أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - هاشم نعمة الفريجي - دراسة في وحدة بناء الأبوذية والشعر الفصيح















المزيد.....



دراسة في وحدة بناء الأبوذية والشعر الفصيح


هاشم نعمة الفريجي

الحوار المتمدن-العدد: 3991 - 2013 / 2 / 2 - 14:29
المحور: الادب والفن
    


وحدة بناء بيت الأبوذية
كثير من ألبات الأبوذية التي مرت بنا * كانت بشكل او بآخر تتحدث عن موضوع واحد او مواضيع لها علاقة ببعضها. وهذا هو مفهوم (البيت) في الإبوذية. حيث يمثل وحدة بناء تعطي معنى معينا او تفيد غرضا من أغراض الشعر دون الحاجة إلى بيت يكمله كما في القصائد. وهذا الوضع قائم في كل أشكال الجناس كالعتابة والهات والبومعنه والموال والميمر وكذلك في الدارمي والنايل.
وتنفرد الهوسة العكيلية عن باقي فنون الأدب الشعبي باعتبارها (أقصر مقطعٍ موزونٍ يُعطي معنىً بليغا) دون الحاجة إلى ما يكمله رغم انه مكون من شطر واحد وبدون قافية، ورغم قصره وقلة عدد كلماته مثل:
وَدُّوْه يِبْلَعْنَا اوْغَص بِيْنَا
بَس لا يتْعَذَّر مُوْش آنَا
شَگ مَا يِتْخَيَّط شَگيْنَاخح
فيأتي الشاعر بكنايات رائعة مفيدة بليغة لا تحتاج إلى إضافة او شرح مطول لفهم معناها. وكذلك هو الحال مع الدارمي والنايل، إذ يمكن ان يُختصر البيت الفصيح ببيت شعبي بليغ مؤثر، فقد مر بنا في مجاراة الشعراء لأبيات الفصيح التي منها:
ولما تلاقينا على ظهر رامة
رأيت بنان العامرية أحمرا
فقلت خضبت الكف بعد فراقنا
فقالت يمين الله ذلك ما جرى
ولكنني لما استشط بنا النوى
بكيت دما حتى بللت به الثرى
مَسَحتُ بِأَطرافِ البَنانِ مَدامِعي
فَصَارَ خِضَاباً في الأَكُفِّ كَمَا تَرى
وكيف كانت مجاراة الشعراء له في الإبوذية *، بينما عبَّر عنها الدارمي أبلغ تعبير فاختصر ثلاثة أبيات من الفصيح في بيت من الدارمي وزاد عليه بعد ان أبعد كل الحشو الذي ذكره الفصيح ولم يلتفت إلا إلى الموضوع المهم وهو:
گلْتِلْهَا تتْحَنِّيْن بِجْفَاچ الْيَّه
گالَت مِسَحْتِ الْعَيْن وَاثَّر بِدَيَّه
وإذا كانت الأبيات التي تحتوي جناسا لا تقل عن أربعة أشطر، فلك ان تتصور مقدار الفسحة التي يمكن للشاعر التجوال فيها مقلبا الآراء ومختارا الكلمات وواضعا فكرة محددة يحاول إيصالها من خلال بيته. وقد لاحظنا ان كثيرا من أبيات الإبوذية التي جارى بها شعراؤها أبيات القريض * تمكنوا من الإحاطة به في الشطر الثالث والرباط، أي بشطرين كما هو في الفصيح. وكانت دائما لديهم فسحة أخرى وهي أيضا بشطرين يتنفسون من خلالها هواء الحرية ويخرجون من قيود التقليد الأعمى لبيت القريض فيحلقون في رحاب البلاغة ويضيفون إلى المعنى ما يتمه او يكمل صورته ويضيف صورا أخرى إلى مسرح أحداثه. لكن هذا لا يعني ان يترك شاعر الإبوذية ليصول ويجول في مضمار الأفكار كيف يشاء، بل عليه الالتزام بوحدة بناء البيت. ففي كل الأحوال يفضل ان يكون بيت الإبوذية متَّحد الأشطر يكمل بعضه بعضا, أي لا يتحدث شطر عن موضوع بينما يتحدث الآخر عن موضوع لا علاقة له به.
وفي بعض الأبيات التي مرت بنا سابقا وخصوصا في موضوع الأمثال ناقشنا أبياتا لم يقدِّم شعراؤها مسوغا لضربها في البيت. وكأن الشاعر يتحدث عن موضوع لا علاقة له بالمثل او الحكمة التي أدرجها في بيته. لكن الغالبية العظمى من الإبوذية ينطبق عليها مفهوم وحدة بناء البيت كما لاحظنا في أبوابنا السابقة وكما سنلاحظ في الأبيات المختارة التالية.
ولن يفوتنا ان نعلق على فصاحة الشعراء وأساليبهم البلاغية وما يتعلق بالوزن والجناس وغيرها كما فعلنا في الأبواب السابقة. ففي هذا البيت يتحدث الشاعر عن الفراق:
تِظِن يَشْگَر عِن اوْدَادَك سَنَلْهَا
إوْنَارَك شَبَّت ابْچَبْدِي سَنَلْهَا
سَاعَه الْفَارَگِت بِيْهَا سَنَلْهَا
إشْحَال إفْرَاگ سَنْتَيْنَك عَلَيَّه
ويخاطب حبيبه الذي فارقه فيقول سوف لن يلهينا شيء عن ودادك. وجناسه الأول (سَ نَلْهَا) مكون من حرف السين للاستقبال والفعل نلهو وقد استخدم اللغة الفصحى في ربط سين سوف مع الفعل وهي لا تستعمل في العامية. وجاء شطره الأول بصيغة السؤال بدون أداة استفهام، وهو يفيد النفي في هذه الحالة أي ان الشاعر لا يسأل حبيبه: هل تظن أننا سنلهو عن ودادك أم لا، بل يؤكد أنه لن ينساه أبدا. وهي صيغة أبلغ في الوصول إلى مراد الشاعر وتأكيده من قوله لو قال مثلا: (لا تِحْسِب عِن اوْدَادَك سَنَلْهَا). وقد جعل فعل الظن للحبيب وليس له لكون الشاعر واثقا من استمرار حبه وانه لن يسلو. وتحدث الشاعر عن نفسه بصيغة الجمع حين قال (سنلها) في جناسه تفخيما لعظم وداده وكأنه ليس هو الوحيد الذي يحبه وانما يحبه الحي او العشاق كلهم. او ربما تفخيما لنفسه وهو نفس الإسلوب المتبع في الفصحى حيث يتحدث المفرد بصيغة الجمع.
