|
الثقافة الشعبية والمجتمع المدني؛ نحو مدخل فولكلوري للتنمية
محمد حسن عبد الحافظ
الحوار المتمدن-العدد: 1147 - 2005 / 3 / 25 - 15:04
المحور:
مواضيع وابحاث سياسية
1. في مفهوم "المجتمع المدني" "المجتمع المدني"Civil Society مفهوم أوروبي ، تم صوغه ابتداءً من منتصف القرن الثامن عشر، تجسيدًا لتحول أوروبا الغربية من الاستبداد السياسي إلى الديمقراطية البرجوازية (الليبرالية)، حيث أكد أخلاقيو القرن الثامن عشر، ومنظرو العقد الاجتماعي (هوبز، لوك، وروسو على وجه الخصوص)، على الأهمية التي ينطوي عليها العيش المشترك في تجمعات مدنية قابلة لمعانقة قيم التسامح والتفهم والتكافؤ والحرية ، وعاش مفهوم المجتمع المدني ومفرداته مترعرعًا طوال قرن كامل (1750-1850)، ثم اختفى مع النصف الثاني من القرن التاسع عشر، ولم يعاود الظهور إلا مع الإيطالي أنطونيو جرامشي (1891-1937)، بعد أن وضعت الحرب العالمية الأولى أوزارها. ومع جرامشي- الذي يعتمد على بعض العناصر الواردة في فلسفة هيجل- اكتسب المجتمع المدني دلالات مفهومية جديدة نتجت عن قراءته النقدية للماركسية ولممارسات الحزب الشيوعي الإيطالي. وقد استهدف جرامشي البحث في الخصوصية التي تميز الحركات الشيوعية في المجتمعات ذات التقاليد الديمقراطية البرجوازية . وبدا اهتمام جرامشي واضحًا بالجوانب غير الاقتصادية للمجتمع المدني، فلم يكن المجتمع المدني بالنسبة إليه كينونة منفصلة عن الجهاز القهري (الحديدي) للدولة (السلطة) فحسب؛ وإنما أيضًا عن المؤسسات الاقتصادية للمجتمع . ومع مفتتح السبعينيات من القرن العشرين، حظي مفهوم المجتمع المدني بشعبية واسعة وتداول كثيف، من قِبَل مثقفين محافظين جدد في أوروبا الغربية وأمريكا الشمالية، ثم انضم إليهم مثقفون ليبراليون من أوروبا الشرقية . وبالرغم من تمسك أوروبا الشرقية، الآن، بالمجتمع المدني، مفهومًا وهدفًا، في ضوء مساعيها الحثيثة (ربما المتسرعة) إلى إقامة نظام للسياسات المدنية والجمعية، فإن عددًا من مفكريها أصبحوا أقل تحمسًا لفكرة المجتمع المدني – وقد كانوا يبدون اهتمامًا كبيرًا بها في الثمانينيات وأوائل التسعينيات من القرن العشرين – حيث انتابتهم حالة جزع طاغية بسبب الاستخدام المشوش للمصطلح، واتساع رقعته الجغرافية دون وعي، وقد خاب أملهم بالمنجزات التي تحققت حتى الآن، بسبب ازدياد إدراكهم للعوائق الدفينة التي تعترض طريق المجتمع، ليس في فترة الحكم الشيوعي فحسب، ولكن عبر القرون الطويلة التي سبقت مرحلة الشيوعية. ولم تسفر الجهود "حسنة النية" للحكومات الغربية، والمنظمات الدولية الرامية إلى تحفيز المجتمع المدني في هذه المنطقة، إلا عن كشف درجة عدم استيعاب الحكومات لمعنى أن يكون المجتمع مدنيًا. لقد اتسع وعي النخب في أوروبا الشرقية بمرارة الصعوبات التي تعترض سبيلهم من قِبَل عناصر تعيش في قلب المجتمع المدني نفسه، كالكنيسة الكاثوليكية في بولندا على سبيل المثال . وأعتقد أن الحال نفسها – بصورة أو بأخرى - نراها تنسحب على الباحثين والمفكرين المهتمين بشأن المجتمع المدني في مصر والوطن العربي . على أية حال؛ بإمكاننا – في هذا السياق- أن نردد ملاحظة "كريشان كومار" القائلة بأن "فكرة المجتمع المدني كانت على الدوام فكرة المفكرين المدللة، وليست فكرة يلعب فيها البشر دورًا كبيرًا" ، وأن تؤكد مع "مايكل فالزر" على أن مفهوم المجتمع المدني هو في الواقع "مجموعة معقدة من الأفكار التي لا تنسجم جميعها مع بعضها البعض" . أما على الصعيد العربي، فقد بدا المغرب العربي (تونس والجزائر على وجه الخصوص) أكثر تفاعلاً مع مفهوم "المجتمع المدني" في سياق خاص، وهو سياق مناخ التحول في نظام الحزب الواحد إلى التعددية الحزبية . وقد استند المغاربة إلى المعنى الجرامشي للمجتمع المدني، من حيث هو فضاء سياسي واجتماعي للنضال من أجل الديمقراطية، من أجل إعادة الدور العضوي للمثقف في مجتمعه، وهو الدور الذي رأى المثقفون أنه سُلب منهم عنوةً من قبل سلطة الدولة . وفي الوقت الذي تعرضت فيه تجربة المجتمع المدني في الجزائر وتونس لحزمة من الأزمات، تلوح تجربة المجتمع المدني في المغرب، بوصفها واحدة من التجارب الأكثر تركيبًا وفعالية في بنيتها وثقافتها المخزنيَّة (التراثية) والمعاصرة في آن. فقد تميزت أدبيات الكتابة السياسية العربية المعاصرة في المغرب بكثافة نظرية وفكرية في تناولها لإشكالية التجربة الذاتية في المجتمع المدني المغربي بمحطاتها ورهاناتها السياسية. ونتفق مع "أحمد بوقري" على أن التجربة المدنية المغربية تعد أكثر التجارب نضجًا وتقدمًا بالمقارنة بمثيلاتها في المجتمعات العربية؛ لكونها استطاعت، عبر سجالات تاريخية – بعضها مُعَمَّد بالدم – أن تنتزع الاستقلال، وتحقق اختراقًا حقيقيًا للمؤسسات السياسية . وقد أتيح لي في مناسبات عدة أن أعاين النجاح النوعي الذي أحرزه النشاط الأهلي في مختلف المناطق والأقاليم المغربية، ولعل أبرز ما قمت بتدوينه، ذلك الإنجاز الذي حققته جمعية الشعلة للتربية والثقافة، لقد تأسست في حي شعبي فقير بالرباط (حي المحمدية)، وأصبحت الآن – بعد ربع قرن – عرقًا من عروق الحياة في المجتمع المدني المغربي، وفي مختلف القرى والمدن المغربية . إنها تجربة فريدة تستحق الإشادة. وتحضرني أيضًا – في هذا السياق – مفارقة لافتة للانتباه، حيث تم استحداث وزارة باسم "المجتمع المدني وحقوق الإنسان" عام 1999، كلف بها صحافي شاب، كان واحدًا من شباب الحركة الوطنية المغربية المعارضة التي ناضلت من أجل الديمقراطية وتحقيق مطالب المجتمع المغربي، وتم اعتقاله أكثر من مرة في السبعينيات والثمانينيات. الطريف أن وزير الداخلية الذي أمر باعتقاله هو نفسه وزير الداخلية في الحكومة التي أصبح فيها هذا الشاب وزيرًا للمجتمع المدني وحقوق الإنسان. وأثناء إحدى زياراتي للمغرب، عاينت الارتياح الكبير الذي أبداه الشعب المغربي، بمختلف تياراته السياسية والفكرية، لإقالة وزير الداخلية، حيث تقلد المنصب شاب مدني حقوقي. إن ما يمنح المجتمع المدني المغربي حيويته وزخمه، وللتجربة المدنية المغربية تميزها، يكمن في التنوع والعمق اللذين يغمران العمل الجمعوي (الأهلي) المغربي، والذي لعب، ولايزال، دورًا تربويًا واجتماعيًا ومدنيًا بالغ الأهمية، وإزاء هذه الحركية النشطة للمجتمعات المدنية والمنظمات المستقلة، أو المؤطرة من قبل الأحزاب السياسية، تحركت البنية التراثية للدولة المغربية، في اتجاه تشجيع إنشاء جمعيات جهوية تسهم في تغليب الرؤية السياسية الواقعية على القناعات الإيديولوجية، حسب توضيح نور الدين أفاية . أما في الشرق العربي، فقد كانت النخب السياسية والثقافية في مصر ولبنان – على سبيل المثال – تفضل استخدام مصطلح "الشارع" للتعبير عن رؤية "الرأي العام" أو "المواطنين" في القضايا المجتمعية الأساسية، بينما تأخر استخدام مصطلح المجتمع المدني إلى سنوات قليلة سبقت نهاية القرن العشرين. وقد حدث أن تناول بعض السوسيولوجيين العرب في المشرق، وغيرهم من الباحثين في حقول معرفية أخرى، مفهوم المجتمع المدني، دون البحث عن تحديد دقيق له، ولأصوله الفلسفية، وتبدو مقارباتهم جزئية وعرضية إلى حد كبير. لكن العقد الأخير من القرن العشرين تمتع بمنظومة من الدراسات، أكثر عمقًا وشمولاً، حول المجتمع المدني؛ مفهومًا وجذورًا وأصولاً وأركانًا وقضايا وأسئلة وإشكالات، فضلاً عن خصوصية نشأته وتحولاته في المحيط الاجتماعي . ولعل الملاحظة البارزة التي أبدتها مناقشات الأوراق المطروحة تتمثل في أن مفهوم المجتمع المدني يظل مفهومًا مُلْبِسًا، حيث يقع في تباين شديد، وفقًا لاختلاف أصوله، وسياقات تشكيله، ولاختلاف التوجهات السياسية والإيديولوجية التي تتبناه. إن الجميع اليوم، حسب تأكيد عبد الباقي الهرماسي، أصبح مدفوعًا إلى استعمال مفهوم المجتمع المدني؛ حيث بات المفهوم: المركز الهندسي للقاء جميع الأفكار المضادة لسلطة الدولة، والمعبر عن احتياجات "النخب" ورغباتها. ولعل ما ربحه المفهوم من خلال سعة الانتشار، قد خسره على مستوى الدقة. ولابد – إذا أردنا أن يكون وعينا نقديًا – أن نخضع المفهوم إلى التمحيص والمساءلة، حتى نعرف ماذا يقصد بالمجتمع المدني، هل هو كيان؟ أم هو أداة للتحليل؟ أم أن الالتجاء إليه يمثل شكلاً من أشكال الطوباوية السياسية الجديدة . ويؤكد "تركي الحمد" على أننا – ككل المفاهيم التي نتبناها ولا ننحتها – نستخدم مفهوم المجتمع المدني، دون أن نعي جوهره ومكوناته في مجتمعاتنا، أي المجتمعات التي تختلف في بنيتها عن المجتمعات التي نشأ في أحضانها. إن آفتنا هي أدلجة المفاهيم، بدلاً من الانطلاق منها سوسيولوجيًا؛ أي وفق مكونات الواقع الفعلي الموضوعي، وليس الواقع الذي نرغب في أن يكون. لقد كانت قيمة عمل "ابن خلدون" كامنة في أنه حاول دراسة العلاقة بين المجتمع والدولة في التاريخ العربي، من خلال تفاعلات البداوة والعمران، ذلك الذي يفسر الكثير من تاريخ حركة المجتمعات العربية. إننا في حاجة إلى تصفية مفهوم المجتمع المدني من محمولاته الإيديولوجية. والتعامل معه باعتباره أداة للتحليل في نسق خاص بثقافتنا، وليس باعتباره مكونات جاهزة، نفتش عنها ولا نجدها، كما بحثنا عن البرجوازية والبروليتاريا، فلم نجدهما بالمواصفات والاتساع والهيمنة نفسها التي كانت في مجتمعات أخرى . على أية حال، فإن جميعنا يشهد شيوع مفهوم المجتمع المدني بصورة شديدة الكثافة – في الأدبيات العربية مغربًا ومشرقًا على السواء – ولعل أحد الأسباب الرئيسية لهذا الحضور الكثيف يتمثل في الدور الذي لعبته المنظمات والمؤسسات غير الحكومية (N.G.Os)، بمختلف اتجاهاتها ومنطلقات عملها وتخصصاتها . وقد ترافق مع ظهور هذه المؤسسات طرح منظومة من المفاهيم الحديثة المتصلة بالمجتمع المدني: حقوق الإنسان، حقوق المرأة، حقوق الطفل، التنمية، التنمية البشرية، التنمية المستديمة، قضايا البيئة، النوع الاجتماعي (الجندرGender ، أو الجنوسة)، الحقوق المدنية والسياسية، الحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية، مكافحة الفقر وسياسات الإقفار، التوعية القانونية والصحية والمعرفية، التمكين، المشاركة، وغير ذلك من المفاهيم والقضايا. ليس بوسعنا هنا الحديث عن ظروف نشأة هذه المؤسسات واستزراعها، أو تقييم أداتها، أو رصد العوائق ونقاط الضعف اللتين تواجهان عملها، داخليًا وخارجيًا، لكننا نكتفي بالإشارة أن عددًا من هذه المؤسسات يبحث بجدية في استراتيجيات وطنية لقضايا المجتمع المدني المصري والعربي، والإسهام بحصة فعالة في دفع الحركات الاجتماعية الجديدة إلى التشكيل والتنظيم وبناء أنماط جديدة من التضامن، والمشاركة في تشجيع التعددية والديمقراطية والحريات داخل المجتمع المدني، ومحاولة المشاركة في رسم السياسات الحكومية، والاندماج العضوي في قلب الحياة اليومية للمجتمع أو الجماعات، في مختلف المناطق والأقاليم، بعيدًا عن النمط الحزبي والنقابي والبيروقراطي السائد ، ومؤازرة المجتمع المدني الصامت وتشكيلاته الاجتماعية التي أفرزتها أنماط التنمية الرثة والحداثة الشائهة طوال عقود التاريخ المصري الحديث. وإذا كان المجتمع المدني الرسمي، أو شبه الرسمي، الذي يتركب من أحزاب ونقابات وجمعيات يعتمد أساسًا على ما هو مكتوب، أو منمذج، أو مؤدلج، أو ما هو سائد في العواصم والمدن الكبيرة. فإن المجتمع المدني والهامشي، هو المجتمع المعزول، أو شبه المعزول، عن المشاركة في أي مستوى من مستويات إدارة الحياة اليومية وتسييرها. ويعاني هذا المجتمع ظروفًا معيشية بئيسة، ويستند إلى مكونات ثقافته الشعبية التي تعتمد على ما هو شفاهي، وعلى التعبير الرمزي، وعلى الصمت، في مواجهة التحديات الكبرى، والمشكلات اليومية، والسلطة. إن هذا "المجتمع المدني الصامت" هو مدار اهتمام عدد من المؤسسات الأهلية التي تجتهد في الدفاع عن الحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية للمجتمعات العريضة، بعيدًا عن الحقوق السياسية التي هي محط نضال "النخب". والحقيقة أن "المجتمع المدني الصامت" يمثل القاعدة العريضة للمجتمع المصري، وللمجتمعات العربية، ولمجتمعات الجنوب، بل لمجتمعات معظم بلدان الشمال. 2. في الثقافة الشعبية والثقافة العالمة الثقافة تعبير ذاتي – فردي أو جماعي – عن العالم؛ أي تعبير عن نمط تمثل وإدراك ذلك العالم من قبل الفرد والجماعة (قبيلة، طبقة، شعب،... إلخ). وبهذا المعنى، تعيد الثقافة – في ذلك التعبير – بناء العالم على نحو مختلف عن الهيئة "الطبيعية" التي يوجد عليها خارج أي إدراك له. لكن الثقافة، إذ تعيد ذلك البناء من خلال عملية التعبير، أو الإنتاج الرمزي، تفعل ذلك على أنحاء مختلفة: على نحو مكتوب، وعلى نحو منطوق، ثم على نحو حركي. ليست الثقافة المكتوبة – بما فيها المعرفة النظرية والتجريبية – إلا لحظة بسيطة من لحظات التعبير الثقافي، تمكن تسميتها بلحظة التعبير عن الفاعلية المنطقية، أو العقلية، أو الاختبارية، للتمثل الإنساني للعالم. وهي إذ تظهر في صورة مكتوبة، تتحذ لغة معرفية ومفهومية خاصة بها، يستقل بها المجال المعرفي عن سواه من مجالات الثقافة المكتوبة كالأدب - مثلاً – بأجناسه التعبيرية المختلفة . لكن الثقافة – أيضًا - هي التعبير الشفاهي (غير المكتوب)، ممثلاً في أجناس مختلفة من الفنون، ومن التعبير الحركي الذي يتخذ الجسد مادة له في المقام الأول. ففي الغناء والأمثال والسير الشعبية، وفي النحت والفن التشكيلي، وفي العمارة والنقش على الخشب أو المعادن والجبص والرخام... إلخ. وفي الوشم ("النقش" على الجسد)، وفي التطريز والحياكة وسوى ذلك، نصوص من التعبير الثقافي لا تقل قيمة عن النصوص المكتوبة في مضمار التعبير عن نوازع الذات وحاجاتها الجمالية، وعن نوع تفاعلها مع العالم المحيط، بل نستطيع أن نرصد التجليات المختلفة لهذا التعبير الثقافي حتى في المأكل، والملبس، وطقوس العبادة، ومراسيم الاحتفالات والأعياد والمواسم والمآتم وغيرها، فيما يسمى بمنظومة العادات والتقاليد والمعتقدات. إنها جميعًا أشكال مختلفة من الإفصاح عن الذات وعن الوجدان الفردي والجمعي، وعلى صفحتها، تمكن قراءة المجتمع الذي تعبر عنه، وبنيته العقلية – بتعبير كلود ليفي شتراوس – وشخصيته الحضارية. ففيها يخرج ما بداخل مستودع الذاكرة من معطيات قابلة للتحليل الاجتماعي . لا شك في أن الحقل الثقافي العربي ينطوي على هذه الثنائية العميقة (نقصد ثنائية الثقافة الشعبية والثقافة العالمة، أو ثقافة الشعب وثقافة النخب)، وهي الثنائية التي ترقى - في تأثيرها -إلى مستوى الازدواجية التقاطبية القابلة لتوليد كل أنواع الانقسام والقطيعة. أحد تجليات هذه الثنائية يتمثل في اختلاف طبائعهما (ربما لا تكفي دلالة "الاختلاف" لوصف علاقتهما على نحو دقيق دائمًا، قد نحتاج إلى أن نستبدل بها دلالة "التناقض" في سياقات كثيرة). الثقافة العالمة تتسم بطابعها المنهجي الدقيق (ثمة شكوك في أدبيات ما بعد الحداثة حول فكرة "المنهجية" هذه!) وبطابعها المؤسسي، وبخصيصتها التدوينية. على حين يغلب على الثقافة الشعبية الطابع الشفاهي، وبطابعها العفوي التلقائي والموروث الذي يجسد تجارب المجتمعات الشعبية - تاريخـيًّا - في مختلف أصعدة حياتها. لا تعني شفاهية الثقافة الشعبية وتلقائيتها وقوعها في دائرة السطحية واللاعقلانية واللامنهجية، كما تدعي بعض الأجهزة الثقافية السائدة؛ إنها في حقيقة الأمر تعبير عميق عن تمثلات معقدة تنتجها الجماعة، تتوسل بواسطتها فهم الظواهر وإدراكها، ومحاولة التأثير عليها وتوجيهها، من منظورات أسطورية وخرافية وجمالية، ومعرفية أيضًا، سواء بواسطة وسائط شفاهية أو بصرية أو كتابية. كما تتسم الثقافة الشعبية بكونها لا تخضع للرقابة المؤسسية (ستتصادم مع الرقابة بالتأكيد)، بينما تخضع الثقافة العالمة لرقابة المؤسسة، بل لرقابة الأنا/ الوعي، بينما تفلت الثقافة الشعبية من أية رقابة، بما فيها الرقابة التي يفرضها الأنا / الوعي على اللاشعور/ اللاوعي، على نحو ما يكشف التحليل النفسي الذي يرى "النكت" مجالاً يتحرر فيه اللاوعي من رقابة الوعي، وكثيرًا ما نعثر – بجانب النكت – على حكايات وأغانٍ تخترق المحظور في القيم السائدة، سواء على الصعيد الديني أو الجنسي أو السياسي. لقد كانت المحرمات والنواهي حاضرتين في كل العلاقات: الأسرية، والاجتماعية، والسياسية، وعلاقات العمل، والعلاقة بالكون وبالطبيعة. ومن ثم، أنتجت الثقافة الشعبية كمًّا نوعيًّا من المنتج الثقافي: قصةً ومثلاً ونكتةً وسيرةً... إلخ، للتعبير عن موقف الجماعات من العالم والحياة، إدراكًا أو تفسيرًا أو تبريرًا أو سخريةً، حسب الموقف والسياق وطبيعة كل نوع ووظيفته، مما يجعل من الأنواع الفولكلورية أنواعًا حتمية، لإحداث التوازن والمقاومة، في واقع تاريخي يقع داخل دائرة