|
خرائب العقل .. 5- الحاشية
سعود سالم
كاتب وفنان تشكيلي
(Saoud Salem)
الحوار المتمدن-العدد: 4011 - 2013 / 2 / 22 - 18:24
المحور:
الادب والفن
كف عن الحفر، وقفز خارجا من الحفرة العميقة مع بروز أول خيوط الفجر، قذف بفأسه على كومة التراب التي تحيط بحواف الحفرة وعاد وأتكأ على جذع الشجرة وسط قطعة ألأرض المحروقة والمثبتة باربعة مساميرعلى جدار ابيض. صورة خامسة، يتبعها إحساس بالفشل. يا أيها الذين آمنو بالوردة ودم العصفور والشفق وشقوق الجدران والرطوبة والمطر، يا من رأيتم تشقق أقدام التائهين المسلوبين وعرق المسحوقين، كتب عليكم الشقاء كما كتب على اللذين من قبلكم، عسى النور يفتح لكم صدره، وتدخلوا مدنه، وتنعموا بالحب والصحو والاشتياق عنده. يا أيها الذين آمنوا بالوردة ودم العصفور وقطعة الخبز، هاهو النور يلبس ثوب الظلمة، والشقاء يتخفى، يتنكر ويتسكع في طرقات النجوم المنسية، يمشي حافيا، يحمل قلب الشمس في عينيه، يبحث عمن يحفر في عروقه معنى الاشياء. يا أيها الذين آمنوا بالوردة ودم الاطفال وخبز الجياع، النور يمضي مهاجرا، تدوسه أقدام العابرين وينسى نفسه، ويطفو على صوت القطارات القادمة من أعماق رموش قمر الحزن، يحلم بجزر ملونة، ليس فيها رموز الفقر والتفاهة، يحلم بالوردة والشمعة الكابية والشعر ومياه الأنهار وصحراء القلب، يرافق جلجامش في رحلته المستحيلة عبر غابات الارز البعيدة. يحلم بروح الاشياء والغوص في أعماق وثنايا التفاصيل اللامرئية ، تنحل أشعة تنظم إليه، تخترقه، ويرحل معها إلى مدن الظلال والرمال. يعانق الفراشات التائهة وسط النور المبلل بالندى والمطر، يغويها، وتتبعه إلى الزرقة، إلى مصدر كل الألوان. الظلمة، تتماوج، وتتشكل قطرة ماء تعكس الوجود الغارق في أعماق شاعر صوفي ينشد الصمت، وربما الموت. وتصدمه صخرة الكآبة، من وراء النافدة، عمود الكهرباء المغروز وسط الرصيف، شجرة الزيتون المعمرة، الجريدة القديمة تحت السرير، فيصحو على ذلك الصوت الرمادي لقطار الصباح الذي يغتال الأحلام ويفجرها بقرقعة الحديد ورتابة الإيقاع المميت في حجرته الثلجية. لم ينس عادة الإستيقاظ كل صباح رغم مرور الأعوام والسنين، يغسل وجهه، يدخل في ملابسه، يربط فردة حذائه القديمة، ويلعن اليوم الذي فقد فيه جواز سفره. وفي مواجهة المرآة وهو يحلق ذقنه، يصفي حسابه مع نفسه: عشقتها، عشقتها فردة حذائي، وبحت لها بكل الاسرار، وسألتها الكتمان، وجربت أن أنفي عنها كل الالوان وكل الاصوات، جربت أن اعزلها عن عربات تفاهة الليل والنهار، ولكنها في الخطوة الاولى باركت صحوها، وقذفت بكل الالوان على كفنها، غنت للون الازرق في عيني دوائر الصمت وحلقات الدخان، تركتني للوحدة. انسلت هاربة لتلتحق بعصفور العطر النهري العائد من منفاه محملا باشعار الفقراء. آه .. فردة حذائي، لقد تعلمت لغة الصمت. طحلب الشركة يسأله عن سبب تأخره، فيجيبه بأن الليل قصير، وبأن النور يخدعه على الدوام، وبأن الزمان مجرد اختراع غبي. الزمان لا وجود له خارج ساعة طحلب الشركة، فلماذا كل هذا الضجيج. ويسمع صوت الرتابة يمزق احاسيس الصحو عنده، وتغتاله اصوا ت البشر الضائعين وسط البركة الآسنة، فيفتح عينيه بيديه، ويصب فيهما قليلا من عصير العنب المر، ليفقد اتصاله بالكرسي والطاوله وكراسة يومياته المزرية، ويمضي حاملا فرشاة أسنانه، ويدخل الحمّام. يراقب وجهه في المرآة، يحدق فيه طويلا، طويلا، حتى تتشقق جمجمته، ويسقط اللحم عن خديه وشفتيه وذقنه، يرى عظامه في المسودة بفعل الكلمات والدخان. ليس لنا في هذا العالم العاهر غير صمت الليل وكآبة الامسيات، وقيثارة، وصوت