وفي الشطر الثاني يصف نار فراق الحبيب التي شَبَّت في كبده فهو يحس بحرارتها تحرقه (سَنَى الْهَا). وفي الشطر الثالث يذكر طول فراقه وكيف تمر به ساعة الفراق طويلة كأنها السنة (سَنَه الْهَا)، فكيف سيكون تأثير فراقِك علي إذا ما غبْت عني سنتين. هكذا يتساءل في الرباط. وتلاحظ ترابط أشطر البيت وهي تحكي قصة فراق حبيبين بشكل مركز وتتحدث عن الفراق وتأثيره فلا يكاد يمر عليك شطر دون ذكر للفراق او ما ينتج عنه.
وكانت جناسات الشاعر مركبة تامة وعباراته فصيحة وصوره بليغة وتمكن من إيصال فكرته إلينا بمفردات عامية بسيطة بلا تشويه.
وما دمنا نتحدث عن الظن واليقين في أبيات الشعراء الذين يخاطبون أحِبّاءَهُم في أبيات تمتلك وحدة البناء نقرا هذا البيت للشاعر الشيخ راضي علي بيج أيضا:
تَرِف لَحْظِي الْشَخْصَك دُوْم يَبْرَه
هَا ضلْعِي إنْكِسَر بِجْفَاك يَبْرَه
إشْتِظِن إيْطِيْب جَرْحِي اوْبَعَد يَبْرَه
لا وَالله صَعُب يَشْگَر عَلَيَّه
وجناسه الأول (يَبْرَهْ) يباريه أي يلاحظه او يتابعه، والثاني (جبره) وهو يطلب منه (تجبيرَ ضلعهِ الذي انكسرَ بسببِ جفائه) وقد استعار هذه الصورة للتعبير عن تألمه ولوعته كما ان (تجبيرَ الحبيبِ لظلعه) يعني إدامة وصاله فهي الطريقة الوحيدة لشفائه وإسعاده. وفي الشطر الثالث يستعمل إسلوب التساؤل فيقول (إشْ تِظِنْ) ماذا تظن، وهو هنا يؤكد ان جرحَه لن (يطيب) ويتماثل للشفاء (يَبْ رَهْ) يبرى، أي لا تظن ذلك. لانه صعب عليه، كما يكمل شرحه في رباط البيت، فلجراحه عميقة وأسبابها متواصلة بسبب حبه.
والشاعر يحدثنا بقصة حبِّه وكيف ان حبيبه هجره وما حدث بعد ذلك في تسلسل واضح لمسير الأحداث وتتابعها الزمني فجاءت أشطر البيت مكملة لبعضها. وكانت جناساته مفردة تامة ومفرداته واضحة، واستخدم إسلوب الحديث المباشر مع حبيبه لكونه أبلغ في إيصال الشكوى وطلب الوصال.
وإذا كان الشاعر السابق يتحدث مع حبيبه وجها لوجه فان شاعرنا التالي وهو الملا عبد الباقي العماري يحدثنا عن حبيبه وهو غائب عنه ليخبرنا عما دار بينهما من حديث شيق حول طلب قبلة من خدوده فيقول:
إخْدُوْدَه وَالْجَبِيْن إتْرِيْك لالَن
تِرَجَّيْتَه لَثِمْهِن گَال لا .. لَن
گِتْلَه إمْنِ الْشِّفَايِف گَال لا .. لَن
عَلِيْك الْعَيْن تِرْمِي ابْمَاطِلِيَّه
فيخبرُنا بأنّ خديه وجبينه (لالَنْ) يتلألأن كأنهن (اتْرِيْكْ) مصباح وهّاج وهو ما يطلق عليه شعبيا اسم (لوكس) ويمتاز بشدة إضاءته. وفي الشطر الثاني ترجاه الشاعر ان يلثمها فقال لا ولن، تأكيدا لرفضه. فلما امتنع عن السماح بتقبيل وجنتيه او جبينه طلب الشاعر قبلة من شفاهه، فقال (لا لَنْ) أي لا لأن عيوني ترمي عليك (ابْمَاطِلِيَّهْ). وهي نوع من البنادق القديمة وجاء رفض الطلب مؤدبا ومُسَوّغا، وكأنه يخاف على شاعرنا من إصابته برصاص عينيه وهو من ابتكار الشاعر وبعد خياله. وأعتقد ان الشاعر تمنى شيئا أصعب من طلبه الأول عندما طلب تقبيل حبيبه من شفتيه، فالذي يرفض قبلة من جبينه لابد ان يرفضها من شفتيه.
وهكذا يروي لنا شاعرُنا فصول حديثِه مع الحبيب بلهجة واضحة، وأشطر مترابطة أوردت النقاش الساخن بينهما بإسلوب جزل فهو يقول ثم يرد عليه الآخر بكلمات واضحة. وجناساتُه مركبة تامة تخلو من الاضافات والحذف الذي لاحظناه في أبيات غيرها.
وللشعراء الشعبيين أساليبهم الرائعة في طلب قبلة من الحبيب وإغرائه بمنحها فهي تنفع حبيبه ولا تضره كما نلاحظ في البيت التالي للشاعر عبد الحسين قوزي:
غَرَامَك سِلَب رُوْحِي وِنْتَهَبْهَا
إوْحِكَم دَارِي العْرَيْضِي وِنْتَهَبْهَا
إشْعَلِيْك إمْنِ الْعَوَاذِل وِنْتَهَبْهَا
رَشْفَه إتْچِيْدْهُم وِتْمِن عَلَيَّه
فيبدأ شاعرُنا بشكواه من الغرام وكيف سلب منه روحه (وِنْتَهَى بْهَا) وانتهى بها إلى الضعف والنحول. وبلغ من ضعفه وهوانه ان معارضه (العْرَيْضِيْ) وهو من يعترض طريقه ويحاول إبعاده عن حبيبه قد ملك أمره وانتهب دارَه (وَنْتَهَبهَا). وهي كناية عن تسلط أعدائه عليه وتحكمهم في أمره بسبب جفاء حبيبه الذي أوصله إلى هذه الحال. ولذلك تراه يطلب منه قبلة حين يقول له وما عليك من العواذل (وِنْتَ هَبْهَا) وأنت هَبْها: رشفة من شفتيك (إتْچِيْدْهُم) تكيدُهُم بها وتَمنُّ بها عليّ مِنّة لن أنساها لك.