التسلط، والاختلال الاجتماعي . تعبر الثقافة الشعبية عن درجة ما من الاستمرارية التاريخية لنظام التمثلات الجماعية (الوطنية والقومية) للعالم، الموروثة عن أزمنة سابقة. ليس معنى ذلك أن الوعي الشعبي ظل راكدًا أو مغلقًا أمام تيارات التحول التاريخي؛ بل يعني أنه وعي ذلك التحول نفسه من منطلق بنيات ذهنية متشكلة سلفًا بتأثير الخيال الجمعي التاريخي المكتنز بالرموز والمعتقدات الراسخة. إنها ثقافة "طبيعية"، مطابقة – في سيرورتها – لتطور المجتمع الأهلي العربي . على العكس من هذا التكوين، تبدو الثقافة العالمة وقد نشأت في سياق تطور مختلف عن تطور بني المجتمع العربي. لقد خرجت من رحم التحول الذي تعرض له البنيان العربي عقب التدخل الاستعماري الغربي – العسكري والاقتصادي والثقافي – منذ مطلع القرن التاسع عشر. فإذا كانت الدولة الحديثة قد خرجت من رحم الإدارة الاستعمارية بعملية ولادة قيصرية، ولم تخرج نتيجة تفكك طبيعي للبِنَى التقليدية، وإذا كان الاقتصاد الرأسمالي هو حاصل تدمير استعماري للبِنَى الاقتصادية التقليدية العربية، وليس نتيجة تفكك ذاتي لها، فإن الأفكار الحديثة خرجت بدورها إلى الوجود في سياق النجاح الاستعماري في توليد ثقافة جديدة في الفضاء العربي المحتل ، وليس ضمن سياق من التطور الطبيعي. لذلك، انحصرت هذه الثقافة في أوساط النخب من كل الاتجاهات، ويعاد إنتاجها دومًا بما يشبه عملية صياغة جديدة لكيان ثقافي منغلق، مستقل عن الكيان الثقافي الشعبي وموازٍ له في الوقت نفسه . تغذي هذه القطيعة بين الثقافة العالمة والثقافة الشعبية قطيعة نظيرة في ميدان التواصل الفكري بين المثقف والجمهور، وينجم عنها تهميش ثقافي متزايد للجمهور من جهة، وانعزال متعاظم للمثقفين من جهة موازية. وبالطبع، فإن ذلك ينال من الوظيفة الاجتماعية للمثقف العربي، ويفاقم من درجة الإعاقة التي تتعرض لها فعاليته في وسط اجتماعي لم تنتشر فيه حركة التعليم انتشارًا واسعًا، ولم يعش بعد قطيعة مع مأثوره الثقافي، ولا يزال النموذج السائد للمثقف والباحث محجمًا عن تطوير وسائط تواصله مع المجتمع، ويبدو فاشلاً في بناء خطاب تاريخي نافذ قادر على أداء مهمة التوعية والتثقيف بعيدًا عن حدي الاستعلاء والشعبوية، ولايزال هذ الفشل الذريع جاريًا حتى الآن. ليس ثمة امتياز للثقافة المكتوبة (العالمة) على الثقافة الشعبية (الشفاهية) في مضمار التعبير عن الذات، فكلاهما يشكل طريقة من طرائق هذا التعبير، اللهم إلا في ما بينهما من تفاوت في درجة النظام والتعقيد، حيث تبدو الثقافة المكتوبة أكثر تراكمًا. غير أن المحنة لا تكمن في هذا الجانب، نعني ليست في وجود فوارق في أنماط التعبير وفي درجات النظام فيه؛ بل تكمن في مستوى التمثل لدى كل منهما؛ ذلك لأن هناك قدرًا من التفاوت في وعي كل من الثقافة المكتوبة (العالمة) والثقافة الشفاهية (الشعبية) . يتبدى ذلك - بوضوح أكبر - في مجال كتابة تاريخ كل منهما، حيث يبدو، حتى الآن، أن التـاريخ الوحيد الذي حُفظ بعناية فائقة في معظم المجتمعات هو تاريخ الثقافة المكتوبة، فيما لم يحظَ تاريخ الثقافة الشعبية (أو ما يعرف بالتاريخ الشفاهي) بكبير اهتمام يليق بمكانته في بناء المجتمع الثقافي. وقد يعود ذلك إلى قداسة المكتوب لدى مجتمعات بعينها كالمجتمع العربي ـ الإسلامي، لكن هذه القداسة لم تتأسس على قاعدة الحداثة على نحو ما حدث في المجتمعات الغربية - أو ما يسمى بمجتمعات الشمال - بل قامت على النهج الخاص الذي انتقل به العقل العربي من حالة الكلام الشفاهي إلى حالة النص المكتوب مطلع العصر العباسي، حيث نجم عن هذا التحول/الانتقال: تعديل أو تغيير عميق في بِنَى المجتمعات التقليدية وفي موازيين القوى بين الشرائح الاجتماعية المختلفة، وبات العقل الإسلامي (الكتابي) مرتبطًا بالدولة (السلطان) ورجال الفقه والطبقات الحاكمة . لقد تم تثبيت التاريخ العربي ـ الإسلامي بالكتابة ، ناهيك عن الأسئلة الخاصة بكيفية كتابته، ومن كتبه، وعمن كُتب، ولمن كُتب؟ الملاحظة الجديرة بالانتباه هنا، هي أنه بات إسقاط زمكانية هذا التاريخ المكتوب واقعًا دومًا على أزمنة وأمكنة أخرى ذات بنية وأبعاد وظروف مختلفة ومتغيرة بالضرورة. إن الذي يدفع دومًا الثمن الفادح لقاءَ هذا النهـج في التحول، هو ذاكـرة المجتمعات وتراكمها الثقافي، و - استطرادًا - معرفتنا له. فحين لا يكون في إمكاننا أن نكتب تاريـخ قسم هائل من التعبـير الثقافي لمجتمع أو لشعب ما، فنـحن بذلك نفتقد القـدرة على - والحق في - بناء وعي تاريخي بتراكمه الرمزي. الأفدح حقًا، والأنكى من كل ذلك، أن الجانب الأعظم من التعبير في مجتمعاتنا، إنما هو الذي يشغله التعبير الثقافي الشفوي الشعبي . كما أن قصر اهتمام المؤرخين على الوثائق المكتوبة، دون سواها، أغفل أهمية الدور الذي ينهض به الصوت في الحفاظ على المجتمعات البشرية والذي غدا اليوم أمرًا ثابتًا لا جدال فيه؛ ذلك لأن مجموع ما يسمى بالمأثورات الشفاهية لمجتمع ما يشكل فيه شبكة من المبادلات الصوتية التي تمثل أعرافًا وتقاليد سلوكية ثابتة بدرجة أو بأخرى، وتتمثل وظيفتها الأولى في تأمين استمرار إدراك للحياة وتجربة يقع الفرد بدونها في شَرَك الوحدة، إن لم يكن في غياهب اليأس . 3. في الثقافة الشعبية والتنمية المحلية لا تعكس مقاربة هذا الموضوع مجرد رغبة عفوية أو مجانية في ربط حقل الثقافة الشعبية بالمدار التنموي المحلي الذي يمثل أحد الركائز الأساسية للمجتمع المدني ومداراته؛ وإنما تعكس تصورات أولية نتجت عن خبرة ميدانية لا بأس بها، حول الأهمية الفائقة لإسهام الفولكلور (= المأثورات الشعبية)، بجانب تخصصات ومعارف أخرى، بحصة فعالة، داخل النشاط التنموي المحلي (خاصة في المجتمعات الريفية والمعزولة). فمعرفة مكونات الثقافة الشعبية، في سياقاتها الاجتماعية الحيوية، هي مفتاح رئيس لاكتناه قيم المجتمعات الشعبية الهامشية، ولاحتياجاتها المادية والرمزية، ولتصوراتها الروحية والفكرية، ولرؤاها الخاصة بالعالم المحيط، ولنقاط ضعفها وعناصر قوتها. ومن ثم، فإن التعرف على الثقافة الشعبية ومعارفها، هو تعرف على الموضوع الذي لا يقوم المشروع التنموي إلا بالوعي به. ثمة أبعاد ثلاثة للواقع الاجتماعي: الاقتصادي والسياسي والثقافي. لكن هناك اختلافًا بيِّنًا في درجات المعرفة العلمية لهذه الأبعاد. في اللحظة الراهنة، يعد البعد الاقتصادي أكثر تقدمًا، يليه التحليل العلمي في مجال السياسة والسلطة. أما البعد الثقافي، فهو البعد الأقل تقدمًا، حيث لايزال شطره الاجتماعي الميداني محفوفًا بالأسرار الخافية . ابتداءً، يجب التأكيد على أن المتغير الرئيس لكل إصلاح إنما يكمن في الاقتصاد. وتحضرنا مفارقة لافتة في هذا الشأن تتمثل في عزوف الحركة الإصلاحية العربية – منذ ميلادها في منتصف القرن التاسع عشر وحتى منتصف القرن العشرين – عن الوعي بالمسألة الاقتصادية والنظر فيها. فقد تحدث الإصلاحيون العرب في كل شيء تقريبًا: المجتمع، والدين، والتراث (القديم)، والتربية، والتعليم، والثقافة الحديثة، والدولة، وطبائع الاستبداد، والدستور، والهوية، والغرب، والمرأة... إلخ، إلا في الاقتصاد، ويكاد المنجز العلمي في حقل الاقتصاد يكون الغائب الأكبر في الوعي الإصلاحي العربي الحديث، وهو غياب يضع علامة استفهام على حجة فكرة الإصلاح ذاتها، ومدى ما تتمتع به من مشروعية التحقيق؛ إذ لا سبيل إلى نهوض مجتمعي دون توافر رصيد كبير من التصورات في المسألة الاقتصادية، وهو ما افتقر إليه التراث الإصلاحي الحديث، وربما المعاصر أيضًا، فقد انتظرنا حتى خمسينيات القرن العشرين حتى شهدنا بدايات تكون خطاب عربي في المسألة الاقتصادية مع مفكرين ماركسيين وقوميين عرب، وهو تأخر يشهد على واحد من أهم أسباب قصور الوعي الإصلاحي العربي . مقابل الغياب الكامل للمسألة الاقتصادية، والضمور المتزايد للمسألة الاجتماعية، ورث الفكر العربي المعاصر ظاهرة حكمت الفكر الإصلاحي في القرن التاسع عشر ومطلع القرن العشرين؛ وهي ظاهرة هيمنة المسألة السياسية وطغيانها، بسبب التحولات الكبرى التي عاشها الوطن العربي في هذا المشهد التاريخي، وقد بدا دومًا أنه لا فائدة من التعويل على أي شيء آخر غير السياسة، وتزايد الطلب على السياسة سبيلاً وحيدًا لخوض ودفع التحديات الجديدة، بقطع النظر عن طبيعة الوسائل المعتمدة لبلوغ هذا الهدف. قد يكون تحرير الفكر/العقل ضروريًا