|
مقالة في طقس الإفخارستيا – أكل الله
حسن محسن رمضان
الحوار المتمدن-العدد: 3996 - 2013 / 2 / 7 - 13:32
المحور:
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني
"مسكت الله بيدي، وأكلته". القمص بيشوي كامل
يتصور الكثير من عامة المسيحيين أن طقس التناول المقدس، تناول الخبز والخمر في الكنيسة، أنه طقس رمزي ذو دلالة روحية، لا أكثر من هذا ولا أقل. إلا أن التأصيل العقائدي المسيحي المبكر والمعاصر ينفيان ذلك التصور بصورة لا لبس فيها ويؤكدان على أن التناول المقدس هو تجسيد حقيقي بحيث يتناول فيه المؤمن لحم جسد يسوع الحقيقي ودمه. ففكرة الأضحية البشرية (القرابين البشرية)، كما سوف نرى أدناه، حاضرة بصورة لا لبس فيها في التصور العقائدي المسيحي، بل إنها تتعداه إلى ممارسة أكل هذه الأضحية.
الإفخارستيا (Eucharist) (εὐχαριστία) [المعنى الحرفي للكلمة اليونانية هو: إعطاء الشكر، وأتت من قول بولس الرسول عن يسوع (وشَكَرَ) (رسالة بولس الأولى إلى أهل كورنثوس 11: 24)]، أو التناول المقدس (Blessed Sacrament)، هو الاعتقاد بالوجود الحقيقي، وليس الرمزي، لجسد يسوع في الخبز، ودمه في النبيذ، عند تقدمته في الكنيسة ليتناولهما المؤمن بفمه. والمصادر التنظيرية لذلك كثيرة، ولكن أسهلها وصولاً للقارئ الكريم هو ما ذكره الأنبا بيشوي، سكرتير المجمع المقدس للكنيسة القبطية، في سلسلة محاضراته عن (تبسيط الإيمان): "سر التناول المقدس، أو الإفخارستيا، أي سر الشكر، حسب إيمان الكنيسة الأرثوذكسية هو إننا نتناول جسد حقيقي، ودم حقيقي، تحت أعراض الخبز والخمر"، ويقول في موضع آخر: "أننا نؤمن أن ما بداخل الكأس هو دم حقيقى تحت أعراض الخمر"، ثم يُسمي يسوع: "ذبيحة الخلاص الحقيقية"، ويتساءل متعجباً: "فإذا كان السيد الرب نفسه يقول: (هذا هو دمي) [متى 26: 28]، فمن يستطيع أن يقول إن هذا هو رمز فقط؟ ألا نؤمن بصدق كلمات السيد المسيح؟!". إلا أن الكتابات التي ترى التجسد الحقيقي، وليس الرمزي، لجسد ودم يسوع في الخبز والنبيذ تعود إلى أقدم من ذلك بكثير. فمثلاً القديس أغناطيوس الأنطاكي (قُتل سنة 107 مـ) كتب: "أنا أرغب (أشتهي) خبز الله، الذي هو لحم المسيح يسوع". وأيضاً القديس يوستينوس الشهيد (Saint Justin Martyr) (قُتل حوالي 165 مـ) كتب قائلاً: "هذا الطعام يُدعى بيننا الإفخارستيا (...) هو ليس خبز عادي ولا شراب عادي حين نتلقاه، ولكن متشابه تماماً مع يسوع المسيح مخلصنا الذي جُعِلَ جسداً بواسطة كلمة الرب، يحتوي على جسد ودم لأجل خلاصنا". والكتابات كثيرة ومتعددة في هذا الجانب، إلا أن أكثرها وضوحاً (ربما "تصويراً" هي الكلمة المناسبة هنا) هي التي تتكلم عن (أكل الله) بصورة مباشرة كما عند القمص بيشوي كامل: "استلمت الذبيحة صباحاً واشتركت مع الروح القدس في تحويل الخبز والخمر، ومسكت الله بيدي وأكلته، وهذا لا يقل عما صنعه الله مع كل من إرميا وإشعياء" [مذكراته في الأربعين يوم عقب الرسامة، الثلاثاء 23-12-1959. كتاب (القمص بيشوي كامل حامل الصليب - تقديم البابا شنودة الثالث)]. وعبارة (مسكت الله بيدي وأكلته) التي استخدمها القمص بيشوي كامل للتعبير عن طقس الإفخارستيا تعيدنا بالذاكرة إلى قصة حدثت في العصر الجاهلي عندما صنعت بنو حنيفة إلهاً من تمر، فلما جاعوا أكلوا (جسد) هذا الإله، وفيهم الشعر المشهور الذي شطره الأول (أكلت حنيفة ربها زمن التقَحّمِ والمجاعَهْ). فلعل الممارسة لم تكن بتلك الفكاهة أو الطرافة التي صوّرها المؤرخون والمفسرون الإسلاميون للسخرية من الممارسات الجاهلية، ولكن الممارسة كانت متأثرة أصلاً