ويخيَّلُ إليك وأنت تُصغي إلى الشاعر انك ترى الصورة تمُرُّ من أمامك واضحة جلية وتنساب بيسر. فكأنَّ الشاعر يحدثنا بقصة قصيرة بدأت بشكواه وانتهت برجائه بكلمات جميلةٍ. أضف إلى ذلك ان جناسه كان مركبا تاما حقيقيا.
ونستمر مع عشاقنا وأساليبهم في سرقة القبلات من خدود الملاح اللواتي يبخلن بها عليهم فيلجؤون إلى الإقناع في إسلوب متسلسل يوقع الطريدة في الشباك بعد تمسكن واستجداء كما في هذا البيت للشاعر للشيخ راضي علي بيج:
إچفُوْفَك بِيْض يِحْلالِي شَذِرْهِن
إجْرُوْحِي خَزِّنَن گلِّي شَذِرْهِن
أنَا إمْنَابُوْس خَدَّيْنَك شَذِرْهِن
مَضَرَّه مَا عَلِيْك اوْنَفِع لِيَّه
فلا أجمل من كلمات الغزل والتشبيب في أذُنَي هذه الجميلة التي يصف شاعرُنا جمال وشمِها الأزرق كالشذر فوق بياض كفيها الرائعتين وكأنه يباري بوصفه الوأواء الدمشقي في قوله:
نَالَت عَلى يَدِها مَا لَم تَنَلْهُ يَدِي
نَقْشاً عَلَى مِعْصَمٍ أَوْهَت بِهِ جَلَدِي
كأَنَّهُ طُرْقُ نَمْلٍ في أَنامِلِها
أَو رَوْضَةٌ رَصَّعَتْها السُّحْبُ بِالْبَرَدِ
فهذه هي الطريقة المثلى لاجتذاب انتباه الفاتنات وإلانَة قلوبهن.
ثم يبدأ بالشكوى من حرقة الجوى ولوعة الوجد التي أدت إلى تقيح جراحه وسقامِه. فيسألها ماذا يُمكن ان يذُرَّ عليهن لأجل الشفاء، تمهيدا لما سوف يطلبه منها لاحقا في الشطر الثالث وهوَ: لو إني قبّلت خديك فما هي المضرة، ويؤكد ذلك في الرباط عندما يقول (مَضَرَّة مَا عَلَيْك) بذلك وهو نفع لي إذ انَّه شِفاء لجراحي النازفة.
وليس أحلى من هذا الترابط والتناسق بين أشطر البيت واستوائه ووضوح معانيه وطريقته المبتكرة في خطاب الحبيب واستجداء عطفه وطريقة إقناعه التي لن تجد لها نظيرا في الفصيح.
وجميع جناساته مركبة تامة كما تلاحظ، فالأول (شَذِر هِنْ) مكونة من مقطعين هما (شَذِرْ) جمع شَذَرَة وهي القطعة من الحجر النفيسِ، وضمير الإضافة (هِنْ) في العامية، والثاني (شَ ذِرْهِنْ) ويعني أيُّ شيءٍ أقومُ بذرِّه على جراحي طلبا للشِّفاء. والأخير (شَ ضرْهِنْ) بقلب الضاد ذالا أي ماذا أضُرُهُنَّ. واضطُر الشاعر إلى قول (إمْنَا بُوْسْ) في الشطر الثالث وهو يقصد (إمْنَ بُوْسْ) أي عندما أقَبّل خديك، وذلك لإتمام الوزن بإضافة الألف، وهنا يتضح ان إضافة حروف العلة ليست فقط في الجناس كما رأينا سابقا *.
ومن الأبيات الجميلة في إيراد تسلسل الأحداث وترابطها قول الشاعر باني آل منظور مخاطبا حبيبه:
إبْحِسْنَك حَارَت الأفْكَار وَنظَار
وَال إمْتَيِّمَك لِلْتَلَف وَنْضَار
إخِذ بِيْدِي اوْشِيْل الْثَّوْب وِنْظَار
ضَنَى جِسْمِي اوْقَمِيْصِي سِتِر لِيَّه
ولو دققْت في هذا البيت لرايته لا يختلف عن سابقه في سرد الأحداث ففي شطره الأول يتغزل الشاعر بحسن حبيبه الذي حارت فيه الأفكار والأنظار (وَنظَار). وفي الشطر الثاني يشكو له ما حل به وأضر بوضعه. ثم يطلب منه في الشطر الثالث ان يتفحصه مثلما يتفحص الطبيب المريض فيدقق في نبضه ويرفع ملابسه ويطلع على ضنى جسمِه الذي ذوى ولا يستره إلا قميصه.
وفي الشطر الثالث صورة جميلة يَعتبر بها الشاعر حبيبه طبيبا يتولى فحصه ليتأكد بأم عينه ممّا حل به بسبب الفراق، فمَن ذا الذي يقوم بما وصفَه غير الطبيب الذي لابد ان يقدم العلاج لمريضه أيضا وهو الوصال. وجاءت جناساته مفردة تامة لولا زيادة الألف في الجناس الثالث (وِنْظَارْ) وهو يعني وانظر. كما عطف اسما معرفا بالف ولام التعريف على نكرة حين قال (الافْكَار وَنظَارْ) ولو ساوى الشاعر بينهما لكان أفضل. فإما ان يقول (الافْكَار وَالانظَارْ) او يقول (افْكَار وَنظَارْ).