للتقدم بحسب محمد عبده أو طه حسين، وقد يكون تحرير المجتمع/المرأة شرطًا حيويًا لذلك بحسب قاسم أمين، غير أنه لا هذا ولا ذاك يقوم مقام التحرر السياسي: إنْ من الدولة التقليدية، أو من الاستعمار، أو من الدولة القطرية والقبائلية، أو من الدولة العلمانية وسلطة النخب المُتَغَرِّبَة، أو من دولة التبعية للمدار الرأسمالي. إنه الخطاب نفسه عند الطهطاوي، والتونسي، والكواكبي، ولطفي السيد، وميشيل عفلق، وحسن البنا، وسيد قطب، وسمير أمين، ومهدي عامل... إلخ، كلٌّ من موقع تياره الفكري ومنظومته المرجعية وحقل اشتغاله الفكري . يواكب الاحتفال المفرط بالمسألة السياسية، من قبل تيارات الفكر العربي المعاصر، فقر فكري مدقع في مجال إنتاج معرفة نظرية بالمسألة السياسية: الدولة والسلطة والمجال السياسي، وهو فقر يشترك فيه سائر الخطابات السياسية العربية مع تفاوت في الدرجة وليس في النوع: فقد انصرف الخطاب الإسلامي المعاصر، خطاب "التأصيل" الإخواني، إلى إعادة إنتاج منظومة السياسة الشرعية التقليدية، دون اجتهاد يُذكر، عدا محاولات تحسين أوضاعه الداخلية ببعض استعارات مفهومية حديثة سطحية المعنى والأثر، بينما انغمس الخطاب القومي، مع عفلق والحصري والبيطار واللاحقين عليهم، في إنتاج نظرية في الأمة لا في الدولة على قاعدة تماهٍ ملتبس بين المفهومين (هي نفسها تعبير عن التباس المشكلة السياسية في الوعي القومي). واستمرأ الخطاب الليبرالي عادته في ترديد مقولات الفكر الحديث في الدولة الوطنية، دون العمل على تأصيلها، أو صوغ مشروع ليبرالي عربي حقيقي. أما الخطاب الماركسي، فلم يبرح موقع التبشير بعموميات نظرية في المسألة، مستقاة من حقل تاريخي وسياسي آخر (وهو وعي ينتمي إلى فقه التبعية الذهنية مثل نظيره الليبرالي )، دون النظر بعين مقارنة في الفارق بين التواريخ والوقائع . لا مناص من مفارقة تفاصيل هذه الأزمة في تاريخ الفكر الإصلاحي العربي، والتي قاربها – بعمق منهجي - المفكر المغربي عبد الإله بلقزيز، فنعود إلى موضوعنا المحوري هنا، فنقول إن حال غياب التجليات الشعبية للثقافة كان كحال ضمور الإنجاز العلمي للاقتصاد، فحتى الخمسينيات، لم يكن ثمة وعي بأهمية ثقافة الناس المُراد النهوض بهم. وبالرغم مما تحقق بدءًا من النصف الثاني من القرن الماضي في مجال الثقافة الشعبية، فلايزال الجانب الاجتماعي الميداني لهذه الثقافة يتعرض إلى الإهمال، فضلاً عن استمرار إزاحته بعيدًا عن مشهد النهوض والتنمية. ربما يرجع الأمر إلى صعوبة مقاربته وإدراجه، خاصة إذا تعلق الأمر بالمجتمعات الطرفية والبعيدة والمعزولة، فالبحوث الحضرية "أرخص" وأكثر أمانًا، وأوفر في المجهود والمال، كما أنها تبدو- زيفًا – أكثر كفاءة من البحوث الريفية. وإذا ما تعين القيام بعمل ميداني في الريف، فإن العمل في المناطق القريبة من الحضر، يفضل على العمل في المناطق الأبعد. إن الباحثين والخبراء والمسؤولين هم من قاطني المدينة، ومثقفي المدينة. هم طبقة ثقافة المكتوب التي تتحاشى "العقاب" بالعمل في منطقة رعوية، بعيدة، هامشية، طرفية، منطقة ليس بها ري، منطقة حارة وغير صحية. باختصار: تحاشي المكان الذي يوجد به الناس الأشد فقرًا . لم يوضع الإنجاز الاجتماعي للثقافة في اعتبار أية سياسة تنمية، أو أية عملية تنموية. ومن ثم، يصبح ضربًا من الوهم ذلك الزعم بأن مشروعات التنمية تنهض على أساس قاعدي (من أسفل إلى أعلى)، فالحقيقة أن النموذج التنموي السائد نموذج علوي – أبوي، نموذج يجهل الحياة الرمزية للناس. وفي المقابل، ثمة انحياز صارخ للبعد الاقتصادي، الذي يعتمد - في الغالب - معايير كمية، منمذجة، استاتيكية، مفرغة - في الغالب أيضًا - من المضامين الإنسانية، والخيال الإبداعي للأفراد والجماعات، وتصورات الناس وحكمتهم، وإرادتهم الحرة في الاختيار. وقد ظل هذا الانحياز يواصل دوره - طوال نصف قرن - في ترويج الأنموذج "الاقتصادوي" المستعار للتنمية، باعتباره أنموذج التغيير الوحيد، الممكن والمرغوب فيه، في سياق تحديث المجتمع وتنميته. كما اضطلع هذا الانحياز بدور حاسم في رسم الاستراتيجية السائدة للتدخل في حياة الناس، وفي تلفيق تصورات - ليست من جنس ثقافتهم - للواقع، وللعالم، وللإمكانيات المتاحة، ولنقاط الضعف ونقاط القوة، وللمشكلات والحلول، وللمفاهيم كافة بدءًا من مفهوم الفقر وحتى مفهوم السعادة . وفي هذا السياق، لن يعود في وسعنا الاكتفاء بالنظر إلى الثقافة الشعبية باعتبارها تمثيل الناس لمحيطهم، وتعبيرًا عن نظامهم الاجتماعي والقيمي، بل سيصبح مطروحًا علينا أن نفكر في معنى أن تنشأ في وعي الناس ثقافة، أو قيم ثقافية، لا تقوم صلة بينها والنظام الاجتماعي الذي ينتمون إليه، فحين يحمل الناس – لجملة عوامل داخلية متصلة بأنماط التحديث والتنمية وعوامل خارجية متصلة بضغوط العولمة وإمبراطورياتها الاقتصادية والإعلامية – منظومات من الأفكار والقيم لم تخرج من رحم التطور الاجتماعي الطبيعي، لا يبقى ثمة ما يدعو إلى استصغار الأمر، فمن رحم هذا الانفكاك والتجافي بين الاجتماعي والثقافي ستتناسل أنواع من التجافي والخلل في البنى الاجتماعية والثقافية، بل أيضًا في البنى الاقتصادية الطبيعية، مما سوف يعرضها إلى تشويه مضاعف، ينضاف إلى تشوه الخِلقة الأصلي الذي نشأ من حداثة رثة - تابعة - شهدتها هذه البنى دون تقديم مقدمات وتمهيد أصول ، بلغة أهل الفقه. إن الغرباء (الباحثون وخبراء التنمية والممولون الأجانب) لا يجهلون الواقع فحسب، بل الأنكى من ذلك أنهم يجهلون أنهم جاهلون . إن هذا التدخل الجهول الذي تمارسه فئات "الكوماندوز" التنموي هو ضرب من ضروب الاستعمار، لم يسبق له مثيل في التاريخ الإنساني؛ حيث يجعل الناس مستعمرين لذاتهم بذاتهم، إنه الغزو "بلباس التنمية"، الغزو الذي يلتهم "تباعًا" ملايين المهمشين من ضحايا التنمية . ويتسبب في ضمور مروع لملكة الخيال والإبداع الاجتماعيين، بل قتل الحيوية الاقتصادية الطبيعية التي تتمتع بها المواقع المحلية في نطاق تضامني إنساني بسيط. خلاصة القول: إنه اغتيال لجماليات التنمية باسم "عقلانية التنمية". لا أزال أتذكر كلمات أستاذتي الهندية الجليلة "كورين كومار" في افتتاحها لدورة تدريبية حول "إشكاليات العولمة وثقافات الجنوب"، حيث قالت: آن الأوان للتنصل من النظريات الفخمة. ومن طرح الأسئلة القديمة، ومن استخدام المقولات القديمة، ومن التعويل على الأطر القديمة. فلن يكون ذلك سوى قطع الطريق على إمكانية استبصار مسالك جديدة، وفتح سبل جديدة. آن الأوان لكي نتجاسر على طرح الأسئلة التي لا تعد أسئلة تُطرح، وتحلل ما لا يُعتبر من باب البيانات والمعلومات، المعممة والمكرسة كونيًا، وما يصنف في خانة الأسطوري، غير المعقول وغير العلمي، بالمعنى الذي طرحته المركزية الأوروبية حول العقل والعلم. ينبغي لنا أن نبدأ بالبحث خارج الخطاب السائد، في مجال يقع دون المستوى المطلوب من العلمية، وما وراء مقاييس المعرفة القائمة، لنكتشف معارف شعبية وطرائق أصيلة، لنكتشف التجارب الخاصة لمجموعات المهمشين، والمنبوذين، والفقراء، والنساء، والفلاحين، والأرزقية، والحكماء المحليين، والرواة الشعبيين، والحكَّائين، وأصحاب الخيال البسطاء، وأصحاب المعارف التي لا تعرفها النخب، لتبين ما في مأثوراتهم، ومعارفهم، ومقولاتهم، من رؤى أخرى للعالم، وطرائق تصدّ للضغوط. يتعين علينا مفارقة تقاليد الخطاب المهيمن، فنجد أنفسنا في ذلك المجال الذي احتقره هذا الخطاب، أي مجال الجماعات الشعبية، والثقافة الشعبية، لنكتشف ما يكتنز به من معارف مطموسة، خبيئة. لنصغي إلى صوت الحكمة يتصاعد من المعارف الشعبية العامية المحلية. لعلنا ننتقل- حينئذ – إلى مرحلة استنباط رؤى سياسية وتنموية جديدة، فيها مزيد من الأصالة، مؤهلة لمجابهة ما في الواقع من تعقد مستمر، رؤى فيها مزيج عضوي من الروح النقدية والإبداع؛ المنطقي والأسطوري؛ السياسي والشعري؛ العلمي والجمالي. إن ما يدور في أذهان المنتمين إلى هذا الاتجاه، ليس دعوة ساذجة للعودة إلى القرون الوسطى، وليس دعوة - ساذجة أيضًا - لمنع الشعوب من أخذ نصيبها مما حققته العلوم والتقنية، في مجالات اهتمامها، من إنجازات حقيقية؛ إنما هم يرفضون التسليم بأن تكون أنماط الإقصاء، والتجريد من صفة الإنسانية، وفقدان حرية الإرادة التي ما فتئت تتزايد وتتوحش في الوقت الراهن، هي الثمن الذي يجب على الشعوب بذله في سبيل