد صاغه الدكتور (علاء الحمزاوي) في دارسة له بعنوان: (الخصائص اللغوية لقراءة حفص)، حيث قال: (ثبت أن عثمان كتب ثمانية مصاحف وأرسلها إلى الأمصار الإسلامية، ومع كل مصحف أرسل مقرئا يقرئ الناس؛ ليستمر السماع والمشافهة هما الأساس لقبول القراءة واعتمادها ؛ ومن ثم لم يعتمد المسلمون قط على خط المصحف. وكان ممن أرسلهم عثمان إلى الأمصار أبو عبد الرحمن السلمي وزر بن حبيش، حيث أرسلهما إلى الكوفة، وعلى أيديهما تلقّي أهل الكوفة قراءاتهم. وفي آخر عصر التابعين تجردت طائفة للقراءة والإقراء؛ حيث اعتنوا كثيرا بضبط التلاوة والأداء؛ فصاروا في ذلك أئمة يقتدي بهم ويرحل إليهم، ويؤخذ عنهم، فنسبت القراءة إليهم، وهم أبو جعفر ونافع في المدينة وابن كثير في مكة وابن عامر في الشام وأبوعمرو ويعقوب في البصرة وعاصم وحمزة والكسائي في الكوفـة). انتهى

وهنا سيفاجأ القارئ الكريم بأمر قد يثير دهشته إذا عرف أن المصاحف الثمانية التي تم نسخها بأمر (عثمان بن عفان) وتم توزيعها على الأمصار في عهده فيها اختلافات كثيرة بالزيادة والحذف والتغيير ليس في (التنقيط أو التشكيل) إنما في خط الأحرف والكلمات، ما أكده وأثبته ثبوتا لا شك فيه الدكتور (علاء الحمزاوي) رئيس قسم اللغة العربية في كلية الآداب جامعة المنيا، في دراسته: (الخصائص اللغوية لقراءة حفص)، حيث قال في دراسته تحت عنوان فرعي "هل بين المصاحف العثمانية من اختلاف؟": (حيث ثبت ثبوتا لاشك فيه أن بين المصاحف العثمانية اختلافا سمح باستيعاب القراءات المتواترة التي أقرّها عثمان، ويبدو هذا الاختلاف في المواضع التي لا يحتملها الخط، أعني بذلك مواضع الزيادة والحذف والتغيير، ومن ذلك قوله تعالي: (فتوكل) بالفاء، (وتوكل) بالواو، و(فإن الله هو الغني)، (فإن الله الغني) بإثبات الضمير وحذفه، ويبدو أن علماءنا السالفين قد لحظوا هذا الاختلاف؛ فألفوا في ذلك مؤلفات، منها (اختلاف مصاحف أهل المدينة وأهل الكوفة وأهل البصرة) للكسائي. ولعل هذا لا يخالف قول د.عبد الصبور شاهين: "كل قراءة صحيحة لابد أن تتفق مع الرسم، فالرسم يسعها جميعا، وما لم يسعه فهو شاذ، لا يؤخذ به لا قراءة ولا احتجاجا"، فلعل مقصده من الرسم الجنس لا التوحيد، أي رسم جميع المصاحف الثمانية). وأضاف: (مثلا ـ في قراءة حفص: (عملته أيدينا) في سورة (يس 35)، حيث قرأها بالهاء، وهي من غير هاء في مصاحف الكوفة، _أي: (عملت أيدينا)_، وعليه قراءة الكوفيين سوي حفص. ولعل ابن الجزري قد أشار إلى هذا الاختلاف حينما أرسي شروط قبول القراءة؛ فذكر عبارة (موافقة أحد المصاحف العثمانية) ولم يقل: "موافقة المصحف العثماني") انتهى.
راجع: "الخصائص اللغوية لقراءة حفص": الدكتور: علاء الحمزاوي، رئيس قسم اللغة العربية كلية الآداب جامعة المنيا.

أقول: وقد اختلف الرواة في عدد مصاحف عثمان، فقيل إن المصاحف أربعة وقيل خمسة وقيل ستة وقيل سبعة وقيل ثمانية بل قيل تسعة، يقول السيوطي: (أُختُلف في عدة المصاحف التي أَرسلَ بها عثمان إلى الآفاق، المشهور أنها خمسة وأخرج ابن أبي داود من طريق حمزة الزيات قال: أرسلَ عثمان أربعة مصاحف، قال ابو داود: وسمعت أبا حاتم السجستاني يقول: كتب سبعة مصاحف فأرسل إلى مكة، والشام، وإلى اليمن، وإلى البحرين، وإلى البصرة، وإلى الكوفة، وحبس بالمدينة واحدا) انتهى. (الإتقان، جلال الدين السيوطي)، (1/132)، (الكتب العلمية -بيروت ط 1415.3ه).

وحاول أحد الباحثين أن يبرر الاختلافات بين نسخ مصاحف عثمان بقوله: (فمسألة الاختلاف الموجود في نسخ المصاحف العثمانية لم تكن من فعل الكتاب على هواهم، بل لأمور متحققة عندهم. ومن ذلك أن المصحف أول ما كتب زمن سيدنا أبي بكر، كتب في نسخة واحدة تشمل الأحرف السبعة، وحين أراد سيدنا عثمان أن يقطع دابر الخلاف، فرق الأحرف "السبعة" في المصاحف، وما قام به أبو عمرو سعيد بن عثمان الداني، وأبو داوود السجستاني ما هو إلا وصف لكيفية رسم المصاحف التي كتبت زمن سيدنا عثمان) انتهى.
المصدر: د.حسن عبد الجليل عبد الرحيم العبادلة: أستاذ مشارك في علوم القرآن الكريم والقراءات القرآنية، رئيس قسم العلوم الأساسية، جامعة البلقاء التطبيقية، الأردن.

## تنقيط وتشكيل كلمات كتاب "القرءان الكريم":

أجمعت روايات التاريخ أن أول من جمع القرءان الكريم هو خليفة رسول الله (أبو بكر الصديق) بعيد حروب الردة، خوفاً من ضياع شئ من القرءان الكريم، حيث استشهد الكثير من حفظة الكتاب الكريم، وقد تم خط كلمات الكتاب الكريم دون تنقيط ولا تشكيل، ثم جمع الخليفة (عثمان بن عفان) الأمة على المصاحف الثمانية التي أمر بخطها ونسخها وتوزيعها على الأمصار، وأمر بحرق ما سواها، وهناك اختلافات كثيرة بين روايات التاريخ حول أول من قام بتنقيط وتشكيل كلمات الكتاب الكريم، فقد ذكرت بعض روايات التاريخ أن (علي بن أبي طالب) هو من أمر أبا (الأسود الدؤلي) بأن يشكل كلمات القرءان الكريم بطريقة التنقيط الملون، إذ جعل لكل حركة من حركات التشكيل نقطة مختلفة اللون، ثم تحول التشكيل إلى الحالة التي نعرفها اليوم. وذكرت أيضا روايات التاريخ أن أول من اتخذ قراراً بتشكيل وتنقيط كلمات المصحف هو (الحجاج بن يوسف الثقفي)، الذي تولى ولاية (البصرة) في عام (75) هجرية، في عهد الخليفة عبد الملك بن مروان، على يد (أبي الأسود الدؤلي), في عام (80) هجرية. إلا أن بعض المؤرخين يذكر أن وفاة (أبي الأسود الدؤلي) كانت في عام (69) هجرية، وأن من قام بالتشكيل في عهد (الحجاج بن يوسف) هم تلامذة (أبي الأسود الدؤلي) (نصر بن عاصم الليثي، ويحيى بن يعمر العدواني)، وهذا يتضارب مع تعاصره مع الحجاج الذي ولد وتوفى في (41 هجرية 95 هجرية)، حيث أن الحجاج قام على خلافة العراق في آخر عشرين سنة من حياته أي من عام (75) هجرية إلى عام (95) هجرية وروايات التاريخ واختلافات المؤرخين حول هذا الموضوع يطول شرحها، إذ لا يعنينا هنا تحقيق هذه القضية تاريخيا، فلها موضع آخر تحقق فيه. المهم أن السبب الحقيقي الذي من أجله تم تنقيط وتشكيل كلمات الكتاب الكريم كما أجمعت كل روايات التاريخ هو إختلاف القراءات لاتساع رقعة الإسلام واختلاط العرب بالعجم وكادت العجمة تمس سلامة اللغة وبدأ اللبس والإشكال في قراءة المصاحف يلح بالناس حتى ليشق على السواد منهم أن يهتدوا إلى التمييز بين حروف المصحف وكلماته وهي غير منقطة ولا مشكلة، فمن ثم تم اتخاذ قرار التنقيط والتشكيل.

وتوجد رواية لابن أبي داوود يقول فيها: (عن عبَّاد بن صهيب عن عوف بن أبي جميلة أن الحجاج بن يوسف غيّر في مصحف عثمان أحد عشر حرفاً، قال:
كانت في البقرة: الآية: (259) (لم يتسن) بغير هاء، فغيرها (لَم يَتَسَنه).
وكانت في المائدة: الآية: (48) (شريعة ومنهاجاً)، فغيّرها (شِرعَةً وَمِنهاجَاً).
وكانت في يونس: الآية: (22) (هو الذي ينشركم)، فغيَّرها (يُسَيّرُكُم).
وكانت في يوسف: الآية: (45) (أنا آتيكم بتأويله)، فغيَّرها (أنا أُنَبِئُكُم بِتَأوِيلِه).
وكانت في الزخرف: الآية: (32) (نحن قسمنا بينهم معايشهم)، فغيّرها (مَعِيشَتَهُم).
وكانت في التكوير: الآية (24) (وما هو على الغيب بظنين)، فغيّرها (بِضَنينٍ).
.........إلخ.
المصدر: كتاب (المصاحف) للسجستاني (ص49).
لكن لا يوجد مصدر آخر يؤكد أو ينفي هذا.

## ما الفرق بين (قراءة القرءان) و(رواية القرءان)؟:

كثير من المسلمين غير المتخصصين في علم قراءات القرءان الكريم ربما لا يعرفون الفرق بين (قراءة القرءان) و(رواية القرءان)، إذ القراءة شيء، والرواية شيء آخر، فما قد يعلمه كثير من المسلمين أن القراءات القرءانية الصحيحة هي (عشر قراءات) مشهورة ومتواترة، وما لا يعرفه أكثر المسلمين أن هذه القراءات العشر لها عشرون رواية، كيف هذا؟ الجواب كالتالي:
قام العلماء المتخصصين في القراءات القرءانية بتقسيم القراءات القرءانية إلى قسمين هما: (القراءات الصحيحة)، و(القراءات الشاذة)، ووضعوا عدة شروط وضوابط للقراءة الصحيحة، وتفصيل هذا على النحو التالي:

## أولا: القراءات الصحيحة وضوابطها:
أما القراءة الصحيحة فهي القراءة التي توافرت فيها ثلاثة أركان هي:
• أن توافق القراءة رسم حروف وكلمات أحد مصاحف (عثمان بن عفان) الثمانية.
• أن توافق وجهاً صحيحاً من وجوه اللغة العربية.
• أن تُنقل إلينا نقلاً متواتراً، أو بسند صحيح مشهور.
فكل قراءة استوفت تلك الأركان الثلاثة، كانت قراءة قرآنية، تصح القراءة بها في الصلاة، ويُتعبَّد بتلاوتها. وهذا هو قول عامة أهل العلم.
وقد أجمعت جماهير علماء وفقهاء ومفسري الأمة الإسلامية أن القراءات الصحيحة المتواترة لكتاب (القرءان الكريم) هي: (عشر قراءات) فقط لا غير، قرأ بها عشرة قراء من أئمة قراء الأمة الأوائل وهم: (نافع، وابن كثير، وأبو عمرو البصري، وابن عامر الشامي، وعاصم الكوفي، وحمزة الكوفي، والكسائي الكوفي، وأبو جعفر المدني، ويعقوب المصري، وهشام البغدادي).

هؤلاء القراء العشرة، روى قراءة كل منهم راويان مشهوران، بمعنى مثلا قراءة (عاصم) كثير من الناس يظنون أن قراءة عاصم لم يروها إلا (حفص) فقط، وهي الرواية المشهورة (حفص عن عاصم)، ولا يعرف كثير من الناس أن هناك رواية أخرى متواترة لقراءة (عاصم) وهي رواية (شعبة عن عاصم)، ما يعني أن قراءة (عاصم) لها روايتان متواترتان هما: رواية (حفص عن عاصم) ورواية (شعبة عن عاصم)، فمن الخطأ ما يردده الناس بقولهم: (قراءة حفص عن عاصم)، والصواب أن يقولوا (رواية حفص لقراءة عاصم) ورواية (شعبة لقراءة عاصم) هذا هو الفرق بين (القراءة) و(الرواية)، وهنا قد يدور في ذهن القاريء سؤال يقول: هل هناك اختلافات بين الروايات للقراءة الواحدة؟، الجواب بكل تأكيد هناك اختلافات كثيرة جدا بين روايتي القراءة الواحدة، فمثلا: سيفاجأ القارئ الكريم بأن مثلا قراءة (عاصم) المشهورة في مصر وبعض الدول العربية والإسلامية رواها عنه اثنان الأول: (حفص) والثاني: (شعبة)، ووجِد بينهما اختلاف وتباين في قراءتيهما وصل إلى نحو (خمسمائة كلمة)، معظمها اختلافات صوتية وصرفية.
راجع: الخصائص اللغوية لقراءة حفص: للدكتور: علاء الحمزاوي.

وهكذا في جميع القراءات العشر للقرآن الكريم، فكل قراءة منها لها راويان، وبين كل رواية وأختها اختلافات كثيرة، ما يعني أن كتاب (القرءان الكريم) له عشر (قراءات)، والعشر (قراءات) لها عشرون رواية فيها اختلافات بين بعضها بعضا، وهذه قائمة بأسماء القراء العشرة وأسماء الرواة العشرين عنهم:
1. قراءة (عاصم الكوفي)، وأشهر من روى عنه (حفص) و(شعبة).
2. قراءة (نافع المدني)، وأشهر من روى عنه، (قالون) و(ورش).
3. قراءة (ابن كثير المكي)، وأشهر من روى عنه (البزي) و(قنبل).
4. قراءة (أبي عمرو البصري)، وأشهر من روى عنه (الدوري) و(السوسي).
5. قراءة (ابن عامر الشامي)، وأشهر من روى عنه (هشام) و(ابن ذكوان).
6. قراءة (حمزة الكوفي)، وأشهر من روى عنه (خلف) و(خلاد).
7. قراءة (الكسائي الكوفي)، وأشهر من روى عنه (أبو الحارث) و(حفص الدوري).
8. قراءة (أبي جعفر المدني)، وأشهر من روى عنه (عيسى بن وردان) و(ابن جماز).
9. قراءة (يعقوب المصري)، وأشهر من روى عنه (رويس) و(روح).
10. قراءة (خلف بن هشام البزار البغدادي)، وأشهر من روى عنه (إسحاق بن إبراهيم) و(إدريس بن عبد الكريم).
ونخلص مما تقدم أن كتاب (القرءان الكريم) له (عشر قراءات) متواترة مشهورة، لكل (قراءة) منها (روايتان)، أي: إن كتاب القرءان الكريم له عشر (قراءات) مختلفة، والعشر قراءات لها (عشرون رواية) مختلفة.

## ثانيا: القراءات الشاذة:

أما القراءة الشاذة فهي كل قراءة خالفت رسم المصاحف العثمانية الثمانية على المعتمد من الأقوال، وهي القراءة التي اختل فيها ركن من الأركان الثلاثة المتقدمة. ويدخل تحت باب القراءات الشاذة ما يسمى بـ (القراءات التفسيرية) وهي القراءة التي صح سندها، ووافقت العربية، إلا أنها خالفت رسم حروف وكلمات مصاحف (عثمان بن عفان) الثمانية، كقراءة الصحابي (سعد بن أبي وقاص) في قوله تعالى: (وله أخت) (النساء: 176) فقد قرأها (وله أخت من أم). وقراءة (ابن عباس) لقوله تعالى: (وكان وراءهم ملك يأخذ كل سفينة غصبا* وأما الغلام فكان أبواه مؤمنين) (الكهف:79-80) حيث قرأها: (وكان "أمامهم" ملك يأخذ كل سفينة "غضباً"* وأما الغلام فكان "كافراً").
قال العلماء: المقصد من القراءة الشاذة تفسير القراءة المشهورة وتبيين معانيها، كقراءة (عائشة) و(حفصة) أمهات المؤمنين، لقوله تعالى: (حافظوا على الصلاة الوسطى). (البقرة:238) قرأتا الآية: (والصلاة الوسطى "صلاة العصر"). وقراءة (ابن مسعود) لقوله تعالى: (فاقطعوا أيديهما) (المائدة:38) قرأها: (فاقطعوا أيمانهما). وقراءة (جابر) لقوله تعالى: (فإن الله من بعد إكراههن غفور رحيم). (النور:23) قرأها: (من بعد إكراههن "لهن" غفور رحيم). فهذه (القراءات) وما شابهها صارت مفسِّرة للقرآن.
وقد اتفقت كلمة فقهاء ومفسري وقراء الأمة على أن ما وراء القراءات العشر التي جمعها القراء، شاذ غير متواتر، لا يجوز اعتقاد قرآنيته، ولا تصح الصلاة به، والتعبد بتلاوته، إلا أنهم قالوا: يجوز تعلمها وتعليمها وتدوينها، وبيان وجهها من جهة اللغة والإعراب. والقراءات الشاذة التي وصلت إلينا بطريق غير متواتر نذكر منها عشر قراءات، نقلها مجموعة من القراء.

## أشهر القراءات الشاذة والموضوعة والمدرجة:

• قراءة: ابن محيصن: محمد بن عبد الرحمن المكي.
• قراءة: يحيى اليزيدي: أبو محمد بن المبارك البصري.
• قراءة: الحسن البصري.
• قراءة: سليمان بن مهران الأعمش.
• قراءة: جابر بن عبد الله.
• قراءة: سعد بن أبي وقاص.
• قراءة: عبد الله ابن مسعود.
• قراءة: عبد الله ابن الزبير.
• قراءة: عائشة.
• قراءة: حفصة.

## أنواع قراءات كتاب القرءان الكريم حسب أسانيدها:

نخلص من كل ما تقدم حول قراءات كتاب (القرءان الكريم) أن علماء القراءات قد قسموا القراءات بحسب أسانيدها إلى ستة أقسام:
• الأول: المتواتر: وهو ما نقله جمع غفير لا يمكن تواطؤهم على الكذب عن مثلهم إلى منتهى السند، وهذا النوع يشمل القراءات العشر المتواترات.
• الثاني: المشهور: وهو ما صح سنده ولم يخالف الرسم ولا اللغة واشتهر عند القراء: فلم يعدوه من الغلط ولا من الشذوذ، وهذا لا تصح القراءة به، ولا يجوز رده، ولا يحل إنكاره.
• الثالث: الآحاد: وهو ما صح سنده وخالف الرسم أو العربية، أو لم يشتهر الاشتهار المذكور، وهذا لا يجوز القراءة به.
• الرابع: الشاذ: وهو ما لم يصح سنده ولو وافق رسم المصحف والعربية.
• الخامس: الموضوع: وهو المختلق المكذوب.
• السادس: ما يشبه المدرج من أنواع الحديث، وهو ما زيد في القراءة على وجه التفسير.

وهنا قد يدور في ذهن القارئ الكريم سؤال يقول: أي هذه الروايات كان المسلمون يعتمدون طوال أربعة عشر قرناً منذ زمن (عثمان بن عفان) وحتى يومنا هذا؟، الجواب: يقول الدكتور: "محمد الأمين" في بحثه "رسائل في علوم القرءان" في فصل "سرد تاريخي لانتشار القراءات":
(قال شيخنا أبو خالد السلمي عن انتشار القراءات: إن الذي توصلت إليه من خلال النقول التي تجمعت لديّ حول السرد التاريخي لانتشار القراءات في الأمصار وانحسارها منها ما يلي:
• إلى عصر الإمام ابن مجاهد الملقب بـ (مُسبّع السبعة) والذي ألف كتابه سنة 300هـ كانت القراءات السبع يقرأ بها في الأمصار، ولكن كان الغالب على أهل المدينة (قراءة نافع)، وعلى أهل مكة (قراءة ابن كثير)، وعلى أهل الشام (قراءة ابن عامر)، وعلى أهل البصرة (قراءة أبي عمرو ويعقوب)، وعلى أهل الكوفة قراءة (عاصم وحمزة)، قال مكي بن أبي طالب: وكان الناس على رأس المئتين بالبصرة على (قراءة أبي عمرو ويعقوب)، وبالكوفة على (قراءة حمزة وعاصم)، وبالشام على (قراءة ابن عامر)، وبمكة على (قراءة ابن كثير)، وبالمدينة على (قراءة نافع)، واستمروا على ذلك فلما كان على رأس الثلاثمائة أثبت ابن مجاهد اسم الكسائي وحذف يعقوب.
• في عصر ابن مجاهد قلّ انتشار رواية (حفص عن عاصم) بالكوفة وكانت رواية (شعبة عن عاصم) هي أشهر رواية عن عاصم بالكوفة، بينما كانت (قراءة حمزة) أكثر شهرة من (قراءة عاصم) بالكوفة كما يشهد لذلك قول ابن مجاهد.
• في القرن الخامس الهجري كانت (قراءة يعقوب) هي الغالبة على أهل البصرة.
• أما أهل الشام فاستمروا يقرؤون بقراءة (ابن عامر) إلى نهاية القرن الخامس حتى قدم عليهم أحد أئمة القراء وهو ابن طاووس فأخذ يعلم (رواية الدوري) عن أبي عمرو.
• كان الإمام (ورش) شيخ الإقراء بالديار المصرية ورحل إلى نافع فقرأ عليه أربع ختمات ثم رجع إلى مصر وأخذ ينشر (قراءة نافع) وعنه انتشرت (قراءة نافع) في أرجاء المغرب العربي وكثير من البلاد الإفريقية.
• (رواية الدوري) عن أبي عمرو غلبت على أهل العراق والحجاز واليمن والشام ومصر والسودان وشرق إفريقيا إلى القرن العاشر الهجري.
• في الوقت الذي انتشرت فيه (رواية الدوري) عن أبي عمرو في الأقطار المشار إليها في الفقرة السابقة وهي (العراق والحجاز واليمن والشام ومصر والسودان وشرق إفريقيا) كانت (رواية حفص عن عاصم) بدأت تنتشر لدى الأتراك، وبدأت الدولة العثمانية تبسط سلطانها على معظم أرجاء العالم الإسلامي، فصارت ترسل أئمة وقضاة ومقرئين أتراك إلى أرجاء العالم العربي فانتشرت (رواية حفص عن عاصم) عن طريقهم وكذا عن طريق المصاحف التي تنسخها الدولة العثمانية برواية (حفص عن عاصم)، فأخذت (رواية حفص عن عاصم) تحل تدريجيا محل (رواية الدوري) عن (أبي عمرو)، فآل الأمر إلى انحسار انتشار (رواية الدوري) فلم تبق إلا في اليمن والسودان والقرن الإفريقي.
• في الوقت الحاضر كما لا يخفى كان لوسائل الإعلام العصرية المرئية والمسموعة دور كبير في نشر رواية (حفص عن عاصم) في الأقطار التي لا زالت تقرأ برواية (الدوري) أو (قالون) أو (ورش)، وكذلك لانتشار المصاحف المطبوعة برواية (حفص عن عاصم) في تلك الأقطار، حتى كادت بقية الروايات عدا رواية (حفص) تنقرض). انتهى باختصار.

ويقول ابن عاشور في تفسيره " التحرير والتنوير": (إن القراءات التي يقرأ بها اليوم في بلاد الإسلام هي: قراءة (نافع برواية ورش) في بعض القطر التونسي، وبعض القطر المصري، وفي جميع القطر الجزائري، وجميع المغرب الأقصى، وما يتبعه من البلاد والسودان. وقراءة (عاصم برواية حفص) عنه في جميع المشرق، وغالب البلاد المصرية، والهند، وباكستان، وتركيا، والأفغان، وقال -والكلام- لـ ابن عاشور: وبلغني أن قراءة (أبي عمرو البصري) يقرأ بها في السودان المجاور لمصر) انتهى.

ويقول الدكتور "محمد الأمين" أيضا عن انتشار القراءات في الوقت الحاضر:
• رواية (حفص الدوري) عن (أبي عمرو البصري): هي الرواية الأكثر ذيوعًا في الصومال، والسودان، وتشاد، ونيجيريا، وأواسط إفريقية بصفة عامة.
• أما رواية (ورش المصري) عن نافع المدني: وهي الرواية المنتشرة في بلاد المغرب العربي (الجزائر والمغرب وموريتانيا)، وفي غرب إفريقيا (السنغال والنيجر ومالي ونيجيريا وغيرها) وإلى حد ما بعض نواحي مصر وليبيا وتشاد وجنوب وغرب تونس. وهي الرواية التي كان لَها الانتشار في القرون الأولى في مصر، ومنها انتشرت إلى تلك البلدان.
• أما رواية (قالون عن نافع): شائعة في ليبيا (القراءة الرسمية) وفي أكثر تونس.
• أما رواية (حفص عن عاصم): كانت رواية نادرة الوجود حتى نشرها الأتراك الأحناف في آخر العهد العثماني. وقد انتشرت في جميع المشرق وفي الجزيرة ومصر. والحنفية يتعصبون لرواية عاصم لأن أبا حنيفة كوفي أخذ عن عاصم) انتهى.

