|
غربةٌ بين الأبطال والأحلام
محمد بن تركي
الحوار المتمدن-العدد: 3991 - 2013 / 2 / 2 - 12:43
المحور:
الادب والفن
في مكان ما، في الساعة الواحدة وعشر دقائق ظهراً:
يصحو من نومه متأخرا كعادته، وأول ما يقوم به بعد أن يفتح عينيه الابتسام وترديد بعض عبارات الشكر والامتنان على بلوغ يوم جديد. يجلس من فراشه وأول وجهين يراهما هما صورتا بطليه المفضلين: جمال عبدالناصر والسيد حسن نصرالله؛ صورتان متوسطتا الحجم قد علقهما في حائط شقته شبه الخالية. أولئك الرجلان اللذان أثارا، ومازالا يثيران، الكثير من الجدل في الأوساط المهتمة.
يتذكر صاحبنا، واسمه كريم، وهو ذاهب للاستحمام تلك النقاشات الحامية ودفاعه الفخور عن هذين الرمزين اللذين يعتبران عنده من أهم الرموز الشريفة في التاريخ العربي المعاصر، إلا أن الظروف كانت أقوى منهما ومن أهدافها الشريفة. إذ "كيف لعبدالناصر، ذلك البكباشي الحالم، أن يقاوم المد السوڤييتي الجارف أو تدخلات الدول الكبرى وحلفائها في بلد زراعية أغلب سكانها آنذاك لا يقرأ ولا يكتب. وكيف لبطل نزيه كأبي هادي (ويقصد بذلك حسن نصرالله) أن يقاوم أو يستنكر فظاعات النظام السوري بحق شعبه في الثورة الأخيرة وهي التي تمد حزبه المقاوم بكل ما يريد وبكل ما يضمن بقائه وقوته، فسوريا الأسد هي همزة الوصل بين إيران وحزب الله! لن نجد في هذه الدنيا يا أعزائي إنسانا كاملاً، فكفانا نواحاً وتحقيراً، ولنبدأ جميعاً في تصويب طاقاتنا للإصلاح والبناء بدلاً من التخوين والهدم والتشمت." هذا ما يقوله كريم للكثير ممن يقابلهم ويتناقش معهم في المواضيع السياسية العربية. الجدير بالذكر أن كريم شديد الخوف والحذر من إبداء آرائه السياسة مع أبناء جنسيته مخافة بطش المباحث.
كريم شاب أنيق وفطن، دائم الابتسامة، دائم الضحكة. نباتي أقلع عن أكل اللحوم منذ سنتين. هذا بالإضافة إلى أنه لا يتعاطى التبغ ولا الكحول، لكنه لا يجد غضاضة في تدخين بعض لفائف الحشيش من حين إلى حين. يراوده كأمثاله من الشباب المتعلمين والطموحين حلم الهجرة إلى الغرب بحثا عن حياة أفضل وأكثر أمناً واستقراراً. يحب حاله بتواضع شديد، إذ يكره مشاعر الأفضلية والاستحقاق اللتان تسيطران على الكثيرين غيره في عالم استحكمت في الأنانية بكل فروعها على كل مفاصل الحياة. لم يدخل الدين قلبه، بيد أنه يحب الله ويعبده بطريقته الخاصة: حب الخير للذات وللغير.
بشعره المنكوش ولحيته الصغيرة غير المهذبة، ينزل من شقته المتواضعة بأناقته الغربية المعهودة، مرتدياً جينزاً ضيقا أزرق اللون وقميصاً أحمراً يظهران مفاتن شاب ممشوق القامة حريص على ممارسة الرياضة بانتظام. يذهب مسرع الخطى قاصدا مقهاه المفضل؛ نعم، كريم يحب شرب القهوة: ثلاثة أكواب يوميا. "ياله من يوم غائم، لكن جميل، كباقي أيام تشرين الكئيب. حمداً للسماء فلن تمطر اليوم!" يكتب كريم هذا في حسابه على احدى مواقع التواصل الاجتماعي وهو يمشي إلى المقهى. ولأنها لن تمطر، نراه يرتدي إحدى أحذيته المفضلة: بُوتاً أسوداً كان قد اشتراه من إحدى دور الأزياء الشهيرة الشتاء الماضي حينما كان في إسطنبول.