تحقيق حياة أفضل . يهاجم المبشرون بتوسيع قاعدة الاقتصاد العالمي كل من يقف في طريق تلك التحولات المدمرة باسم "التنمية" بإطلاق أحكام مطلقة من قبيل أنه متخلف وضد "التقدم"، ويصمونه بالجهل والدونية، وهو في نظرهم مريض بعلة الحنين إلى الماضي، وإلى الثقافة المنحطة . وفي تصوري، يمثل هذا الهجوم عنفًا رمزيًا ضد كل باحث عن بديل للإصلاح وللتنمية وللتغيير من قلب ثقافته. لا بأس، يظل البحث عن نماذج بديلة فعلاً لا ينقطع؛ بحث لا يضحي بالديمقراطية أو بحقوق الإنسان أو بالطبيعة من أجل التنمية الشمطاء؛ بحث عن بديل للنظام القائم، بديل يمكنه تجنب عبودية التقنية، وعبودية المسوح الإحصائية ، ويمكنه العمل على إيقاف الدمار البيئي والعمل الاستعلائي، وعلى إعلاء شأن المرأة، واستنباط الوسائل الملائمة لتعزيز العمل الإنساني بدلاً من إزاحته. هو نفسه البحث عن نموذج تتجاور فيه العدالة مع التنمية، وتتوازن التقنية بالطاقة البشرية، نموذج يمكنه الحفاظ على موارد الأرض. ألا يؤخذ منها أكثر مما يعاد إليها. إن القادرين حقًا على ذلك هم السكان المحليون والقبائل والصيادون وزراع ضرورات العيش. يجب أن يتجه هذا النموذج للاعتماد على الذات، يجب الانسلاخ من الارتباط الوثيق بالاستيلاء على الخبرة الإنسانية، وتقدير قيمتها نقدًا، ثم بيعها للناس مرة أخرى. إن ما يحاوله الناس هو التمسك بالصلات التقليدية. بروابط الاعتماد على الذات الجماعية، بالقرابة والقُربَة والجيرة وحسن "العشرة". إن هؤلاء الناس لديهم شيء حيوي يمكن أن يقولوه للعالم، بما يمتلكونه من قيم إنسانية محبة للحياة وللطبيعة وللإنسان . 4. في أسئلة المدخل الفولكلوري للتنمية المحلية لماذا الثقافة الشعبية والجماعة الشعبية مدخلاً للتنمية المحلية؟ ذلك لأن المأثورات الشعبية والمجتمعات الشعبية تقدمان نموذجًا مغايرًا للإبداع والممارسة على السواء، وهما الأعمق ارتباطًا بأنماط التنمية التي نتغياها ونقصدها، بفلسفتها التي تستهدف الإنسان بالأساس ؛ أي تستهدف تغيير المجتمع إلى الأفضل، وتستهدف الفقراء والمحرومين والمستضعفين، وتستهدف مشاركة الفاعلين المحليين في عملية تنمية مجتمعهم المحلي. كما أنهما تجسدان ما يسمى في الأدبيات التنموية المعاصرة بـ "الاعتماد على الذات"، من خلال النمط الإبداعي في الإنتاج والاستهلاك، والتعامل الواعي الرشيد مع الموارد المتاحة في البيئة الفقيرة. ولأن إبداع الجماعات الشعبية يمكن أن يغير ما يسمى بـ "الحد الدنى" لإشباع الحاجات الأساسية الذي يحوله إبداعهم إلى حد أدنى نسبي ومتحرك، فيخلقون من "الفسيخ شربات". ولأن إبداعهم يقدم نماذج تفيد في درس التعبئة، لمواجهة اليومي المباشر، ولتحدى التبعية بآلياتها التي تكاد تقتل الآخرين يأسًا. ولأنه إبداع يُظهر، في بعده الفني والروحي، ضرورة التصالح مع الحياة، للبقاء وللاستمرار وللتجدد، ولمواجهة المشكلات مواجهة مبدعة، رغم أنف الظروف المحيطة به وبأصحابه الذين لا يملكون إلا قوة عملهم التي تُستنزف مع الأيام، ويبذلون فيها كل طاقاتهم العقلية والذهنية والنفسية. إنهم نتاج أوضاع البنية الاجتماعية التي تجبرهم على التصرف بلا اختيارات حقيقية، ليلتقطوا ما هو متاح من فرص، بينما يفتقدون الشروط التي توسع دائرة اختياراتهم. إنهم أصحاب القطع القزميَّة من الأرض (وربما أكثرهم الآن بلا أرض). هم العمال الأجراء ذكورًا وإناثًا وأطفالاً، ومنتجو بعض أدوات العمل وبعض السلع. هم أصحاب الحرف والصناعات اليدوية البسيطة والشاقة. ورغم أنهم يعملون أكثر من غيرهم- بمجهود مضاعف – في الحقول، وفي الشوارع، وفي الدور، وفي الورش، وفي البحيرات، فإنهم يعيشون من أيديهم إلى أفواههم مباشرة، مضطرون لقبول ما يسمح به الآخر لهم. إنهم الفئات التي حوصر إبداعها ومقولاتها، وحجبا عن المرور إلى الثقافة المكتوبة والمسموعة والتاريخ المسجل والسياسات العليا، هم الذين فرضت أوضاع البنية الاجتماعية أن يكون إبداعهم من أجل البقاء، من خلال المقاومة اليومية لكل ما يحول دون تحقيق مقادير من إنسانيتهم . إنهم يمثلون قوة الضعفاء، وقوة من لا قوة لهم. بوسعنا أن نسوق عددًا من الأمثال الشعبية التي أبدعها الإنسان المصري لكي يورث بها "الحكمة" للأجيال التي تأتي، بعد أن أودع فيها منظومة متكاملة من القيم الرمزية التي يبدو مغزاها واضحًا، لتحمي الناس من الوقوع في شرك الإذعان، والاستسلام للضغوط وللفقر، عبر تعزيز قيم التفاؤل والكرامة والتضامن والتواصل والترشيد الاجتماعي وقيم العمل والمثابرة وحب الحياة والاعتداد بالنفس والاعتماد على الذات والتعاون ومقاومة الفقر والعوز وتحقيق المشاركة الجماعية والالتصاق بالواقع وبالأرض وبالأصول وبالناس : "الفٍِِلاحه فلاحه – الحركة بركه – الجود في الموجود – ازرع كل يوم تاكل كل يوم – إدّاين وازرع ولا تداين وتبلع – الإيد التعبانه شبعانه – لو جار عليك الزمن جور على دراعك – الإيد البطالة نجسه – اشتغل لحد ما تاكل ولا تستحمل الذل – اشتدي يا أزمة تنفرجي – إحنا ساعيين والرب معين – الزبده ما تطلعش إلا بالخض – الندب بالطار ولا قعاد الرجال في الدار – إزرع المعروف تحصد الشكر – جوع سنه واشبع العمر كله – ما يمسحش دمعتك إلا إيدك – إحنا بنزرع لأولادنا يحصدم – الناس لبعضيها – جنه من غير ناس ما تنداس – صنعه ف الإيد تغني عن الفقر – أكل البلح حلو بس النخل ف العالي – إن جالك الشر اتلقاه – صبرك على بطنك ولا صبر الجزار عليك – كل كمون وامشي عرض وطول – قمر وزيت دا خراب بيت – قيمة كل إنسان ما يحسنه – التدبير نص المعيشة". من المشروع تمامًا أن تفترض استحالة تنمية مجتمع محلي ما، يحكمه إطار مرجعي (ثقافي – اجتماعي) خاص، دون معرفة عميقة بأنساق القيم والثقافة التي يتبناها. والتي تتبدى في جملة معتقداته وعاداته وتقاليده وسلوكه ومأثوراته الشفاهية وإنتاجه المادي والرمزي، إلى آخر ملامح حياته الشعبية اليومية. لقد أكدت خبرات ميدانية طويلة، أنه من القصور حقًا أن يُتصور تحقيق تنمية - أية تنمية – منبتة الصلة عن الواقع الثقافي والاجتماعي والتاريخي للمجتمع المراد تنميته، ذلك هو الأساس الفلسفي الذي تنهض عليه تجارب تنموية جديدة في العالم، منها ما يعرف بـ"اقتصاديات المواقع الرمزية" ، وغيرها من التجارب التي تبحث عن بدائل جديدة للتعبير وللتدبير الاجتماعي، قصد إحياء الفضاءات البشرية والثقافية في عالم التنمية، وإيجاد تعريف لحياة بسيطة في سياق التحديث والإصلاح، إنها تجارب جارية على كل المستويات في مناطق شتى. ومما يدعو للأمل أن حركات التصدي لأنموذج التنمية السائد، لا تقتصر على بلدان الجنوب فحسب، بل شهدت العقود الأخيرة من القرن العشرين بحثًا مثمرًا جدًا في بلدان الشمال أيضًا . هناك اتجاه آخر يتصور أن دور القيم المعنوية والمعتقدات والمعارف الشعبية ليس هو الدور الحاسم في عملية التنمية، وأن القصور يكمن في تصور أن التنمية تتحدد بفعل الثقافة، لكن هذا الاتجاه – على أية حال – لا ينكر الأهمية الشديدة للخصائص السوسيولوجية والثقافية في عملية التنمية، إنما الأساسية هي الدعوة إلى عدم التبسيط الزائد في العلاقة بين الثقافة والتنمية . يمكننا أن نطور أفكار جرامشي الذهبية ، حول أهمية الثقافة الشعبية لحل مشكلة التغيير والتنمية في المجتمع المدني، وهي أفكار تتسق مع الاتجاه الذي يتبناه الباحث، حيث يحذر جرامشي من التعامل مع الفولكلور باعتباره طرفة، أو باعتباره أمرًا مثيرًا للعجب، فالحقيقة أنه شيء جاد جدًا، يجب التعامل معه بجدية، إنه تصور للعالم وللحياة، وهو خاص ببعض الفئات الاجتماعية (محددة بالزمان والمكان)؛ أي إنه خاص بـ "الشعب"، من حيث هو "مجموع الطبقات الخاضعة"، والفولكلور متعدد، وشديد التنوع، يقف في تعارض وتناقض ومعارضة ضد التصورات الرسمية، وضد تصورات "الطبقات الحاكمة"، وضد "الدولة"، أي إن الفولكلور يتناقض مع "المجتمع الرسمي" بشكل عام. من هنا، يمكن فهم الفولكلور باعتباره انعكاسًا لشروط حياة الشعب الثقافية. من جانب آخر، يشير جرامشي – محترزًا – إلى أن الشعب لا يستطيع امتلاك تصورات واضحة ومنتظمة ومنظمة وممركزة سياسيًا. وبسبب هذا العجز، يصبح الفولكلور – الذي هو انعكاس لشروط الحياة الشعبية – امتدادًا غير مباشر للثقافة المسيطرة، أو مجالاً للوقوع في شرك الاستتباع للثقافة العالمة أو المسيطرة، لكن الفولكلور – في نهاية المطاف – يمكن أن يمنحنا المادة الخام التي يجب على النخب العضوية تشكيلها، وإغناؤها بالاتساق، دون أن يُستغل ذلك لصالح أطراف أخرى غير أصحابها. 