أقول: هناك تفاصيل أخرى كثيرة جدا حول القراءات القرءانية وتعددها ووجوهها واختلافها إلا أن المجال هنا في هذا الفصل لا يتسع لذكرها، وأقدم للقارئ الكريم في نهاية هذا الفصل قائمة بأسماء بعض المراجع والمصادر القديمة والحديثة التي تناولت موضوعات القراءات القرءانية لمن أراد الاستزادة في هذا الموضوع.

نخلص من كل ما تقدم حول علم موضوعات القراءات القرءانية أن جمع وخط وتلاوة وتنقيط وتشكيل ونسخ كتاب "القرءان الكريم" الذي بين أيدينا الآن بقراءاته المختلفة ووفقا لكل الدلائل التي بين أيدينا هو عمل بشري محض ليس فيه أي تدخل إلهي مباشر، وليس فيه أي تدخل من شخص النبي الأكرم عليه الصلاة والسلام سوى أنه بلغه للناس وتلاه عليهم وزكاهم به وعلمهم إياه وعلمهم حكمته. هذا فضلا عن أن كل ما سبق يصب في صالح قوله تعالى: (إنا نحن نزلنا "الذكر" وإنا له لحافظون)، لماذا؟، لأن هذه الآية لو كانت: (إنا نحن نزلنا "الكتاب" وإنا له لحافظون)، لأصبح الله وكتابه ودينه ورسوله والمسلمون جميعا في حرج شديد ومأزق لا يحسدون عليه، لأننا سنجد أنفسنا أمام خيارين أحلاهما مر، فإما أن نصدق الآية ونكذب الواقع، وإما أن نصدق الواقع ونكذب الآية، وبكل تأكيد الواقع الذي عرضناه منذ قليل حول قراءات وروايات القرءان المختلفة يقول أن الله لم يتكفل بحفظ كلمات وحروف كتاب القرآن الكريم، ومن يقول بغير هذا فهو أعمى البصر والبصيرة.

وعليه فلو كان الله سبحانه حقا ويقينا كما يزعم ويَخْرُص جموع المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها قد تكفل بحفظ كلمات وحروف الكتاب الكريم من التغيير والتبديل والزيادة والنقصان لاقتضى هذا وبشكل حتمي لا مراء فيه وجود النسخة النبوية التي خطها النبي الأكرم عليه الصلاة والسلام بيده الكريمة وتحت إشراف الرعاية الإلهية، أو حتى وجود النسخة التي خطها الصحابة من كتبة الوحي بين يدي رسول الله وتحت إشرافه ورعايته. والسؤال الآن لمن يزعم ويَخْرُص أن الله قد تكفل بحفظ حروف وكلمات كتاب "القرءان الكريم" من التغيير والتبديل والزيادة والنقصان: أين هي نسخة كتاب "القرءان الكريم" التي خطها النبي الأكرم عليه الصلاة والسلام بيده تحت إشراف الرعاية الإلهية؟، الجواب: لا وجود لها على الإطلاق. سؤال آخر: أين هي نسخة كتاب "القرءان الكريم" التي خطها كتبة الوحي من صحابة الرسول الكريم وتحت إشرافه ورعايته وفي حياته؟، الجواب: لا وجود لها على الإطلاق. وأهدي القرءانيين هذه الأسئلة القرآنية ليجيبوا عليها في موضوعنا هذا ويثبتوا لنا وللناس وللمسلمين ولغير المسلمين بدليل علمي واحد قاطع أو ببرهان علمي واحد يدل على التدخل الإلهي لحفظ كتاب "القرءان الكريم" من التغيير والتبديل والزيادة والنقصان على النحو التالي:
(قُلْ هَلْ عِندَكُم مِّنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَا إِن تَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَإِنْ أَنتُمْ إِلاَّ تَخْرُصُونَ). (148_ الأنعام).
(نَبِّئُونِي بِعِلْمٍ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ). (143_ الأنعام).
(قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ). (111_ البقرة).
(إِنْ عِندَكُم مِّن سُلْطَانٍ بِهَذَا أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ). (68_ يونس).

وبقيت مسألة في موضوع القراءات والروايات القرءانية خاصة بالحديث الذي جاء في (البخاري ومسلم) من حديث عمر بن الخطاب قال: سَمِعْتُ هِشَامَ بْنَ حَكِيمِ بْنِ حِزَامٍ يَقْرَأُ سُورَةَ الْفُرْقَانِ عَلَىَ غَيْرِ مَا أَقْرَؤهَا. وَكَانَ رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم أَقْرَأَنِيهَا. فَكِدْتُ أَنْ أَعْجَلَ عَلَيْهِ. ثُمّ أَمْهَلْتُهُ حَتّى انْصَرَفَ. ثُمّ لَبّبْتُهُ بِرِدَائِهِ. فَجِئْتُ بِهِ رَسُولَ اللّهِ صلى الله عليه وسلم. فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللّهِ إِنّي سَمِعْتُ هَذَا يَقْرَأُ سُورَةَ الْفُرْقَانِ عَلَىَ غَيْرِ مَا أَقْرَأْتَنِيهَا. فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم: "أَرْسِلْهُ. اقْرَأْ" فَقَرَأَ الْقِرَاءَةَ الّتِي سَمِعْتُهُ يَقْرَأُ. فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم: "هَكَذَا أُنْزِلَتْ". ثُمّ قَالَ لِيَ: "اقْرَأْ" فَقَرَأْتُ. فَقَالَ: "هَكَذَا أُنْزِلَتْ. إِنّ هَذَا الْقُرْآنَ أُنْزِلَ عَلَى سَبْعَةِ أَحْرُفٍ. فَاقْرَأُوا مَا تَيَسّرَ مِنْهُ".ـ وفي رواية- على حروف كثيرة لم يقرئنيها رسول الله صلى الله عليه وسلم).
وثبت فيهما أيضا (البخاري ومسلم) من حديث ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قَالَ: "أَقْرَأَنِي جِبْرِيلُ عَلَى حَرْفٍ فَرَاجَعْتُهُ فَلَمْ أَزَلْ أَسْتَزِيدُهُ وَيَزِيدُنِي حَتَّى انْتَهَى إِلَى سَبْعَةِ أَحْرُفٍ).

أرى أن هذان الحديثان لا علاقة لهما بموضوع (القراءات والروايات) القرءانية المتعددة والمختلفة التي يتجاوز عددها بكثير العشرين رواية (متواترة وشاذة). فالحديثان يتحدثان عن نزول القرءان على سبعة (أحرف) أو أكثر، ولم يتحدثا عن (لهجات، أو ألسن، أو لغات، أو أو أو....إلخ). وأرى أن هذا الحديث يحتاج إلى بحث مستقل لمعرفة ما هي الأحرف السبعة التي نزل عليها القرءان).

## كيف وبماذا تحدى الله الإنس والجن بأن يأتوا بمثل هذا القرآن؟:

بالتأكيد يريد أحد القراء الكرام استيقافي هنا ليطرح عليَّ هذا السؤال الهام: ما قولك في بعض نصوص القرآن الكريم التي تحدى الله بها الإنس والجن بأن يأتوا بمثل هذا القرآن أو بسورة من مثله أو بعشر سور مثله؟. وقد يريد أحد القراء الكرام أن يذكرني ويضع بين يدي الآيات الكريمة التالية:
قال تعالى:
(قُل لَّئِنِ اجْتَمَعَتِ الإِنسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَن يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا القرءان لاَ يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً). (88_ الإسراء).
وقال :
(وَإِن كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِّمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِّن مِّثْلِهِ وَادْعُوا شُهَداءَكُم مِّن دُونِ اللَّهِ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ). (23_ البقرة).
وقال :
(أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِّثْلِهِ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُم مِّن دُونِ اللَّهِ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ). (39_ يونس).
وقال :
(قُلْ فَأْتُوا بِكِتَابٍ مِّنْ عِندِ اللَّهِ هُوَ أَهْدَى مِنْهُمَا أَتَّبِعْهُ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ). (49_ القصص).
وقال :
(أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِّثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُم مِّن دُونِ اللَّهِ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ). (13_ هود).

أقول: قبل الجواب على هذا السؤال الهام، لابد أن نستبين ونتبين ابتداءً ما دلالة ومفهوم كلمة (قرءان) في لسان قوم الرسول الذي نزل به كتاب (القرءان الكريم)، وهل الاسم (قرءان) المقصود به كلمات وحروف الكتاب الكريم أم المقصود به شيئا آخر؟.
الفعل (قرأ) هو أصل أصيل لكل مشتقاته التي هي: (قرء، قروء، قرءان، قراءة)، والفعل (قرأ) يظن كثير من الناس خطئاً أنه يدل على (التلاوة)، التي هي ترديد الكلمات بلسان وصوت مسموع، إنما (القراءة) هي شيء آخر يختلف تماما عن مدلول كلمة (التلاوة). كذلك بعض الناس وخاصة بعض المفسرين يخلطون بين دلالة الفعل (قرأ)، ودلالتي الفعلين: (قَرَنَ) و(قَرَيَ)، ويظنون خطئاً أن الأفعال الثلاثة بمدلول ومفهوم واحد، وهذا خلط وتخليط واضح، وربما هذا الخلط والتخليط نتج من أن هناك بالفعل جانب مشترك بين دلالات الأفعال الثلاثة، ألا وهو جانب (الجمع والاجتماع)، لكن ما قد غاب عن هؤلاء المفسرين أن كل فعل من الأفعال الثلاثة (جمعه واجتماعه) يختلف في دلالته عن بقية الأفعال، وتفصيل هذا على النحو التالي:

فالفعل (قَرَنَ) يدل على: (اجتماع شيئين أو أكثر في شيء واحد أو على شيء واحد بعينه، أو النتوء والبروز منه دون انفصال تام بين ذلك البروز وأصل الشيء الذي برز منه). مثل قرون الماشية من الغنم والماعز والبقر والجاموس وغيرها من الأنعام التي لها قرون، وسميت قرون هذه الماشية بالقرون لأن القرنين اجتمعا معا في رأس واحدة وبرزا معا من نفس الرأس، فسميا بالقرون، ومنه (قرن الجبل): الناتئ أو البارز منه، وقرن المرأة: ذؤابتها (ضفيرة شعرها). ومن هذه الدلالة للفعل (قرن) اشتقت كافة مشتقات الاجتماع والبروز بين أي شيء أو أكثر في شيء واحد ومن شيء واحد أو على شيء واحد، وكانت العرب تقول للشخص الذي اتصلا حاجبيه، (أقرن الحاجبين)، وكانت تقول لمن وُلِدا معا في عام واحد أو في أسبوع واحد أو في شهر واحد: (قرينان)، ومنه (القارن) في أداء فريضة الحج، وهو من (يجمع بين الحج والعمرة) في رحلة واحدة، ومنه قوله تعالى: (سُبْحَانَ الَّذي سَخَّرَ لنا هذا وما كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ). (الزخرف 13). أي: ما كنا مجتمعين معه على خلق وتسخير هذه المخلوقات. ومنه أيضا (القرينة)، وهي الدلالة أو العلامة التي تجمع بين الفاعل والفعل في ارتكاب (الجريمة)، أو التي تجمع بين (الدليل ومدلوله) في مسألة بعينها من مسائل (علم أصول الفقه).

ومنه (القرينة) التي هي المرأة زوج الرجل، أي: أقترنا معا في عقد نكاح واحد، فأصبحت قرينته فيه وأصبح زوجها قرينها فيه. ومنه (القرن) وهو الاسم الذي يطلق على عدد من الأعوام والسنين وهو: (مائة عام)، لأن هذه الأعوام المائة اجتمعت معا في عدة واحدة اسمها (قرن)، وجمعه (قرون). ومنه أيضا (القرن) و(القرون) وهم (القوم) أو (الأقوام) الذين اجتمعوا في زمن واحد وعلى سلوك سيء واحد كـ (البغي والظلم والإفساد في الأرض)، فسماهم الله: (قرناً) و(قروناً). قال تعالى: (ولقد أهلكنا القرون من قبلكم). (يونس_ 13). (وكم أهلكنا من القرون). (الإسراء_ 17). (وكم أهلكنا قبلهم من قرن). (مريم_ 98). (وقرونا بين ذلك كثيرا). (الفرقان_ 38). (ثم أنشأنا من بعدهم قرنا آخرين). (المؤمنون_ 31). (قرونا آخرين) (المؤمنون_ 42). ومن مشتقات الفعل (قرن) قوله تعالى: (أو جاء معه الملائكة مقترنين). (الزخرف_ 53). أي: جاء معه الملائكة مجتمعين معه لإبلاغ رسالة الله. ومنه قوله تعالى: (وآخرين مقرنين في الأصفاد). (ص_ 38). أي مجتمعين في أصفاد واحدة. ومنه قوله تعالى: (إني كان لي قرين). (الصافات_ 51). وقوله: (وقال قرينه هذا ما لدي). (ق_ 23). وقوله: (قال قرينه ربنا ما أطغيته). (ق_ 27). وقوله: (فهو له قرين). (الزخرف_ 36). وقوله: (وقيضنا لهم قرناء). (فصلت_ 25).
نخلص مما تقدم حول الفعل (قرن) أن الفعل (قَرَنَ) وجميع مشتقاته يدلون على: (الاجتماع في شيء واحد أو على شيء واحد أو من شيء واحد، أو النتوء والبروز منه دون انفصال تام بين ذلك البروز وأصل الشيء).

أما الفعل (قَرَيَ) فيدل على جمع واجتماع عدد من الناس في بقعة ما من بقاع الأرض ويَقِرون فيها بالعيش والإعمار والسكن، ومنه اشتق الاسم: (قرية). قال تعالى: (واسأل القرية التي كنا فيها) (يوسف_ 82). وقوله: )وضرب الله مثلا قرية كانت آمنة مطمئنة). (النحل_ 112). وقال: (وكأين من قرية هي أشد قوة من قريتك). (محمد_ 13). وقوله: (وما كان ربك ليهلك القرى). (هود_ 117). ومنه (المِقْراة) وهي (الصحفة) أو (الطبق) أو (الصحن) الكبير الواسع الذي يوضع فيه طعام كثير لاجتماع الضيوف عليه، ومنه (قريت) الضيف قِرَى، وقرى الشيء في فمه: جمعه، وقريان الماء: اجتماعه.

أما الفعل (قرأ) فيدل على جمع واجتماع أيضا، ولكن ليس كجمع واجتماع الفعل (قَرَنَ) أو الفعل (قَرَيَ)، إنما يدل الفعل (قرأ) على جمع أو اجتماع يعقبه ظهور وخروج وبيان، ولا يكون الفعل (قرأ) بمعنى جمع واجتماع فقط، لقوله تعالى: (إن علينا جمعه وقرآنه)، فغاير بين الجمع والقراءة، فالفعل (قرأ) يدل على (جمع واجتماع يعقبه خروج وظهور وبيان). وكانت العرب تقول للوقت (القُرْء) لخروجه وظهوره وبيانه. كذلك كانت العرب تقول للناقة التي لم تحمل ولم تلد قط: (ما قرأت الناقة قط)، أي: ما حملت قط وما ولدت قط، أي، لم تجتمع بذكر يلقحها كي يعقب هذا الجمع والاجتماع مع الذكر خروج وظهور الولد. والفعل (قرأ) كذلك يدل على جمع واجتماع عدة أفكار حول مسألة بعينها، ثم يعقب هذا الاجتماع خروج وظهور وبيان علامات ودلالات حقيقة يقينية تنفي أو تثبت الأفكار هذه. وأضرب مثلا توضيحياً لدلالة الفعل (قرأ) على النحو التالي:
امرأة كانت متزوجة ثم تطلقت، وتريد أن تتزوج مرة أخرى من رجل آخر بعد طلاقها، الحق سبحانه أمر مثل تلك المرأة أن تتربص بنفسها (ثلاثة قروء). أي تقوم بقراءة الرحم ثلاث مرات، لماذا؟، لأن على مثل تلك المرأة أن تتأكد أولا من خلو رحمها من الحمل من الزوج السابق (طليقها). إذاً فنحن أمام فكرة تقول أن مثل هذه المرأة من الممكن أن تكون حامل، وكذلك من الممكن أن تكون غير حامل، فهي مجرد فكرة ممكنة ليس هناك من شيء يثبتها أو ينفيها، فما الذي يثبت لنا ثبوت الحمل أو نفيه؟، بالطبع ليس هناك من شيء يثبت أو ينفي الحمل سوى الفعل (قرأ)، أي: قراءة الرحم، حسنا، ولكن كيف تقوم مثل تلك المرأة بقراءة الرحم؟، يمكن لهذه المرأة قراءة رحمها عن طريق تربص أي: مراقبة وملاحظة وفحص ورؤية خروج وظهور وبيان دم الحيض من الرحم، ففي خروج وظهور وبيان دم الحيض من رحم الأنثى هو قرء للرحم يُظْهِر ويُبِين خلو الرحم من الحمل، قال تعالى: (وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ وَلاَ يَحِلُّ لَهُنَّ أَن يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ اللَّهُ فِي أَرْحَامِهِنَّ) (228_ البقرة)، ففعل التربص والنظر والملاحظة والفحص الذي يجمع بين فكرة وجود حمل من عدمه وبين حقيقة التيقن من خروج وظهور دم الحيض أو عدم خروجه، هذا الفعل يسمى (قراءة).

وهنا قد يسأل سائل ويقول: ما الفرق بين الفعل (قرأ) أو الاسم (قراءة)، وبين الأسماء (قُرْء، وقروء، وقرءان)؟، الجواب: الأفعال (قرأ، يقرأ، اقرأ) هي أفعال تدل على الزمن إما الماضي أو الحاضر أو المستقبل، أما الاسم (قراءة) فيدل على مسمى فعل القراءة نفسه مجردا عن الزمن، أما الاسم (قرء) فيدل على النتيجة الواحدة التي خرجت وظهرت وبانت من قراءة واحدة لشيء واحد لمرة واحدة، أما إن تكررت قراءة شيء واحد عدة مرات أو تمت قراءة عدة أشياء مختلفة فالنتائج التي تخرج وتظهر من خلال تلك القراءات تسمى (قروء)، أي: نتائج ظهرت وخرجت وبانت لعدد من (القراءات) إما لشيء واحد بعينه أو عدة قراءات لعدة أشياء مختلفة، ومثلا على هذا: المرأة التي تقوم بقراءة رحمها ثلاث مرات في ثلاث حيضات متتالية متتابعة يكون خروج وظهور وبيان دم الحيض من رحمها ثلاث مرات متتالية متتابعة (ثلاثة قروء)، أي: ثلاث نتائج ظاهرة بائنة لثلاث قراءات متتابعة متتالية، فالقرء الواحد هو نتيجة واحدة لقراءة واحدة لشيء واحد، أما (القروء) فهي عدة نتائج لعدد من القراءات لشيء واحد أو لعدة أشياء مختلفة، فلابد أن ننتبه جيدا أن (القراءة) هي اسم لأفعال (قرأ، يقرأ، اقرأ)، أما (قرء) و(قروء) فهي خروج وظهور وبيان نتائج عمليات (القراءة).

أما الاسم (قرءان) فهو اسم علم مطلق، أسمى الله به كتابه (القرآن الكريم)، كما أسمى الكتاب الذي أنزله على نبيه ورسوله (موسى) بالاسم (توراة)، وكما أسمى الكتاب الذي أنزله على نبيه ورسوله (عيسى بن مريم) بالاسم (إنجيل)، وأسمى الله كتابه الكريم الذي أنزله على نبيه ورسوله (محمد) بالاسم (قرءان) لاحتواء هذا الكتاب على قرء لكل شيء، أي: هو نتائج أخرجها وأظهرها وبينها الله لكل شيء خلقه في هذا الكون منذ مبدأه إلى منتهاه. فنحن البشر حين يكتب أحدنا كتابا حول موضوع ما، تكون نتيجة ذلك الكتاب (قرءاً) واحداً لشيء واحد، وحين يكتب أحدنا عدداً من الكتب حول عددٍ من الموضوعات، تكون نتائج تلك الكتب (قروءاً)، ولا ندري بعد ذلك هل ما قمنا بقراءته من موضوعات قد توصلنا فيه لقروء صحيحة وصواب أم تحتوي على خليط من الخطأ والصواب؟، أما من يريد أن يكتب كتابا فيه قرء لكل شيء _كل شيء_ في هذا الكون، فلابد أن يكون عالما بكل شيء وأن يكون علمه قد أحاط بكل شيء، ومن يكون هذا غير الحق سبحانه الذي قال عن نفسه: (وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ). (29_ البقرة). وقال: (وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْماً). (12_ الطلاق). فهذا الذي بكل شيء عليم والذي قد أحاط بكل شيء علما، لابد أن يكون اسم كتابه (قرءان) اسم مطلق، أي فيه قرء لكل شيء في هذا الكون منذ مبدأه إلى منتهاه.

وحتى أبين للقاريء الكريم مفهوم ودلالة (الاسم المطلق) أذكر له بعض ما ورد في الكتاب الكريم من (الأسماء المطلقة) التي من خلالها يتبين مفهوم ودلالة الاسم المطلق: (قرءان)، وأكتفي هنا بذكر اسمين، الأول: في قوله تعالى: (وَمَا هَذِهِ الحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلاَّ لَهْوٌ وَلَعِبٌ وَإِنَّ الدَّارَ الآخِرَةَ لَهِيَ الحَيَوَانُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ). (64_ العنكبوت). فـ (الحياة) اسم مفرد لحياة واحدة، وهي هذه الحياة الدنيا التي تحياها جميع الكائنات في الماضي والحاضر والمستقبل منذ مبدأها إلى منتهاها، أما جمع (حياة وحياة وحياة) فهو (حيوات) مثل جمع صلاة (صلوات)، أما الاسم (حيوان) هو اسم مطلق أسمى الله به الدار الآخرة، فالدار الآخرة بعد الموت ليست حياة واحدة مفردة، وليست عدداً من الحيوات، إنما هي (الحيوان) أي: حياة مطلقة أبدية لا نهاية لها ولا موت فيها ولا زوال ولا انقطاع.
الاسم المطلق الثاني: في قوله تعالى: (تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيراً). (1_ الفرقان). الفعل (فرق) يدل على افتراق وفرقة في شيء واحد إلى جزئين أو أكثر وانفصال تلك الأجزاء عن بعضها بعضا، ومن الأسماء التي اشتقت من هذا الفعل: (الفارق) و(الفاروق) و(الفِرْق) بكسر الفاء وتسكين الراء، وهو ما يُفَرَّق به بين الأشياء، أما الاسم (فرقان) فهو اسم مطلق يدل على أنه يفرق بين كل شيء في هذه الحياة قد تلتبس فيه الأضداد، فسمى الله كتابه الكريم (فرقان) لأنه يفرق بين كل حق وباطل، وبين كل سيء وحسن، وبين كل طيب وخبيث، وبين كل هدى وضلال، وبين كل صواب وخطأ حدث ويحدث وسيحدث في هذه الحياة الدنيا منذ بداية الحياة وإلى منتهاها، لأن الاسم (فرقان) اسم مطلق لا يحده شيء في فعل الفرق والتفريق بين الأشياء. هكذا الاسم المطلق (قرءان) هو قرء لكل شيء من مبدأه إلى منتهاه.