بالمناخ المسيحي لطقس الأفخارستيا وخصوصاً أن المسيحية كانت معروفة في الجزيرة العربية بدون أدنى شك. أو، كاحتمال آخر وهو الراجح، أن عقيدة بني حنيفة هذه وطقس الإفخارستيا المسيحي قد اشتركا في ذات الأصل الوثني الراسخ في القِدم لهذه الممارسة، وأن أصل ممارستها قد سبقت الإثنين. إذ ما الذي يدعو قبيلة وثنية إلى صنع إله مقدس من مادة عضوية سوف تتحلل أو تفسد في مدة قصيرة وخصوصاً في المناخ الحار، ويكون جسد تمثالهم ذو القداسة هذا عرضة لهجوم الحشرات والهوام في المحيط المكشوف؟ لابد وأن يكون الدافع لصُنع ذلك التمثال المقدس من مادة التمر يحقق هدفه في مدة قصيرة جداً بالتأكيد، ولا يستدعي الانتظار حتى حدوث مجاعة في زمان قادم طويل مجهول كما يدّعي الإسلاميون وشعراؤهم. هذا الهدف الوثني، على الأرجح، هو نفس الهدف المسيحي من (مسكت الله بيدي وأكلته)، أي ما قاله يسوع الإنجيلي في إنجيل يوحنا (من يأكل جسدي ويشرب دمي فلهُ حياة أبدية وأنا أُقِيمُهُ في اليوم الأخير)، ولابد أن هذا الهدف العقائدي قد سبق الديانتين في أصوله الوثنية.
الإشارة الأولى من حيث التاريخ لقصة إعطاء يسوع الإنجيلي جسده ودمه كوسيلة للخلاص الأخروي لمن يتناولهما هي في رسالة لبولس الرسول كانت في وقت ما بين سنوات 54 مـ و 57 مـ. إذ نقرأ في هذه الرسالة: (لأنني تسلمتُ من الرب ما سلمتكم أيضاً إن الرب يسوع في الليلة التي أُسلم فيها أخذ خبزاً. وشَكَرَ فكسَّر وقال: خذوا كلوا، هذا هو جسدي المكسور لأجلكم، اصنعوا هذا لذكري. كذلك الكأس أيضاً بعدما تعشوا قائلاً: هذه الكأس هي العهد الجديد بدمي، اصنعوا هذا كلما شربتم لذكري. فإنكم كلما أكلتم هذا الخبز وشربتم هذه الكأس تخبرون بموت الرب إلى أن يجيء. إذاً أيُّ مَنْ أكل هذا الخبز أو شرب كأس الرب بدون استحقاق يكون مجرماً في جسد الرب ودمه) [رسالة بولس الأولى إلى أهل كورنثوس 11: 23-27]. ويوضح بولس مقصده في نفس الرسالة عندما تساءلَ: (كأس البركة التي نُباركها أليست هي شَرِكَةَ دم المسيح؟ الخبز الذي نكسره أليس هو شَركَة جسد المسيح؟) [رسالة بولس الأولى إلى أهل كورنثوس 10: 16]. ثم بعد تاريخ هذه الرسالة بحوالي عشرين سنة تقريباً ظهر إنجيل مرقس بأول رواية للعشاء الأخير: (وفيما هم يأكلون أخذ يسوع خبزاً وبارك وكسر وأعطاهم، وقال: خذوا كلوا، هذا هو جسدي. ثم أخذ الكأس وشكر وأعطاهم، فشربوا منها كلهم. وقال لهم: هذا هو دمي الذي للعهد الجديد، الذي يسفك من أجل كثيرين) [مرقس 14: 22-24] (وانظر أيضاً [متى 26: 26-28]، ولاحظ أيضاً التغيير في النص والتعبير الذي تعمده كاتب إنجيل لوقا [22: 17-20] مع أنه كان ينقل من نسخة مكتوبة لإنجيل مرقس). وفي هذه الأناجيل الثلاثة الأولى ظهرت هذه المقولة في العشاء الأخير ليسوع الإنجيلي مع تلامذته. أما في إنجيل يوحنا فنقرأ: (فقال لهم يسوع: الحقَّ الحقَّ أقول لكم، إنْ لم تاكلوا جسد ابن الإنسان و تشربوا دمه، فليس لكم حياة فيكم. من يأكل جسدي ويشرب دمي فلهُ حياة أبدية وأنا أُقِيمُهُ في اليوم الأخير. لأن جسدي مأكل حق ودمي مشرب حق. من يأكل جسدي ويشرب دمي يثبت فيَّ، وأنا فيه) [يوحنا 6: 53-56]. إلا أن الملاحظ أنه على عكس الأناجيل الثلاثة الأولى، لم تظهر تلك المقولة في العشاء الأخير، واختفى هذا الطقس تماماً، وحلّ بدله مشهد يسوع وهو يغسل أرجل تلامذته. تلك المقولة في إنجيل يوحنا ظهرت على لسان يسوع الإنجيلي قبل العشاء الأخير بكثير، ظهرت بالقرب من بحيرة طبرية، في مكان ما في كفر ناحوم، وذلك بعد أن سخر منه اليهود مذكرين إياه بمعرفتهم بأبيه وأمه [يوحنا 6: 42].