يأخذ قهوته بكل هدوء ويختار مقعده في المقهى. يحتسي رشفة من قهوته ويفتح كتابا... ترى ما هذا الكتاب؟ آه.. إنها رواية السقوط لألبير كامو. لم يحب كريم تلك الرواية. ولم ير فيها أي قيمة فكرية تذكر سوى أنها تذكره بوحدته العميقة وقلة أصدقائه. تلك الوحدة التي لم يجد لها تفسيراً مقنعاً. يتساءل كريم وهو فاتح الكتاب كأنه يقرأ وهو لا يقرأ: "ما السبب؟ أنا إنسان مقبول الشكل والمظهر، دمث الأخلاق محترم، وواسع الثقافة والاطلاع. ماسبب وحدتي وافتقاري للأصحاب والخلان؟ المضحك في الأمر أنني حينما أتمسك بصحبة رفيق لا يمتلك ربع مؤهلاتي، أجده يتركني بلامبالاة، وأحياناً أجدني أفقد حرصي على مخالطته لإحساسي بالملل الشديد وعبثية رفقتي به.. أهي مشكلة اجتماعية لا يعانيها إلا أنا، أم أنها طبع أخذ يعم كل الناس؟ يبدو أن الكلّ وحيدٌ، والكلّ يتساءل..." يضحك كريم ثم يردد المثل العامي الذي استحسنه واستخدمه كثيرا للتعبير عما يصادفه من بعض الأفراد، "رضينا بالهم، والهم لم يرضَ بنا."
تهدأ ضحكته وتستحيل إلى ابتسامةٍ متأملة، ثم يحاول قراءة المقطع الذي منعته أفكاره المفاجئة من قراءته. وأثناء قرائته، يصل إلى الجزء الذي يعترف فيه جان كليمنص بعلاقاته العاطفية المتعددة مع النساء، وكيف أنه كان يرى في المرأة ملجأً آمناً له..
يرفع كريم رأسه من الكتاب، يرى الوجوه التي في المقهى، يرى النساء المتفاوتات في العمر والحسن، يتذكر أصحابه حينما يعددون مغامراتهم النسائية بفخر غير مبرر، ثم يرى حاله وعدم وجود شيء من هذا في حياته الشخصية الهادئة، والتي خلت من المغامرات بشكل عام. يضع الكتاب جانباً، يتكئ على يده، ويغط في حزن عميق. وبينما هو في تلك الحال، تفاجئه بعض الذكريات المتقطعة التي حدثت في فترات متباينة من حياته والتي تحمل صور بعض زملائه السابقين وهم يسألونه بكل لؤم ووقاحة عن عمره وعمّا خبر من علاقات. "عليهم اللعنة!" يهمس كريم في نفسه "لم بلغت بهم نفوسهم الدنيئة أن يقحموها بلا مناسبة في حياتي الخاصة؟! حمدا لله، لقد هجرتهم فلاخير فيهم. لم يسبق لي أبدا أن أقحمت حالي في خصوصياتهم أو أن سئلتهم أسئلة أقصد منها إحراجهم أو إيلامهم. لكن -وبعيداً عن تلك الذكريات المزعجة- فعلاً، مالي لا أراني أعرف حد الآن خليلة تحبني وتحتوي وجودي ورجولتي؟ لست أرى أي عيب فيني، بل على العكس تماماً: شاب بوهيمي لا يحمل إلا الحب لكل الناس. أيكون هذا سبب وحدتي غير المفهومة؟ أتراني مثلي الجنس كما قالت لي إحدى بنات الهوى حين رفضت عرضها، أو كما قالها لي العديد من أصحابي بجدهم ومزاحهم؟ لا، لست أظن ذلك. فلقد تبين لي حينما هممت بتجربة كهذه مع صديقي وسام أنني لست مثليا. لقد ذهبنا سوية حدّ تقبيل بعضنا، حدّ ارتدائه إياي وذوباني فيه، لكنني لم أشعر بأية ميول تجاهه ولا إزاء ما قمنا به، فكففتُ عن ذلك ورجوته التوقف. وشكراً لأنه كان إنساناً متفهما وشخصاً رائعاً تقبل موقفي وفهمني. بحق حياته لن أفرط في صحبته مهما كلف الأمر! .."