وهنا قد يرد في ذهن القارئ الكريم سؤالا حول مفهوم ودلالة عبارة: (قُرْءَانَ الفَجْرِ) في الآية الكريمة التالية:
(أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ وَقُرْءَانَ الفَجْرِ إِنَّ قُرْءَانَ الفَجْرِ كَانَ مَشْهُوداً(78) وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَّكَ عَسَى أَن يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَاماً مُّحْمُوداً). (79_ الإسراء).
هذه الآية الكريمة لا تتحدث عن تلاوة ولا قراءة كتاب (القرءان الكريم)، إنما (قرءان الفجر) في هذه الآية الكريمة ليس هو كتاب (القرءان الكريم). إنما هذه الآية يأمر فيها الله رسوله بإقامة الصلاة ويبين له مواقيت الصلوات الخمس، التي تبدأ مواقيت أربع منها (لدلوك الشمس) وتنتهي (إلى غسق الليل)، والخامسة ميقاتها يكون في (قرءان الفجر)، وتفصيل هذا على النحو التالي:

هذه الآية الكريمة تأمر النبي الأكرم محمداً عليه الصلاة والسلام بأن يقيم الصلاة (لدلوك الشمس) (إلى غسق الليل)، و(دلوك الشمس) يبدأ في الظهيرة حين تتوسط الشمس كبد السماء، ففي هذه اللحظة التي تتوسط فيها الشمس السماء يبدأ عندها دلوك الشمس وتبدأ إقامة الصلاة الأولى وهي (صلاة الظهر)، أما (غسق الليل) فهو الميقات الذي تبدأ فيه ظلمة الليل في الحلول على كل شيء في الكون، وهو ميقات (صلاة العشاء)، أما (صلاة العصر) و(صلاة المغرب) فهما الصلاتان اللتان يتوسطا ميقاتهما ميقاتا صلاتي (الظهر) و(العشاء)، وما يدل على هذا أن الله أمر رسوله بإقام الصلاة (لدلوك الشمس) إلى (غسق الليل)، وحرف (إلى) دلالته الأصلية أنه يفيد انتهاء الفعل إلى ابتداء الغاية وليس نهايتها، كقوله تعالى: (ثم أتموا الصيام إلى الليل). أي: صوموا إلى ابتداء أول الليل وليس آخر الليل، والغاية هنا أول غسق الليل لقوله: (إلى غسق الليل) فمع انتهاء الغروب والشفق الأحمر تماما وابتداء غسق الليل يبدأ ميقات (صلاة العشاء).

أما الفعل (دَلَكَ) فيدل على حركة ومَجِيء وذهاب وزوال من مكان إلى مكان بين شيئين: (دالك ومدلوك)، وعادة ما يكون الدالك أعلى المدلوك ومقابلا له تماما، ومن غايات دلالة الفعل (دلك) تنظيف شيء أو تطهيره أو إزالة قشوره وغطائه أو لتخفيف ألم وغيره بدلكه وتدليكه. وكانت العرب تقول: دلَكَه بيَدِه دَلْكاً أي: مَرَسَه ودَعَكَه وعَرَكَه. وكانت تقول: دَلَكَ الدَّهْرُ فُلاناً أي: إِذا أَدَّبَه وحَنَّكَه وعَلَّمَه، و(الدَّلُوكُ): بتشديد الدال وضم اللام هو: ما يُتَدَلَّكُ بهِ البدن عند الاغْتِسالِ من طِيب أَو غيرِه، ويُطْلَقُ (الدَّلُوكُ) أَيضاً على (النُّورَةِ)، وهي ما يشبه (الصابون) في وقتنا الحالي، لأنه يُدلكُ بها الجَسَدُ في الاستحمام. وكانت العرب تقول: بَعِيرٌ مَدْلُوكٌ، أي: دُلِكَ بكثرة الأَسْفارِ أي: عاوَدَ الأسفارَ ومَرَنَ عليها وقد دَلَكَتْه الأسْفارُ. وكانت العرب تقول: دَلَكْتُ السُّنْبُلَ حتَّى انْفَرَكَ قِشْرُه عن حَبهِ. وتَدَلَّكَ الرَجُلُ أي: إذا دلك جَسَدَه عندَ الاغْتِسالِ. ودَلَكَت المَرأَةُ العَجِينَ. و(الدَّلاَّكُ): هو الشخص الذي يَدْلُكُ الجَسَدَ. أما (الدَّلَك): فهو اسمُ وَقْتِ غُروبِ الشَّمْسِ أَو زوالِها يُقال: أَتَيتُكَ عندَ (الدَّلَكِ) أي عند انتهاء الدلوك بالعَشِي.

أما المصدر: (دُلُوك) فقد دل على فعل (الدلك) متجردا عن الزمن الذي حدث فيه الفعل. فقوله تعالى: (لِدُلُوكِ الشَّمْسِ): حرف (اللام) من حروف المعاني، ويدل في مدلوله العام على الاستقبال والاختصاص والاستحقاق، أي: إقام الصلاة مختص ومستحق عند استقبال بدء دلوك الشمس، وليس حرف (اللام) في هذه الآية بمعنى (بعد) كما قال أكثر علماء اللغة والمفسرون، إذ ما الذي منع الله سبحانه من أن يقول: (أقم الصلاة بعد دلوك الشمس)؟؟، ولا أدري لماذا كثير من المفسرين وعلماء اللغة حين يعييهم فهم مدلول حرف أو كلمة في آية قرءانية يهرعون على الفور إلى تغيير مدلوله الحقيقي الأصلي بحرف آخر أو كلمة أخرى هكذا من تلقاء أنفسهم دون أي مبرر علمي موضوعي؟؟، وكما قلت ما الذي منع الله من أن يقول: (أقم الصلاة بعد دلوك الشمس)؟؟، وما الذي ألزمه بوضع حرف (اللام) وهو يقصد كلمة (بعد)؟؟، ما هذا العبث؟؟. و(الدلوك) لا يبدأ واقعا وفعلا إلا حين تتوسط الشمس السماء وتكون في تقابل تام مع الأرض، إذ لا يمكن أن يتم (دلك) أي شيء إلا إذا كان (الدالك) في تقابل تام مع (المدلوك)، فمثلا إذا أردت أن تدلك ساقك لألم فيها أو بطنك أو ركبتك أو ذراعك فإنك تقوم بوضع (يدك) التي ستقوم بالدلك على مكان الألم وفي مقابله تماما ثم تجي وتروح بها يمينا ويسار أو صعودا ونزولا. و(الدالك) هنا في هذه الآية هي (الشمس)، والمدلوك هي (الأرض)، والدلوك لا يبدأ فعليا إلا إذا توسطت الشمس السماء وأضحت في مقابل الأرض تماما، فمن هنا يبدأ ميقات الصلاة الأولى وهي صلاة (الظهر).

ومن الملاحظ هنا ومن المؤكد أن الفعل (دَلَكَ) لم يرد في القرءان الكريم على الإطلاق ولا أي من مشتقاته إلا في هذه الآية فقط: (لدلوك الشمس)، ومن الدلالات الرائعة في هذه العبارة (لدلوك الشمس)، أن الله اختار تحديدا كلمة (دلوك) ولم يستخدم أي كلمة أخرى كـ (الزوال) مثلا، لأنه كما سبق وأن ذكرت أن الفعل (دَلَكَ) من غاياته التنظيف والتطهير وإزالة القشور والأغطية وتخفيف الآلام وغيرها بالدلك والتدليك، وهذا بالضبط ما تفعله الشمس في دلكها للأرض، حيث تقوم الشمس بتزويد الأرض بالحرارة اللازمة لنشر الدفء على الكوكب، والدلك بالفعل يولد حرارة ودفئا تجده إذا قمت بدلك يديك مثلا أو بدلك قطعتين من الحديد وغيرها، كما أنها توفر الضوء اللازم للنباتات من أجل قيامها بعملية التركيب الضوئي، وتزودنا الشمس بالطاقة وتعتبر مصدر أساسي للطاقة النظيفة التي لا تنضب، وتقوم الشمس بتزويدنا بفيتامين (د) المهم لبناء العظام، وهناك كثير وكثير من الفوائد التي تغدقها الشمس على كوكب الأرض وعلى جميع الكائنات الموجودة على ظهره، ومهما بحثنا عن كلمة نعبر بها عن فوائد الشمس وعن حقيقة عملها وفعلها في تطهير كوكب الأرض فلن نجد كلمة أروع من كلمة (دلوك الشمس). فسبحان من هو بكل خلق عليم.

فما سبق من بيان لمدلولات هذه الآية الكريمة يتلخص في أنها تشير في نصفها الأول إلى مواقيت الصلوات الأربع: (الظهر، والعصر، والمغرب، والعشاء)، وتبدأ مواقيت هذه الصلوات الأربع: (لدلوك الشمس إلى غسق الليل). أما في نصفها الثاني فتشير إلى ميقات الصلاة الخامسة: (صلاة الفجر)، وميقاتها هو: (قرءان الفجر)، كثير من المفسرين إن لم يكن جميعهم بل وجميع المسلمين في الماضي والحاضر ظنوا أن عبارة: (قرءان الفجر)، تعني تلاوة كتاب وآيات (القرءان الكريم) في صلاة الفجر أو تدبر القرءان وفهمه والتفكر فيه في توقيت الفجر، وهذا خطأ كبير، فـ (قرءان الفجر) هنا في هذه الآية هو ميقات صلاة الفجر، أي: صلاة الفجر ميقاتها حين ينفجر نور الفجر ويقوم بقرء كل شيء في الكون، أي: بيان وإخراج وظهور كل شيء في الكون إلى العيان والمشاهدة، فقول الحق سبحانه: (وقرآن الفجر) أي: ميقات صلاة الفجر وليس تلاوة أو قراءة كتاب (القرءان الكريم). وفي الآية التالية بعده مباشرة يقول: (وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَّكَ عَسَى أَن يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَاماً مُّحْمُوداً). (79_ الإسراء). ضمير الهاء في (به) يعود على الليل وليس على (قرءان الفجر) كما ظن خطئاً كل المفسرين والمسلمين في الماضي والحاضر، حين ظنوا أن الله يأمر بالتهجد بآيات (القرءان الكريم) في الليل، ومن العلوم أن الضمير يعود على آخر مذكور في الكلام ما لم ترد قرينة في النص نفسه ترجعه إلى مذكور قبله، كما هي طبيعة دلالة لسان قوم الرسول الذي نزل به كتاب (القرءان الكريم)، وإنما قوله تعالى: (وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَّكَ) أي تهجد من الليل بصلاة النافلة التي تسمى صلاة (قيام الليل). ومثل هذه الآية آيات أخرى نذكر منها: (وَأَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفاً مِّنَ اللَّيْلِ إِنَّ الحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ). (114_ هود). وقوله: (وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ وَأَدْبَارَ السُّجُودِ). (40_ ق). وقوله: (كَانُوا قَلِيلاً مِّنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ(17) وَبِالأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ). (18_ الذاريات). وقوله: (وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ وَإِدْبَارَ النُّجُومِ). (49_ الطور). وقوله: (وَمِنَ اللَّيْلِ فَاسْجُدْ لَهُ وَسَبِّحْهُ لَيْلاً طَوِيلاً). (26_ الإنسان).

وبالعودة لموضوع فهم مدلول الاسم (قرءان) نخلص مما تقدم أن كتاب (القرءان الكريم) هو كتاب يحوي (قرء كل شيء في الكون من مبدأه لمنتهاه)، أي: يحوي نتائج نهائية فقط لكل شيء في هذا الكون، ولكن هذه النتائج لابد لها من مقدمات تثبتها أو تنفيها، تؤيدها أو تعارضها، هذه المقدمات هي فعل (القراءة)، وفعل (القراءة) هو الدور المنوط والمكلف به الإنسان تكليفاً ربانبا من الحق سبحانه في قوله: (قُلْ سِيرُوا فِي الأَرْضِ فَانظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الخَلْقَ). (20_ العنكبوت). ومالم يقم الإنسان بهذه المهمة وهذا التكليف فسيظل كتاب (القرءان الكريم) محض حبر على ورق ومحض شعارات نتباهى بها ومقولات فارغة من أي مضمون حقيقي، وأذكر للقارئ الكريم نذراً يسيراً من (قروء) أي: نتائج نهائية لحقائق هذا الكون في كتاب (القرآن الكريم) التي على المؤمن أن يقوم بقراءتها وكشفها وتقديم دلائلها وبراهينها بنفسه عن طريق سيره في الأرض وبحثه واستقصائه وملاحظته ونظره وفكره دون الاعتماد على قروء ومقدمات الآخرين الذين ليس لديهم كتاب الله (القرءان الكريم):
قال تعالى:
(أَوَ لَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ كَانَتَا رَتْقاً فَفَتَقْنَاهُمَا). (30_ النور).
(وَجَعَلْنَا مِنَ المَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلاَ يُؤْمِنُونَ). (30_ النور).
(وَجَعَلْنَا السَّمَاءَ سَقْفاً مَّحْفُوظاً وَهُمْ عَنْ آيَاتِهَا مُعْرِضُونَ). (32_ النور).
(وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ مِن سُلالَةٍ مِّن طِينٍ). (12_ المؤمنون).
(إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ). (49_ القمر).
(وَأَحْصَى كُلَّ شَيْءٍ عَدَداً). (28_ الجن).
(وَلَقَدْ خَلَقْنَا فَوْقَكُمْ سَبْعَ طَرَائِقَ وَمَا كُنَّا عَنِ الخَلْقِ غَافِلِينَ). (17_ المؤمنون).
(حَتَّى إِذَا أَخَذَتِ الأَرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَا أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلاً أَوْ نَهَاراً فَجَعَلْنَاهَا حَصِيداً كَأَن لَّمْ تَغْنَ بِالأَمْسِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ). (24_ يونس).
(وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُـلاً مِّن قَبْلِكَ مِنْهُم مَّن قَصَصْنَا عَلَيْكَ وَمِنْهُم مَّن لَّمْ نَقْصُصْ عَلَيْكَ). (78_ غافر).
(وَإِن مِّنْ أُمَّةٍ إِلاَّ خَلا فِيهَا نَذِيرٌ). (24_ فاطر).
(وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَّهَا ذَلِكَ تَقْدِيرُ العَزِيزِ العَلِيمِ(38) وَالْقَمَرَ قَدَّرْنَاهُ مَنَازِلَ حَتَّى عَادَ كَالْعُرْجُونِ القَدِيمِ(39) لاَ الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَهَا أَن تُدْرِكَ القَمَرَ وَلاَ اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ). (40_ يس).

هذا غيض من فيض من (قروء) كتاب (القرءان الكريم)، أي: بعض من نتائج كتاب (القرءان الكريم)، ولكن تبقى محض قروء (نتائج) تحتاج لمؤمن يقرأها ويسير في الأرض ينظر ويبحث ويلاحظ ويتقصى ليثبت صحة هذه القروء أو ينفيها. وقد علم الله سبحانه أنه لا يمكن لبشر أو لمجموعة من البشر أن تقوم بقراءة كل قروء كتاب (القرءان الكريم) كله، فلم يطالب المؤمنين به إلا بقراءة ما تيسر منه، قال تعالى: (فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ القُرْآنِ عَلِمَ أَن سَيَكُونُ مِنكُم مَّرْضَى وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِن فَضْلِ اللَّهِ وَآخَرُونَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ). (20_ المزمل). فلم يأمرنا الله بالاعتماد أو بالارتكان إلى هذه النصوص القرءانية ونهجع بعدها إلى مضاجعنا نمدد سيقاننا ونغط في نوم عميق، ولم يأمرنا بممارسة هوس الفتي والهري والرغي والتحزلق بالتأليفات والمقالات والكتابات (العبيطة) والتقول على الله وعلى كتابه بغير علم، وكل منا يريد أن يكون (مفكر زمانه وعبقري عصره وأوانه)، كلا، بل أمرنا بالسير في الأرض لننظر واقعيا وعمليا وعلميا وبحثيا لنرى ونعلم كيف بدأ الخلق، فالأمر ليس مجرد نصوص نرددها ونتغنى بها ونفتي فيها، ونشهرها سيوفا في وجه كل من يختلف معنا، إنما لابد من ترجمة هذه النصوص إلى سير في الأرض وقراءة ونظر وعلوم وبحوث عملية واقعية على الأرض، فإما أن نثبت صحتها وصوابها بالعلم وإما أن نثبت خطئها وضلالها بالعلم كذلك.

فالأفعال: (قرأ يقرأ اقرأ) تدل على فعل القراءة في الزمن الماضي أو الحاضر أو المستقبل.
أما الاسم (قراءة): فيدل على فعل القراءة مجردا عن الزمن.
أما الاسم (قرء): فهو اسم لنتيجة واحدة نتجت عن فعل القراءة لشيء واحد.
أما الاسم (قروء): فهو عدة نتائج نتجت عن أفعال القراءة لعدد من الأشياء.
أما الاسم (قرءان): فهو اسم مطلق يدل على قرء لكل شيء في الحياة من مبدأ لمنتهاه.

وأضرب مثلا بسيطا على فعل القراءة لكلمة من كلمات الكتاب الكريم على النحو التالي:
فمثلا أنا قمت في هذا الفصل بقراءة وبحث واستقصاء دلالة ومفهوم الفعل (ذَكَرَ) في الكتاب الكريم وفي لسان قوم الرسول الذي نزل به الكتاب الكريم عن طريق كتب المفسرين وكتب المعاجم وكتب علوم اللغة وغيرها، ففعلي هذا اسمه (قراءة) لمفهوم ومدلول الفعل (ذَكَرَ)، أما النتيجة التي توصلت إليها من دلالة ومفهوم الفعل (ذَكَرَ) اسمها (قرء)، أما لو قمت مثلا بقراءة دلالات ومفاهيم الأفعال (ذكر) و(دَلَكَ) و(كتب) فالنتائج التي سأتوصل إليها من قراءة دلالة هذه الأفعال الثلاثة اسمها (قروء) للأفعال الثلاثة، أم معرفة وعلم دلالة كل شيء في هذه الحياة بكل ما فيها من دلالات منذ أن خلقها الله وإلى نهايتها فهو (قرءان) لكل شيء كل شيء، وهذا الأخير لا يستطيع الإحاطة به إلا الله وحده في كتابه (القرءان الكريم).

والمدهش في هذا الكتاب العظيم أنه ليس قرءاناً لكل شيء فحسب بل هو كذلك قرءان لذاته، أي: قرءان لكلماته وحروفه وعباراته ومفاهيمه ودلالاته، فهو يصحح بعضه بعضا ويصوب بعضه بعضا لو كان هناك خطئا أو زيادة أو نقصاناً أو تغييرا أو تبديلا أو اختلافا في حروفه وكلماته. فمهما تعددت (روايات القرءان) ومهما تعددت (قراءات القرءان) لكلماته وحروفه وآياته إلا أنه سيظل بمجمله وبوحدة موضوعاته ومحتوياته وبوحدة معانيه وبوحدة دلالاته وبوحدة مفاهيمه يرفض كل حرف وكل كلمة بل كل حركة (تشكيل) فوق الحرف أو أسفله لا تتسق مع مضمون موضوعاته العامة ومضمون مفاهيمه العامة ومدلولات كلماته العامة، فهو أشبه بجسم الإنسان الذي ينقل إليه عضو من جسم آخر لا يتسق ولا ينسجم معه في نوعية فصيلة الدم وطبيعته وخلاياه فيقوم برفض ذلك العضو الغريب عليه ولا يقبله بأي حال من الأحوال.

وأضرب مثلا بسيطا على هذا من قوله تعالى: (وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذريتهم). (172_ الأعراف). فمنذ بضعة أعوام وأنا أكتب كتابي: (الجهاز العلمي في الإنسان)، الذي سأنشر فصوله قريبا، كنت قد كتبت فصلا كاملا يتكون على ما أذكر من حوالي أربعين صفحة أو يزيد فقط حول قرء وبيان هذه الآية الكريمة لأن هذه الآية والآية التي بعدها من الآيات الأم والأساس في تفكير (تنظيم القاعدة) و(السلفية الجهادية التكفيرية)، فكانت كلمة (ذريتهم) لها رواية أخرى وهي (ذرياتهم) بزيادة ألف بعد الياء، ففي ذلك الوقت وأنا أقوم بقراءة هذه الكلمة لمعرفة أي الصيغتين هي الصواب، فوجدت بعد طول بحث ونظر وتفكر أن مضمون نص الآية ومضمون الموضوع الذي كنت أقوم بقرئه والمضمون العام لموضوعات كتاب (القرءان الكريم) يتسق وينسجم ويؤيد بشكل قطعي لا يقبل الشك مع قراءة (ذريتهم)، ويرفض بشكل قاطع قراءة (ذرياتهم). فالقرءان ليس فقط بمحض كلماته وحروفه وصياغاته إنما بوحدة موضوعاته واتساق مفرداته ومضامينها ومدلولاتها وانسجامها معا هو الذي يحدد ويقرر أي من الحروف وأي من الكلمات وأي من الحركات (التشكيل) هي الصحيح والصواب والمناسب له. بل ربما تكون إحدى روايات القرءان أو إحدى قراءات القرءان هي بالفعل الرواية الأصلية، ولما لا؟، ولكن هذا الأمر يحتاج إلى بحث مكثف ونظر ثاقب وجهد مضني ووقت كافٍ وطول صبر وآليات علمية ومعرفية من كثير من العلوم والمعارف الأخرى وليس فقط الاعتماد على رواية أو قراءة واحدة للقرءان الكريم وعلوم اللسان العربي (اللغة العربية)، حتى نصل إلى مدلول ومفهوم متسق ومنسجم في أي موضوع نقرأه مع المضمون العام لهذا الكتاب العظيم. ففي معظم الأحيان أجد كلمة واحدة في موضوع ما من الموضوعات التي أقوم بقراءتها وبحثها تستغرق مني شهرا كاملا وربما أكثر وأنا غارق بالليل والنهار بين الكتب والمراجع والتفاسير والقواميس وكتب اللغة باحثا عن مدلولها الصحيح وموضعها الأصلي التي وضعت له.

وأضرب مثلا آخر على كيفية أن يكون كتاب (القرءان الكريم) هو قرءان لذاته:
لو أن شخصا مثلا أراد أن يذهب إلى مقر مجلة (روزاليوسف)، والعنوان الصحيح لمقر هذه المجلة هو: (محافظة القاهرة، شارع القصر العيني، المبنى رقم 89 "أ")، إلا أن هذا الشخص معه عدة عناوين كل عنوان يحمل معلومة مختلفة عن العنوان الآخر، ولنفترض مثلا أن هذه العناوين على النحو التالي:
العنوان الأول:
(محافظة الجيزة، شارع القصر العيني، المبنى رقم 89 "أ").
العنوان الثاني:
(محافظة القاهرة، شارع التحرير، المبنى رقم 15 "أ")
العنوان الثالث:
(محافظة الجيزة، شارع القصر العيني، المبنى رقم 59 "أ")
العنوان الرابع:
(محافظة الأسكندرية، شارع السلام، المبنى رقم 89 "أ")
فالعناوين الأربعة بها اختلافات كالتالي:
(المحافظة) هل هي: (القاهرة، أم الجيزة، أم الأسكندرية)؟.
(اسم الشارع) هل هو: (السلام، أم القصر العيني، أم التحرير)؟.
(رقم المبنى) هل هو: (89 "أ"، أم 59 "أ"، أم 15 "أ").
فمن أين يبدأ هذا الشخص في الاستدلال على العنوان الصحيح لمقر مجلة (روزاليوسف)؟، بالتأكيد ليس أمامه سوى التأكد ابتداءً بأن هل مجلة (روزاليوسف) لها وجود موضوعي حقيقي أم لا؟، فإذا تأكد من أن المجلة لها وجود حقيقي بالفعل بسؤال الناس وبالتقصي والبحث، فبقية عناصر العنوان من السهل أن يتعرف عليها أيضا بالسير في الأرض وطرح الأسئلة والبحث والاستقصاء، وساعتها سيتأكد من المحافظة الحقيقة التي بها المقر، واسم الشارع الحقيقي، وكذلك رقم المبنى الصحيح. هكذا روايات وقراءات القرءان الكريم الكثيرة والمتعددة، فالموضوع الذي تقوم بقراءته وتبينه وبحثه هو ما سيدلك على أي القراءات وأي الروايات وأي الحروف وأي الكلمات وأي التشكيلات هي الصواب وهي الصحيحة والمناسبة والمتسقة والمنسجمة مع المضمون والمفهوم والمدلول الحق والصحيح والصواب للآية وللموضوع الذي تقوم بقراءته وللسياق العام لمجمل الكتاب كله. فهي عملية أشبه بالمعادلات الرياضية والهندسية المعقدة والمتشابكة والمتقاطعة والممتعة في الوقت نفسه رغم الجهد والتعب والإرهاق خاصة إذا توصلت إلى حلها.

وللجواب على السؤال المطروح قبل قليل: كيف وبماذا تحدى الله الإنس والجن بأن يأتوا بمثل هذا القرآن؟:
أقول: التحدي الإلهي للإنس والجن أن يأتوا بسورة أو بعشر سور أو بجميع القرآن ليس تحديا بالإتيان بمثل حروف وكلمات وتراكيب وجمل وعبارات وصياغات كتاب القرآن الكريم اللسانية (اللغوية)، إنما التحدي هو تحدي للإتيان بقرء واحد أو بعدد من القروء أو بقرءان كامل شامل لكل شيء وأي شيء في هذا الكون من مبدأه لمنتهاه من نتائج لحقائق هذا الكون التي لا يمكن حصرها أو عدها، كما جاء في كتاب (القرآن الكريم)، وأذكر قرءاً واحداً هنا من قروء القرءان التي تحدى الله الإنس والجن أيأتوا بمثلها على النحو التالي:
قال تعالى:
(وَجَعَلْنَا مِنَ المَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلاَ يُؤْمِنُونَ). (30_ النور).
هذا قرء واحد من قروء كتاب (القرءان الكريم) الذي تحدى الحق سبحانه الإنس والجن أن يأتوا بمثله. هذا هو التحدي الحقيقي، وليس كما يردد كثير من المفسرين والفقهاء ويتبعهم في هذا أغلب المسلمين بأن التحدي هو تحدي في البلاغة والفصاحة والأساليب اللغوية والتراكيب الصوتية وغيرها من أمور تتعلق باللسان (اللغة)، ولو كان الحق سبحانه يريد أن يتحدى الإنس والجن في مسائل البلاغة والأسلوب والبيان والفصاحة في كلمات وعبارات وجمل كتاب (القرءان الكريم) لما قال: (أن يأتوا بمثل هذا القرءان)، ولقال مثلا: (أن يأتوا بمثل هذا الكتاب أو بمثل هذا الكلام)، فلو قال (الكتاب) لشمل التحدي مسائل البلاغة والأسلوب والبيان والفصاحة في كلمات وعبارات وجمل كتاب (القرءان الكريم)، لكنه تحدى بالإتيان بمثل (القرءان) وليس شيئا آخر غيره، و(القرءان) بالقطع كما سبق وأن أوضحت وبينت لا يعني مسائل البلاغة والأسلوب والبيان والفصاحة في كلمات وعبارات وجمل كتاب (القرءان الكريم)، إنما القرءان هو قرء لحقائق كل شيء ونتائج كل شيء في هذا الكون من مبدأه لمنتهاه هذا هو القرءان الكريم.