وانظر إلى هذا الشاعر كيف يروي شكواه لمتيمه:
إسْنُوْنَك بِيْض شِبْه الْوَفِرْبِيْهِن
ودِوَالِيْبَك ابْگَلْبِي وَفِرْبِيْهِن
لَوَن جِنْحَان عِنْدِي وَفِرْبِيْهِن
وَجِيْك ابْسَاعْتِي الْعَنَّت عَلَيَّه
فبعد الغزل بأسنان الحبيب البيضاء كأن فيها وفرا (وَفِر بِيْهِنْ)، يعود الشاعر إلى طرح معاناته وهو ما لاحظناه أيضا في أبيات سابقة. فيشكو للحبيب من مكائده التي يعاني منها (دِوَالِيْبَكْ) وهو يقلب فيهن رأيه (وَفِر بِيْهِنْ). ثم يتمنى لو ان له أجنحة فيفرُّ بهن (وَفِرْ بِيْهِنْ) ويأتيه في ساعة لهفته وكأنه يجاري قول مجنون ليلى بخطابه لسرب القطا:
أَسِربَ القَطا هَل مِن مُعيرٍ جَناحَهُ
لَعَلّي الْى مَن قَد هَوَيتُ أَطيرُ
وتلاحظ تسلل الأحداث التي يسردُهُا الشاعر وترابط أشطر البيت مع بعضِها. وجاءَت جناساتُه مفردة تامة وقبل نهاية الشطر لأن كلمة (بيهن) أتت بنفس المعنى في كل الجناسات. كما جاء استخدامُه لأداة الشرط (لَوَنْ) أي لو ان، صحيحا في الشطر الثالث وذكر جوابها في الرباط وهي تفيد التمني.
ومن الأبيات الرائعة في ترابط موضوعها البيت التالي:
يَغَاتِي مَا تَبِي خَادِم وِنِسْلَك
خَبِيْر ابْسَفَّة إجْعُوْدَك وَنَسْلَك
إنْچَان إتْرِيْد نِتْعَاشَر وَنَسْلَك
لا تِسْمَع حَچِي الْعِدْوَان بِيَّه
وهو من الوضوح بما يكفينا من التعليق عليه. وبالمناسبة فأن كل الشعراء يخاطبون حبيباتهم مخاطبة المذكر ولكن سياق الحديث وما يحويه من أمور يؤكد ان المعنيَّ هو أنثى. وليس أدل على ذلك من قول شاعرِنا في الشطر الثاني (خَبِيْر ابْسَفَّة اجْعُوْدَك وَنَسْلَك) فَمَن ذلك الذي يمتلك الجعود وينسلها غير النساء.
ودخول الشاعر إلى وصف جمال شعر الحبيب، وطريقتُه في الوصول إلى قلبِه، طريقة مبتكرة لم نلاحظ مثلَها عند شعرائِنا السابقين. فهو لا يذكر جمال خصلات شعرِه ورقتِها وانسيابِها، وانما يَعرض عليه ان يكون خادما وأنيسا وخبيرا في سفِّ ونسلِ وتصفيف شعرِه. ثم يذكِّرُه وينصحُه بأنْ لا يَسمع كلام أعدائه إذا مَا أراد ان تستمر العلاقة بينهُما (وَنَسْلَك) ويتلاءمان في الحب. وقد استخدم الشاعر أداة الشرط إنْ كان (انْچَانْ) في بداية الشطر وقبل جملة الشرط وذكر جوابَهَا في الرباط وهو الإسلوب الصحيح. وهذا للتذكير بالإسلوب الآخر الذي مر بنا سابقا * وهو تأخير أداة الشرط بعد جملتِهِ. وجاءت جناساته مفردة ناقصة بسبب اختلاف الحركات.
ولو أردنا الاسترسال بمثل هذه الأبيات لطال بنا الحديث.
ولكن دعونا نعرِّج على أبيات أخرى فقدت وحدة بنائها لسبب أو لآخر. وربما نتمكن من إيجاد الصلة بين أشطر بيت معين يبدو غير مترابط ولكن ليس بالسهولة واليسر الذي شاهدْنَاه في الأمثلة السابقة بل بوضع الاحتمالات الممكنة لها وفي ذلك إجهاد وغموض يسوِّغ لنا اعتبار تلك الأبيات غير مترابطة.
ففي هذا البيت يقول الشاعر عبد الصاحب عبيد الحلي:
غَنَج يِخْتَال طُوْلَك لُوْمَبِيْهَا
إوْرُوْحِي أكْثَر الْعَاذِل لُوْمَبِيْهَا
عَلَى الْدِّنْيَا الْسَّلامَه لُوْمَبِيْهَا
صِدِيْچ اوْصَادِچ اوْطَيِّب سِجِيَّه
ففي الشطر الأول يتغزل الشاعر بطول حبيبه ويتساءل إنْ كان يختال بطوله غنجا أم مباهاة (لُو مَبِيْهَا). وقد أكثر العاذل من لومه (لُوْمَه بِيْهَا) وآذى روحه ربما بسبب وَلَعِه بهذا الجميل. وبعد هذا الغزل نتوقع ان يخبرنا الشاعر عن شيء له علاقة بطول حبيبه او بغنجه ومباهاته او غزلا بصفة أخرى مِن جماله او شكوى ممّا فَعَله به هذا القد الميّاس او طلبا لوصاله او شيئا بصدد العاذل وما إلى ذلك من أمور أخرى. ولكنَّنَا فوجئْنا بشكوى الشاعر في الشطر الثالث من الدنيا لو لم يكن فيها (لُو مَا بِيْهَا) صديق صدوق. والشطران الأخيران يتضمنان حِكمة رائعة لو أنهما اقترنا بذكر الصديق والوفاء والغدر في الشطرين الأولين. وهما حريان ببيت آخر يذكر الصداقة وأصولها وليس بهذا البيت الذي يتحدث تارة عن قد الحبيب المياس وعن العواذل تارة أخرى. وبهذا جاءت أشطر البيت بعيدة عن بعضِها وربما لا تكاد تجد ما يربطُهَا ببعضِها البعض بشكل ظاهر اللهم إلا إذا أبحرت في خِضَم التوقعات والتحليلات المُمْكنة وغير الممكنة التي لا تخلو مِن إجهاد وبُعد عن واقع البيت. ومن جانب آخر جاء جناسُه الأول بعيدا عن المعنى الذي أراده الشاعر لان (لُو مَبِيْهَا) مكونة من مقطعين أحدهما (لُوْ) ويعني (لَو) وبقيت (مَبِيْهَا) وهي ليست (مباهاة) كما هو واضح. وبذلك يكون جناسه مركبا تاما لفظيا كما شرحْنا من قبلُ *. أما شطره الثالث فقد وردت فيه كلمة (الْسَّلامَةْ) وهو يريد على الدنيا السلام. والفرق شاسع بين السلام والسلامةِ. فعلى الدنيا السلام يعني أنها لن تساوي شيئا بعد الآن، أما على الدنيا السلامة فهو دعاء للدنيا بالسلامة والأمان. فشاعر الفصيح يقول لا خير في الدنيا إذا لم يكن فيها صديق صادق ولا يتمنى لها السلامة مثلما فعل الشاعر الشعبي.