قبل أن نترك هذه النقطة يجب علينا ملاحظة أنه يبدو بالفعل، من النص اليوناني، أن مَنْ وضع تلك العبارات على لسان يسوع كان يقصد بالفعل المعنى الحرفي للكلمات وليس الرمزي. إذ النص اليوناني، في إنجيل يوحنا مثلاً، يستخدم لفظ (Trogo) (τρώγω) التي تتُرجم عادة في الأناجيل على أنها (يأكل) [يوحنا 6: 56]، إلا أن هذا اللفظ اليوناني يعني حرفياً (يعض باصرار واستمرار، يسحق بالأضراس، يعلك شيئاً صلداً مثل الخضروات أو الحبوب). ولو كان الكاتب يقصد شيئاً أقرب للرمز منه إلى الحقيقة لاستخدم لفظاً أقل بكثير من هذه الكلمة التصويرية الواضحة لعملية المضغ، وهي كلمة (phago - phagein) (φαγεῖν) وهي تعني ببساطة (يأكل، يستهلك). ومما يؤكد أيضاً المعنى الحرفي، وليس الرمزي، لطقس الإفخارستيا أن الكلمات التي وردت على لسان يسوع الإنجيلي في أناجيل متى ومرقس ولوقا في العشاء الأخير كانت موجهة بالتحديد إلى تلامذة يسوع، وكانوا على انفراد دون وجود غرباء بينهم، وذلك في نفس الوقت الذي يؤكد كاتب إنجيل مرقس لقارئيه: (وبدون مَثَل لم يكن يكلمهم. وأما على إنفراد فكان يُفسر لتلاميذه كل شيء) [مرقس 4: 34]. إلا إن إنفرادهم هذا لم يأتي بشرح أو تفسير إطلاقاً، فلابد، من وجهة نظر كاتب إنجيل مرقس على الأقل، أن (التناول المقدس) المقصود به هو المعنى الحرفي للكلمة، وهذا ما فهمه بالضبط المسيحيون الأوائل كما رأينا في بعض الاقتباسات أعلاه.
إذن، فإن إصرار يسوع على (أكل لحمه) و (شرب دمه) يستدعي بالضرورة النظر في السؤال: لماذا يُشترَط أن نأكل لحماً بشرياً ونشرب دماً بشرياً بالذات في سبيل خلاص عقائدي من نوع ما؟ ما هي المفاهيم الاجتماعية والثقافية أو ربما الدينية التي استدعت من يسوع الإنجيلي، أو ممن وضع هذه العبارة على لسانه، أن يصر على أكل لحمه ودمه في خطابه لتلاميذه ولا يُعتبَر هذا التشبيه أو المجاز مُنفراً أو شاذاً أو غريباً؟ إذ الخطاب لابد وأن يعكس مفهوماً دارجاً أو متداولاً ثقافياً أو اجتماعياً أو دينياً وثنياً حتى يكون مفهوماً ذي دلالة واضحة لسامعيه.