وهذا لا يعني أن كتاب (القرءان الكريم) ككلمات وتراكيب وجمل وعبارات ليس فيه تفردا وتفوقا وتقدما وتميزا وسبقا في البلاغة والفصاحة والأساليب والتراكيب والنظم المتميز في كلماته وعباراته، بل إن كتاب (القرءان الكريم) كنص لساني (لغوي) هو نص متفرد متميز لم يسبقه مثيل من كلام العرب ولم ولن يلحق به مثيل من كلامهم، فكتاب (القرءان الكريم) ككلمات وجمل وعبارات له بصمته المتفرده وأسلوبه المتفرد وموسيقاه الخاصة وتراكيبه المميزة كنص لساني (لغوي) لم يأت بمثله بشر لا من قبله ولا من بعده، فلم يوجد على الإطلاق وبحكم مطلق نص واحد من كلام العرب فيه أدنى مشابهة أو مطابقة لأسلوب وبصمة وتراكيب وموسيقى كلمات وعبارات كتاب (القرآن الكريم) لا قبل نزول القرءان ولا بعده، وما يتردد في بعض الكتب التراثية أن القرءان نقل بعض الجمل والعبارات نقلا حرفيا من شعراء الجاهلية فهو هراء وعبث ودجل وشعوذة وكذب وتضليل، إذ ليس هكذا تورد الإبل، فمن يريد أن يثبت لنا هذا فليثبته ببردية أثرية أو نقش على حجر أو كتابة على جدار أثري يرجع تاريخه لعصر ما قبل بعثة النبي الأكرم عليه الصلاة والسلام، ومن لم يستطع فليخسأ وليصمت، وليذهب يردد حديثه هذا في مجالس النساء على (المصطبة).

بعض المراهقين والصبية والحمقى والسفهاء من الملحدين وبعض النصارى المناوئين للإسلام يتحدون كتاب (القرءان الكريم)، فيحاولون أن يأتوا بمثله، فماذا يفعلون؟، يقومون بمحاكاة وتقليد بعض نصوص الكتاب الكريم أو بعض السور القصيرة فيزيلون كلماتها ويضعون مكانها كلمات من عندهم، وكأنهم أتوا بمثل القرءان، ويقولون ها نحن قد تحدينا القرءان وأتينا بمثله، لكن هؤلاء السفهاء الحمقى لو كانوا يعقلون ويفهمون لعلموا أنهم لم يأتوا بمثل القرءان وإنما قاموا بمحاكاة وتقليد كتاب القرءان الكريم في تراكيبه وأساليبه وصياغته وموسيقاه اللسانية (اللغوية)، مما يثبت أنه حتى التراكيب والصياغة والأسلوب اللساني (اللغوي) لكتاب القرءان العظيم لا يمكن الإتيان بما يفوقه أو يتقدم عليه، لذلك قاموا بمحاكاة وتقليد أساليب وصياغات كلمات الكتاب العظيم ذاته، وليس إبداعا وابتكارا منهم، هذا فضلا عن البون الشاسع والفارق الذي لا يمكن مقارنته بين ما تحمله كلمات كتاب القرءان العظيم من قروء ومعان وبين ما يحمله تقليد أولئك السفهاء الحمقى من سفاهة وتفاهة وجهالة وعبث. فهم فعلوا بالضبط ما فعله الكذاب الهالك (مسيلمة)، فمسيلمة قام بتقليد صياغة بعض آيات كتاب القرءان العظيم ووضع بدلا منها كلمات من عنده هو، ونذكر بعض النماذج على هذا التقليد على النحو التالي:
آيات الكتاب الكريم:
(أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِّن مَّنِيٍّ يُمْنَى(37) ثُمَّ كَانَ عَلَقَةً فَخَلَقَ فَسَوَّى(38) فَجَعَلَ مِنْهُ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالأُنثَى). (39_ القيامة).
محاكاة وتقليد الكذاب الهالك مسيلمة:
(لقد أنعم الله على الحبلى، أخرج منها نسمة تسعى، من بين صفاق وحشا)
آيات الكتاب الكريم:
(وَالْمُرْسَلاتِ عُرْفاً(1) فَالْعَاصِفَاتِ عَصْفاً(2) وَالنَّاشِرَاتِ نَشْراً(3) فَالْفَارِقَاتِ فَرْقاً(4) فَالْمُلْقِيَاتِ ذِكْراً(5) عُذْراً أَوْ نُذْراً). (6_ المرسلات).
محاكاة وتقليد الكذاب الهالك مسيلمة:
(والطاحنات طحنا، والخابزات خبزا، والعاجنات عجنا، والثاردات ثردا، واللاقمات لقما).
آيات الكتاب الكريم:
(إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الكَوْثَرَ(1) فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ(2) إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الأَبْتَرُ) (3_ الكوثر).
محاكاة وتقليد الكذاب الهالك مسيلمة:
(إنا أعطيناك الوحواح، فصل لربك وارتاح، إن شانئك هو الخروف النطاح).

والله حقا إن شر البلية ما يضحك، هل هذا إتيان بمثل القرءان العظيم؟ أم أنها المحاكاة والتقليد والصبيانية والحماقة والسفاهة والسذاجة والتفاهة في أجلى صورها؟. أين الابداع وأين الابتكار وأين التفرد وأين التميز فيما قاله الكذاب الهالك (مسيلمة)؟، وأين الإبداع وأين الابتكار وأين التفرد وأين التميز فيما يقوله ذرية مسيلمة وأحفاده الموجودين بيننا اليوم؟.

## التحدي بالإتيان بـ (حديث) مثله :

لقد تحدى الحق سبحانه الناس جميعا أن يأتوا بـ (حديث) مثل حديث كتاب القرءان العظيم:
قال تعالى:
(أَمْ يَقُولُونَ تَقَوَّلَهُ بَل لاَّ يُؤْمِنُونَ(33) فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِّثْلِهِ إِن كَانُوا صَادِقِينَ). (34_ الطور).
والحديث هنا لا يعني كلمات وحروف الكتاب الكريم، وإنما الفعل (حَدَثَ) يدل على وجود شيء بعد أن لم يكن موجوداً، لأن إحداث شيء إيجاده، والحديث هو كل ما يتعلق بحادث جديد لم يحدث من قبل، سواء كان ذلك الحديث خبراً أو واقعة، ومنه (الحادثة) وهي النازلة شديدة الوقع والغرابة التي لم يسبق حدوث مثلها من قبل وجمعها (حوادث)، وكل كلام حمل في مدلوله حدثا جديدا لم يكن من قبل فهو (حديث)، قال تعالى: (ما يأتيهم من ذكر من ربهم محدث). (2_ الأنبياء). أي: ذكر يحمل أشياء محدثة لم يسمعوا ولم يعلموا بها من قبل. ويقال لكل ما قَرُبَ عهده مُحْدَث، فعلا كان أو قولا. قال تعالى: (حتى أحدث لك منه ذكرا) (70_ الكهف)، وقال: (لعل الله يحدث بعد ذلك أمرا). (1_ الطلاق)، وكل كلام يحمل معانٍ ومدلولات ومفاهيم جديدة لم تكن من قبل ويبلغ الإنسان من جهة السمع أو الوحي في يقظته أو منامه يقال له: حديث، قال سبحانه: (وإذ أسر النبي إلى بعض أزواجه حديثا). (3_ التحريم). وقال تعالى: (هل أتاك حديث الغاشية). (1_ الغاشية)، وقال سبحانه على لسان يوسف: (وعلمتني من تأويل الأحاديث). (101_ يوسف)، أي: تأويل ما يُرَى في الرؤى والأحلام من أحداث وأحاديث جديدة غريبة لم تحدث على وجه الحقيقة، والحديث ضد القديم وضد ما لم يحدث من قبل، ولا يقال لأي كلام (حديثا) إلا إذا كان يحمل مفاهيم ومدلولات ومعان جديدة حديثة لم تكن من قبل. فلما تحدى الله الناس، لم يتحداهم بأن يأتوا بمثل فصاحة وبلاغة وتراكيب كلمات وجمل وعبارات الكتاب الكريم، إنما تحداهم بأن يأتوا بحديث مثل حديث كتاب (القرءان الكريم)، أي بكلام يحمل أحداثا وأحاديث وقصصا وموضوعات وأنباء ماضية ومستقبلية جديدة لم يسبق لهم أن سمعوا بها من قبل أو حَدَّثَ بها أحد قبله، قال تعالى: (أَمْ يَقُولُونَ تَقَوَّلَهُ بَل لاَّ يُؤْمِنُونَ(33) فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِّثْلِهِ إِن كَانُوا صَادِقِينَ). (34_ الطور).

## ما هو الذكر الذي تكفل الله بحفظه؟ :

من كل ما تقدم تبين لنا بما لا يدع مجالا للشك أن الله لم يتكفل بحفظ كلمات وحروف كتاب (القرءان الكريم) من الزيادة والنقصان والتبديل والتغيير والاختلاف، لعدم وجود مصحف واحد خطه النبي الأكرم بيده، ولعدم وجود مصحف واحد لكتبة الوحي من صحابته عليه الصلاة والسلام الذين كانوا يكتبون الوحي تحت إشرافه ورعايته، ولعدم وجود تدخل إلهي مباشر في خط وجمع كتاب (القرءان الكريم)، وأن جمع وخط كتاب (القرءان الكريم) هو عمل بشري محض قام به صحابة رسول الله من بعده، ولوجود عدد كبير من القراءات والروايات المختلفة مع بعضها البعض في الحروف والكلمات بالزيادة والنقصان والتشكيل والتقديم والتأخير لمئات الكلمات.
إذاً ما هو الذكر الذي تكفل الله بحفظه؟.

فيما سبق تبين لنا من خلال لسان قوم الرسول الذي نزل به الكتاب الكريم، ومن خلال نصوص الكتاب الكريم أن الفعل "ذَكَرَ" وجميع مشتقاته يدل على حضور أو استحضار لهيئة أو صورة ذهنية نفسية قلبية لشيء له وجود مادي حقيقي تتطابق معه وتدل عليه وتشير إليه، ويكون حضوره (ذكراً) بهيئته وصورته في النفس أو في الذهن أو في القلب أو على اللسان، سواء لشيء حدث في الماضي أو لشيء سيحدث في المستقبل، وهو ضد النسيان وضد الضلال الذي بمعنى الخلط والاختلاط الذي يكون نتيجة قصور علمي ومعرفي، ولا يدل (الذِكْر) مطلقا على هيئة وصورة ذهنية قلبية نفسية فقط لشيء ما، إنما لابد وأن يكون معه الحضور المادي لذات الشيء المذكور، فكأن الذكر لا يتعلق فقط بالأفكار والتصورات والدلالات والمفاهيم والمعاني المجردة المتعلقة بأمر مادي ما أو حدث مادي ما، إنما يدل على الحضور المعنوي للأشياء المادية المذكورة في صورة وهيئة ذهنية نفسية قلبية تدل وتتطابق مع الحضور المادي ذاته، والحضور المعنوي مكانه الذهن والنفس والقلب، وأما ذكر اللسان فليس هو ذات الذكر إنما جُعِل اللسان آلة لنقل صورته وهيئته الذهنية النفسية القلبية وحمله عبر الكلمات إلى الآخرين لتثبيته في النفس والقلب، فكأن الذكر يجمع بين مكونين أساسيين لا ينفصلان عن بعضهما، الأول: واقع مادي حقيقي، والثاني: صورة ذهنية نفسية قلبية تتطابق معه وتدل عليه وتشير إليه. هذه الصورة الذهنية قد تأتي في شكل (خبر، أو نبأ، أو كلام، أو قصص، أو موعظة، أو غيرها)، ولو فقد الذكر أحد هذين المكونين الأساسيين فلا يعد ذكراً).

وتبين لنا أن كل ما يتم حضوره واستحضاره في الذهن والقلب والنفس من أشياء لا يعد شيئا منها (ذِكْراً) ولا يصلح أن نطلق عليه اسم (ذِكْر) إلا إذا كانت هيئة أو صورة ذلك الشيء (المذكور) الذهنية والنفسية والقلبية لها وجود حقيقي موضوعي وآثار علمية يقينية مغلظة وصارمة وصلبة وشديدة الوضوح والجلاء، فينتج عن المطابقة بين الهيئة أو الصورة الذهنية وبين الوجود الموضوعي الحقيقي (ذِكْر) أي: هيئة أو صورة في النفس والذهن والقلب مستمدة من أشياء مادية حقيقة لها وجود موضوعي حقيقي، أي: إن صلابة حضور الشيء ووضوحه وغلظة وقوعه وصرامة حدوثه أصبح في الذهن كحقيقة علمية قطعية يقينية لكنها هيئة أو صورة ذهنية نفسية قلبية، فكما أن هناك حقائق علمية يقينية لها هيئة أو صورة مادية ملموسة مرئية محسوسة، فهناك أيضا حقائق علمية يقينية عبارة عن هيئة أو صورة ذهنية نفسية قلبية مستمدة من أشياء مادية حقيقة كان لها أو مازال لها وجود حقيقي موضوعي أو سيكون لها وجود مادي موضوعي حقيقي في المستقبل، إلا أن (ذكرها) أي: هيئتها أو صورتها محله فقط الذهن والقلب والنفس.

ويؤكد الحق سبحانه هذا المفهوم وهذا المدلول في قوله: (وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ إِلاَّ رِجَالاً نُّوحِي إِلَيْهِمْ فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ(43) بِالْبَيِّنَاتِ وَالزُّبُر)ِ(44_ النحل)، وقوله: (وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ إِلاَّ رِجَالاً نُّوحِي إِلَيْهِمْ فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ(7) وَمَا جَعَلْنَاهُمْ جَسَداًّ لاَّ يَأْكُلُونَ الطَّعَامَ وَمَا كَانُوا خَالِدِينَ). (8_ الأنبياء). وأهل الذكر هنا ليسوا رجال الدين من الأحبار والرهبان والمشائخ وأصحاب العمائم الذين يحفظون الوجه الصوري الكلامي الذهني القلبي للذكر فقط، إنما أهل الذكر هم المؤمنون الذي يجمعون ما بين دلالات ومفاهيم وصور وهيئات ومعاني كلام الحق سبحانه وبين الواقع الموضوعي الحق لهذه المفاهيم والدلالات والمعاني ليكونوا منهما (ذكراً)، بدليل قوله في آية النحل السابقة (بِالْبَيِّنَاتِ وَالزُّبُرِ)، أي: من أدوات أهل الذكر ودلائلهم (البينات والزبر)، والبينات هي الواقع الموضوعي لكلام الحق سبحانه، والزبر هي الكتب المؤكدة قوية الوضوح وما تحمل من مفاهيم ودلالات وصور وهيئات كلام الحق سبحانه، وبالتالي أصبح هؤلاء (أهل الذكر) الذين هم قبلة لأسئلة الناس واستفساراتهم وليس أصحاب العمائم والدراويش ولا من يسموا بالمفكرين والمثقفين الذين يحترفون الرغي والثرثرة وكثرة الكلام الذي لا يثمن ولا يغني من جوع.

وعليه فـ (الذكر) الذي تكفل الله بحفظه ليس هو ذات كتاب (القرءان الكريم) بحروفه وكلماته، وإنما هو الهيئة والصور الذهنية والنفسية والقلبية لمعاني ودلائل وبراهين وحقائق وعلوم وأخبار وأنباء موضوعات كتاب (القرءان الكريم) المستمدة من الوجود الموضوعي الحقيقي المادي لها في هذا الكون منذ مبدأه لمنتهاه، وإن حدث اختلاف أو زيادة أو نقصان أو تغيير أو تبديل في نصوص الكتاب الكريم التي هي الحروف والكلمات، يكون الذكر المحفوظ الذي هو الجمع بين الهيئة والصور الذهنية والنفسية والقلبية لمعاني ودلائل وبراهين وحقائق وعلوم وأخبار وأنباء موضوعات كتاب (القرءان الكريم) وبين الوجود الموضوعي الحقيقي المادي لها في هذا الكون والتي أشارت لها نصوص الكتاب الكريم هي التي تصوب الحروف والكلمات في الكتاب المخطوط الذي بين أيدينا إن وجد فيه اختلاف أو تعدد بالزيادة أو بالنقصان، وقد سبق منذ قليل أن ضربت مثلا بكلمتي: (ذريتهم) و(ذرياتهم)، وقلت أن حقيقة الموضوع المبحوث ذاته واتساقه وتوازنه وتكامل لبنات بنيانه هي ما ستحدد أي الكلمتين أنسب وأصح وأصوب لحقيقة الموضوع الكاملة، وأضرب مثلا آخر لتقريب المفهوم على النحو التالي:

الحق سبحانه أخبرنا في كتابه الكريم أنه لم يترك أمة من أمم الأرض إلا وأرسل لها رسولا:
قال تعالى:
(وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولاً أَنِ اعْبُدُواْ اللّهَ وَاجْتَنِبُواْ الطاغوت). (النحل – 36).
وقال :
(وَإِن مِّنْ أُمَّةٍ إِلَّا خلَا فِيهَا نَذِيرٌ) (فاطر – 24).
وقال :
(وَلِكُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولٌ). (47- يونس).
وأخبرنا أن ما من أمة من أمم الأرض إلا وجعل لها منسكا هم ناسكوه:
قال تعالى:
(لِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنسَكًا هُمْ نَاسِكُوهُ) (67- الحج).
وأخبرنا أن ما من أمة من أمم الأرض إلا وجاءها كتاب:
قال تعالى:
(وَتَرَى كُلَّ أُمَّةٍ جَاثِيَةً كُلُّ أُمَّةٍ تُدْعَى إِلَى كِتَابِهَا). (28- الجاثية).
وأخبرنا أن قصص الأنبياء والرسل الذين قصهم الله علينا في الكتاب ليسوا هم جميع الأنبياء والرسل الذين أرسلهم الله إلى كل أمم الأرض، إنما هناك أنبياء ورسل آخرين لم يقصصهم علينا وهم أنبياء وأمم الأرض الأخرى البعيدة عنا وعن منطقة الشرق الأوسط:
قال تعالى:
(وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلًا مِّن قَبْلِكَ مِنْهُم مَّن قَصَصْنَا عَلَيْكَ وَمِنْهُم مَّن لَّمْ نَقْصُصْ عَلَيْكَ) (غافر – 78).

فهذه النصوص في هذا الموضوع تظل حبرا على ورق حتى نقوم بالسير في الأرض والبحث والتقصي والملاحظة والتنقيب والقراءة وتتبع الآثار للوقوف على (ذكر) هذا الموضوع أي: هيئته وصورته الحقيقية اليقينية التي نستمدها من حقائقها المادية الموجودة بالفعل، و(ذكر) هذا الموضوع يكون بالتثبت من حقيقة مدلول هذه النصوص وما تحمله من أنباء، ولنبحث هل الأديان التي تسمى (وضعية) المنتشرة في جميع أمم الأرض هل هي رسالات سماوية في أصولها وجذورها، وهل قادتها كانوا أنبياءً ورسلاً أم لا؟، فمثلا قمت أنا منذ حوالي ثمانية أعوام بعمل دراسة متواضعة _سأترك للقارئ روابط فصولها في نهاية هذا الفصل_ عن الديانات الشرقية القديمة التي سبقت الإسلام والمسيحية وبعضها سبقت اليهودية وهي: (الكونفوشيوسة، والذرادشتية، والبوذية، والهندوسية)، وتوصلت في دراستي هذه إلى أن أصول هذه الديانات وبداياتها كانت رسالات إلهية تتطابق تماما مع معتقدات ونسك وشعائر وأحكام الرسلات الإلهية الشرق أوسطية الثلاث: (اليهودية والمسيحية والإسلام)، وهذا التطابق والتشابه إن دل على شيء فإنما يدل على وحدة المصدر أي: أن مصدر هذه الرسالات جميعها هو الله الحق سبحانه، وهذا يكشف لنا عن تطابق الذكر المخطوط في كتاب (القرءان الكريم) في قوله تعالى: (وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولاً) (النحل – 36)، وقوله: (وَلِكُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولٌ). (47- يونس). وقوله: (وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلًا مِّن قَبْلِكَ مِنْهُم مَّن قَصَصْنَا عَلَيْكَ وَمِنْهُم مَّن لَّمْ نَقْصُصْ عَلَيْكَ). (غافر – 78). مع الذكر المحفوظ الذي تكفل الله بحفظه من هيئة وصور معاني وآثار ودلائل وبراهين وعلوم وحقائق موضوعات كتاب (القرءان العظيم) الذي يستمد حقيقة (ذكره) من الوجود الموضوعي لهذا الكون الذي نعيش فيه.

نخلص من كل ما تقدم أن (الذكر) يتكون وينشأ من أمرين، الأول: هيئة أو صورة ذهنية قلبية نفسية تحملها كلمات الكتاب، والثاني: وجود موضوعي حقيقي لهذه الهيئة أو تلك الصورة، فينشأ عن هذين الأمرين متحدين ومتوافقين ومتسقين ومتوازنين (الذِّكْر)، فالوجود الموضوعي الحقيقي لأي شيء لا يعد بمفرده ذكرا، حتى يتم فحصه وبحثه والإحاطة به بحيث نُكَوِّن منه أو عنه فكرة، هذه الفكرة المتسقة والمتطابقة مع وجودها الموضوعي الحقيقي تسمى (ذكرا)، وكذلك (الفكرة) وحدها منفصلة عن حقيقة الوجود الموضوعي الحقيقي لها لا تعد (ذكرا) حتى يجتمع الاثنان معا. وبالتالي: حين قال الحق سبحانه: (إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون) لم يكن يعني محض كلمات وحروف وجمل وعبارات الكتاب الكريم وحدها، وإنما كان يعني الهيئة أو الصورة الفكرية الذهنية الثابتة الراسخة الحقيقية الصحيحة التي علينا نحن المؤمنون أن نسعى سائرين في الأرض باحثين ناظرين مفكرين لنكشف (الذكر المحفوظ) الذي يتكون من معاني ودلائل ومفاهيم وبراهين وأنباء وأخبار موضوعات الكتاب الكريم ومن وجودها الموضوعي الحقيقي في أنفسنا وفي جميع آفاق هذا الكون الذي نعيش فيه.

ونلحظ في هذه الآية الكريمة ثلاثة أمور في غاية الأهمية، الأول: أن الحق سبحانه اختص نفسه بحفظ الذكر فحسب، ما يعني أنه لم يقل (إنا نحن نزلنا الذكر وإني سأحفظه لكم). وإنما قال (وإنا له لحافظون)، ما يعني أنه من أراد منا أن يبحث عن الذكر المحفوظ ويتحقق من يقينيته فما عليه سوى الكشف والبحث والتنقيب والسير والنظر للوقوف على هذا الحفظ الإلهي للذكر الذي يجمع بين كتابه الكريم وما يحمله من معان ودلائل ومفاهيم وبين وجودها الموضوعي الحقيقي في أنفسنا وفي الآفاق من حولنا، ويكون البحث والتفكير والنظر عن طريق العلم وآلياته الصحيحة السليمة المستقيمة الراسخة.
الأمر الثاني: أن أسلوب الأية الكريمة جاء بصيغة الجمع (إنا) و(نحن) و(نزلنا) و(حافظون)، ما يعني أن حفظ (الذكر) لم يقم الله به بمفرده، وإنما استخدم وكلف عددا من خلقه في السموات وفي الأرض بتنزيل الذكر وحفظه، وتفصيل هذا يحتاج إلى بحث بمفرده قد أكتبه فيما بعد، ولكني فقط أحببت أن ألفت انتباه القارئ الكريم إلى هذه الدلالة العظيمة المفيدة في أسلوب الجمع في الآية الكريمة: (إنا) (نحن) (نزلنا) الذكر (وإنا) له (لحافظون)، ليتفكر فيها وينظر ويبحث ويُحْدِثَ منها ذِكْراً.
الثالث: أن هناك عددا من آيات الكتاب تؤكد أن هذا الكتاب العظيم يحتاج إلى وقت وأزمان وصبر وبحث وسير في الأرض ونظر وتقصي لكشف حقائقه وعلومه وأنبائه:
قال تعالى:
(بَلْ كَذَّبُوا بِمَا لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ). (39_ يونس).
وقال :
(وَكَذَّبَ بِهِ قَوْمُكَ وَهُوَ الحَقُّ قُل لَّسْتُ عَلَيْكُم بِوَكِيلٍ(66) لِّكُلِّ نَبَأٍ مُّسْتَقَرٌّ وَسَوْفَ تَعْلَمُونَ). (67_ الأنعام).
وقال :
(وَلَتَعْلَمُنَّ نَبَأَهُ بَعْدَ حِينٍ). (88_ ص).
وقال :
(قُلْ سِيرُوا فِي الأَرْضِ فَانظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الخَلْقَ). (20_ العنكبوت).
وقال :
(أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا). (46_ الحج).
وقال :
(سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآفَاقِ وَفِي أَنفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الحَقُّ). (53_ فصلت).
وقال :
(أَوَ لَمْ يَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَيَنظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ كَانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَأَثَارُوا الأَرْضَ وَعَمَرُوهَا أَكْثَرَ مِمَّا عَمَرُوهَا). (9_ الروم).