شاعر تمتد رؤآه وراء جدران الزمان، ليس لنا في هذا العالم سوى ألوان الفجر، وتشكلات السحب المزروعة في السماء، وتشققا ت الجدران القديمة المسودة بفعل الكلمات والدخان وبول البشر. أمل بشري يطفو على وجوهنا، ممزوج بالدهشة واليأس. ليس لنا غير ذواتنا هائمة في الفضاء الكوني الشاسع، وفي أعماقنا ينمو حلم لعين، نسجناه من رعب وحدتنا، من رعب القوى الخفية في أعماقنا، من الرعب الناتج عن موت الموت المتشكل أساطيرا، تاريخا، سحرا، ثقوبا سوداء تمتص الكون، حلم تمتد رؤآه إلى الانفجارات الكونية الأولى، نحتضنه بحرائقه، بمدنه المنهارة، بجثته، ببحاره الدموية، بشموسه واقماره ونجومه، باغانية واشعاره، بليله ونهاره. نحتضنه ونتيه به وسط العالم، نخترق الدروب الوعرة، ونعيد الاتصال بروح الأشياء، نواجه الموت في أقصى درجات الوحدة. كل منا يحتضن مخدته ويحكي لها أحزانه ورؤآه قبل أن يلفه النوم في بطانية قديمة. تعصرنا المدن الموبوءة بالتفاهة والملل ورجال البوليس وقذارة الكلاب، مدن الثماتيل والمتاحف، مدن الصحف وفلسفات الكذب والنفاق، المدن المحكومة بالعسكر ومهندسي الذرة ومستعمري الفضاء. ونفكر في الفرار، وقبل ان نتحرك، يقذف بنا وسط بحير سأم قريبة.
#سعود_سالم (هاشتاغ)
Saoud_Salem#
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
خرائب الوعي .. 4 - مقبرة الضباع
-
خرائب الوعي .. 3 - العمياء وقصر الغول
-
خرائب العقل .. 2- وطني حقيبة وأنا مسافر
-
خرائب الوعي 1- البداية
-
ليبيا .. الثورة القادمة
-
محطة الكلمات المتصلة
-
الفضيحة
-
حوار مع الله .. الحلقة السابعة
-
لقاء مع الله .. الحلقة السادسة
-
لقاء مع الله .. الحلقة الخامسة
-
لقاء مع الله .. الحلقة الثالثة
-
لقاء مع الله .. الحلقة الرابعة
-
لقاء مع الله .. الحلقة الأولى
-
لقاء مع الله .. الحلقة الثانية
-
ليبيا: الثورة المسروقة .. مرة ثانية
-
ليبيا: الثورة المسروقة
-
بوادر هزيمة الثورة اللبية
-
العدمية وأسطورة الكينونة ... الحلقة الثالثة
-
العدمية وأسطورة الكينونة ... الحلقة الثانية
-
العدمية وأسطورة الكينونة
المزيد.....
-
أم كلثوم.. هل كانت من أقوى الأصوات في تاريخ الغناء؟
-
بعد نصف قرن على رحيلها.. سحر أم كلثوم لايزال حيا!
-
-دوغ مان- يهيمن على شباك التذاكر وفيلم ميل غيبسون يتراجع
-
وسط مزاعم بالعنصرية وانتقادها للثقافة الإسلامية.. كارلا صوفي
...
-
الملك تشارلز يخرج عن التقاليد بفيلم وثائقي جديد ينقل رسالته
...
-
شائعات عن طرد كاني ويست وبيانكا سينسوري من حفل غرامي!
-
آداب المجالس.. كيف استقبل الخلفاء العباسيون ضيوفهم؟
-
هل أجبرها على التعري كما ولدتها أمها أمام الكاميرات؟.. أوامر
...
-
شباب كوبا يحتشدون في هافانا للاحتفال بثقافة الغرب المتوحش
-
لندن تحتفي برأس السنة القمرية بعروض راقصة وموسيقية حاشدة
المزيد.....
-
مختارات من الشعر العربي المعاصر كتاب كامل
/ كاظم حسن سعيد
-
نظرات نقدية في تجربة السيد حافظ الإبداعية 111
/ مصطفى رمضاني
-
جحيم المعتقلات في العراق كتاب كامل
/ كاظم حسن سعيد
-
رضاب سام
/ سجاد حسن عواد
-
اللغة الشعرية في رواية كابتشينو ل السيد حافظ - 110
/ وردة عطابي - إشراق عماري
-
تجربة الميج 21 الأولي لفاطمة ياسين
/ محمد دوير
-
مذكرات -آل پاتشينو- عن -العرّاب-
/ جلال نعيم
-
التجريب والتأسيس في مسرح السيد حافظ
/ عبد الكريم برشيد
-
مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة
/ د. أمل درويش
-
التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب
...
/ حسين علوان حسين
المزيد.....
|