إلا أنه يجب التذكير، قبل محاولة الإجابة، أن كاتب (كتبة) إنجيل يوحنا قد صوّر الجمهور اليهودي الخالص (تلامذته على الأقل) الذي كان يستمع ليسوع في مقولته أعلاه تلك على أنه مصدوم مستغرب أو حتى مشمئز، إذ صُوّروا على أنهم يقولون له: (هذا الكلام صعب. من يقدر أن يسمعه؟!) [يوحنا 6: 60]، فيجيبهم يسوع الإنجيلي بسؤال: (أهذا يُعثركم؟) [يوحنا 6: 61]. وجواب يسوع هذا قد تدخل فيه المترجم المسيحي العربي، كالعادة، ليُلطّف معنى الكلمة اليونانية. إذ المعنى الحرفي للكلمة (أهذا يُهينكم؟!)، وفي ترجمة عربية حديثة (هل يصدمكم هذا الكلام؟!) [انظر Easy-to-Read Version]. فمن وجهة النظر اليهودية فإن الطلب من شخص ما أن يشرب دماً بشرياً أو أن يأكل لحماً بشرياً، ولو على افتراض الرمزية، هو شيء مهين بالفعل وصادم. إذ لا يوجد إطلاقاً، ولا حتى على معنى الإشارة البعيدة التي تحتمل التأويل المتعسف، أي أساس مرجعي ديني يهودي يجيز شرب الدم يستند عليه هذا الطقس أو تلك المقولة ليسوع. بل إن شرب الدم يُعد ضمن الفضاء اليهودي على أنه شديد التحريم إلى درجة أن الذبائح الحيوانية يجب أن يتم تخليصها تماماً من الدم أولاً قبل أن تكون صالحة للأكل. وقد ورد في سفر اللاويين وعيد شديد ضد فاعله: (كل إنسان من بيت إسرائيل ومن الغرباء النازلين في وسطكم يأكل دماً أجعل وجهي ضد النفس الآكلة الدم وأقطعها من شعبها) [لاويين 17: 10]. ولهذا يستحيل أن يكون مصدر هذا الطقس يهودي، ولا حتى على معنى الرمز. ويستحيل أن يكون مصدره يسوع أيضاً، لأن يسوع التاريخي الذي تواجد بالفعل على أرض فلسطين كان يهودياً خالصاً يُبشر بين اليهود بُقرب قدوم ملكوت الله الذي سوف يخلصهم من المحتل الروماني ويعيد لهم أمجاد داود الملكية ومحكمة اليهود (السانهدرن). يسوع التاريخي (الحقيقي) لم يكن أكثر من رجل دين يهودي، متأثر جداً بدعوة يوحنا المعمدان بقرب الملكوت، وكانت لديه "فكرة" إصلاحية ليست بجديدة ضمن التعاليم الإنسانية السابقة، فتعاليمه لم تكن ذات أصالة لم تعرفها المجتمعات الإنسانية قبله، بل إن بعضها في الحقيقة ساذج كطلبه أن تدير خدك الآخر للصفع [متى 5: 39]. نعم، قد يُشار بأنه كان غريب الأطوار، لديه ولدى أتباعه مشكلة في النظافة الشخصية [متى 15: 2] [لوقا 11: 37-38]، ليست لديه مشكلة إطلاقاً في استخدام الشتائم [متى 3: 7] [متى 23: 17] [لوقا 11: 40] [لوقا 24: 25]، ويصف غير اليهود بالكلاب [مرقس 7: 24-29] [متى 15: 26]، لدى بعض أتباعه فكرة غير محبذة اجتماعياً عن طريقة اللباس والمشي في العراء [يوحنا 21: 7]، ومنبوذ حتى من أهله لأنهم كانوا يعتقدون بأنه مختل عقلياً (ولمّا سمع أقرباؤه خرجوا ليمسكوه لأنهم قالوا إنه مختل) [مرقس 3: 21]، ثم انتهى مقتولاً بأكثر أنواع القتل الروماني إهانة على الإطلاق، عقوبة العبيد كما تُسمى، وذلك بعد أن هرب عنه أتباعه القليلون كلهم وبلا استثناء وتركوه وحيداً يواجه مصيره، ولم يخطر على بال ذلك المسكين بأنه سوف يتحول إلى (إله) بعد حوالي عقدين من مقتله ومن ثم إلى (ثالوث) بعد قرنين، ولكنه بالتأكيد، ومن دون أدنى شك، لم يكن يهودياً متطرفاً إلى الحد أنه يبيح شرب الدم الإنساني أو أكل اللحم البشري، ولو حتى على معنى الرمز والإشارة، وإلا لرُجم بالحجارة مباشرة وعلى يد اليهود أنفسهم في ذلك الوقت. تلك هي حقيقة يسوع التاريخي الذي عاش وتواجد بالفعل. فكيف نشأت الأفخارستيا إذن؟