وحين وصف الله كتابه الكريم بأنه (لاَ يَأْتِيهِ البَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلاَ مِنْ خَلْفِهِ), لم يصفه بهذا من حيث كلماته وحروفه وجمله وعباراته، وإنما وصفه الله بهذا من حيث كونه (كتاب ذكر)، قال تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالذِّكْرِ لَمَّا جَاءَهُمْ وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ(41) لاَ يَأْتِيهِ البَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلاَ مِنْ خَلْفِهِ تَنزِيلٌ مِّنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ). (42_ فصلت)، فـ (الذكر) هو الكتاب (العزيز)، لماذا وصف الله كتاب (الذكر) بالعزة؟، لأن الفعل (عَزَّ) يدلُّ على شدّةٍ وقوّةٍ في خروج شيء أو الوصول إليه، فطالب الشيء العزيز يجد مشقة وجهد في الوصول إليه، ويقال: (عَزّ الشّيء) إذا أجهد طالبه الحصول عليه حتى كأنه يكاد لا يقدر على الحصول عليه إلا بمشقة ومجاهدة. وكانت العرب تقول للناقة التي لديها ضيق في فتحة الثدي فلا تدر اللبن إلا بجهد وصعوبة: (ناقةٌ عَزُوزٌ). فَوَصْف الله كتاب (الذكر) بالعزة يدل على الشدة والقوة في استخراج حقائقه وعلومه ودلائله أو الوصول إليها، فطالب حقائق كتاب (الذكر) يجد مشقة وجهد في الوصول إليها. ومن المؤكد أن صفة العزة ليست لكلمات وحروف وجمل وعبارات الكتاب الكريم، وإنما للذكر الذي يجمع بين دلائل ومفاهيم وبراهين ومعاني وصور وهيئات موضوعات الكتاب الكريم وبين وجودها الموضوعي في النفس وفي آفاق هذا الكون، وتحقق الجمع بين هذين الأمرين عنده يكون (كتاب الذكر) العزيز الذي: (لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه).

وأيضا قوله تعالى: (وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ). (44_ النحل). والذكر هنا في هذه الآية ليس حروف وكلمات وعبارات الكتاب الكريم، وإنما الذكر هو ما أوحاه الله لرسوله من علوم حقيقة نهائية في غير الكتاب الكريم ليبين بها الرسول ما نزل إليهم من الكتاب الكريم، ويؤيد هذا قوله تعالى: (ص وَالقرءان ذِي الذِّكْرِ). (1_ ص)، فالقرءان ليس هو كلمات وحروف الكتاب الكريم وإنما هو نتائج فعل القراءة كما سبق وأن أوضحنا، أما (ذي الذكر)، فكما تعودنا من المفسرين أن يضعوا كلمات تقديرية من تلقاء أنفسهم بدلا من الكلمات الأصلية التي وردت في الكتاب الكريم في محاولة فهم دلائل الكتاب الكريم، فقالوا أن (ذي) بمعنى (صاحب)، أي: (القرءان صاحب الذكر)، ولا أدري ما الذي يعجز الله أو يمنعه من أن يقول (والقرءان صاحب الذكر)؟، وما الذي أجبره على قول: (ذي الذكر) بدلا من (صاحب الذكر) وهو يقصد صاحب الذكر؟.

بكل تأكيد أن الاسم (ذي) يختلف تماما في دلالته عن الاسم (صاحب)، فالاسم (صاحب) يدل على علاقة صحبة بين شخصين أو بين شيئين قد تدوم وقد لا تدوم، أما الاسم (ذي) فيدل على رابطة بينية دائمة ومستمرة بين شيئين، فالصحبة قد تدوم وقد لا تدوم، أما علاقة (ذي) أو (ذو) أو (ذا) فهي علاقة ورابطة دائمة ومستمرة ولا يتوقع انفصالها، ومنه قوله تعالى: (وآت ذا القربى حقه)، وقوله: (إن الله لذو فضل على الناس)، وقوله: (ويسألونك عن ذي القرنين)، لأنها علاقة لقب أو أسم دائم ملازم له، وقوله: (وذا النون إذ ذهب مغاضبا)، ....إلخ، أما علاقة الصحبة فمنها: (وصاحبته وبنيه)، أي: زوجته وبنيه، وقوله: (وما صاحبكم بمجنون)، وقوله: (يا صاحبي السجن)، فالاسم (صاحب)، دلالته تختلف تماما عن الاسم (ذي)، فمثلا الحق سبحانه قال عن يونس عليه السلام: (كَصَاحِبِ الحُوتِ إِذْ نَادَى وَهُوَ مَكْظُومٌ). (48_ القلم)، فوصف الله يونس في هذه الآية بـ (صاحب) الحوت لأن الحق سبحانه يتحدث عنه هنا حين كان ينادي وهو في بطن الحوت، فكان وقتها (صاحب الحوت)، أي: علاقة لم تدم طويلا، أما بعد خروجه من بطن الحوت وصفه بـ (ذا النون)، لأن هذا الوصف أضحى لقبا يلقب به ويلازمه طوال حياته وبعد مماته لا يفارقه، فأورد الحق سبحانه الوصف هنا بـ (ذا النون)، ولم يقل (صاحب النون) للدلالة على دوام الارتباط والملازمة. هكذا قوله: (والقرءان ذي الذكر). أي: القرءان الملازم للذكر أبدا لا ينفك عنه، أي: هناك علاقة وترابط دائم ومستمر لا ينفصل بين القرءان الذي هو نتائج حقائق وعلوم كل شيء في هذا الكون وبين الذكر الذي هو النتيجة النهائية العلمية الموضوعية الحقيقة للربط بين مفاهيم ومعاني ودلالات الكتاب الكريم وبين واقعها ووجودها الموضوعي الحقيقي في أنفسنا وفي آفاق هذا الكون. ومنه قوله تعالى: (وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ وَمَا يَنْبَغِي لَهُ إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ وَقُرْآنٌ مُّبِينٌ). (69_يس).

أما قوله تعالى: (إنَّمَا تُنذِرُ مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ وَخَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ). (11_يس). نلحظ من تتبع فعل الأمر (اتبعوا) أو فعل الأمر (اتبع) في كتاب القرءان الكريم، أنه لا يوجد أمر واحد في الكتاب كله لا للرسول ولا للمؤمنين باتباع (القرءان) ولا باتباع (الكتاب)، إنما الأمر جاء باتباع (الوحي)، واتباع (الرسول)، واتباع (الهدى)، واتباع (ما أنزل إليكم)، واتباع (الصراط المستقيم)، واتباع (سبيل الله)، واتباع (المرسلين) واتباع (سبيل المؤمنين)، واتباع (ملة إبراهيم)، واتباع (الذكر). والذكر كما سبق وأن قلنا هو الحقائق الذهنية اليقينية التي أثبتها الوجود الموضوعي الحقيقي لها.

## (الذِّكْر) وشخص النبي محمد عليه الصلاة والسلام:

يقول الحق سبحانه: (كَذَلِكَ نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ مَا قَدْ سَبَقَ وَقَدْ آتَيْنَاكَ مِن لَّدُنَّا ذِكْراً). (99_ طه). هذه الآية الكريمة تقول أن الله قد قصَّ على رسوله (أنباء ما قد سبق)، وآتاه من لدنه (ذكراً)، ومن المؤكد أن جمع (أنباء ما قد سبق) مع (الذكر) في آية واحدة يدل على أن (أنباء ما قد سبق) شيء و(الذكر) شيء آخر، وهذا الذكر الذي آتاه الله للرسول من لدنه في هذه الآية ليس هو حروف وكلمات الكتاب الكريم، وليس هو كل ذكر موضوعات الكتاب بأجمعه، وإنما هو (الذكر) الذي يستطيع من خلاله النبي الأكرم تبليغ الرسالة وتلاوة الآيات وتعليم المؤمنين الكتاب والحكمة وتعليمهم ما لم يكونوا يعلمون، وهو (الذكر) الذي يؤهل شخص النبي الأكرم عليه الصلاة والسلام لمهمة أن يكون (مُذَكِّراً)، قال تعالى: (فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ). (21_ الغاشية)، وهذه الوظيفة لابد لها من تأهيل وإعداد بـ (ذِكْر) موحى به إليه من خارج الكتاب الكريم يؤهل شخص الرسول ويعده لوظيفة ومهمة (مُذَكِّر). ولم يقتصر الأمر على إيتاء الله من لدنه لرسوله (ذكراً) لتأهيله لوظيفة (مُذَكِّر) فحسب، بل إن شخص الرسول الأكرم نفسه (ذِكْراً) قال تعالى: (قَدْ أَنزَلَ اللَّهُ إِلَيْكُمْ ذِكْراً(10) رَسُولاً يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِ اللَّهِ مُبَيِّنَاتٍ لِّيُخْرِجَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ). (11_ الطلاق).

فالذكر هاهنا في هذه الآية هو وصف لشخص النبي الأكرم عليه الصلاة والسلام، فالذكر ليس فقط بعض موضوعات ومعاني الكتاب الكريم، بل إن شخصه عليه الصلاة والسلام (ذِكْراً)، وهذا الوصف يماثل وصف الحق سبحانه لعبده ورسوله المسيح عيسى بن مريم بـ (الكلمة)، قال تعالى عن المسيح: (وكلمة منه)، فيكون قوله هاهنا في الآية: (رسولاً) بدلا منه، لأن كلمة (رسولاً) جاءت منصوبة بالفتحة وسبب النصب أنها بدل من قوله (ذكراً)، ولو رفعنا ترقيم الآية التي تفصل بين (ذكراً) و(رسولاً) ستكون: (قد أنزل الله إليكم ذكراً رسولاً يتلو)، ونلحظ أمراً آخر في هذه الآية أن الله لم يقل: (قد أنزل الله إليكم كتاباً رسولاً يتلو)، ولم يقل: (قد أنزل الله إليكم قرءاناً رسولاً يتلو)، وفي هذا دلالة على أن ما أنزله الله على رسوله من (ذِكْر) في هذه الآية تحديدا ليس هو الكتاب، وليس هو القرءان، وإنما هو (الذِّكْر) الذي صار به شخص الرسول الأكرم نفسه (ذكراً) حيا واقعا مشاهداُ يمشي على قدمين، وهذا يؤكد ما جاء في وصف أم المؤمنين (عائشة) حين سئلت عن شخصه عليه الصلاة والسلام فقالت كلاما قريبا من مدلول هذه الآية حيث قالت: (كان قرءانا يمشي على الأرض) أي هو التمثيل والتشخيص والتطبيق العملي الواقعي للنص القرءاني على الأرض، ما يعني أن ممارساته وسلوكياته وتوجيهاته وأوامره ونواهيه هي التطبيق العملي الحياتي الواقعي للنص القرءاني الكريم وليس كما يزعم القرءانيين أننا لا نقبل منه سوى النص القرءاني فقط ثم نقول له: (شكراً لك واذهب انت إلى حال سبيلك). وخلاصة القول في هذه المسألة أن الله آتى الرسول من لدنه (ذِكْراً) ليؤهله لمهمة (مُذَكِّر) فصار شخصه عليه الصلاة والسلام (ذِكْراً)، قال تعالى: (قَدْ أَنزَلَ اللَّهُ إِلَيْكُمْ ذِكْراً(10) رَسُولاً يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِ اللَّهِ مُبَيِّنَاتٍ لِّيُخْرِجَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ). (11_ الطلاق).

## جواب على سؤال شائع: (لماذا حفظ الله القرءان ولم يحفظ التوراة والإنجيل؟):

هذا السؤال يتردد كثيرا على ألسنة الناس وفي كثير من المنتديات التي تناقش مقارنة الأديان من المسلمين ومن غير المسلمين، حيث يتساءل كثير من الناس إذا كانت التوراة والإنجيل كتابان من عند الله ككتاب القرءان الكريم فلماذا لم يحفظهما الله من التحريف والضياع كما حفظ كتاب القرءان الكريم؟؟.
الجواب: التوارة والإنجيل فيهما معاني ومفاهيم ودلائل (الذِكْر الذي تكفل الله بحفظه) مثلهما تماما مثل معاني ومفاهيم ودلائل (ذِكْر) كتاب القرءان الكريم، قال تعالى عن موسى: (وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى وَهَارُونَ الفُرْقَانَ وَضِيَاءً وَذِكْراً لِّلْمُتَّقِينَ). (48_ الأنبياء). وقال: (وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ). (105_ الأنبياء). والزبور هو الوحي الذي أوحاه الله إلى نبيه داوود، وداوود جاء بعد موسى، وهذا يبين مدلول قوله: (كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ) والذكر هو (التوراة). بل إن التوراة والإنجيل والقرءان وكل الكتب الإلهية التي نزلت على جميع رسل الله في كل أمة من أمم الأرض التي قص الله علينا أسماء رسلهم والتي لم يقصص علينا أسماء رسلهم، كل هذه الرسالات تحمل معاني ومفاهيم ودلائل (الذِكْر الذي تكفل الله بحفظه)، وما علينا إلا أن نقرأ جميع هذه الكتب ثم نسير في الأرض بهداها وننظر ونبحث ونفكر ونتقصى حقائق (الذكر الإلهي الذي تكفل الله بحفظه).

ويؤكد هذا المفهوم كثير من نصوص كتاب (القرءان العظيم) التي تشير بوضوح وجلاء أن ما بين أيدي اليهود والنصارى الآن من كتب هي كتب إلهيه تحوي (توراة) موسى و(إنجيل) المسيح بن مريم الحقيقيان وليسا المزورين أو المحرفين كما يدعي ويزعم أكثر المسلمين خطئا ورجما بالغيب وزراً وبهتاناً، حيث يزعم ويدعي أغلب المسلمين اليوم زوراً وبغير علم أن (التوراة والإنجيل) الأصليان قد تحرفا وضاعا ولم يعد لهما وجود، أقول: هذا كذب وزور وبهتان عظيم وقول بغير علم، بل إن ما يسمى (الكتاب المقدس) الموجود بين أيدي جميع طوائف وفرق اليهود والنصارى بتعدد واختلاف وتنوع نصوصه ورواياته وأسفاره وإصحاحاته القانونية منها وغير القانونية والمعترف بها وغير المعترف بها، يحمل كل هذا التنوع والاختلاف والتعدد والتباين في النصوص بين طياته كتاب الله (التوراة) وكتاب الله (الإنجيل) الحقيقيان الأصليان، بل وكتب ورسالات الأنبياء الذين سبقوا موسى والذين جاءوا من بعده من قبل مولد المسيح بن مريم، وما يؤكد هذا ويصدقه أن هناك نصوصا في كتاب (القرءان الكريم) كانت تستشهد بنفس هذه الكتب التي كانت موجودة بين يدي اليهود والنصارى في زمن النبي الأكرم محمد عليه الصلاة والسلام، وإلا لماذ طالب الحق سبحانه اليهود في عهد رسول الله محمد بأن يأتوا بالتوراة ويتلوها والتوراة قد تحرفت وضاعت كما يدعي ويزعم المسلمون اليوم زورا وبهتان؟؟، ألم يقل الحق سبحانه: (كُلُّ الطَّعَامِ كَانَ حِلاًّ لِّبَنِي إِسْرَائِيلَ إِلاَّ مَا حَرَّمَ إِسْرَائِيلُ عَلَى نَفْسِهِ مِن قَبْلِ أَن تُنَزَّلَ التَّوْرَاةُ قُلْ فَأْتُوا بِالتَّوْرَاةِ فَاتْلُوهَا إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ). (93_ آل عمران).

وإذا كانت التوراة والإنجيل قد تحرفا وقد ضاعا كما يزعم المسلمون اليوم فكيف يذكر الله في كتابه الكريم نعت ومثال رسوله الأكرم محمد والذين آمنوا معه في (التوراة) وفي (الإنجيل) ويستشهد بهذا على اليهود والنصارى والتوراة والإنجيل قد تحرفا وضاعا؟؟، ألم يقل الحق سبحانه: (مُحَمَّدٌ رَّسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَاناً سِيمَاهُمْ فِي وَجُوهِهِم مِّنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الإِنجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الكُفَّارَ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُم مَّغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً). (29_ الفتح). وإذا كانت التوراة والإنجيل قد تحرفا وضاعا ولم يعد لهما وجود كما يزعم المسلمون فكيف ذكر الحق سبحانه أن أهل الكتاب يعرفون محمداً أنه حقا رسول الله كما يعرفون أبناءهم؟؟، ومن أي مصدر آخر غيرهما قد عرف فريق من أهل الكتاب (محمداً) كما يعرفون أبناءهم؟؟، قال تعالى: (الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ وَإِنَّ فَرِيقاً مِّنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ). (146_ البقرة). وقال: (وَإِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الكِتَابَ لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الحَقُّ مِن رَّبِّهِمْ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ). (144_ البقرة)، هذه المعرفة اليقينية التي يمتلكها فريق من أهل الكتاب حول نبوة محمد ورسالته لابد ويقينا أنهم استقوها من كتبهم الحقيقة الموجودة بين أيديهم بالفعل والتي لم تَضِعْ ولم تُفْقَد، إذ لو ضاعت بالفعل فمن أين لهم هذه المعرفة اليقينية التي تحاكي معرفتهم لأبنائهم والتي تحدث عنها الحق سبحانه في هذه الآيات؟.

بل إذا كانت التوراة والإنجيل قد تحرفا وقد ضاعا كما يزعم المسلمون اليوم فكيف يمتدح الله فريقا من أهل الكتاب بأنهم يتلون الكتاب حق تلاوته ويصفهم بأنهم يؤمنون به؟.قال تعالى: (الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الكِتَابَ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلاوَتِهِ أُوْلَئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمَن يَكْفُرْ بِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الخَاسِرُونَ). (121_ البقرة). فهل يمتدح الله تلاوتهم لكتاب محرف قد ضاع أصله؟. بل وكيف يعيب الله على فريق من أهل الكتاب نبذهم لكتاب محرف قد ضاع منهم وفي نفس الوقت يصفه بأنه كتاب الله؟، بل وكيف يقرر الحق سبحانه أن الرسول محمد جاء مصدقُ لما معهم من الكتاب؟، فهل يستقيم أن يصدق الرسول الكتاب الموجود بين يدي اليهود والنصارى وهو كتاب محرف ضائع؟، قال تعالى: (وَلَمَّا جَاءَهُمْ رَسُولٌ مِّنْ عِندِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِّمَا مَعَهُمْ نَبَذَ فَرِيقٌ مِّنَ الَّذِينَ أُوتُوا الكِتَابَ كِتَابَ اللَّهِ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ كَأَنَّهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ). (101_ البقرة).

وإذا كانت التوراة والإنجيل قد تحرفا وضاعا كما يزعم المسلمون هل كان الحق سبحانه سيحض اليهود والنصارى على إقامتهما والعمل بأحكامهما؟!، بل كيف يطلب الله من اليهود والنصارى إقامة أحكام كتاب قد أصابه التحريف والتغيير والتزوير والضياع؟!، قال تعالى: (وَكَيْفَ يُحَكِّمُونَكَ وَعِندَهُمُ التَّوْرَاةُ فِيهَا حُكْمُ اللَّهِ ثُمَّ يَتَوَلَّوْنَ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَمَا أُوْلَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ(43) إِنَّا أَنزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هَادُوا وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالأَحْبَارُ بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِن كِتَابِ اللَّهِ وَكَانُوا عَلَيْهِ شُهَدَاءَ فَلاَ تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ وَلاَ تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَناًّ قَلِيلاً وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الكَافِرُونَ(44) وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالأَنفَ بِالأَنفِ وَالأُذُنَ بِالأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ فَمَن تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَّهُ وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (45) وَقَفَّيْنَا عَلَى آثَارِهِم بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ مُصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ وَآتَيْنَاهُ الإِنجِيلَ فِيهِ هُدًى وَنُورٌ وَمُصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةً لِّلْمُتَّقِينَ (46) وَلْيَحْكُمْ أَهْلُ الإِنجِيلِ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فِيهِ وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الفَاسِقُونَ). (47_ المائدة).
وقال سبحانه:
(وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُوا التَّوْرَاةَ وَالإِنجِيلَ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْهِم مِّن رَّبِّهِمْ لأَكَلُوا مِن فَوْقِهِمْ وَمِن تَحْتِ أَرْجُلِهِم مِّنْهُمْ أُمَّةٌ مُّقْتَصِدَةٌ وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ سَاءَ مَا يَعْمَلُونَ). (66_ المائدة).
وقال سبحانه:
(قُلْ يَا أَهْلَ الكِتَابِ لَسْتُمْ عَلَى شَيْءٍ حَتَّى تُقِيمُوا التَّوْرَاةَ وَالإِنجِيلَ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْكُم مِّن رَّبِّكُمْ وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيراً مِّنْهُم مَّا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ طُغْيَاناً وَكُفْراً فَلاَ تَأْسَ عَلَى القَوْمِ الكَافِرِينَ). (68_ المائدة).

بل كيف يجعل الله كتاب (القرءان الكريم) الذي أنزله على رسوله محمد مصدقا للكتاب الذي بين يدي اليهود والنصارى بل ويجعل كتاب (القرءان الكريم) مهيمنا عليه؟ فهل يستقيم أن يهيمن كتاب الرسول على كتاب محرف وضائع؟!، قال تعالى: (وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الكِتَابِ وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ فَاحْكُم بَيْنَهُم بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْواءَهُمْ عَمَّا جَاءَكَ مِنَ الحَقِّ لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجاً وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِن لِّيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ فَاسْتَبِقُوا الخَيْرَاتِ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ(48) وَأَنِ احْكُم بَيْنَهُم بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَن يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ فَإِن تَوَلَّوْا فَاعْلَمْ أَنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ أَن يُصِيبَهُم بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ وَإِنَّ كَثِيراً مِّنَ النَّاسِ لَفَاسِقُونَ). (49_ المائدة). والحكم بما أنزل الله هنا في هذه الآيات المقصود به ما أنزل الله في التوراة والإنجيل وليس ما أنزل الله في كتاب (القرءان الكريم). والسؤال هنا هل يأمر الله رسوله أن يحكم بين اليهود والنصارى بأحكام كتب محرفة لا أصل لها؟؟!!.

فالأمر في الآيات الكريمة السابقة واضح وقاطع بأن كتاب التوراة والإنجيل حتى القرن السابع الميلادي زمن وجود النبي محمد عليه الصلاة والسلام كانا صحيحين بإقرار الله وكتابه ورسوله بذلك، وعليه فلا يمكن أن يوجد شخص واحد سوي النفس ليس به جنون يدعي أن الضياع والتحريف حدث بعد عهد رسول الله عليه الصلاة والسلام حيث كان كتاب التوراة والإنجيل منتشرا في كثير من أنحاء الأمم التي كانت تدين باليهودية والنصرانية في زمن النبي الأكرم عليه الصلاة والسلام. ولا يقر في فكر بشر أن يتواطأ كل من فرق اليهود المختلفة وفرق النصارى المختلفة على تضييع وتحريف كتاب التوراة والإنجيل بعد القرن السابع زمن وجود النبي الأكرم محمد عليه الصلاة والسلام. إن الحق سبحانه وصف كتاب موسى وكتاب محمد بأنهما لا يوجد كتاب أهدى منهما، قال تعالى: (فَلَمَّا جَاءَهُمُ الحَقُّ مِنْ عِندِنَا قَالُوا لَوْلا أُوتِيَ مِثْلَ مَا أُوتِيَ مُوسَى أَوَ لَمْ يَكْفُرُوا بِمَا أُوتِيَ مُوسَى مِن قَبْلُ قَالُوا سِحْرَانِ تَظَاهَرَا وَقَالُوا إِنَّا بِكُلٍّ كَافِرُونَ(48) قُلْ فَأْتُوا بِكِتَابٍ مِّنْ عِندِ اللَّهِ هُوَ أَهْدَى مِنْهُمَا أَتَّبِعْهُ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ). (49_ القصص).