تنقله ذكرياته بشكل معهود من محطات حزنه إلى إحدى خطابات "السيد حسن نصرالله" الحماسية وهو يهدد بإمطار تل أبيب بأمطار من الصواريخ إن اعتدت على لبنان، ثم تغمره سكرة النشوة والأمان. "كم أتمنى أن أقبل يدكم في يوم من الأيام، أبا هادي." يهمس كريم.
أحب كريم، وهو خريج اللغة العربية، في حسن نصرالله شخصيته الكاريزمية، وعبقريته السياسية النزيهة، والأهم من هذا وذاك، لغته العربية البليغة والتي لم ير كثيراً من المسؤولين والمشاهير العرب يبدع فيها، بل على العكس تماماً: تجدهم يتفننون في اللحن بها وتكسيرها، أو اجترار التراكيب المستهلكة والكليشيهات العقيمة مما ينم عن جهلهم المطبق بلغتهم بل وبكل شيء حولهم. "تبا لهم ما أجهلهم! دمروا حياتنا أولئك الذين توارثوا السلطة واستخدموها ضد شعوبهم بقمعهم وتجهيلهم. رحم الله شهيدنا محمد البوعزيزي الذي أشعل شرارة الانتفاضات الباسلة. كم أتمنى أن أرى شمس الربيع العربي بازغة في كل أقطار الوطن العربي الحبيب!"
يقطع كريم حبل أفكاره ويفتح هاتفه الخليوي منتظرا مكالمة من فتاة هو على علاقة أو شبه علاقة بها، ثم يقرر الخروج من المقهى. يخرج بصمت معتاد ولا يعرف أين يذهب. يقف أمام باب المقهى، يلتفت يمين وشمالا ولا يدري حقيقة أين يذهب. أخيراً يقرر أن يمشي في إحدى شوارع الحي المكتظة إلى أن يسأم ويعود إلى البيت. يمشي وتصادفه فتاة شقراء، تلتقي عيناه بعينيها ثم تعرض عنه بسرعة وتمضي في طريقها. يلتفت عليها ويراها وهي ذاهبة؛ فتاة لعوب بمؤخرة جميلة تضفي على مشيتها أنوثة مثيرة. يمضي بضع خطوات صوب الحديقة العامة حيث يقضي أحيانا بعضا من وقته يمارس الرياضة أو القراءة، وهناك يرى عاشقين قد اتخذا مكانا لهما في إحدى كراسي الحديقة العامة وهما يقبلان بعضهما بكل حب وحرارة وكأنهما لوحديهما في هذا العالم. يبتسم كريم وهو يتعمد الإسراع عنهما ويشفق على حاله، "كم هما سعيدان ويصلحان لبعضهما! كم أغبط الرجل على خليلته! ليت لي عشيقة مثلها!"
بعد أن أتعبه المشي والملل، يقرر كريم أن يعود إلى البيت وفورة الحزن والفراغ تأكلان داخله. يفتح باب شقته، يغلق الباب. ثم يتمدد على الأريكة؛ شاب حالم في أوج قوته، لا يزال يحتفظ بصور الحسناوات اللائي رآهم اليوم. يقول مخاطباً نفسه، "الحب عشق، والحب جنون، لكن الحب ليس هذا فحسب، بل هو أيضاً رغبة وجسد، وروح وأمان. ما إن يلتقي جسد الحبيب بخليلته، وما إن تفتح المرأة فخذيها، وتحاصر حبيبها برجليها، إلا ويحدث الامتزاج وتبدأ لحظات الكمال وحلاوة الواقع: روحٌ واحدةٌ، ونصفٌ التقى بنصفه الآخر."