يستعرض (وِل ديورانت) في كتابه الشهير (قصة الحضارة) [الجزء 16، ص 18-20] نصوص وتاريخ نشوء عقيدة الإفخارستيا، فيقول: "أهم ما تقوم عليه شعيرة العشاء الرباني هو تحول رغيف الخبز وكأس النبيذ إلى جسم المسيح ودمه بقدرة القسيس المعجزة"، وأن مجلس ترنت (Trent) في سنة 1260 مـ قد قرر أن "كل جزء من الخبز المقدس، مهما كُسر، يحتوي جسم يسوع المسيح كله ودمه". وأشار أيضاً إلى أن الصياغة الرسمية الأولى لهذه العقيدة قد أذاعها مجلس نيقية عام 787 مـ عندما أنكر أحد الرهبان (يُدعى: رتراموس) حقيقة هذه الممارسة. وأشار أيضاً إلى عقوبة مُنكر تحول الخبز والخمر إلى جسد يسوع ودمه على الحقيقة هي الحرمان الكنسي من الدين كما حدث لرئيس شمامسة تور في سنة 1054 مـ. ثم يضيف ديورانت هذه العبارة: "وبهذه الطريقة تُعظِّم الحضارة الأوروبية الأمريكية اليوم شعيرة من أقدم الشعائر في الأديان البدائية، وهي أكل الإله". أكل الإله، أو (أكل الله)، إذن هي ضمن الشعائر العقائدية للأديان البدائية القديمة التي سبقت الأديان التوحيدية بكثير، وهي ذاتها التي مارستها بنو حنيفة في جاهلية العرب، وهي ذات الشعيرة التي فاجأت الغزاة المسيحيون الأسبان، لشبهها بشعيرة التناول المقدس (الإفخارستيا)، عند نزولهم على شواطئ أمريكا الجنوبية وليجدوا أن قبائل الأزتك تصنع شطائر من طحين حبوب معينة لإلههم المقدس، وبعد أن يباركه الكهنة، يتم توزيعها على "المؤمنين" ليأكلوها على أنها "جسد" معبودهم [انظر: Sir J.G. Frazer, The Golden Bough, pp. 489-490]. وقد استعرض (سَمر) (W.G. Sumner) في كتابه (Folkways, p. 337) ممارسات لقبائل بدائية قديمة متعددة كانت تصنع تماثيل لآلهتها من طحين الحبوب معجوناً بالدم البشري، ثم تستخدم كهنتها التعاويذ السحرية لتحويل هذا العجين إلى (إله حقيقي) يتم أكله. وكذلك عبدة الآلهه المصرية أوزريس (Osiris) كان يعطونهم الكهنة قطعاً صغيرة من الخبز منقوشاً عليها رمز هذا الإله ليأكلوه وقد استمر هذا الطقس إلى ما بعد زمن يسوع بكثير في الإمبراطورية الرومانية وكان يمارسه حتى عبدة الإله إزيس (Isis) [انظر The Golden Bough]. فمصدر طقس الإفخارستيا وثني من دون أدنى شك، وبقي أن ننظر إلى كيفية دخوله ضمن العقائد المسيحية.
هذا الأصل الوثني بالتأكيد لطقس الأفخارستيا يستدعي النظر في زمن ومحيط نشوئها. إذ يجب أن نتذكر أن الإشارة الأولى لطقس الإفخارستيا قد وردت في رسالة بولس الرسول الأولى إلى أهل كورنثوس (اليونان) (بين سنوات 54 مـ و 57 مـ)، أي كانت موجهة إلى محيط عام وثني بالدرجة الأولى وليس يهودي، (المتحولين إلى المسيحية من الوثنية)، أما الأناجيل التي أوردت قصة العشاء الأخير أو قصة الإفخارستيا قد كُتبت لاحقاً وتحت تأثير ومعرفة كتابات ورسائل بولس، مع التأكيد على أن الدليل التاريخي لا يقبل الشك في أن جميع كتبة الأناجيل الأربعة لم يكونوا شهود عيان على ما كتبوه، ولم يكونوا إطلاقاً من تلامذة يسوع التاريخي، تلك حقيقة تاريخية لا تقبل الشك إلا في أذهان "المؤمنين" فقط. فالاستغراب من أكل لحم يسوع وشرب دمه هو (يهودي) فقط، والذين (أهانهم وصدمهم) يسوع هم اليهود فقط الذين رفضوا يسوع أصلاً لأسباب وجيهة جداً في الحقيقة، وليس وثني إطلاقاً. الوثنيون لم يستغربوا من الطقس أبداً، وتبنوه بكل رحابة صدر، وكانوا هم النواة الرئيسة في المجتمعات المسيحية المبكرة ضمن آسيا الصغرى وخارج فلسطين كما تؤكد الكتابات التاريخية المبكرة للديانة المسيحية. فمصدر الطقس المسيحي على الأرجح هو بولس، وربما، بعد أن اشتكى مراراً من اليهود وطريقة معاملتهم له ومحاولتهم قتله، كان يريد استمالة الوثنيون أكثر من خلال تبني طقوسهم. وعلى أي الأحوال، وإن كان دور بولس مجالاً للبحث، فلا مجال إطلاقاً لإنكار الأصل الوثني للممارسة.