ورغم ان أداة الشرط أتت في نهاية الشطر، إلا أنها سبقت جملة الشرط وفعلها فهي (لُو مَبِيْهَا) وتعني (لُوْ مَاْ إيْكُوْن بِيهَا) كما هو واضح. أما جوابها فيستدل عليه بما سبق من سياق الحديث مثلما جاءت في بيت الفصيح الذي ولد منه الشاعر بيته. وأرى ان كل هذه الهنات التي تحدثنا عنها جاءت لسبب واحد وهو: محاولة الشاعر مجاراة الفصيح وتوليد جناساته منه دون الإحاطة بمرادِه. وهو موضوع سبق الحديث عنه وبيان إشكالاته ومساوئِهِ. *
وقد حاول الشاعر في هذا البيت مجاراة الامام الشافعي في بيته التالي:
سَلامٌ عَلى الدُنيا إذا لَم يَكُن بِها
صَديقٌ صَدوقٌ صادِقُ الوَعدِ مُنصِفُ
فصاغ جناسَه (لُو مَبِيْهَا) العامية من عبارة ( إذا لَم يَكُن بِها) الفصيحة.
فالذي يريد ان يَتحَدّث عن الأصدقاء وطباعِهِم لابد ان يُمَهّد في بيته قبل ان يضرب أمثاله او يذكر حِكَمَه ليحافظ على وحدة بناء بيتِه وانسجام معانيه. كما في هذا البيت للشاعر شياع بن حسين الساعدي الذي ربما جارى به قول كعب بن معدان الأشعري:
رأيتُ عَدياً جَامِعَ الْحَزْمِ وَالندَى
ولا خَيْرَ فِيمَن لا يَضُرُ وَيَنْفَعُ
فيقول في وصف الأصدقاء:
إلَّذِي مَا بِيْه سِتِر فَيَّه وَلاذَر
مَا يِسْوَه رُبُع دِرْهِم وَلاذَر
إلْرَجِل لُومَا نِفَع صَاحِب وَلاذَر
عَدُو يَا مِن عَسَى رَيْتَه الْمِنِيَّه
فيبدأ بوصف الرجال فمنهُم القوي المقتدر ومنهم الضعيف الواهن. فيقول ان الرجل الذي لا يحتوي فَجُّه (فَيَّهْ) سترا يستره ويحميه ولا ذروة (وَلاذَرْ) عالية يلجأ إليها او توحي بعلو شانهِ، وهما كنايتان عن العزة والمنعةِ، فانه لن يساوي ربع درهم ولا ذرة واحدة. فبعد ان شرح لنا أنواع الرجال وقيمة كل منهم، عرَّج على بيان ما يريده من شرحه بوجوب ان يكون صديقك نافعا لك مضرا لعدوك حتى يصح إطلاق كلمة الصديق عليه. ثم دعا على الرجل الذي لا ينفع صديقا ولا يضر عدوا بالموت. وجناسُه الأول يقصد به الشاعر ذروة او ربما (ذَرَى) أي ساتر. والثاني هو الذرَّة الصغيرة وكلا الجناسين ناقصان. وإذا كان البيت السابق مترابطا وجميلا فان البيت التالي تفتقر أشطره إلى ترابط المعنى كما نطالع سوية:
إطْوَاب الْشُّوْگ يِرْمَن عَلَي گَالات
إوْمِنْهِن مَا حِمَنِّي إثْنَعَش گَالات
إزْجَرَت بِالْزَعَل عَالْلِوَّام گَالات
حَبِيْبِي هَاذ يَالْلِمْتُوْا عَلَيَّه
ويصف الشاعر مدافع الشوق التي استعارَها لبيان وجدِه وهُيامه وأنها ترمي عليه قنابلا (كَالاتْ). ولم تحمِه منها اثنتا عشرة قلعة (كَالاتْ). ثم ينتقل إلى الحديث عن الحبيبة التي زجرت اللوام (گَالات) أي قالت بأن هذا هو حبيبُها.