5. في حماية الثقافة الشعبية من أجل التنمية تُرى، هل ثمة إمكانية لمقاومة زحف المخاطر والتهديدات التي تستهدف - في الصميم - طمر الثقافة الشعبية ومأثوراتها وتراثها؟ قد يكون الجواب البديهي المباشر عن هذا السؤال هو أن مثل هذه الإمكانية منعدم الآن بعد أن فاتتنا فرص تاريخية لتحقيق هذه الإمكانية، وهو - في الحقيقة - جواب يتغذى من معاينة درجة الخلل الرهيبة في توازن القوى الثقافي - سواء على الصعيد الوطني الداخلي، أم على الصعيد الكوكبي الخارجي - بين ثقافة تتمتع برصيد هائل من الدعم والقوة والحماية، وأخرى مجردة من أية حماية وقائية تصد الهجمات الشرسات التي قد تتعرض إليها. ليست هناك معجزات في الأفق، ولكن من المفيد القول بأن فعل العدوان والتهديد لا يحتل المشهد وحده، بل هو غالبًا ما يستنهض نقيضه، بسبب ما ينطوي عليه عنفه الرمزي من استفزاز لشخصية المعتدى عليه ومن تشبث بثقافته وهويته. ماذا يمكن أن نسمى - مثلاً - حالة الانكفاء الثقافي للمغلوب إلى منظوماته الثقافية الشعبية والتقليدية؟ إنها شكل من الممانعة الثقافية ضد الاستسلام، ومحاولة البحث عن نقطة توازن في مواجهة عصف التيار الثقافي الجارف. إنها محاولة للاحتماء من عملية اقتلاع كاسحة، وهى تبدو أحيانًا دفاعًا سلبيًا عن الثقافة الشعبية والوعي الجمعي، لكنها تظل - في نهاية المطاف - مظهرًا من مظاهر المقاومة الثقافية المشروعة، وإن كان من الواجب القول بأن معركتها مع العولمة الثقافية خاسرة في النهاية، إن لم تتحول إلى مقاومة إيجابية تتسلح بالأدوات عينها التي تحققت بها الجراحة الثقافية للعولمة ، كما أن مقاومتها للمتغيرات الجديدة والقيم الثقافية المكرسة والمُعَمَّمَة، الرسمية وغير الرسمية، يلزمها حماية ودعم يعيدان لها قدراتها على فرض الوجود، وتغيير موازين القوى الثقافية لصالحها. اهتمت اليونسكو بإرساء مجموعة كافية من الشروط والقواعد للسياسات الثقافية من أجل التنمية ، وللدفاع عن الحقوق الثقافية وحمايتها للجماعات والأفراد. وانتهت اليونسكو إلى أن مفهوم التراث الثقافي قد اتسع في السنوات الأخيرة، بسبب التحولات العالمية في تسعينيات القرن العشرين، وترجع الشعبية المتزايدة التي يتمتع بها التراث الثقافي والاجتماعي إلى وعى متزايد لدى الناس بثرائه وبنواحي ضعفه. لذلك، تتعاظم أهمية تطبيق الدول للتدابير التشريعية والإدارية والتقنية والمالية التي سبق تحديدها لحماية تراثها. ثم إن مجموعة المعايير التي أعدت اليونسكو نفسها جزءًا كبيرًا منها، لا تقتضى، على ما يبدو، تجديدًا جذريًا؛ بل إن المطلوب هو تطبيقها تطبيقًا جذريًا. فعلى سبيل المثال، يُلاحظ أن هناك حزمة من الشروط التي أهملت كثيرًا ولم تنل - بعد - حقها من الاحترام الواجب: المبادئ الإرشادية الأساسية المتعلقة بحصر التراث الثقافي، وتدريب الموظفين المؤهلين، وإدارة التراث والمأثور بصورة متكاملة. في المستطاع تأمل بعض فقرات الوثيقة المهمة التي أعدتها اللجنة العالمية المعنية بالثقافة والتنمية (منشورات اليونسكو، باريس 1996)، وطرحت على المؤتمر الدولي الحكومي للسياسات الثقافية من أجل التنمية (ستوكهولم، السويد، 30 مارس- 2 أبريل 1998) : 1- سيتعين على كل مجتمع أن يقيم طبيعة تراثه الثقافي والطبيعي، وظروف ضعفه، وسياسات جمعه وحفظه، بحسب معاييره الخاصة، وأن يحدد مجالات استغلالها، والصلات التي يود إقامتها فيما بينها. ولذلك، فمن الأهمية أن تشارك في عملية (التحديد الجغرافي للتراث) في كل بلد، جميع فئات المجتمع. وبالمثل، ينبغي ألا تقع مسؤولية توفير السبل للاضطلاع بهذا العمل على الهيئات المركزية للدولة فحسب، بل أيضًا، إن لم يكن ذلك في المقام الأول، على البلديات (المحليات) والجمعيات الأهلية، والمناطق (الأقاليم). وينبغي أن يكون الأسلوب المتبع في هذه العملية قائمًا على التجارب الراهنة والمعارف الجديدة؛ ذلك لأن الغرض لا يتمثل في الصون فحسب؛ بل أيضًا في إقامة صلات حكيمة بين الماضي والحاضر. 2- إن تلك الصلات بين كل هذه الأطراف ستزداد هشاشة - بلا شك - ما لم يكن هناك مدربون. لذا، ينبغي للأولوية الممنوحة لحصر التراث بالمعنى الواسع، أن تقترن بتدريب يشمل مجموعة كاملة من المهارات، ابتداءً من الجمع الميداني للمأثورات الشعبية، وانتهاء بتقنيات الصون العملية للتراث الشعبي، ذلك أن حماية المأثور وصون التراث لا يمكن أن يصبح حقيقة واقعة إلا بامتلاك التقنيات الميدانية والتكنولوجية والمعارف والدراية الفنية والدربة، التقليدية والمعاصرة في آن معًا. وإذا تسنى لهذا القدر الكبير من المأثور البقاء لهذه الفترة الطويلة، فإن ذلك يرجع إلى وجود أساليب تقليدية وطبيعية للحماية والصون سادت طوال قرون عدة في كثير من الثقافات. لكن، الآن، هل يمكن جمع هذه العناصر المترابطة في إطار رؤية سياسية واحدة، بحيث نقترب من الهدف الرئيسي المنشود، وهو ترسيخ عمليات الجمع والحماية والصون على المستوى المحلى، بحيث تصبح حقيقة علمية وعملية واقعة؟ 3- ينبغي التشديد بالقوة نفسها على إدارة المأثور الشعبي غير المادي، الذي لا يُراعى بالقدر الكافي في عملية وضع السياسات، وربما يرجع ذلك إلى أن المأثور الشفاهي واللغات (=اللهجات) ، وفنون الأداء التقليدية ، والمعارف الشعبية والعادات والتقاليد والمعتقدات، لاتزال تندرج في إطار الممارسات الحياتية اليومية، ولكن حتى متى؟ فهده العناصر مهددة، ولا تقدر هشاشتها، وضعفها، وحاجتها إلى الحماية، حق قدرها، ولاتزال السياسات أكثر تركيزًا على الآثار والمواقع التاريخية. ومن شأن برنامج اليونسكو، الذي أصبح يركز منذ فترة قريبة، خلال عقد التسعينيات، على المأثور والتراث غير المادي، أن يسعف هذا الوضع، كما ينبغي للأطر السياسية الوطنية أن تمهد السبيل إلى هذا الاتجاه، ويتعين، في هذا المجال أيضًا، على الحكومة ومعها المؤسسات الأهلية، أن تضطلع بمسؤولية توعية الجمهور، ذلك لأن الثقافة الشعبية غير المادية، بعناصرها التراثية والمأثورة، التي تجد جذورها في المجتمعات الريفية وغيرها، أصبحت نوعًا من اللغز يتعيَّن إيضاحه، أو مجموعة من المعارف الجزئية يتعيَّن تجميعها وتنظيمها. إن عملية تجميع كل هذه العناصر وانتظامها في نسيج علمي / ثقافي جديد يضفى مغزى على مستقبل الثقافة الشعبية، ومستقبل المَلَكَة الإبداعية التي تتمتع بها الجماعات الشعبية. 4- إذا أريد للثقافة الشعبية أن تنتقل من حالة التهميش إلى احتلال الصميم في عملية رسم السياسات، فلابد من تعبئة المتخصصين لبلوغ هذا الهدف، في مؤسسات توفير المنهجية اللازمة، وجملة من الحوافز المتعاونة، فالقطاع الأكاديمي كثيرًا ما تتوفر لديه الكفاءات في تطبيق الأطر المفهومية والمنهجيات، وقطاع المجتمع المحلى كثيرًا ما يمتلك المعارف المحلية اللازمة، في حين يمتلك القطاع الحكومي أكثر من غيره السلطات والموارد المطلوبة لتطبيق السياسات. 5- لا يمكن تنفيذ أية سياسة ثقافية، حتى وإن كانت أفضل السياسات إحاطة بواقع الحال، وأشدها تماسكًا وطموحًا، ما لم تتوافر عليها الأموال الكافية لذلك. كما لا يمكن تنفيذ هذه السياسة ما لم يُدرب باحثون أَكْـفَاء، فالتدريب أحد الشروط الرئيسة في سياسات الجمع الميداني وحماية الثقافة الشعبية ومأثوراتها وصون تراثها. كما لا يمكن إدارتها بالحكومة وحدها التي غالبًا ما تخصص معظم الميزانية المرصودة لقطاع الثقافة من أجل المدن الكبيرة، بينما يضعف الإنفاق على الأقاليم البعيدة عن مراكز السلطة. وهذه الأقاليم في الغالب الأعم هي الحاضنة للثقافة الشعبية. وبالتالي، فإنها حتمًا معرضة لعوامل التهديد دون حماية. 