كم أنت حالمٌ يا كريم وأنت تردد أدبياتك الجنسية التي لايسمع صداها إنسان سواك. يخلع ملابسه ورائحة العطر البارد لاتزال عالقة بها، ويرميها على الأرض كطفل مدلل. وبعد خلع ملابسه، تتراءى لنا معالم جسد أمرد تماماً، لا شَعْرَ فيه إلا ما أضاف الحُسْنُ لرأسه ووجهه فقط. يلتفت فيرى صورتا بطليه المفضلين معلقتان أمامه، راوده إحساس مريب أجبره على الذهاب إلى الصورتين حيث علقهما عكس الاتجاه، "آه هكذا أفضل" يهمس كريم. "الصورتان الآن معلقتان بالمعكوس و وجهيهما أمام الحائط، أستطيع الآن أن أختلي بنفسي." يعود إلى أريكته المريحة، يرى جمال شبابه وحسن جسده بنرجسية مازوشية وكأنه يراهما لأول مرة تماماً كآدم أول ما بدأ يدرك وجوده (أو حسب الروايات الدينية: كآدم أول ما نفخت فيه الروح). يتحسس صلابة عضلاته بيديه اللتين أخذتا بالمرور على أجزاء من جسده العاري، يشعر بإثارة لذيذة وحرارة دافئة تليها رغبة بمداعبة قضيبه الذي أخذ بالانتصاب، ثم يبدأ بالاستمناء متخيلاً حاله مضاجعاً امرأة تستوعب كيانه بفخذيها الدافئتين وترضي غرور رجولته بعنفوان أنوثتها. وهكذا، استغرق كريم في سكرته غارقاً يروي عطشه من ماء البحر ربع ساعة بل تزيد قليلاً.. ومازالت وطأة اللذة شديدة عليه، وحرارة دمه تفور وتزداد حتى انطفأت، أو قل: هدأت مؤقتا بقذف كمية من مائه على نفسه؛ فوق بطنه وصدره. يفرغ منهكاً من عادته السرية، يتأوه ويتمدد برهة، ثم يقرر أن يزيل ما أحدثته الدقائق الفائتة بتفكير غير نادم. يتمدد على الأريكة مجدداً، ثم يهمّ بالنوم بلا ملابس أو غطاء، متمنياً الحصول على ما يبغيه قريباً.
#محمد_بن_تركي (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
-ثقوب-.. الفكرة وحدها لا تكفي لصنع فيلم سينمائي
-
-قصتنا من دون تشفير-.. رحلة رونالدو في فيلم وثائقي
-
مصر.. وفاة الفنان عادل الفار والكشف عن لحظات حياته الأخيرة
-
فيلم -سلمى- يوجه تحية للراحل عبداللطيف عبدالحميد من القاهرة
...
-
جيل -زد- والأدب.. كاتب مغربي يتحدث عن تجربته في تيك توك وفيس
...
-
أدبه ما زال حاضرا.. 51 عاما على رحيل تيسير السبول
-
طالبان تحظر هذه الأعمال الأدبية..وتلاحق صور الكائنات الحية
-
ظاهرة الدروس الخصوصية.. ترسيخ للفوارق الاجتماعية والثقافية ف
...
-
24ساعه افلام.. تردد روتانا سينما الجديد 2024 على النايل سات
...
-
معجب يفاجئ نجما مصريا بطلب غريب في الشارع (فيديو)
المزيد.....
-
مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة
/ د. أمل درويش
-
التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب
...
/ حسين علوان حسين
-
التجريب في الرواية والمسرح عند السيد حافظ في عيون كتاب ونقا
...
/ نواف يونس وآخرون
-
دلالة المفارقات الموضوعاتية في أعمال السيد حافظ الروائية - و
...
/ نادية سعدوني
-
المرأة بين التسلط والقهر في مسرح الطفل للسيد حافظ وآخرين
/ د. راندا حلمى السعيد
-
سراب مختلف ألوانه
/ خالد علي سليفاني
-
جماليات الكتابة المسرحية الموجهة للطفل في مسرحية سندس للسيد
...
/ أمال قندوز - فاطنة بوكركب
-
السيد حافظ أيقونة دراما الطفل
/ د. أحمد محمود أحمد سعيد
-
اللغة الشعرية فى مسرح الطفل عند السيد حافظ
/ صبرينة نصري نجود نصري
-
ببليوغرافيا الكاتب السيد الحافظ وأهم أعماله في المسرح والرو
...
/ السيد حافظ
المزيد.....
|