ولا يبدو هناك رابط بين الموضوع الذي أشار له الشاعر في الشطرين الأولين والموضوع الذي تحدث عنه في الشطرين الأخيرين. فهل هي تزجر اللوام لان حبيبَها لم تحمِه من قنابل عيونِها كل تلك القلاع مثلا. وربما يتبادر إلى أذهاننَا أنها تريد ان تقولَ: وما شأنُكُم أنتم أيها اللوام فنحن متحابان ومِن حقِّنا ان نفعل ببعضِنا ما نشاء فلا شان لكم بذلك. وربما لدى القاريء الكريم تصور آخر غير ذلكَ. وما أود قوله هو ان التفسيرات والتأويلات يمكن ان تطول وتكثر بكثرة آراء القراء وليس هناك شيئا معينا وواضحا يذكره الشاعر في بيته ليدُلنا لماذا زجرت الحبيبة اللوام. فمثل هذا البيت ليس له عذوبة الأبيات السابقة التي تترابط أشطرها ويتكامل معناها وكأنها قصة متسلسلة تُروى علينا أحداثها فصلا بعد فصل مثلما يقص علينا الشاعر حسين الكربلائي قصته التالية:
تَرِف بَايَّام وَصْلَك چِنِت بِسْعُوْد
وَنَا هَسَه إمْنِ الْهِجْرَان بَسْعُوْد
بَالله يَامَرِيْض الْطَّرُف بَسْعُوْد
تَرَى إمْنِ إتْعُوْد تِرْجَع رُوْحِي الْيَّه
فيخاطب الشاعر هذا (الترف) الطري الجسم، ويخبره انه كان سعيدا (بِسْعُوْدْ) أيام وصاله وقربِه وهو الآن قد أضر به الهجران والجفاء فأصبح ناحلا يشبه العود (بَس عُوْد) بهزاله وجفافه. وبعد ان يشرح له حاله وشدة سقامِه يرجوه ويستحلفه بالله ان يعود فقط (بَس عُوْدْ) ولا يريد شيئا آخر غير عودتِهِ. ويصفه بأنه مريض الطرف لأنه يَغُض طرفَه من شدة حيائِه فكأن عينيه مُصابة بمرض كقول الشاعر:
مريضُ جُفونِ الطَّرْفِ لولا جفونُه
لما كنتُ أدري السُّقْمَ كيفَ يكونُ
فإذا عاد الحبيب عادَت للشاعر روحه التي فارقته حين فارقه. فهذه قصة صَب ولهان أذابه الشوق لفراق حبيبه وكلما يريده من الدنيا هو عودتَه فَبها تعود روحه إليه. هكذا ببساطة نرى أحداث الموضوع وتسلسل وقوعِهِا الزمني بترابط أشطر البيت ووحدة بنائِه. وقد جاءت جناسات البيت مركبة ناقصة ومفرداته بينة كما تراها في العامية.
وفي البيت التالي الذي يمكن مناقشته أيضا في باب الحكم والأمثال * يقول الشاعر محمد حسن الحداد الكاظمي:
عَلَيَّ إفْرَاگ سَاهِي الْعَيْن يُوْعَن
إلْدِّوَارِس مِن وِنِيْنِي إعْلِيْه يُوْعَن
إلْسِّبَاع إتْمُوْت بِالْغَابَات يُوْعَن
إوْلَحْم الْضَّان لِچْلاب الْوِطِيَّه
وهو يجاري قول الامام الشافعي:
تَموتُ الأُسدُ في الغاباتِ جوعاً
وَعَبدٌ قَد يَنامُ عَلى حَريرٍ
وَلَحمُ الضَأنِ تَأكُلُهُ الكِلابُ
وَذو نَسَبٍ مَفارِشُهُ التُرابُ
والشاعر يُصور لنا مقدار تأثره (يُوعَنْ) أي لو طرأ ذكر فراق ساهي العين في باله. وان الرمم الدارسة للموتى (الْدِّوَارِسْ) سوف (يُوْعَنْ) تستيقظ لشدة أنينه عليه. ثم ينتقل الشاعر إلى الحديث عن السباع التي تموت في الغابات (يُوْعَاً) جوعا في حين ان الكلاب تأكل لحوم الضأن. وهو مثل او حكمة تقارن بين شيئين أحدهما رفيع لا يَحظى من حطام الدنيا بشيء فيموت جوعا وهي الأسود، وآخر وضيع، يحصل على ما يريد بسهولة ويسر وهي الكلاب. وليس هناك رابط بين حال الشاعر وأحيائه الموتى بأنينه وبين المثل الذي ذكره في الشطرين الأخيرين اللهم إلا إذا تصورنا انه يقارن حاله بآخرين ينعمون بوصال الحبيب بسهولة ويسر وهو محروم منه. وبذلك فحاله كالأسود وهولاء العشاق كالكلاب التي وصفَهَا وهذا لا يليق. ومع ذلك فهذا التصور ربما يكون بعيدا ولم يقصده الشاعر.
وبذلك يكون هذا البيت فاقدا لوحدة الموضوع وترابط الأشطر. وقد جاءت جناساته مفردة تامة وعباراته واضحة ليس فيها تشويه للمفردات العامية.
ويمكنُنا المقارنة بينه وبين البيت التالي للشاعر نايف أحمد الناصري الذي يتحدث أيضا عن الأسود التي أذلها الزمان:
إشْچَم ضَيْغَم جِفَاه الْدَّهَر وِنْذَال
دِرِيْچ إمْنِ الْعَطَش مَطْرُوْح وِنْذَال
إبْذِلَّه عَاشَت الأحْرَار وِنْذَال
غِذَاهَا الْمَن وِالْسَلْوَى الْهَنِيَّه
وهو يجاري البيت الفصيح الذي ينسب للامام علي عليه السلام:
أَرى حُمُراً تَرعى وَتَأكُلُ ما تَهوى
وَأَشرافُ قَومٍ ما يَنالونَ قُوَتَهُم
وَأُسداً جِياعاً تَظمَأُ الدَهرَ ما تَروى
وَقَوماً لِئاماً تَأكُلُ المَنَّ وَالسَلوى
فبيت الإبوذية يتدرج في ذكر الأحداث التي حلَّت (بالضياغم) التي جفاها الدهر وانذالت أي أبعدت عن الصَّدارة وصارت ذيولا أي أتباعا لغيرها حتى كادَت تموت عطشا وهي ذليلة. وهي كناية عن حال الرجال الكرام والشجعان الذين لم يحصلوا من هذه الحياة إلا على الفتات. بينما يَنعم الأنذال بما لذ وطاب، وفيهما مقابلة بين صورة (الأحرار الأذلاء) و(الأنذال الأعزاء). ثم يذكر لنا المثل الذي أخذه من الفصيح (إبْذِلَّه عَاشَت الأحْرَار وِنْذَال غِذَاهَا الْمَن وِالْسَلْوَى الْهَنِيَّهْ) فجاء مُكمِّلا لحكايته عن حالهم ومترابطا مع ما سبقَهَا من وصف وأحداث. وجناسات البيت مركبة تامة. فالأول إنذال أي صار ذيلا، والثاني إنْذَلّ من الذُلّ، والثالث الأنذال من الناس.
ويبلغ عدم ترابط أشطر البيت درجات متفاوتة تعتمد على بناء الفكرة وإدراك الشاعر لما يَنظُم.