6- لقد أصبحت البلدان التي أدركت الأهمية الإستراتيجية لقضايا الثقافات الشعبية ودفع الذاتيات الثقافية إلى الازدهار وإدراجها في الحدث التنموي، تتمتع اليوم بوضع ممتاز على الصعيدين الاقتصادي والثقافي، بينما أصبحت البلدان التي أهملت هذه الأمور تواجه خيارين أحلاهما مر: فإما أن تخضع لفيض من المنتجات والمضامين الثقافية الأجنبية - الأمر الذي يستتبع دفع ضرائب باهظة، فضلاً عن الشعور المرير بالخطر المحدق بذاتيتها الثقافية - وإما أن تسلك سبيل الحماية باللجوء إلى الانغلاق. لذا، فإن تأسيس مجال وطني للمنتجات الثقافية السمعية والبصرية قائمة على اكتشاف جوانب الثقافة الشعبية، يمثل تجربة واعدة في مجال صون ملامح ثقافية تتصف بالخصوصية. مع الاحتراز كثيرًا، فقد أصبحت الثقافة الشعبية - في كثير من البلدان- تشكل عنصرًا أساسيًا من عناصر الثقافة الجماهيرية، حيث تستخدم التقاليد وكل ما يخص المأثور الثقافي على نحو بات، في نظر الكثير، ألعوبة تستغل لأغراض تجارية؛ أي تحويل الأصول الثقافية إلى سلع، وإذا كانت السوق العالمية تدعى توفير فرص جديدة لحماية المأثور وإحياء التراث ومشاطرة الثقافة الشعبية، فهي تقترن أيضًا بمجموعة من الأخطار والمحاذير، لكنها أخطار يمكن التخفيف منها، إذا ما أمكن ترجيح المصلحة العامة على المصلحة الخاصة. 7- يشكل إدراج النشاط الإبداعي الشعبي في تحسين العلاقات الاجتماعية مسألة رئيسية، فقد ظلت أشكال كثيرة للتعبير الشعبي تستخدم في البرامج الإنمائية من أجل تعزيز هوية الجماعة وترسيخ الشعور بالانتماء إليها، ومن أجل التوعية بالظلم الاجتماعي وغيره من الإشكالات. واليوم، إذا أصبحت قوى الاستبعاد واللاتسامح تتنامى من جديد، صار النشاط الإبداعي أكثر أهمية من أي وقت مضى، إذا ما أردنا للأفراد والجماعات أن يعيدوا تشكيل أنماط عيشهم معا, وأن ينشدوا صيغة جديدة في المعاشرة، على المستويين المحلى والعالمي، وذلك كشكل للاستجابة لتحدٍّ كبير يتمثل في تحقيق تنمية بشرية مُستدامة للقرن الحادي والعشرين. 8- إن التعددية الثقافية ليست بالأمر الجديد على عصرنا، إذ إن هناك مجتمعات كثيرة تتكون، منذ وقت طويل، من جماعات ثقافية مختلفة، وقد وجد كل منها طريقه الخاص لممارسة التنوع، بل إن طابع التعددية قد ازداد في الثقافة المعاصرة التي أصبحت تتصف ببعض السمات الفريدة التي تميزها عن ثقافات مجتمعات الفترة ما قبل الحديثة. كما أن هذه التعددية هي واقع معيش في ظل تزايد العولمة الاقتصادية والثقافية التي تؤدى إلى التماثل في مجالات عدة من ناحية، وإلى تزايد الوعي بالطابع من ناحية أخرى، غير أن التعددية الثقافية تستثير المخاوف بشأن فقدان الهوية، وتدفع إلى إعادة اكتشاف أو إبداع تقاليد ذاتية تؤكد الشعور بالاختلاف الثقافي، مع إضفاء صبغة المشروعية على هذا الشعور. ومع ذلك، فإن لكل مجتمع اختلافاته الثقافية، ليس على الصعيد الإثنيّ فحسب؛ بل كذلك على صعيد العلاقات بين الجنسين، واعتبارات السن، والمعتقدات الدينية، وتقاليد الفئات المهنية والاجتماعية، وغير ذلك من المجالات. ولقد عالجت بعض الدول هذه القضايا بتطبيق سياسات صريحة للتعددية الثقافية، بينما هناك دول أخرى تعالج هذه القضايا باعتماد مواقف تقوم على الاستيعاب الثقافي الذي يكاد لا يترك مجالاً للحفاظ على ممارسات ثقافية متميزة. إن معظم مجتمعات اليوم القوية تواجه ضرورة التوفيق بين مستلزمات الوحدة والتنوع بأساليب ملموسة في إطار الحياة اليومية، فبدون توافر الوحدة، لا يمكن لهذه المجتمعات أن تبقى متماسكة، وأن تتخذ وتنفذ قرارات ملزمة للجميع، ولا بد أن يتولد فيها الشعور بالانتماء إلى جماعة واحدة. أما التنوع، فلا يجب النظر إليه بوصفه أمرًا مفروضًا لا مفر منه؛ وإنما بوصفه عامل إثراء في مجال الوحدة. 6. هوامش على معارف أهل الريف على مدار ثماني سنوات (1996-2004) من العمل الميداني في القرى الجنوبية لمحافظة أسيوط (وكان الهدف اللحاق بمن تبقى من رواة السيرة الهلالية في محافظة أسيوط)، قمت بتدوين قائمة من الملاحظات حول قضايا اجتماعية، من خلال ما تضمنته نصوص السيرة الهلالية من موضوعات، أو ما أشار إليه الرواة أو الجمهور، أو ما لاحظته من منظومة الرموز المحيطة. وفي سياقات مناسبة، كنت أحاول الربط بين هذه القضايا والحدث الشفاهي للسيرة، فلاحظت تفاعل الجمهور وحماسه لإبداء وجهة نظرهم في مختلف هذه القضايا، وبالفعل دارت مناقشات طويلة ومتقطعة. انطوت على عدد من الأفكار والتحليلات حول التنمية الريفية – كما هي مطبقة في القرية – والتعليم، وتعليم الكبار، والتسرب، وقضايا المرأة، والمشاركة السياسية، ومشكلات الزراعة، والاحتياجات الحقيقية للقرية، وكيفية مواجهة الظروف المعيشية الصعبة. عبر هذه المصادفة المثيرة، أدركت أهمية العمل الميداني لجمع المأثورات الشعبية في الولوج إلى القضايا المحلية الدقيقة والعميقة والتفصيلية، واكتشفت أن احتواء النصوص الشفاهية (نصوص السيرة والموال والحواديت والأغاني والأمثال) على وجهات نظر رمزية تتصل بالمجتمع وقضاياه يمثل مفتاحًا سحريًا للأبواب الموصودة في ذاكرة الرواة وذاكرة الجمهور والأطراف المحلية على السواء، حيث تتحقق فرصة الكلام بقلوب مفتوحة في الموضوعات المثارة، وفي سرد طرائق المجتمع في التعامل مع المشكلات الأساسية في حياته اليومية، ومعرفة خبرات الأفراد... إلخ. كما انتبهت إلى أهمية جمع السياق الشفاهي، أو وصف السياق الاجتماعي، الذي يعيش فيه النص الشعبي. لقد مثَّلت هذه التجربة نافذة على كنز معرفي كبير، يبدو أنه تجوهل من قبل الباحثين والخبراء، وبدا لي أن النخبة لا تعلم أن الفقراء هم خبراء الفقر، وخبراء المجال الاجتماعي الذي يعيشون فيه، وأن الفلاحين هم خبراء الزراعة، وخبراء المجال الريفي بكل قطاعاته ومفرداته. وأن أفراد المجتمع المحلي هم المصدر الرئيس – إن لم يكن الوحيد - لمعرفة طبيعة هذا المجتمع. في لقاء انعقد بمنزل الراوي يوسف أحمد يوسف بمدينة البداري (شتاء 1998)، يعلق أحد الجالسين على دور السيرة الهلالية وقيمتها في حياة الناس، ثم ينتقل فجأة إلى الحديث عن المادة الإعلامية التليفزيونية، حيث ينظر إلى الباحث الميداني باعتباره وسيطًا بين الناس ومسؤولي الإعلام، قائلاً: "هيَّ أغلب البداري حَدَانَا هِِنَاهُوَّ بتحب ابو زيد، سيرة ابو زيد. ليه... لأن سيرة ابو زيد فيها الشجاعه، ويا ريت النهاردا إحنا الدولة شغتنا تبص لعملية الشجاعة والإنسانية والزوق، إنما أغلب حاليًا دلقيتي بلامؤاخذه بيدوبولنا حادات للشباب في التِلِيفِزْيُونَاتْ والراديويَّات، حديت مالهش أي معنى. وبنسمع حادات مش مصريه، اللي هي مش الصيغه المصريه، مفروض إنه يكون فيه رقابه شِدِيدِه، وأنا بتكلم بأعلى صوتي إن فيه حادات بيديبوها في التَلَفَزْيُونْ من غير رقابه. المفروض ما نمسلش إحنا الأدانب، ما نمسلش الأدانب، إحنا دوله عربيه. ونردو من الله، نردو من الله، واكررها تاني وتاني وتاني، بَقُول إنِّ يكون على التليفزيون رقابه قويه عن دميع الأفلام اللي هي مش طبيعة العَرَب. ولو عايزين تِقَلِّدو الغرب، قُلْ لُهُم يقطعو الإرسال من الدِّيْزَه ومْقَبّلْ، إفصل خالص التلفزيون من الديزه ومقبل، وخد انت حقك وادينا حقنا". ذلك لأن الإرسال التليفزيوني لا يعبر عن ثقافتهم وقيمهم، ولا يحقق لهم المطالب الجمالية والرمزية. بل يطرح الرجل البدائل الفنية والثقافية التي كان ينبغي على هذا الوسيط الجماهيري المهم أن يتبناها، كما يرى أن الأمر أكثر سوءًا في حالة القناة المرئية المحلية. منذ هذه اللحظة، بدأت أفكر مليًّا في معنى القيم الرمزية للجماعة الاجتماعية. فبالرغم من أن جانبًا من جوانب الإعلام المرئي يعد تخليدًا لقيم الصوت البشري، بل يمثل ثأرًا للصوت من القرون التي رزحت فيها المجتمعات الإنسانية تحت نير الكتابة، ويشكل نزوعًا بشريًا لاستعادة حق الكلام ، فإن الشأن ليس في الصوت (الخام) نفسه، وإنما في القيم التي يحملها هذا الصوت، فهي التي تعكس بصورة واضحة المحيط الطبيعي والاجتماعي للقوم الذين يتكلمونها. كان طبيعيًا أن أسجل واحدًا من أهم نتائج عملي الميداني في جمع السيرة الهلالية من أسيوط، والمتمثلة في ضرورة المعاينة الميدانية لمعارف أهل الريف، تلك المعارف التي توصف، في مضمار البحث الأنثروبولوجي والسوسيولوجي، بأنها علوم شعبية، وأيكولوجية شعبية، أو علوم القرية، أو المعارف الريفية الشعبية. وتنطوي هذه العلوم والمعارف على قطاعات معرفية ومفهومية واصطلاحية محلية في مختلف مجالات المحيط الريفي: التربة، الزراعة، النبات، الحيوانات، الآفات، الحشائش، الفصول، المناخ، المقاييس والمعايير، الألوان، العلاقات الاجتماعية والاحتفالات، أوقات الفراغ، أسماء الأشياء وأوصافها وتفسير معانيها، المعرفة المتصلة بالمفاهيم والأدوار (الفقر، العمل، البطالة، التعليم، العلم، الجهل، السياسة، الإنجاب، تحديد النسل، دور المرأة، دور الجمعيات، دور الحكم المحلي، دور القادة المحليين، المدرسة، المسجد... إلخ). من الملاحظات التي أثارت