وينبغي أن ينتبه القاريء إلى أن كلمة (الكتاب) وردت في آيات القرءان الكريم تعني كتاب واحد يضم عددا من الكتب منها: (صحف إبراهيم) و(التوراة) و(الإنجيل) و(الزبور) و(القرءان) وغيرها من الكتب التي أنزلها الله على الأنبياء والرسل الذين قصهم علينا في (القرءان الكريم)، وأرى أيضا أن كلمة (كتاب) لم تقتصر فقط على الكتب التي أنزلها الله على الأنبياء والرسل الذين قصهم علينا في (القرءان الكريم)، بل وتشمل كلمة (كتاب) كذلك جميع الكتب التي أنزلها الله على الأنبياء والرسل الذين لم يقصصهم علينا في (القرءان الكريم)، وأرى أن منها كتاب (الزرادشتية)، وكتاب (البرهمية)، وكتاب (البوذية)، وكتاب (الكونفوشيوسية)، وغيرها من الرسالات والكتب التي أنزلها الله على كل أمم الأرض التي لا نعرفها، لقوله تعالى: (وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولاً أَنِ اعْبُدُواْ اللّهَ وَاجْتَنِبُواْ الطاغوت) (النحل – 36).

وأقدم للقارئ الكريم عدداً من آيات القرءان الكريم التي تقرر أن الله أنزل على جميع الأنبياء والرسل في جميع أمم الأرض(كتاب واحد) يحوي عددا من الكتب التي أعطى كل نبي وكل رسول واحد منها، فـ (التوراة) مثلا هي نصيب أو جزء من الكتاب وليست الكتاب كله، وكذلك (الإنجيل) هو نصيب من الكتاب وليس كل الكتاب، و(القرءان الكريم) كذلك هو نصيب وجزء من الكتاب وليس الكتاب كله، وهكذا جميع كتب الأنبياء والرسل الذين لم يقصص الله علينا قصصهم في (القرءان الكريم)، إلا أن الحق سبحانه جعل كتاب (القرءان الكريم) هو المهيمن على كل كتب (الكتاب الواحد العام الشامل)، فانظر ماذا قال الحق سبحانه عن كتب اليهود والنصارى (نصيب من الكتاب) وليس كل الكتاب:
قال تعالى:
(أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِّنَ الكِتَابِ يُدْعَوْنَ إِلَى كِتَابِ اللَّهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ). (23_ آل عمران).
وقال :
(أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِّنَ الكِتَابِ يَشْتَرُونَ الضَّلالَةَ وَيُرِيدُونَ أَنْ تَضِلُّوا السَّبِيلَ). (44_ النساء).
وقال :
(أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِّنَ الكِتَابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ وَيَقُولُونَ لِلَّذِيـنَ كَفَرُوا هَؤُلاءِ أَهْدَى مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلاً). (51_ النساء).

وقال عن كتاب (القرءان الكريم) الذي أنزله على رسوله محمد (من الكتاب) أي بعض وجزء من الكتاب وليس الكتاب كله:
قال تعالى:
(اتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ "مِنَ الكِتَابِ" وَأَقِمِ الصَّلاةَ إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنِ الفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ). (45_ العنكبوت).
وقال:
(وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ "مِنَ الكِتَابِ" هُوَ الحَقُّ مُصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ إِنَّ اللَّهَ بِعِبَادِهِ لَخَبِيرٌ بَصِيرٌ). (31_ فاطر).
ما يعني أن ما أنزل إلى النبي الأكرم محمد عليه الصلاة والسلام هو جزء وبعض من الكتاب وليس هو كل الكتاب، بدليل أن الحق سبحانه في موضع التبكيت والتنديد باليهود والنصارى ومعاداتهم لرسوله والمؤمنين يصف نبيه محمداً والذين آمنوا معه بأنهم (يؤمنون بالكتاب كله) في معايرة لليهود والنصارى لاكتفائهم بالإيمان ببعض الكتاب الذي لديهم:
قال تعالى:
(هَا أَنتُمْ أُوْلاءِ تُحِبُّونَهُمْ وَلاَ يُحِبُّونَكُمْ وَتُؤْمِنُونَ بِالْكِتَابِ كُلِّهِ وَإِذَا لَقُوكُمْ قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا عَضُّوا عَلَيْكُمُ الأَنَامِلَ مِنَ الغَيْظِ قُلْ مُوتُوا بِغَيْظِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ). (119_ آل عمران).
فالنبي الأكرم محمد والذين آمنوا معه (يؤمنون بالكتاب كله)، مما يدل على أن جميع الكتب هي في الأصل (كتاب واحد) فيه عدد من الكتب.
وأقدم للقاريء سياق من الآيات من (سورة الأنعام) يذكر فيه الحق سبحانه أسماء عدد (18) من الأنبياء والمرسلين الذين قصهم علينا في (القرءان الكريم)، ثم يختم سياق الآيات بالإشارة إليهم جميعا أنهم: (أولئك الذين آتيناهم الكتاب)، انتبه لقوله: (الكتاب) وليس (الكتب) مما يؤكد أنه كتاب واحد لجميع الأنبياء والرسل:
قال تعالى:
(وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَّن نَّشَاءُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ(83) وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ كُلاًّ هَدَيْنَا وَنُوحاً هَدَيْنَا مِن قَبْلُ وَمِن ذُرِّيَّتِهِ دَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ وَأَيُّوبَ وَيُوسُفَ وَمُوسَى وَهَارُونَ وَكَذَلِكَ نَجْزِي المُحْسِنِينَ(84) وَزَكَرِيَّا وَيَحْيَى وَعِيسَى وَإِلْيَاسَ كُلٌّ مِّنَ الصَّالِحِينَ(85) وَإِسْمَاعِيلَ وَالْيَسَعَ وَيُونُسَ وَلُوطاً وَكُلاًّ فَضَّلْنَا عَلَى العَالَمِينَ(86) وَمِنْ آبَائِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَإِخْوَانِهِمْ وَاجْتَبَيْنَاهُمْ وَهَدَيْنَاهُمْ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ(87) ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَن يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُم مَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ(88) أُوْلَئِكَ الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ فَإِن يَكْفُرْ بِهَا هَؤُلاءِ فَقَدْ وَكَّلْنَا بِهَا قَوْماً لَّيْسُوا بِهَا بِكَافِرِينَ). (89_ الأنعام).

وأيضا جمع الله بين (الكتاب) بلفظ المفرد وبين جميع الرسل في آية واحدة، قال تعالى:
(الَّذِينَ كَذَّبُوا بِالْكِتَابِ وَبِمَا أَرْسَلْنَا بِهِ رُسُلَنَا فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ). (70_ غافر).
وأيضا أخبر الله أنه أرسل جميع رسله بالبينات وأنزل معهم (الكتاب) وليس (الكتب)، قال تعالى:
(لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ الكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ). (25_ الحديد).
وأخبر الله أنه أرسل (نوحا) و(إبراهيم) وجعل في ذريتهما النبوة و(الكتاب) وليس (الكتب)
(وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحاً وَإِبْرَاهِيمَ وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِمَا النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ فَمِنْهُم مُّهْتَدٍ وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ فَاسِقُونَ). (26_ الحديد).
وافتتح الله كتابه العظيم (القرءان الكريم) في السورة الثانية (سورة البقرة) في الآية الثانية منها بقوله: (ذَلِكَ الكِتَابُ لاَ رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ). (2_ البقرة). ونلحظ هنا أن كلمة (ذلك) هي اسم إشارة للبعيد، مما يعني أنه لا يشير إلى كتاب (القرءان الكريم)، فلو كان يشير إلى كتاب (القرءان الكريم) لقال مثلا: (هذا الكتاب لا ريب فيه)، فلا يمكن أن يكون الحق سبحانه يقصد بهذه الآية كتاب (القرءان الكريم) فقط ثم يأتي باسم الإشارة (ذلك) الذي يشير للبعيد غير الحاضر في الذكر والحديث، مما يدل على أن الكتاب هنا هو الكتاب الواحد الجامع الشامل الذي يجمع كل كتب الأنبياء والمرسلين في جميع أمم الأرض وكتاب (القرءان الكريم) كتاب منه.

ونخلص من هذه المسألة بأن لله سبحانه (كتاب واحد جامع شامل) يضم بداخله كل كتب الأنبياء والمرسلين في كل أمم الأرض، وكل كتاب لنبي أو رسول من كتب هذا (الكتاب الواحد الجامع الشامل) بداخله أيضا عدد من الكتب، بمعنى أن كتاب (القرءان الكريم) مثلا يضم بمفرده عددا من الكتب، مثل: كتاب (الصلاة)، وكتاب (الصيام)، وكتاب (الجهاد) وكتاب (الطلاق)، وكتاب (النكاح) .....إلخ، ويدل على هذا قوله تعالى: (رَسُولٌ مِّنَ اللَّهِ يَتْلُو صُحُفاً مُّطَهَّرَةً(2) فِيهَا كُتُبٌ قَيِّمَةٌ). (3_ البينة). فالصحف المطهرة التي يتلوها الرسول التي هي كتاب (القرءان الكريم) فيها (كتب قيمة).

وقبل مغادرة هذه المسألة ألفت نظر القارئ الكريم إلى أن كلمة (كتب) جمع كتاب لم ترد في كتاب (القرءان الكريم) إلا ثلاث مرات فقط في ثلاثة مواضع:
الأول: قال تعالى:
(آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مِن رَّبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ). (285_ البقرة).
الثاني: قال تعالى:
(وَمَن يَكْفُرْ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً بَعِيداً). (136_ النساء).
هاتان الآيتان تتحدثان عن الإيمان وعن الكفر بالكتب التي يضمها (الكتاب الواحد الجامع الشامل) الذي أنزله الله على جميع أنبيائه ورسله الذين أرسلهم لكل أمم الأرض الذين قصهم علينا والذين لم يقصصهم علينا ممن تعرفنا عليهم من خلال سيرنا في الأرض ونظرنا فيها كما أمرنا الله وتعرفنا عليهم، فـ (كتاب الله الواحد الجامع الشامل) يضم في داخله جميع كتب الأنبياء والمرسلين وجميع الكتب التي يضمها كتاب كل نبي وكل رسول على حدة.
الثالث: قال تعالى:
(وَمَرْيَمَ ابْنَةَ عِمْرَانَ الَتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهِ مِن رُّوحِنَا وَصَدَّقَتْ بِكَلِمَاتِ رَبِّهَا وَكُتُبِهِ وَكَانَتْ مِنَ القَانِتِينَ). (12_ التحريم).
لماذا وصف الله (مريم) بمفردها ولا أحد غيرها في كتاب (القرءان الكريم) كله بأنها صدقت بـ (كتبه)؟، الجواب: لأن (مريم) بالفعل عاصرت عددا من الكتب وصدقت بعدد من الكتب في حياتها، أولها: كتاب موسى (التوراة) في بداية حياتها. ثانيها: صدقت بكتب أنبياء بني إسرائيل الذين جاؤوا من بعد موسى ككتابَيِّ (يحيى) و(زكريا) اللذين عاصرتهما في حياتهما قبل ميلاد المسيح. ثالثها: صدقت بكتاب (الإنجيل) كتاب ابنها المسيح (عيسى بن مريم). فمريم صدقت بمجموعة كتب في حياتها، وجميعها هي (كتب) وفي نفس الوقت هي نصيب من (الكتاب الواحد الجامع الشامل) الذي قال الله عنه: (لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ "الكِتَابَ" وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ). (25_ الحديد). وكذلك هي نصيب من (الكتاب الواحد الجامع الشامل) لقوله تعالى: (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِّنَ الكِتَابِ). (51_ النساء).

وكما أن الحق سبحانه قال في كتاب (القرءان الكريم): (إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون). ( _ الحجر).
كذلك قال الحق سبحانه في كتاب من كتب الأنبياء الأولين: (لأنى انا ساهر على كلمتى لأجريها). (ارمياء/ 12:1).
وقال : (وأما كلمة إلهنا فتثبت إلى الأبد). (أشعياء/8:40).

وكما قال الحق سبحانه في كتاب (القرءان الكريم): (وأن تقولوا على الله ما لا تعلمون).
كذلك قال الحق سبحانه في كتب الأنبياء الأولين: (لاتزيدوا على الكلام الذى أنا أوصيكم به ولا تنقصوا منه لكى تحفظوا وصايا الرب الهكم التى أنا أوصيكم بها). (تثنية/ 2:4).
وقال :
(كل الكلام الذى أوصيكم به أحرصوا لتعملوه لاتزد عليه ولا تنقص منه) (تثنية/32:12).
وقال :
(كل كلمة من الله نقية ترس هو للمحتمين به لا تزد على كلماته لئلا يوبخك فتكذب). (أمثال/ 30: 5-6).

وكذلك كما قال الحق سبحانه في كتاب (القرءان الكريم): (وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ(41) لاَ يَأْتِيهِ البَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلاَ مِنْ خَلْفِهِ تَنزِيلٌ مِّنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ). (42_ فصلت).
قال كذلك في كتاب (عيسى بن مريم):
(لا يزول حرف واحد او نقطة واحدة من الناموس). (متى 17:5-18).
(السماء والارض تزولان ولكن كلامى لا يزول) (متى 35:24).
(السماء والارض تزولان ولكن كلامى لا يزول) (مرقس 31:13).
(ولكن زوال السماء والارض أيسر من أن تسقط نقطة واحدة من الناموس). (لوقا/17:16).
(السماء والارض تزولان ولكن كلامى لا يزول). (لوقا 33:21).
(ولا يمكن ان ينقض المكتوب). (يوحنا 35:10).

أقول: هذه الآية السابقة التي وردت في كتاب (القرءان الكريم) والآيات التي تلتها والتي وردت في كتاب (عيسى بن مريم) لا تعني إطلاقا الحروف والكلمات المخطوطة بأيدينا والمتلوة بأصواتنا في المصاحف والأناجيل بذاتها، إنما تعني معانيها وحقائقها ودلالاتها ومفاهيمها الموجودة في أنفسنا والمتناثرة في آفاق هذا الكون والتي هي الآيات والقوانين والسنن والحقائق الإلهية التي أخبر الله عنها في كتبه ورسالاتها والتي لا يمكننا كشفها وإدراك كنهها وحقيقتها إلا بالبحث والنظر والسير في الأرض لنقف على مدى تطابقها مع ما ورد من أنباء وأخبار في كتب الله ورسالاته التي جاء بها جميع الأنبياء والمرسلين، والوجود الموضوعي الحقيقي الكوني المرئي والمسموع والمحسوس لهذه الأنباء والأخبار الإلهية هي التي ستضبط النص المخطوط والمدون في الكتب والروايات المختلفة في نصوص الكتب الإلهية التي بين أيدينا الآن، وأضرب مثلا على هذا:

فمثلا في قراءة: (حفص عن عاصم) قال تعالى: (فَمَتَّعْنَاهُمْ "إِلَى" حِينٍ) (148_ الصافات). بينما في قراءة لعبد الله بن عباس تقول: (فمتعناهم "حتى" حين). ففي القراءة الأولى جاءت بـ (إلى)، بينما في القرءاة الثانية جاءت بـ (حتى)، وبالتالي فكيف نعرف هل هي (حتى)؟ أم هي (إلى)؟، وبالتأكيد أن هناك فارق كبير في الدلالة والمفهوم بين (حتى) و(إلى)، فلن يدلنا على الحرف الحقيقي المقصود وهل هو (حتى) أم (إلى) إلا معرفة ابتداءً الفرق الدلالي والمفهوم الحقيقي بين (إلى) و(حتى) من خلال تناول كتاب القرءان الكريم ودلالة استخدامه للحرفين (إلى) و(حتى) في آيات ومواضع أخرى للوقوف على حقيقة دلالة الحرفين، ثم بعدها نبحث في قصة هؤلاء القوم وننظر ونسير في الأرض للوقوف على حقيقة هذا الحدث كما حدث وكما حفظته لنا صفحات التاريخ واختبار آثاره المحفوظة على الجدران والمخطوطات للوقوف على حقيقة أمر هؤلاء القوم وهل (متعهم الله إلى حين)؟ أم (متعهم حتى حين)؟ فالحقائق الموضوعية المحفوظة في جنبات وآفاق هذا الكون وهذه الأرض هي التي تحفظ كلام الله الحق ومراده الحق وبنيته الحرفية الحقيقية التي لا يأتيها الباطل من بين يديها ولا من خلفها، والتي لا يمكن أن تزول نقطة واحدة ولا حرف واحد من الناموس، ولا يمكن أن تزيل كلام الله الحق حتى ولو زالت السماء والأرض كما أخبر كتاب (المسيح عيسى بن مريم). بل إن حقائق أنباء الكتب الإلهية وآياته في أنفسنا والمتناثرة في آفاق هذا الكون بوجودها المادي الموضوعي الحقيقي لا يمكن أن تنقض المكتوب في كل الكتب الإلهية على اختلاف وتبيان حروفها وكلماتها.

وأضرب مثلا آخر على هذا:
(نفترض أن عددا من الإذاعات والقنوات التلفزيونية والصحف أذاعت خبرا يقول: أن عقارا سكنيا من أربعة عشر طابقا قد انهار في مدينة القاهرة، ثم اختلفت معظم هذه الوسائل الإعلامية فيما بينها في عدد القتلى والمصابين، فمنها مثلا ما قالت: (القتلى 15 والمصابون 40)، ومنها ما قالت: (القتلى 23، والمصابون 60)، ومنها ما قالت: (القتلى 4، والمصابون مائة) ومنها ما قالت القتلى 10، والمصابون 20) ومنها .....إلخ، فهل يعني هذا أن ليس ثمة عقارا قد انهار في مدينة القاهرة؟، وهل يعني هذا أنه لا يوجد قتلى بالأساس أو لا يوجد مصابون في الأساس؟ وهل يعني هذا أننا لا يمكننا الوقوف على حقيقة عدد القتلى إن كان هناك قتلى بالفعل؟ أو هل يعني هذا أننا لا يمكننا الوقوف على حقيقة عدد المصابين إن كان هناك مصابين بالفعل؟، أو هل يعني هذا أنه ربما لا يوجد قتلى ولا مصابون نهائيا بالفعل؟، كلا، فإذا كان أصل الخبر وجذره موجود بالفعل وتم الإخبار عنه حقيقة في أكثر من مصدر وأكثر من وسيلة إعلامية فليس من المحال ساعتها التحقق من حقيقة تفاصيله إذا أردنا التحقق من هذا، فبالسير والبحث والتقصي والملاحظة والإحصاء سنتمكن حتما ويقينا من معرفة عدد القتلى إن كان هناك قتلى وسنتمكن من معرفة عدد المصابين إن كان هناك مصابين بشكل يقيني حقيقي، وساعتها سنعرف أي تقديرات وأي نصوص وسائل الإعلام هي التي كانت أخبارها صحيحة أو أقربها كانت إلى الحقيقة والصواب، وهكذا يكون التحقق من حقائق ومدلولات ومفاهيم نصوص الكتب الإلهية المختلفة والمتباينة.

وهذه الحقيقة قد نبأ بها الحق سبحانه في بعض كتبه السابقة على كتاب القرءان حيث جاء في (إنجيل يوحنا) ما يلي:
(فَتِّشُوا الْكُتُبَ لأَنَّكُمْ تَظُنُّونَ أَنَّ لَكُمْ فِيهَا حَيَاةً أَبَدِيَّةً. وَهِيَ الَّتِي تَشْهَدُ لِي). (يوحنا 5 : 39).
وكذلك نبأ الحق سبحانه في كتاب (القرءان الكريم) بهذه الحقيقة حيث قال:
(فَإِن كُنتَ فِي شَكٍّ مِّمَّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ فَاسْئَلِ الَّذِينَ يَقْرَءُونَ الكِتَابَ مِن قَبْلِكَ لَقَدْ جَاءَكَ الحَقُّ مِن رَّبِّكَ فَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ المُمْتَرِينَ). (94_ يونس).
وقال :
(وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَسْتَ مُرْسَلاً قُلْ كَفَى بِاللَّهِ شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَمَنْ عِندَهُ عِلْمُ الكِتَابِ). (43_ الرعد).
فهذه النصوص الإلهية تؤكد أن كلام الله سبحانه لن يحويه كتاب واحد وحيد لكل نبي أو لكل رسول، إنما كلام الله سبحانه لكل نبي ولكل رسول سينتشر في عدد من الكتب فأمرنا على لسان رسوله (عيسى بن مريم) بتفتيش (الكتب) مما يدل على أنه لن يكون هناك كتاب واحد إنما عدة (كتب)، وبالتالي على أولي العلم من المؤمنين (تفتيش الكتب) للوقوف على ما يشهد منها له سبحانه بأنه الحق، وكذلك أمر الحق سبحانه نبيه (محمداً) إن شك في ما أنزل إليه أن يسأل الذين يقرءون الكتاب من قبله، وقد تقدم في هذا الفصل مفهوم ودلالة (القراءة) والفعل (قرأ) وهو: (جمع عدة أشياء بعضها إلى بعض أو اجتماعها بعضها إلى بعض ثم يعقبه خروج وظهور وبيان لحقيقة ما، أو ظهور وبيان لماهية شيء ما)، فالذين يقرؤون الكتاب ليسوا هم أولئك الذين يتلونها بأصواتهم وألسنتهم وأفواههم، إنما هم الذين يقومون بجمع كلام الله من الكتب المتعددة ليثبتوا أن الله هو الحق وأن ما جاءك من ربك يا (محمد) هو الحق. وكذلك أمر الحق سبحانه نبيه (محمداً) بأن يستشهد بالله على الذين كفروا وأن يستشهد بمن عنده علم الكتاب، والذي عنده علم الكتاب هو ذلك الذي قام بدراسة كتاب الله وكلامه واستخلص من ذلك الكتاب علما حقيقيا يقينيا على رسالة النبي (محمد) عليه الصلاة والسلام من الكتاب الشامل الجامع الواحد الذي يجمع ويحوي كل كتب الأنبياء والمرسلين.

## لماذا يخط الأنبياء والرسل الكتب بأيديهم ويتركوها للناس من بعدهم؟؟:

أجدني الآن أشعر بسؤال ملح ومشروع يدور في ذهن القارئ يقول: لماذا لم يحفظ الله كتبه التي أوحى بها إلى الأنبياء والرسل بحيث يكون لكل نبي ورسول كتاب واحد فقط يكتبه بيده ويتركه لأتباعه من بعده؟؟، بدلا من هذه الحيرة والتخبط الذي يلج فيه أتباع رسالات الله لأذنيهم؟؟، إذ من المعلوم والمعروف الآن لدى جميع الناس أنه ليس لدى أتباع أي رسالة من الرسالات الإلهية من دون استثناء كتاب واحد كان قد كتبه أو خطه أو جمعه أي رسول أو نبي من الأنبياء والرسل بيده؟؟، وأن كل الكتب والرسالات الإلهية هي من جمع وخط وكتابة أتباع الأنبياء والرسل الذي قاموا من بعدهم بجمع وخط وكتابة هذه الكتب؟؟.

الجواب: كما أراه قد أوجزه الحق سبحانه في قوله تعالى: (وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ وَلاَ نَبِيٍّ إِلاَّ إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ فَيَنسَخُ اللَّهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّهُ آيَاتِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ(52) لِيَجْعَلَ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ فِتْنَةً لِّلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ وَالْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ(53) وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ أُوتُوا العِلْمَ أَنَّهُ الحَقُّ مِن رَّبِّكَ فَيُؤْمِنُوا بِهِ فَتُخْبِتَ لَهُ قُلُوبُهُمْ وَإِنَّ اللَّهَ لَهَادِ الَّذِينَ آمَنُوا إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ(54) وَلاَ يَزَالُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي مِرْيَةٍ مِّنْهُ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً أَوْ يَأْتِيَهُمْ عَذَابُ يَوْمٍ عَقِيمٍ). (55_ الحج).