ففي البيت التالي يُحاول الشاعر حسين الحبيب النجفي نظم قواعد اللغة العربية التي ذكرَهَا ابن مالك في ألفيَّته المشهورة, فيتحدث عن لوعة الفراق او الغزل ثم يجاري بيتا من ألفية ابن مالك:
عَمَلَ إن إجْعَل لِلا في نَكِرَه
مُفْرَدَةً جَاءَتْكَ أو مُكَرَّرَه
فيقولُ:
ألله إعْلِيْك رَيْضِ الْجِّدَم إنَّه
لَمَا يِفْتَر دِلِيْلِي إعْلِيْك أنَّه
تِعْمَل لا يَنَاهي عَمَل أنَّه
مِفِرْدَه يَو تِكَرِّرْهَا سِوِيَّه
فبعد مناشدة الحبيب الذي هو في منتهى الحسن (الناهي) ان يتأنّى (رَيِّض الْجدَمْ) في سيرك (إنَّ ه) أي لنا، حتى يَفتُر أنينُ قلبِه، يخاطبُه فيقولُ: (تِعْمَل لا يَنَاهي عَمَل انَّ) ويكمل الشرحَ. ولا يوجد رابط بين الشطرين الأولين والشطرين الأخيرين. ويبدو ان الشاعر يناشد حبيبَه ان يتأنَّى ليعلِّمه إعراب إنَّ ولا النافية للجنس. فما علاقة الناهي بعمل انَّ وغيرِها، وما دخل موضوع الإعراب في الحب والعواطف. ولو قال له مثلا: ان عملَك بي كان مثلَ عمل إنَّ، حيث (نصبتني) هدفا لعينيك او سهامِك كما (تنصب) إنَّ اسمها. او أنّك أيها الناهي (ترفع وتنصب مشاعري) أي تتلاعب بها كعمل إنَّ، وقد (نفيتني) كما تنفي لا النافية للجنس... مما يمكن ان يتخيلَه الشاعر لربط عمل إنَّ بعمل الناهي حتى يكون لديه عذرٌ، لا بل ربما إبداع، بدلا من كون البيت لا فائدة منه (للناهي) الذي لا يهتم بعمل أدوات الإعراب ولا حتى بابن مالك وألفيته البديعة. ثم يجاري البيت التالي:
يَنْصَبُ بَعْدَ الواوِ مَفْعولاً مَعَه
كَنَحْوِ سِيْرِي وَالطَّرِيْقَ مُسْرِعَة
فيقولُ:
إلْمُغْرَم لَيْش دُوْم ابْسَهَم يِنْصَاب
إوْدَم دَمْعَه عَلَى الْخَدَّيْن يِنْصَاب
بَعَد وَاو الْمَعَه مَفْعُوْل يَنْصَاب
مِثِل سِر وَالطَّرِيْق ابْعَجَل لِيَّه
ولم ينجح الشاعر حسين النجفي هنا أيضا في ربط عمل واو المعية بشيء من صفات أو أفعال الحب والحبيب. ولا هو يطرق به فنا وإسلوبا مبتدعا كما فعل فرسان الفصيح بتجيير علم النحو في الكناية عمّا يرغبون في إيصاله إلى الممدوحين او العشاق كما سنلاحظ. وقد أقحم الشاعر نفسه في موضوع هو وحبيبه والشعراء الشعبيون في غنى عنه. وقد أطلق تسمية (وَاو الْمَعَه) على واو المعيَّة، وكان الأفضل أن يلفظها كما في الفصيح لأنها ليست عامية، خصوصا انه يريد تعليم الآخرين عملها في اللغة الفصحى. وشطرا البيت الأولين غير موزونين بسبب زيادة سبب خفيف في بداية كل منهما. وشعراء الإبوذية لا يعملون بقواعد النحو في نظم أبياتهم الشعبية، ولا يستفيد منهم مَنْ ينظمون القريض او يريدون دراسة النحو. فعلى من يبيعون بضاعَتَهُم تلك، أن لا يحملوا التمر الى أهل البصرة وأهل البصرة لا يُحْمَل إليهم التمر. فهم مثل ذلك النبطي الذي وَجَدَه المتنبي يُدَرِّس أنسابَ العرب في بلاط كافور الاخشيدي بمصر فيقول فيه:
وَماذا بِمِصرَ مِنَ المُضحِكاتِ
وَلَكِنَّهُ ضَحِكٌ كَالبُكا
بِها نَبَطِيٌّ مِنَ أهلِ السَوادِ
يُدَرِّسُ أَنسابَ أَهلِ الفَلا
وحتى لو كان للشاعر حسين النجفي حبيب عالم ويحب النحو فأعتقد ان أبياته يجب ان تكون بطريقة أخرى كالتي سنراها في أبيات الفصيح او العامي أيضا. فان لبعض الشعراء أحباء كأنهم طلاب علم، مثل حبيب الشاعر محمد السامرائي الذي يقول عنه:
حَبِيْبِي چنَّه طَالِب عِلِم يُوْعَظ
حُر اوْتِعْتِنِيْه الْنَّاس يُوْعَظ
حِرِت مَدْرِي أمُطْگه مَطِگ يُوْعَظ
يُو مَص نَاخِذ اوْنِطِّي سِوِيَّه
فرغم كون حبيبه طالب علم إلا انه لا يعلمُه ولا يتعلم منه شيئا. وكل همِّه في أمور لا علاقة لها بالعلم والعلماء. ولكن أنظر كيف يطرق شعراء الفصيح هذه القواعد وكيف يبدعون فيها، كقول أحمد تقي الدين:
سَهِدْتَ يَا جَفْنُ ولمَّا تَنَم
فَهَل حَمَاكَ النَّومَ طَيْفٌ أّلَم
نُصِبْتَ مَفْعُوْلاً لأَجْلِ النَّوَى
فَجَزمَتْ فَعْلَ الكَرَى مِنْكَ لَم
وَأَقْسَمَتْ عَيْنَاكَ أَن لا تَنِي
فَصَاحَبَتْ بَلْوَاكَ واوُ القَسمَ
وقول جرمانوس فرحات:
شَوْقِي أَمَامِي كَونَهُ ليَ فَاعِلاً
والحظُّ مَفعولاً يسيرُ وَرائي
والصَبرُ مُنخَفِضُ الجَنابِ لأَنَّهُ
أَضْحَى مُضَافاً في مَحلِّ حِمائي
فَكَأَنَّني خَبَرٌ لإنَّ وَوَاجِبُ ال
تَأخِيْرَ عِنْدَ أئِمَّةِ العَرْباءِ
وفي المديح يقول الصاحب شرف الدين:
إذا فَاعِلٌ رامَ ارِتْفاعاً بِفِعْلِهِ
ففِعْلُكَ مَرْفوعٌ بأَنَّكَ فاعلُه
ويقول المتنبي في مدح سيف الدولة:
تُفيتُ اللَيالي كُلَّ شَيءٍ أَخَذتَهُ
وَهُنَّ لِما يَأخُذنَ مِنكَ غَوارِمُ
إذا كانَ ما تَنويهِ فِعلاً مُضارِعاً
مَضى قَبلَ أَن تُلقى عَلَيهِ الجَوازِمُ

ومن أجملها قول اُلمتنبي أيضا:
كَم وَقفَة سَجَرَتك شَوقا بَعدَما
غَرِيَ الرَقيب بِنا وَلَجَّ العاذِلُ
دونَ التَعانُقِ ناحِلَينِ كَشَكلَتَيْ
نَصبٍ أَدَقَّهُما وَضَمَّ الشاكِلُ
ومعانيها واضحة لأهل النحو
ولتأكيد ما ذهبنا إليه من ان التعامل مع قواعد النحو مُمْكِن ان يكون مسرحا رحبا لشعراء الإبوذية كما هو لفرسان الفصيح، ننقل قول الشيخ حسن العذاري الحلي في هذا البيت:
مَا صِرْنَا ابْعَدَم مَجْرُوْر وَجَّار
دُوْم الْنَا مَحَل چَانُوْن وَجَّار
إحْنَا الْلِي نِحَامِي الْنِّزِل وَجَّار
وِحْنَا الْلِي عَادَانَا إنْچِيْدَه
فيقول نحن لم نعدم حقوق الجوار. وهو يكني عنها بعمل الجار والمجرور في اللغة العربية. فحفاظ العرب لحق الجوار يتجاوز العرف الاجتماعي ليطال أيضا قواعد الإعراب. حيث ان بعض الكلمات تتبعُ حركةَ إعراب مجاوراتها إكراما للجوار، وإنْ اختلفت معها في إعرابها. مثل: هذا جحرُ ضبٍ خربٍ. وخربٍ خبرٌ لجحر وحقُهُ الرفع. وربما الكلمة الصحيحة هي (بحكم) وليس (بعدم) ويقصد بها الشاعر : أنهم ليسوا خاضعين ومجرورين لغيرهم . ومن كرمهم ان لهم نارا تتأجج (چَانُوْن وَجَّارْ) وهي نار القِرى التي يشعلونها في أماكن عالية ليهتدي إليها الأضياف كقول الطغرائي مقارنا بين نار هوى الحسان وما تفعله بالعشاق ونار قِرى أهليهن وما يفعلونه بكرام الإبل:
تبيتُ نارُ الهَوى مِنْهُنَّ في كَبِدٍ
حَرَّى ونارُ القِرى مِنْهمْ عَلَى القُلَلِ
يَقتُلنَ أنضاءَ حِبٍّ لا حَراكَ بها
وينحرونَ كِرامَ الخيلِ والإِبِلِ
ويصرح شاعر الإبوذية في الشطر الثالث بما كنى عنه في الشطر الأول وهو حفظهم وحمايتهم لجارهم. وأنهى البيت بهوسة اعگيلية.
وبالمقارنة مع أبيات الشاعر حسين الحبيب النجفي نرى الفرق شاسعا، فبيت العذاري مترابط واستعمل القاعدة النحوية خير استعمال. وجاءت جناسات البيت مفردة تامة.
(*) إشارة الى مواضيع تمت مناقشتها أو نشرها سابقا هنا أو في منتديات أخرى
أو هي أبواب في كتاب (نقد الشعر الشعبي العراقي) للكاتب.



#هاشم_نعمة_الفريجي (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- دراسة موسعة للجناس في الابوذية
- ما لا يصح دخوله على تفعيلات الإبوذية
- دراسة موسعة لأنواع الأبوذية
- لمحة تأريخية عن الإبوذية في العراق


المزيد.....




- الفرقة الشعبية الكويتية.. تاريخ حافل يوثّق بكتاب جديد
- فنانة من سويسرا تواجه تحديات التكنولوجيا في عالم الواقع الاف ...
- تفرنوت.. قصة خبز أمازيغي مغربي يعد على حجارة الوادي
- دائرة الثقافة والإعلام المركزي لحزب الوحدة الشعبية تنظم ندوة ...
- Yal? Capk?n?.. مسلسل الطائر الرفراف الحلقة 88 مترجمة قصة عشق ...
- الشاعر الأوزبكي شمشاد عبد اللهيف.. كيف قاوم الاستعمار الثقاف ...
- نقط تحت الصفر
- غزة.. الموسيقى لمواجهة الحرب والنزوح
- يَدٌ.. بخُطوطٍ ضَالة
- انطباعاتٌ بروليتارية عن أغانٍ أرستقراطية


المزيد.....

- تجربة الميج 21 الأولي لفاطمة ياسين / محمد دوير
- مذكرات -آل پاتشينو- عن -العرّاب- / جلال نعيم
- التجريب والتأسيس في مسرح السيد حافظ / عبد الكريم برشيد
- مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة / د. أمل درويش
- التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب ... / حسين علوان حسين
- التجريب في الرواية والمسرح عند السيد حافظ في عيون كتاب ونقا ... / نواف يونس وآخرون
- دلالة المفارقات الموضوعاتية في أعمال السيد حافظ الروائية - و ... / نادية سعدوني
- المرأة بين التسلط والقهر في مسرح الطفل للسيد حافظ وآخرين / د. راندا حلمى السعيد
- سراب مختلف ألوانه / خالد علي سليفاني
- جماليات الكتابة المسرحية الموجهة للطفل في مسرحية سندس للسيد ... / أمال قندوز - فاطنة بوكركب


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - الادب والفن - هاشم نعمة الفريجي - دراسة في وحدة بناء الأبوذية والشعر الفصيح