#حسن_محسن_رمضان (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
رقص الجريح
-
المسيحية وحوادث أكل لحوم المسلمين
-
في مشكلة تعاليم يسوع الإنجيلي
-
إشكالية العقل السلفي العربي
-
في طبيعة العلاقة بين الفرد والدولة
-
عندما نفقد خارطة طريقنا
-
مشكلة اليهودية والجغرافيا عند كتبة الإنجيل
-
من إشكاليات قصة يسوع الإنجيلي
-
التناقضات الأخلاقية عند يسوع الإنجيلي
-
هل هذه صلاة أجر ومغفرة؟
-
في إشكالية الشعوب العربية
-
سؤال غير بريئ لما يسمى ب -القوى الشبابية- في الكويت
-
بصراحة … رأيي في أحداث مسيرة يوم الأحد
-
كلمة قصيرة لمن يخاف -ثورة- في الكويت
-
لأنكم مجتمع يمثل شذوذاً في كل شيء
-
حتمية الصدام بين المنهج السلفي والدولة المدنية
-
ميسون سويدان ... أيتها الرائعة
-
أيها السياسيون الكويتيون العباقرة … يا أيها الشعب
-
باغافاد غيتا – المعرفة السرية القصوى
-
التدليس في الخطاب الإعلامي الديني ... محمد العوضي كنموذج
المزيد.....
-
دراسة: السلوك المتقلب للمدير يقوض الروح المعنوية لدى موظفيه
...
-
في ظل تزايد التوتر المذهبي والديني ..هجوم يودي بحياة 14 شخصا
...
-
المقاومة الاسلامية بلبنان تستهدف قاعدة حيفا البحرية وتصيب اه
...
-
عشرات المستوطنين يقتحمون المسجد الأقصى
-
مستعمرون ينشرون صورة تُحاكي إقامة الهيكل على أنقاض المسجد ال
...
-
الإعلام العبري: المهم أن نتذكر أن السيسي هو نفس الجنرال الذي
...
-
ثبتها فوراً لأطفالك.. تردد قناة طيور الجنة 2024 على نايل سات
...
-
الجنائية الدولية تسجن قياديا سابقا في أنصار الدين بمالي
-
نزع سلاح حزب الله والتوترات الطائفية في لبنان.. شاهد ما قاله
...
-
الدعم الأميركي لكيان الاحتلال في مواجهة المقاومة الإسلامية
المزيد.....
-
مأساة العرب: من حزب البعث العربي إلى حزب الله الإسلامي
/ حميد زناز
-
العنف والحرية في الإسلام
/ محمد الهلالي وحنان قصبي
-
هذه حياة لا تليق بالبشر .. تحرروا
/ محمد حسين يونس
-
المرحومة نهى محمود سالم: لماذا خلعت الحجاب؟ لأنه لا يوجد جبر
...
/ سامي الذيب
-
مقالة الفكر السياسي الإسلامي من عصر النهضة إلى ثورات الربيع
...
/ فارس إيغو
-
الكراس كتاب ما بعد القرآن
/ محمد علي صاحبُ الكراس
-
المسيحية بين الرومان والعرب
/ عيسى بن ضيف الله حداد
-
( ماهية الدولة الاسلامية ) الكتاب كاملا
/ أحمد صبحى منصور
-
كتاب الحداثة و القرآن للباحث سعيد ناشيد
/ جدو دبريل
-
الأبحاث الحديثة تحرج السردية والموروث الإسلاميين كراس 5
/ جدو جبريل
المزيد.....
|