فماذا تريد أن تقول لنا هذه الآيات؟، الجواب: أرى أن هذه الآية تريد أن تقول لنا أن الحق سبحانه أراد قاصدا ألا يكون هناك كتاب واحد من (القرءان الكريم) ولا من أي كتاب إلهي آخر أوحي به إلى أي نبي من الأنبياء والمرسلين كانوا قد خطوه بأيديهم حتى لا يقوم واحد أو فئة أو قبيلة أو عصبة من الأتباع باختطاف أي من هذه الكتب والاستئثار به وحدها من دون الناس بأحقيتها في فهمه وتدبره وعلم تأويله، وبالتالي فوجود عدة كتب مختلفة في الكلمات والحروف والآيات بالزيادة والنقصان والحذف يكون الحق سبحانه قد قطع الطريق على أي شخص أو فئة أو جماعة أو عصبة أو قبيلة أن يستأثروا هم وحدهم بهذا الكتاب أو ذاك ومن ثم ينعزلوا ويعزلوا بقية الناس من حق التفكر والتفهم والتدبر لهذه الكتب، أيضا كي تكون الكتب الإلهية مفتوحة على كافة القراءات من كافة الاتجاهات حتى من غير المؤمنين بهذه الكتب كالذين يطعنون في مصداقيتها وأنها ليست من عند الله بطرحهم لأسئلة صعبة تحفز المؤمنين بهذه الكتب وتدفعهم دفعا إلى البحث والنظر والتفكر والانعتاق من ربقة الانكفاء على فهم واحد وفكر واحد لا يقبل المناقشة ولا المراجعة ولا التحليل، ولهذا وصف الله كتابه الأخير (القرءان الكريم) بقوله: (إن هو إلا ذكر للعالمين).

فلم يكن هناك من وسيلة أنجع ولا أنجح في كسر احتكار المحتكرين للأديان والمدعين لحمايتها والدفاع عنها وفهمها فهما صحيحا من دون الناس جميعا إلا هذه الوسيلة الربانية الإلهية المبهرة التي يكون الغلبة فيها والقول الفصل ليس لأوهام الواهمين ولا لتهيؤات المتهيئين ولا لتخرصات المتخرصين ولا لخرافات المخرفين ولا لسفاهات السفهاء ولا لتقولات المتقولين ولا لادعاءات المدعين، إنما الغلبة أو القول الفصل يكون للعلم الحقيقي اليقيني الذي يكون نتيجة للبحث والنظر والكشف والملاحظة والمقارنة والسير في الأرض لربط وجمع الحلقات المتناثرة المبعثرة المفككة ووضع بعضها إلى جانب بعض لتكوين الصورة الكاملة الحقيقية الصحيحة والصواب، وأيضا حتى يكون ضبط موضوعات (القرءان الكريم) وضبط علمها بما ورد عن رسول الله في تعليمه الكتاب والحكمة بضوابط العلم والبحث والتفكير والنظر والمقارنة، ويصبح الموضوع المبحوث أو المسألة أو القضية المبحوثة أشبه بدمية مصنوعة من قطع الحديد الصغيرة التي تم تفكيكها ثم نثرها وبعثرتها بين كومة من القش والعشب والورق، هذه القطع الحديدية الصغيرة لا يستطيع أحد جمعها من بين كومة القش والعشب هذه إلا بحجر مغناطيسي يتم تمريره بين كومة القش والعشب وفي باطنها وأطرافها وجوانبها كي يجتذب حجر المغناطيس تلك القطع الحديدية المتناثرة والمبعثرة والمفككة، ومن ثم نقوم بعدها بتركيب هذه الأجزاء والقطع كلا في مكانه الأصلي الصحيح لتكوين الصورة الكاملة بإعادة الدمية الحديدية إلى سيرتها الأولى بالصورة والهيئة التي كانت عليها من قبل.

وبكل تأكيد هذه المهمة عظيمة القدر جليلة الشأن رفيعة الهمة لا يمكن لآحاد الناس أو جميع الناس القيام بها أو التصدي لها، بل سينقسم الناس حولها إلى ثلاثة أصناف:
الصنف الأول: هم أولئك المفتونون ذوي القلوب القاسية من أهل البتر والقطع ضعاف الهمة سريعي التنصل والتبرؤ، الذين لا طاقة لهم ولا صبر على السعي وبذل الجهد لمعرفة وعلم حقائق ودلائل وبراهين وماهيات الأشياء، فتراهم يبرأون ويتنصلون من القضية برمتها طلبا للسكينة وراحة البال والخَلَد إلى الأرض كما يتوهمون.
الصنف الثاني: هم أهل العلم من أقوياء الهمة الساعون سعيا حثيثا وراء حقائق الأشياء ودلائلها وبراهينها ومعانيها، الباحثون السائرون في الأرض الناظرون المتفكرون في تفاصيل وأجزاء ومكونات الأشياء، المجدون المشمرون المجتهدون الذين لا يهنأ لهم بال حتى يقفوا على حقائق الأشياء وأسبابها ومسبباتها ومكوناتها حتى تطمئن نفوسهم وتخبت قلوبهم إلى الصراط المستقيم الذي توصلوا إليه بجهدهم ومثابرتهم ومكابدتهم للصعاب، وبعدها يكونوا قد استحقوا أن يهديهم الله إلى الصراط المستقيم الذي تستقيم فيه مفاهيمهم وقيمهم وعلومهم وأعمالهم.
الصنف الثالث: وهم أولئك الكافرون المرتابون الشاكون أبدا، الذين هم بين بين، لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء، لا مع ولا ضد، فلا هم اتبعوا المفتونين ولا هم اتبعوا الذين أوتوا العلم. بل ظلوا في مريتهم وشكهم وريبهم يترددون حتى تباغتهم الساعة أو يأتيهم عذاب يوم عقيم.

ولو طالعنا أحوال الأصناف الثلاثة في الآيات لوجدنا أن الحق سبحانه جعل صنف الذين أوتوا العلم وسط بين طرفين: بين المفتونين ضعاف الهمة قصيري النفس، والمرتابين الشاكين المترددين: وهكذا صنفهم الحق سبحانه على النحو التالي:
(لِيَجْعَلَ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ فِتْنَةً لِّلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ وَالْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ(53) وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ أُوتُوا العِلْمَ أَنَّهُ الحَقُّ مِن رَّبِّكَ فَيُؤْمِنُوا بِهِ فَتُخْبِتَ لَهُ قُلُوبُهُمْ وَإِنَّ اللَّهَ لَهَادِ الَّذِينَ آمَنُوا إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ(54) وَلاَ يَزَالُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي مِرْيَةٍ مِّنْهُ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً أَوْ يَأْتِيَهُمْ عَذَابُ يَوْمٍ عَقِيمٍ). (55_ الحج).

إذاً، فالله والدين والكتب والرسالات الإلهية هي علوم مثلها مثل بقية العلوم، وللعلوم آلياتها ووسائلها وأصولها وأسسها وقواعدها، لهذا قال تعالى في الآيات السابقة: (وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ أُوتُوا العِلْمَ أَنَّهُ الحَقُّ مِن رَّبِّكَ). أي: إن الحق والحقيقة (علم)، والوصول إلى الحق والحقيقة لابد له من (علم)، ويشترط فيمن يبحث عن الحق والحقيقة أن يكون من (الذين أوتوا العلم)، فالله والدين والرسالات والكتب الإلهية لا تصلح لها الدروشة ولا الأوهام ولا التخرصات ولا الظنون ولا الفلسفات ولا ما يسمى (العقل والمنطق) اللذان يعنيان لدى الناس التفكير المجرد من أي دليل أو برهان أو آلية أو وسيلة أو قاعدة علمية، إنما الذي يصلح للبحث عن الحق والحقيقة هو (العلم) ثم (العلم) ثم (العلم). وهذا يعني: أن الله ليس قائدا سياسيا يعمل على حشد وجمع الجماهير من الدهماء والغوغاء والعامة والمنافقين والمرتابين من حوله، إنما الله يريد من يؤمن به وينيب إليه ويتقيه أن يكون من الذين (أوتوا العلم) فحسب.

ونفس هذا المدلول والمفهوم الذي تحمله الآيات السابقة نجده في وحي الله لأحد أنبيائه في كتاب (العهد القديم) وفي هذا النص تحديدا:
(إذا قام في وسطك نبي أو حالم حلما، وأعطاك آية أو أعجوبة، ولو حدثت الآية أو الأعجوبة التي كلمك عنها قائلا: لنذهب وراء آلهة أخرى لم تعرفها ونعبدها، فلا تسمع لكلام ذلك النبي أو الحالم ذلك الحلم، لأن الرب إلهكم يمتحنكم لكي يعلم هل تحبون الرب إلهكم من كل قلوبكم ومن كل أنفسكم، وراء الرب إلهكم تسيرون، وإياه تتقون، ووصاياه تحفظون، وصوته تسمعون، وإياه تعبدون، وبه تلتصقون). (سفر التثنية: إصحاح 13: الآيات من 1: 4).

وبالعودة لتبيين مضمون ومفهوم الآيات التالية:
(وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ وَلاَ نَبِيٍّ إِلاَّ إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ فَيَنسَخُ اللَّهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّهُ آيَاتِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ(52) لِيَجْعَلَ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ فِتْنَةً لِّلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ وَالْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ(53) وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ أُوتُوا العِلْمَ أَنَّهُ الحَقُّ مِن رَّبِّكَ فَيُؤْمِنُوا بِهِ فَتُخْبِتَ لَهُ قُلُوبُهُمْ وَإِنَّ اللَّهَ لَهَادِ الَّذِينَ آمَنُوا إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ(54) وَلاَ يَزَالُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي مِرْيَةٍ مِّنْهُ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً أَوْ يَأْتِيَهُمْ عَذَابُ يَوْمٍ عَقِيمٍ). (55_ الحج).

سنجد أن الله سبحانه يخبرنا في هذه الآيات بأن ما من نبي ولا رسول أرسله الله من دون استثناء لنبي أو لرسول واحد منهم إلا إذا تمنى ألقى الشيطان في أمنيته، و(التمني) هو ما نطلق عليه في كلامنا المعاصر: (حديث النفس)، والتمني أصله من الفعل (مَنَيَ) الذي يدل على تقدير نفسي لأشياء يغلب عليها توقع الخير وانتظاره من دون دليل يقيني أو برهان علمي على تحقق هذا التقدير النفسي، أي تصور أشياء نفسية لا أسباب حقيقة واقعية لها، ومنه قوله تعالى: (وَقَالُوا لَن يَدْخُلَ الجَنَّةَ إِلاَّ مَن كَانَ هُوداً أَوْ نَصَارَى تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ). (111_ البقرة). أي محض تقديرات وأمنيات نفسية أو أحاديث نفسية لليهود والنصارى لا برهان لهم عليها ولا أصل يقيني لها.

وأصل الفعل (مَنَيَ) جاء من (المَنُوَّة) بفتح الميم وضم النون وتشديد الواو، وهي الفترة من الأيام التي تعقب مباشرة لقاح ذكر البعير للناقة، وهي الأيام التي لم يتبين فيها بيقين أنها حملت أم لا، وكانت العرب تقول للناقة في أول ما يلقحها الذكر: (هي في منيتها) وذلك ما لم يعلموا بها حمل أم لا، فمنية الناقة (البكر) التى لم تحمل من قبل (عشر ليال)، ومنية (المثنى) وهو البطن الثاني (خمس عشرة ليلة)، قيل وهى منتهى الايام، ثم بعد مضى ذلك تعرف أحبلى هي أم لا، ومن هنا اشتقت العرب كلمات: (التمني، الأمنية، الأماني، .....إلخ).

والتمنى النفسي قد يظهر على هيئة كلام يتلوه ويردده الناس بأفواههم، أو قد تُحَدِّث أنت بحديث لغيرك فيظهر في هذا الحديث كلام آخر يحمل أمنياتك النفسية وتقديراتك الشخصية من دون قصد أو تعمد منك، وهذا كثيرا ما يحدث مع جميع الناس، أن يكون أحدنا يردد كلاما فيخرج بصورة عفوية من دون قصد أو عمد كلاما نفسيا يحمل أمنيات وتقديرات نفسية خاصة دون أن يقصد أحدنا هذا. وهناك صنف من الناس الذين لا علم لهم بكتب الله، وهم أكثر أو غالبية من ينتمون إلى الرسالات الدينية المختلفة، الذين ما أن تسأل أحدهم عن شيء في كتابه الإلهي إلا ويجيبك إجابات تخمينية تقديرية ليست صادرة عن درس وبحث ونظر وعلم حقيقي، فقد وصف الله هذا الصنف الغالب من الناس بأن علمهم بالكتاب ما هو إلا (أماني)، قال تعالى: (ومنهم أميون لا يعلمون الكتاب إلا أماني وإن هم إلا يظنون). وهذا الصنف هو أغلب الناس اليوم المنتسبون إلى الكتب والرسالات الإلهية، الذين يعد علمهم بالكتاب ليس علماً حقيقيا إنما هو محض (أماني)، أي: محض ظنون وتخرصات وتخمينات وتقديرات نفسية لا برهان علمي عليها، خمنوها وقدروها من هنا وهناك، ولا تعد علما حقيقيا بالكتاب.

فقوله تعالى: (وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ وَلاَ نَبِيٍّ إِلاَّ إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ فَيَنسَخُ اللَّهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّهُ آيَاتِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ). (52_ الحج).
هذا النص يشير إلى أن الأنبياء والرسل يتمنون مثلهم مثل بقية البشر، وقد يلقي الشيطان في أمنية أحدهم بشيء يخالف أو يصادم آيات الله وكلماته وأحكامه، فتختلط أمنية النبي أو الرسول التي تخرج في كلامه مع آيات الله، (فينسخ الله ما يلقي الشيطان ثم يحكم الله آياته). وقد ورد في بعض الروايات عن النبي الأكرم عليه الصلاة والسلام ما يفيد هذا المعنى، ونذكر منها التالي:
أخرج البزار والطبراني وابن مردويه والضياء في المختارة من طريق سعيد بن جبير، عن ابن عباس قال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قرأ {أفرأيتم اللات والعزى ومناة الثالثة الأخرى} تلك الغرانيق العلى، وإن شفاعتهن لترتجى ففرح المشركون بذلك، وقالوا: قد ذكر آلهتنا فجاءه جبريل فقال: اقرأ عليَّ ما جئتك به، فقرأ {أفرأيتم اللات والعزى ومناة الثالثة الأخرى} تلك الغرانيق العلى وإن شفاعتهن لترتجى. فقال: ما أتيتك بهذا! هذا من الشيطان. فأنزل الله {وما أرسلنا من قبلك من رسول ولا نبي إلا إذا تمنى} إلى آخر الآية.

إذاً في هذه الآية الكريمة رد قاطع حاسم على زعم القرءانيين الذين يزعمون أن الرسول (محمد) عليه الصلاة والسلام كان معصوما في تبليغه للرسالة التي هي (القرءان الكريم). بل هذه الآية الكريمة فيها رد قاطع حاسم على الدكتور (صبحي منصور) الذي يقول أن النسخ كان للأحاديث والمرويات التي دونتها كتب الأحاديث وكتب التراث. ولو تأملنا نص الآية قليلا لوجدنا أن الآية تتحدث عن اختلاط ما يلقيه الشيطان في أمنية الرسول بالآيات وليس بالأحاديث، بدليل قوله تعالى: (ثم يحكم الله آياته). فالاختلاط كان بآيات (القرءان الكريم) وليس بالأحاديث كما زعم الدكتور (صبحي منصور) والقرءانيون. وأنقل للقاريء الكريم ثلاث فقرات صغيرة من مقال: (لا ناسخ ولا منسوخ في القرءان الكريم)، للدكتور (صبحي منصور)، لنرى كيف يحرف الدكتور منصور مضمون الآية ودلالتها وكيف يحولها من أنها تتحدث عن اختلاط ما يلقيه الشيطان في أمنية الرسول بالآيات إلى أنها تتحدث عن الأحاديث، يقول الدكتور (منصور):

(والمعنى العام للآيات أن الشيطان يحاول دائماً التدخل ليفسد الوحى الذى ينزل على كل رسول أو نبى، ويتجلى ذلك التدخل الشيطانى بالأحاديث الكاذبة المنسوبة لله أو للرسول والتى تعارض الوحى الحقيقى، والله تعالى لا يحذف هذا الوحى الشيطانى ولكن يسمح بوجوده إلى جانب الوحى الصادق لتتم عملية الاختبار، فالمشرك ينخدع بالوحى الضال ويتمسك به ويصغى إليه وفى سبيله يضحى بما يعارضه من كتاب الله. أما المؤمن الصادق فيتمسك بالقرآن ويزداد إيمانا به، ويعلم أن القرآن حق اليقين حين أخبر سلفاً عن كيد الشيطان ونشره للأحاديث الضالة التى أصبحت منسوخة أى مكتوبة ومدونة ومتداولة فى آلاف المجلدات).
ويقول:
(فالشيطان يلقى بوحيه الضال ليسد الطريق امام النبى وأمنياته بأن يؤمن به الجميع، فلا يدع الشيطان لهذه الأمنيات أن تتحق. ويسمح الله بكتابة وتدوين- أى نسخ- هذا الوحى الشيطانى يقول تعالى ﴿فَيَنسَخُ اللّهُ مَا يُلْقِي الشّيْطَانُ﴾ أى يكتب الله ما يلقيه الشيطان، وفى المقابل ﴿ثُمّ يُحْكِمُ اللّهُ آيَاتِهِ﴾ لتكون حجة على الوحى الشيطانى وأعوانه. أما ما يلقيه الشيطان فينسخه الله أى أن يسمح الله له باستمراره ووجوده).
ويقول:
(وانظر حولك لترى اعجاز القرآن الذى نبأ سلفا بتلك الكتب التراثية المليئة بالأحاديث الضالة. وطالما انها ليست من وحى الله تعالى ولم يعرفها عصر النبى ولم تتم كتابتها الا بعد النبى بقرون فان مصدرها الوحيد هو الشيطان. والله تعالى هو الذى سمح بكتابتها – او نسخها فى ملايين النسخ، وفى نفس الوقت جعل القرآن محكما، وأعطى الفرصة كاملة فى حرية الاختيار لكل انسان فى أن يختار الحق القرآنى ويكتفى به، أو أن يختار الباطل الشيطانى وينظر من خلاله للقرآن ليخضع كلام الله تعالى للاحاديث الضالة الشيطانية) انتهى.
وهذا رابط المقال كاملا:
http://www.ahewar.org/debat/show.art.asp?aid=33639

وتعقيبا على كلام الدكتور (منصور) أقول: لماذا تجاهل الدكتور (منصور) ذلك الكم الهائل من الروايات القرآنية المختلفة التي تفوق الأربعين رواية للقرءان الكريم ما بين متواترة وشاذة ولم يلتفت إلا إلى الأحاديث فحسب؟؟!!، مع أنه كان من الأجدى به أن يصف الروايات المتعددة للقرءان بأنها من الوحي الشيطاني وليس الأحاديث، لأن القراءات القرءانية المتعدد والمختلفة هي الأكثر ارتباطا بآيات وكلمات القرءان من الأحاديث، فالأحاديث والمرويات لم يقل أحد من الأمة على الإطلاق أنها آيات قرآنية، إنما هي وحي يحمل علم الكتاب وعلم الحكمة وتزكية المؤمنين، أما الروايات القرآنية فقد أقرت الأمة جميعها بكافة طوائفها بأنها قراءات قرءانية موحى بها من الله لكنها مختلفة ومتعددة اللهجات كما ذكر هذا جميع المفسرين والفقهاء ومتخصصي علم القراءات القرءانية في الماضي والحاضر، وبالتالي فتجاهل الدكتور (صبحي منصور) لهذا الكم من القراءات القرآنية المتعددة والمختلفة والتركيز فقط على الأحاديث وأنها وحي شيطاني لهو أمر يستوجب أن نضع أمامه كثير من علامات الاستفهام والتعجب.

أيضا من الأشياء التي تثير الاستغراب والتعجب في كلام الدكتور (منصور) السابق أنه يقول: (والمعنى العام للآيات أن الشيطان يحاول دائماً التدخل ليفسد الوحى الذى ينزل على كل رسول أو نبى، ويتجلى ذلك التدخل الشيطانى بالأحاديث الكاذبة المنسوبة لله أو للرسول والتى تعارض الوحى الحقيقى) انتهى.

فهل نفهم من كلام الدكتور منصور أن كل الأحاديث المنسوبة للنبي عليه الصلاة والسلام كان يلقيها الشيطان في أمنية الرسول ليفسد الوحي الذي ينزل على النبي محمد؟؟!!. ثم ألا يعني هذا أن أحداً من الناس لم يكذب ولم يختلق على الرسول حديثاً واحداً وإنما كل هذه الأحاديث المنسوبة للرسول هي أحاديث قالها الرسول فعلا وبنفسه لكنها كانت من وحي الشيطان إلى الرسول؟؟!!. لأن نص الآية يقول: (وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ وَلاَ نَبِيٍّ إِلاَّ إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ). ما يعني أن الشيطان وفق نص الآية هو الذي كان يلقي في أمنية الرسول، والرسول يتكلم بنفسه بتلك الأمنيات التي ألقى فيها الشيطان فيعلم بها الناس ومن ثم ينسخونها. هكذا يفهم القارئ لكلام الدكتور (منصور). ويؤكد هذا ما ذكره الدكتور (منصور) في كلامه السابق في صدر الفقرة الثانية من كلامه، حيث قال: (فالشيطان يلقى بوحيه الضال ليسد الطريق امام النبى وأمنياته بأن يؤمن به الجميع، فلا يدع الشيطان لهذه الأمنيات أن تتحقق) انتهى.
إذأً كلام الدكتور (منصور) هذا يبرئ ساحة كل رواة الأحاديث الذين يتهمهم هو بالكذب واختلاق الأحاديث، لأن واقع الأمر وفقاً لكلامه يقول أن الأحاديث هي وحي شيطاني ألقاه الشيطان في أمنية الرسول، والرسول تحدث بهذا الوحي الشيطاني فسمعه الناس منه ومن ثم قاموا بنسخه في صحاف وكتب تراثية، وإلا فلو لم يتكلم الرسول بهذا الوحي الشيطاني الذي ألقاه الشيطان في أمنيته فكيف عرف الناس بهذه الأحاديث ومن ثم نسخوها وخطوها في الصحاف والكتب؟؟. ويؤكد هذا أيضا قول الدكتور منصور في كلامه السابق: (ويسمح الله بكتابة وتدوين-أى نسخ- هذا الوحى الشيطانى يقول تعالى ﴿فَيَنسَخُ اللّهُ مَا يُلْقِي الشّيْطَانُ﴾ أى يكتب الله ما يلقيه الشيطان) انتهى.
كلام الدكتور (منصور) هذا أيضا يؤكد براءة الرواة من الكذب على الرسول لأن الله هو الذي سمح بنسخ (الوحي الشيطاني) أي: سمح الله بكتابة ما يلقيه الشيطان في أمنية الرسول وليس رواة الأحاديث كما اتهمهم الدكتور (منصور) بهذا.

وأيضا وفقا لكلام الدكتور (منصور) ولو افترضنا معه أن الأحاديث هي من وحي الشيطان الذي ألقاه في أمنية الرسول، فهذا يعني أن عدد آيات القرآن ( 6236)، ومجموع الأحاديث المنسوبة للنبي عليه الصلاة والسلام بالمكررة والتي وردت في جميع كتب الفقهاء والمفسرين والمحدثين من دون استثناء سنجدها تبلغ حوالي (600,000) ستمائة ألف حديث، وبعملية حسابية بسيطة إذا قسمنا عدد الأحاديث المنسوبة للنبي عليه الصلاة والسلام على عدد الآيات القرآنية سنجد الناتج هو: أن الآية الواحدة من القرءان يقابلها ما يزيد عن (96) حديثا، أي أن النبي عليه الصلاة والسلام كلما تمنى وأراد أن يتلو آية من القرءان الكريم كان الشيطان يلقي في أمنيته بـ (96) حديث تختلط هذه الأحاديث بالآية القرءانية، فينسخ الله هذه الأحاديث ثم يحكم الله آياته في كل مرة يتلو فيها الرسول آية من آيات القرءان. هذا وفقا لفهم وطرح وكلام الدكتور (صبحي منصور).

وقد يسأل سائل ويقول: ربما هذه الآيات تتحدث عن الأنبياء والمرسلين الذين سبقوا النبي محمد عليه الصلاة والسلام ولا تتحدث عنه؟.
الجواب: سياق الآيات التي قبلها يشير بكل وضوح أن الحديث في هذه الآيات يتعلق بشخص النبي محمد عليه الصلاة والسلام كما يتعلق بالأنبياء والرسل من قبله، وهذا هو سياق الآيات:

(قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّمَا أَنَا لَكُمْ نَذِيرٌ مُّبِينٌ(49) فَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُم مَّغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ(50) وَالَّذِينَ سَعَوْا فِي آيَاتِنَا مُعَاجِزِينَ أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ الجَحِيمِ(51) وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ وَلاَ نَبِيٍّ إِلاَّ إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ فَيَنسَخُ اللَّهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّهُ آيَاتِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ(52) لِيَجْعَلَ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ فِتْنَةً لِّلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ وَالْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ(53) وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ أُوتُوا العِلْمَ أَنَّهُ الحَقُّ مِن رَّبِّكَ فَيُؤْمِنُوا بِهِ فَتُخْبِتَ لَهُ قُلُوبُهُمْ وَإِنَّ اللَّهَ لَهَادِ الَّذِينَ آمَنُوا إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ(54) وَلاَ يَزَالُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي مِرْيَةٍ مِّنْهُ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً أَوْ يَأْتِيَهُمْ عَذَابُ يَوْمٍ عَقِيمٍ). (55_ الحج).

لم يتبق لنا في هذه الآيات سوى تبيين وتفصيل مفهوم ومدلول (النسخ) وهل النسخ يعني (الكتابة والإثبات) كما ذكر الدكتور منصور في مقاله سالف الذكر؟.
يقول الدكتور منصور في معنى النسخ: (النسخ فى القرآن يعنى الكتابة والاثبات وليس الحذف والالغاء. معنى النسخ فى القرآن: الكتابة والإثبات: فى لغتنا العادية نقول "نسخ المذكرة" أى كتبها، ونقول أطبع لى هذا الكتاب ألف نسخة، وذهبت إلى مكتب النسخ لأنسخ على الآلة الكاتبة عشر نسخ من هذه المذكرة ونقول "انسخ لى بالخط النسخ".والمعنى المألوف للنسخ هنا هو الكتابة والإثبات وليس الحذف والإلغاء، وهذا فى اللغة العربية التى نزل بها القرآن والتى لا تزال نستعملها) انتهى.

يبدو أن الدكتور (أحمد منصور) انطلق في تعريفه لمدلول ومفهوم النسخ من (لغتنا العادية) على حد تعبيره وليس من لسان قوم الرسول الذي نزل به (القرءان الكريم) كما ادعى في نهاية الفقرة السابقة، فالفعل (نَسَخَ) في لسان قوم الرسول لا يعني الإثبات والكتابة كما ذكر الدكتور (منصور)، إنما الفعل (نَسَخَ) يدل في لسان قوم الرسول على أكثر من مفهوم ومدلول، فتارة يدل (النسخ) على: إزالة شيء من مكانه ووضع بدلا منه في نفس المكان، وتارة يدل على استبدال شيء مكان شيء لنفس المهمة ونفس الغرض الذي كان يؤديه الشيء السابق، وتارة يدل على تبديل شيء من نفس الشيء لكنه يكون غيره لا هو، وكانت العرب تقول: (نسخت الشمس الظل) و(نسخ الشيب الشباب) و(تناسخ الورثة) و(تناسخت الأزمنة والقرون)، وهذا الأمثلة تعني: أن الشمس تزيل الظل وتحل مكانه، وأن (الشيب) يزيل (الشباب) ويحل مكانه، وأن (الورثة) يموتون ثم يأتي أبناءهم من بعدهم لميراث نفس التركة، وأن (الأزمنة والقرون) تمر والوضع كما هو دون تغيير، ومنه (تناسخ الأرواح) وهي عقيدة تعني: (خروج روح من جسد مات وزال وحلول نفس الروح وثباتها في جسد آخر جديد)، هذا هو مفهوم ومدلول الفعل (نَسَخَ)، فالنسخ لا يعني (الإزالة) بمفردها، ولا يعني (الإثبات) بمفرده، إنما (النسخ) يعني (زوال) شيء وحلول و(إثبات) شيء آخر مكانه.

كذلك حين تقوم بنسخ (كتاب) أنت لا تقوم بالكتابة أو بالإثبات كما ذكر الدكتور (منصور)، لا، إنما تقوم بنقل كلام الكتاب من صفحاته وأوراقه إلى صفحات وأوراق أخرى بديلة وجديدة، أي: كأنك أزلت الأوراق والصفحات الأولى وانتقلت بالكلام إلى صفحات وأوراق أخرى بديلة وجديدة، فالكلام هو هو وإنما الصفحات والأوراق هي التي زالت وتغيرت، بالضبط كما تقوم بوضع ورقة من عملة مالية ولتكن مثلا ورقة من فئة (مائة جنيه مصري)، وتقوم بتصويرها على (ماكينة تصوير ضوئية ملونة)، فأنت أخذت صورة المائة جنية من حالتها الأصلية الحقيقية الموجودة على ورق (بنكنوت) إلى وضعها على ورق أبيض عادي، فلا هي مائة جنيه أصلية حقيقية وفي نفس الوقت تحمل نفس صورة المائة جنية الحقيقية الأصلية، وهكذا عندما تلتقط لك (آلة تصوير) صورة شخصية لك، سواء كانت (كاميرا فوتوغارفية) أو (كاميرا فيديو)، فالذي في الصورة هو شكلك وملامحك وصورتك لكنه لست أنت على الحقيقة ولا الأصل. وهكذا...إلخ.

والفعل نسخ بمشتقاته ورد في (القرءان الكريم) في أربعة مواضع فقط، الأول في قوله تعالى: (مَا نَنسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مّنْهَا أَوْ مِثْلِهَا أَلَمْ تَعْلَمْ أَنّ اللّهَ عَلَىَ كُلّ شَيْءٍ قَدِيرٌ). (106_ البقرة). نلحظ هنا أن هذه الآية ورد بها أكثر من شيء: (نسخ، نسيان، خير منها، مثلها)، فنلحظ هنا أن (النسخ) لا يعني (المثلية)، إذ لو كان يعني المثلية من ذات الشيء لما قال: (أو مثلها)، وهذا يدل كما سبق وأن قلنا أن (النسخ) يدل على: إما إزالة شيء من مكانه ووضع بدلا منه في نفس المكان، وإما يدل على استبدال شيء مكان شيء لنفس المهمة ونفس الغرض الذي كان يؤديه الشيء السابق، وإما يدل على تبديل شيء من نفس الشيء لكنه يكون غيره لا هو بذاته وأصله وحقيقته.

الموضع الثاني: هو قوله تعالى: (وَمَآ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رّسُولٍ وَلاَ نَبِيّ إِلاّ إِذَا تَمَنّىَ أَلْقَى الشّيْطَانُ فِيَ أُمْنِيّتِهِ فَيَنسَخُ اللّهُ مَا يُلْقِي الشّيْطَانُ ثُمّ يُحْكِمُ اللّهُ آيَاتِهِ). (الحج 52). و(النسخ) هنا لا يعني (الإثبات) ولا (الكتابة) كما ذكر الدكتور (منصور)، إنما يعني إزالة ما ألقاه الشيطان وإثبات آيات الله مكانه، كما قال تعالى: (فَيَنسَخُ اللّهُ مَا يُلْقِي الشّيْطَانُ ثُمّ يُحْكِمُ اللّهُ آيَاتِهِ). لأن الشيطان يلقي في أمنية الرسول، فيختلط ما ألقاه الشيطان في أمنية الرسول بآيات الله، وإلا فما دخل إحكام الله لآياته بما ألقاه الشيطان في أمنية الرسول هنا؟؟، لولا أن ما ألقاه الشيطان في أمنية الرسول قد اختلط بآيات الله فتطلب الأمر نسخ ما ألقاه الشيطان ثم إحكام الله لآياته بعد ذلك النسخ.

الموضع الثالث: قوله تعالى: (هَـَذَا كِتَابُنَا يَنطِقُ عَلَيْكُم بِالْحَقّ إِنّ كُنّا نَسْتَنسِخُ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ). (الجاثية 29). هذه الآية تدل على أحد وجوه (النسخ) وهو: نقل تفاصيل ومشاهد أعمالهم التي كانوا يعملونها في الدنيا من مواقعها الحقيقية التي وقعت فيها تلك الأعمال إلى الكتاب الذي ينطق عليهم بالحق، أي: أن الأعمال التي وقعت منهم في الدنيا ليست هي نفسها الأعمال بذاتها وحقيقتها، إنما هي صورها ومشاهدها بتفاصيلها بعد أن زال زمانها ومكانها وآثارها الحقيقة في الدنيا وتم إثباتها في الكتاب الذي ينطق عليهم بالحق.

الموضوع الرابع: قوله تعالى: (وَلَماّ سَكَتَ عَن مّوسَى الْغَضَبُ أَخَذَ الألْوَاحَ وَفِي نُسْخَتِهَا هُدًى وَرَحْمَةٌ لّلّذِينَ هُمْ لِرَبّهِمْ يَرْهَبُونَ). (الأعراف 154). النسخ في هذه الأية مدلوله: أن الله قد نقل ما في اللوح المحفوظ الذي عنده ووضعه في ألواح موسى عليه السلام، وبهذا تكون ألواح موسى مكان جديد حلت فيه كلمات الله وأوامره وتشريعاته التي تحمل الهدى والرحمة لهذا قال الله (وَفِي نُسْخَتِهَا هُدًى وَرَحْمَةٌ)، ويؤيد هذا ما قاله الله سبحانه في موضع آخر: (وكَتَبْنَا لَهُ فِي الأَلْوَاحِ مِن كُلِّ شَيْءٍ مَّوْعِظَةً وَتَفْصِيلاً لِّكُلِّ شَيْءٍ). (145_ الأعراف). أي أن ألواح موسى عليه السلام أصبحت نسخة جديدة من الهدى والرحمة والموعظة وتفصيل كل شيء التي كانت موجودة في (اللوح المحفوظ) الذي عند الله وهو نفس اللوح الذي فيه (القرءان الكريم) والذي قال الله عنه: (بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَّجِيدٌ(21) فِي لَوْحٍ مَّحْفُوظٍ). (22_ البروج).

(خلاصة هذا الفصل):
قال تعالى:
(إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون).
الله لم يحفظ القرءان ولم يحفظ الكتاب وإنما حفظ الذكر، والذكر هو: الجمع بين (البينات والزبر)، قال تعالى: (وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ إِلاَّ رِجَالاً نُّوحِي إِلَيْهِمْ فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ(43) بِالْبَيِّنَاتِ وَالزُّبُر)ِ(44_ النحل)، وأهل الذكر هم المؤمنون الذي يجمعون بين دلالات ومفاهيم وصور وهيئات ومعاني كلام الحق سبحانه وبين الواقع الموضوعي الحق لهذه المفاهيم والدلالات والمعاني ليكونوا منهما (ذكراً)، بدليل قوله في آية النحل السابقة (بِالْبَيِّنَاتِ وَالزُّبُرِ)، أي: من أدوات أهل الذكر ودلائلهم (البينات والزبر)، والبينات هي الواقع الموضوعي لكلام الحق سبحانه، والزبر هي الكتب المؤكدة قوية الوضوح وما تحمل من مفاهيم ودلالات وصور وهيئات كلام الحق سبحانه.

وختاما لهذا الفصل أقول:

## القرءانيون وإدخال الفيل في العلبة:

جميعنا شاهد الفيلم الأبيض والأسود: (سر طاقية الإخفا). بطولة الفنانين: (عبد المنعم إبراهيم، توفيق الدقن، برلنتي عبد الحميد). ورأينا ذلك المشهد الذي يمسك فيه الفنان (توفيق الدقن) بعلبة صغيرة في يده ويقول للفنان (عبد المنعم إبراهيم): (العلبة دي فيها إيه؟). وهي علبة صغيرة كان بها خاتم، فينظر الفنان (عبد المنعم إبراهيم) إلى العلبة ويقول: (فيها خاتم). فيلكمه الفنان (توفيق الدقن) لكمة على وجهه ويقول له: (العلبة دي فيها فيل). ثم يعود فيسأله ثانيةً: (العلبة دي فيها إيه؟) فيجيبه الفنان (عبد المنعم إبراهيم): (فيها فيل).

كلما قرأت في كتابات وأدبيات القرآنيين ومفكري دعاة الإصلاح الديني المعاصرين يتملكني شعور للوهلة الأولى وكأنهم يسألون القارئ: (العلبة دي فيها إيه؟). ويريدون من القارئ أن يجيبهم: (فيها فيل). أما العجيب أن كثيراً من قرائهم يقولون: (فعلا فيها فيل) ولكن من دون لكمات.
أرى أن القرآنيين ومفكري ودعاة الإصلاح الديني المعاصرين هم علمانيون يدينيون بالثقافة والفلسفة العلمانية الغربية المناهضة للأديان ويظهرون للناس في ثوب قرءاني.

وهناك من "القرءانيين" من مثلهم مثل (السنة) و(الشيعة) و(الصوفية) تماما لا فرق.
السنة يقولون: (حسبنا ما وجدنا عليه سلف الأمة).
الشيعة يقولون: (حسبنا ما وجدنا عليه أئمة آل البيت).
الصوفية يقولون: (حسبنا ما وجدنا عليه أولياؤنا ومشايحنا الصالحين).
القرءانيون يقولون: (حسبنا ما وجدنا عليه الدكتور منصور والمهندس شحرور والشيخ جمال البنا رحمه الله ..... وغيرهم).
لا أحد منهم يريد البحث والنظر والمقارنة والسير في الأرض والملاحظة والكشف والاستقراء والعلم).
ويجتمعون جميعا تحت شعار: (ما أريكم إلا ما أرى وما أهديكم إلا سبيل الرشاد).

فالقرءاني الذي لا يستطيع تقديم برهان علمي واحد من غير الروايات والأحاديث التي يشكك فيها على حفظ "القرءان الكريم" فليرفع قلمه وليصمت هو ويمسك عليه لسانه وليذهب كي يعمل "ناشطا سياسيا" على الطريقة المصرية أكسب له ألف مرة من أن يفتي في ما لا علم له به.

(للحديث بقية في الفصل: الخامس عشر: خرافة التواتر والآحاد).

## مصادر ومراجع قديمة وحديثة عن علوم القراءات القرءانية:

# مراجع ومصادر قديمة:
• ـ الإتقان في علوم القرءان. السيوطي. ط/بيروت 1973
• ـ إعراب القراءات السبع وعللها. ابن خالويه. ط/أولى القاهرة 1992
• ـ البرهان في علوم القرءان. الزركشي. ط/دار التراث القاهرة 1986
• ـ تحبير التيسير في قراءات الأئمة العشرة. ابن الجزري. ط/أولى بيروت 1983
• ـ جمال القراء وكمال الإقراء. علم الدين السخاوي.
• ـ الحجة في علل القراءات السبع. أبو علي الفارسي.ت: د.عبدالفتاح شلبي ط/الهيئة العامة للكتاب 1983
• ـ الحجة في علل القراءات السبع. ابن خالويه. ت: د.عبدالعال سالم مكرم. ط/خامسة 1990
• ـ السبعة في القراءات. ابن مجاهد. ت: د/شوقي ضيف. ط/ثانية القاهرة 1980
• ـ العنوان في القراءات السبع. ابن خلف الأنصاري. ط/أولى بيروت 1985
• ـ غاية النهاية في طبقات القراء. ابن الجزري. ط/ثانية بيروت 1980
• ـ اللهجات العربية في معاني القرءان للفراء. د/صبحي عبدالحميد. ط/أولى 1986
• ـ المحتسب في وجوه شواذ القراءات. ابن جني. ط/القاهرة 1969
• ـ المصـاحف. أبوداود السجستاني. تحقيق: آرثر جفري. ط/أولى القاهرة 1936
• ـ معاني القرءان. الأخفـش. ت: هدى محمود قراعة. ط/أولى القاهرة 1990
• ـ معاني القرءان. الفراء. ت: محمد علي النجار. ط/ثانية القاهرة 1980
• ـ معرفة القراء الكبار. الذهبـي. ت: محمد سيد جاد الحق ط/أولى 1969
• ـ النشر في القراءات العشر. ابن الجزري. ط/ دار الكتب العلمية بيروت.

# مصادر ومراجع حديثة:
• ـ الخصائص اللغوية لقراءة حفص. علاء الحمزاوي.
• ـ أثر القراءات في الأصوات والنحو. عبد الصبور شاهين. ط/القاهرة 1987
• ـ الإمالة في القراءات واللهجات. د/عبدالفتاح شلبي. ط/ثانية 1971
• ـ تاريخ القرءان. د.عبدالصبور شاهين. ط/القاهرة 1966
• ـ الجمع الصوتي الأول للقرآن. لبيب السعيد. ط/القاهرة 1967
• ـ الدفاع عن القرءان ضد النحويين والمستشرقين. د/أحمد مكي الأنصاري. 1973
• ـ صريح النص في الكلمات المختلف فيها عن حفص. علي محمد الضباع. ط/مصطفى الحلبي 1346
• ـ القراءات في نظر المستشرقين. د/عبدالفتاح القاضي. ط/مجمع البحوث الإسلامية القاهرة 1972
• ـ قراءات القراء المعروفين. أحمد الأندرابي. ط/ثالثة 1986
• ـ القراءات القرءانية في ضوء علم اللغة الحديث. د/عبدالصبور شاهين. ط/القاهرة.
• ـ القراءات وأثرها في علوم العربية. د/سالم محيسن. ط/القاهرة 1984
• ـ القراءات واللهجات. عبد الوهاب حمودة. ط/أولى القاهرة 1984
• ـ القرءان المعجزة الكبرى. محمد أبوزهرة. ط/دار الفكر العربي بيروت 1397
• ـ اللهجات العربية في التراث. د/علم الدين الجندي ط/الدار العربية للكتاب 1983
• ـ المهذب في القراءات العشر. د/ سالم محيسن. ط/ثانية 1978

فهرس فصول وروابط دراسة الأديان الشرقية:
(البوذية رسالة سماوية وبوذا نبي)
دراسة في الأديان الشرقية
(البرهمية _ الكونفوشيوسية _ الزرادشتية _ البوذية) رسالات سماوية
إعداد : نهرو طنطاوي
تم إعداد الدراسة في عام (2005)
تم نشر (12) فصلا منها على المواقع الإلكترونية في عام (2007) وبقي آخر 3 فصول سيتم نشرهم مع الطبعة الورقية، وهذه روابط الفصول الـ (12).

(المدخل الأول): الإسلام دين الله وليس شريعة النبي محمد
http://www.ahewar.org/debat/show.art.asp?aid=92945
(المدخل الثاني): أنواع الرسالات الإلهية
http://www.ahewar.org/debat/show.art.asp?aid=91842
(المدخل الثالث): الأنبياء والرسل مخيرون وليسوا مسيرين
http://www.ahewar.org/debat/show.art.asp?aid=90981
(المقدمة التمهيدية): البوذية رسالة سماوية وبوذا نبي
http://www.ahewar.org/debat/show.art.asp?aid=88750
الوحي والنبوة
http://www.ahewar.org/debat/show.art.asp?aid=89337
الكتب والرسالات
http://www.ahewar.org/debat/show.art.asp?aid=92584
الحكم والشريعة
http://www.ahewar.org/debat/show.art.asp?aid=93701
الحكمة
http://www.ahewar.org/debat/show.art.asp?aid=94298
كعبة المسلمين وبقرة الهندوس
http://www.ahewar.org/debat/show.art.asp?aid=94978
الإيمان بالله واليوم الآخر _ الجزء الأول
http://www.ahewar.org/debat/show.art.asp?aid=96127
الإيمان بالله واليوم الآخر _ الجزء الثاني
http://www.ahewar.org/debat/show.art.asp?aid=97225
الإيمان بالله واليوم الآخر _ الجزء الثالث
http://www.ahewar.org/debat/show.art.asp?aid=98432

فصول دراسة (السنة ما لها وما عليها):
الفصل الأول: (عرض تمهيدي لقضية السنة)
http://www.ahewar.org/debat/show.art.asp?aid=293175
الفصل الثاني: (الصحابة والسلف بين التقديس والشيطنة)
http://www.ahewar.org/debat/show.art.asp?aid=293537
الفصل الثالث: (تاريخ نقد وإصلاح التراث الإسلامي وتنقيحه)
http://www.ahewar.org/debat/show.art.asp?aid=294154
الفصل الرابع: (تاريخ إنكار السنة ونشأة القرآنيين)
http://www.ahewar.org/debat/show.art.asp?aid=294768
الفصل الخامس: (القرآنيون ومأزق حفظ وجمع القرآن)
http://www.ahewar.org/debat/show.art.asp?aid=295266
الفصل السادس: (القرآنيون والتفريق بين النبي والرسول)
http://www.ahewar.org/debat/show.art.asp?aid=295917
الفصل السابع: تابع (القرآنيون والتفريق بين النبي والرسول)
http://www.ahewar.org/debat/show.art.asp?aid=296491
الفصل الثامن: (هل القرآن كافٍ وحده؟).
http://www.ahewar.org/debat/show.art.asp?aid=296924
الفصل التاسع: (البلاغ، الأسوة، ما ينطق عن الهوى).
http://www.ahewar.org/debat/show.art.asp?aid=297432
الفصل العاشر: (طاعة الرسول).
http://www.ahewar.org/debat/show.art.asp?aid=298124
الفصل الحادي عشر: (هل أنزل الله على رسوله وحيا غير القرآن؟)
http://www.ahewar.org/debat/show.art.asp?aid=299391
السنة ما لها وما عليها: الفصل الثاني عشر: (مفهوم السنة، وما هي سنة الرسول؟)
http://www.ahewar.org/debat/show.art.asp?aid=324509
السنة ما لها وما عليها: الفصل الثالث عشر: (أثر عقيدة التجسد المسيحية في إشاعة الفكر التكفيري بين المسلمين)
http://www.ahewar.org/debat/show.art.asp?aid=327008

نهرو طنطاوي
كاتب وباحث في الفكر الإسلامي _ مدرس بالأزهر
مصر _ أسيوط
موبايل : 01064355385 _ 002
إيميل: [email protected]
فيس بوك:
http://www.facebook.com/nehro.tantawi.7



#نهرو_عبد_الصبور_طنطاوي (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- السنة ما لها وما عليها: الفصل الثالث عشر: (أثر عقيدة التجسد ...
- السنة ما لها وما عليها: الفصل الثاني عشر: (مفهوم السنة، وما ...
- السنة ما لها وما عليها: الفصل الحادي عشر: (هل أنزل الله على ...
- السنة ما لها وما عليها: الفصل العاشر: (طاعة الرسول)
- السنة ما لها وما عليها: الفصل التاسع: (البلاغ، الأسوة، ما ين ...
- السنة ما لها وما عليها: الفصل الثامن: (هل القرآن كافٍ وحده؟)
- السنة ما لها وما عليها: الفصل السابع: تابع (القرآنيون والتفر ...
- السنة ما لها وما عليها: الفصل السادس: (القرآنيون والتفريق بي ...
- السنة ما لها وما عليها: الفصل الخامس: (القرآنيون ومأزق حفظ و ...
- السنة ما لها وما عليها: الفصل الرابع: (تاريخ إنكار السنة ونش ...
- السنة ما لها وما عليها: الفصل الثالث: (تاريخ نقد وإصلاح التر ...
- السنة ما لها وما عليها: الفصل الثاني: (الصحابة والسلف بين ال ...
- السنة ما لها وما عليها: الفصل الأول: (عرض تمهيدي لقضية السنة ...
- إطلالات قصيرة على واقع المشهد المصري الحالي
- لماذا بصق المصريون في وجوه نخبهم وإعلامييهم؟
- شيفونية المصريين
- (توفيق عكاشة) نموذج معبر عن حقيقة الشخصية المصرية
- من ينقذ المصريين من أنفسهم؟
- من حق (فاطمة خير الدين) أن تكون عاهرة وتفتخر
- أما أنا فأقول لكم


المزيد.....




- تأسست قبل 250 عاماً.. -حباد- اليهودية من النشأة حتى مقتل حاخ ...
- استقبل تردد قناة طيور الجنة أطفال الجديد 2024 بجودة عالية
- 82 قتيلاً خلال 3 أيام من أعمال العنف الطائفي في باكستان
- 82 قتيلا خلال 3 أيام من أعمال العنف الطائفي في باكستان
- 1 من كل 5 شبان فرنسيين يودون لو يغادر اليهود فرنسا
- أول رد من الإمارات على اختفاء رجل دين يهودي على أراضيها
- غزة.. مستعمرون يقتحمون المقبرة الاسلامية والبلدة القديمة في ...
- بيان للخارجية الإماراتية بشأن الحاخام اليهودي المختفي
- بيان إماراتي بشأن اختفاء الحاخام اليهودي
- قائد الثورة الاسلامية آية الله‌خامنئي يصدر منشورا بالعبرية ع ...


المزيد.....

- شهداء الحرف والكلمة في الإسلام / المستنير الحازمي
- مأساة العرب: من حزب البعث العربي إلى حزب الله الإسلامي / حميد زناز
- العنف والحرية في الإسلام / محمد الهلالي وحنان قصبي
- هذه حياة لا تليق بالبشر .. تحرروا / محمد حسين يونس
- المرحومة نهى محمود سالم: لماذا خلعت الحجاب؟ لأنه لا يوجد جبر ... / سامي الذيب
- مقالة الفكر السياسي الإسلامي من عصر النهضة إلى ثورات الربيع ... / فارس إيغو
- الكراس كتاب ما بعد القرآن / محمد علي صاحبُ الكراس
- المسيحية بين الرومان والعرب / عيسى بن ضيف الله حداد
- ( ماهية الدولة الاسلامية ) الكتاب كاملا / أحمد صبحى منصور
- كتاب الحداثة و القرآن للباحث سعيد ناشيد / جدو دبريل


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني - نهرو عبد الصبور طنطاوي - السنة ما لها وما عليها: الفصل الرابع عشر: (هل حفظ الله كتاب القرءان الكريم؟)