انتباهي أن المناقشة المباشرة في هذا الموضوع ليست مجدية غالبًا، فالقرويون لا يستقبلون الأسئلة المباشرة على نحو جيد، ولا يتحمسون كثيرًا للمناقشة التي تقوم على أسلوب الاستبيان المقنن، والأسئلة المنظمة دون مبرر مقنع، وغالبًا ما يتوجسون من الممارس الميداني الذي يلتزم بهذه المنهجية، إن حيوية النقاش تتوقف على وجود سياق طبيعي، وأتصور أن جمع المأثورات الأدبية الشفاهية يمثل وسيطًا ذهبيًا بين الباحث والرواة والجمهور المحلي، ومسوغًا طبيعيًا لمناقشة مفتوحة تتيح حرية تداعي الأفكار، وسرد الخبرات والمعارف والمواقف لدى الفئات والشرائح الاجتماعية المتنوعة في المجتمع الريفي. ولذلك، لا أنصح باستخدام أساليب الاستبيان، وإلقاء الأسئلة المنظمة على الرواة، أو على أفراد ومجموعات تنتمي إلى المجتمع المحلي في القرية، فهذه الأساليب لا تلائم السياق الاجتماعي والثقافي، والطبيعة السيكولوجية والذهنية لأفراد المجتمعات المحلية القروية. في الوقت نفسه، يمكن الاعتماد على الدراسات الميدانية السابقة، وعلى أدلة العمل الميداني التي تحتوي على مئات الأسئلة والتفاصيل، باعتبارها منظومة من التوجيهات الإرشادية للباحثين والجامعين، أي باعتبارها مادة تدريبية تكسبهم المهارات المعرفية اللازمة في العمل الميداني . قبل أن نغادر هذه النقطة، ثمة مشكلة تتعلق بعمل الباحثين والجامعين في الميدان، حيث يجد الممارس الميداني نفسه في داخل شبكة العلاقات المعقدة في المجتمع المحلي، ومن ثم، سيكون محطًّا لمجموعة من الالتزامات والتوقعات التي سيكون من الصعب معالجتها، أو التعامل معها، خاصة إذا كانت غير ملائمة لطبيعة دوره، أو إمكاناته الذاتية، مما قد يتسبب في فوضى، واستجابات غير مناسبة، ومواقف صعبة، من شأنها أن تعوق سير العمل كما ينبغي، أو كما هو مخطط له. استنادًا إلى الخبرة الميدانية أيضًا، يتعين على الممارس الميداني أن يتمتع – قبل كل شيء - بقدر كاف من الصفات والمهارات الطبيعية والمكتسبة، على السواء، مثل القبول، وحسن التصرف، والصدق، وسرعة البديهة، والصبر، والتحمل، والإقناع، وهي خصائص يجب أن يتسم بها أي ميداني، خاصة في مجال جمع المأثورات الشعبية. ولكي يتعامل الميدانيون مع هذه الشبكة من العلاقات، التي لا مناص من الانخراط فيها، لابد أن تكون لديهم معلومات أساسية عن الميدان المستهدف، قبل أن يستهلوا عملهم، ثم عليهم أن يحددوا نماذج السلوك الملائمة لهم، وللآخرين. وأن يكونوا ملمين بالبدائل، والاختيارات المتاحة، وبالوسائل والأساليب، المناسبة للتعامل مع الرواة، وأفراد المجتمع، وأن يهتدوا إلى أدلة بشرية، تنتمي إلى القرية نفسها، وتتمتع بالمعرفة المحلية، والحكمة، واحترام الأهالي. 7. على سبيل الختام في صدارة أولويات إعادة البناء والإصلاح مطالب معرفية حيوية، لعلنا نكتفي بثلاثة رئيسية: تنمية التوجه العلمي النظري والتطبيقي والميداني على السواء؛ تمرين الذات على ممارسة النقد والمراجعة؛ بناء علاقة متوازنة بين الأنا والآخر. والإصلاح الثقافي الذي نحتاج إليه هو ذلك الذي يعتمد على التجديد من الداخل، باستراتيجية التنوير الموضوعي من قلب الثقافة الوطنية، وليس التنوير الفوقي، وهو يقوم على مهمة مزدوجة: أولاً: مهمة جماعة المثقفين التي عليها أن تعيد النظر في منظومة الثقافة الوافدة، وأن تصفيها من محمولاتها الإيديولوجية، وأن تعيد اكتشاف ما تكتنز به الثقافة الشعبية من قيم رمزية، وصولاً إلى رؤية تصلح لتأسيس نظام ثقافي جديد غير مغترب عن العصر. وثانيًا: مهمة الدولة في إنجاز مشروع التعليم العام والمجاني لكل أبناء الشعب، وتجديد مضمونه وبرامجه، وإنجاز الثورة العلمية والتقانية على نحو ما فعلت اليابان دون أن تعرض خصوصيتها للمسخ. وأتصور أنه بات من الأهمية بمكان أن يُعاد للثقافة الشعبية وللخيال الشعبي حضورهما في عملية رسم السياسات الإصلاحية. وهناك دائمًا فرص ذهبية أمام النخب للاقتراب من تشخيص معضلات المجتمع في النمو والتقدم، وللإفلات من طريق الإصلاح المستقيم، الذي يرسمه النظام العالمي المهيمن. ولقد بات ممكنًا الآن أن نسلك طريق الغابة والصحراء والجبال والأنهار والطبيعة؛ طريق الجنوب العالمي والشرق المكتنز بالحكمة وبالرموز التي صنعها الإنسان عبر آلاف السنين، وأن نتجاوز الخطاب الناعم الذي تطرحه العولمة لنفسها وعن نفسها، لكي تلتهم الكوكب البشري الإنساني، بأفواه القوى الكبرى في العالم، وأن نعيد النظر إلى العولمة باعتبارها سيرورة فعلية تتناقض مصالحها مع مصالح غالبية مجتمعات العالم، وأن نمتلك فرصة اكتشاف أوهامها وإحصائيات مؤسساتها. ثمة أمل في أن تعود مصر إلى روح "باندونج"، وأن تبادر بتعبيد الطريق إلى حوار حضاري بنَّاء بين الدوائر الثقافية المشتركة: العربية، والإفريقية، والمتوسطية، والإسلامية، والآسيوية، ودول أمريكا اللاتينية)، من أجل تحالف كوني مضاد للهيمنة، وفرض منطق أحادي للإصلاح والتقدم، في محاولة لإسهام مصري فاعل، في كسر أية محاولة لالتهام كوكب الإنسان، وانتهاب ثقافات شعوبه.
الهوامش
- لمراجعة الأصول الغربية لمفهوم المجتمع المدني، انظر على سبيل المثال: ?أ. مجموعة باحثين، المجتمع المدني في الوطن العربي ودوره في تحقيق الديمقراطية، مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت، 1992 (انظر: سعيد بنسعيد العلوي، نشأة وتطور مفهوم المجتمع المدني في الفكر الغربي الحديث، ص ص 41 - 65). ?ب. المرجع نفسه (انظر: عبد الباقي الهرماسي، المجتمع المدني والدولة في الممارسات السياسية الغربية من القرن التاسع عشر إلى اليوم: دراسة مقارنة، ص ص 91 – 102). - سليمان العسكري، عزيزي القارئ، الثقافة العالمية (الكويت)، العدد 86، يناير 1998، ص 3. - أمينة رشيد (محررًا)، جرامشي وقضايا المجتمع المدني، مركز البحوث العربية (القاهرة)، مؤسسة عيبال للدراسات والنشر (نيقوسيا)، الطبعة الأولى، 1991، (انظر: عبد القادر الزغل، مفهوم المجتمع المدني والتحول نحو التعددية الحزبية، ص 136). - كريشان كومار، حول مصطلح المجتمع المدني، ترجمة: عدنان جرجس، الثقافة العالمية (الكويت)، العدد 7، يوليو – أغسطس 2001، ص 36. - الزغل، مرجع سبق ذكره، ص 136. - كومار، مرجع سبق ذكره، ص 44. - محمد السيد سعيد، انهيار أسطورة المجتمع المدني، أحوال مصرية (القاهرة)، السنة الثالثة، العدد التاسع، صيف 2000، ص ص 5-11. - كومار، مرجع سبق ذكره، ص 44. - مايكل فولي، بوب إدرارد، مفارقات المجتمع المدني، ترجمة: محمد أحمد إسماعيل علي، الثقافة العالمية (الكويت)، العدد 86، يناير 1998، ص 6. - الزغل، مفهوم المجتمع المدني...، مرجع سبق ذكره، ص 136. و: الزغل: المجتمع المدني والصراع من أجل الهيمنة الأيديولوجية في المغرب العربي، ضمن كتاب: المجتمع المدني في الوطن العربي، مرجع سبق ذكره، ص ص 164 – 176. - الطاهر لبيب، جرامشي في الفكر العربي، في كتاب: جرامشي...، مرجع سبق ذكره، ص ص 164 – 176. - انظر: أحمد بوقري، المجتمع المدني في الكتابة السياسية العربية المعاصرة، النص الجديد (نيقوسيا)، العدد التاسع والعاشر، يونيو، 2000، ص 84. - انظر نموذجًا للجمعيات الأهلية المغربية، في: محمد حسن عبد الحافظ، ملتقى الشباب العربي: محاولة في إنتاج بدائل معرفية جديدة، إبداع (القاهرة)، العدد الحادي عشر، نوفمبر 2000، ص 159. - نقلاً عن بوقري، مرجع سبق ذكره، ص 84-85. - راجع نماذج من هذه الدراسات، في: ?أ. مجموعة باحثين، المجتمع المدني والصراع الاجتماعي، مركز الدراسات والمعلومات القانونية لحقوق الإنسان، القاهرة، القاهرة، 1997. ?ب. مجموعة باحثين، المجتمع المدني والصراع الاجتماعي، مرجع سبق ذكره. - الهرماسي، مرجع سبق ذكره، ص 102. - تركي الحمد، نظرات في المجتمع المدني، النص الجديد (نيقوسيا)، العدد التاسع والعاشر، يونيو، 2000، ص 16 – 18. - لمزيد من التفاصيل حول دور المنظمات غير الحكومية في المجتمع المدني، انظر: ?أ. أماني قنديل، المجتمع المدني في مصر في مطلع ألفية جديدة، مركز الدراسات السياسية والاستراتيجية، القاهرة، 2000. ?ب. عمر القراي، دور المجتمع المدني في دعم الحقوق الاقتصادية والاجتماعية، رواق عربي (القاهرة)، العدد الثاني، أبريل 1996، ص ص 51 – 58. - مجموعة باحثين، المجتمع المدني في الوطن العربي، مرجع سبق ذكره، (انظر: عبد الله عساف، المجتمع المدني في الفكر الحقوقي العربي، ص 244). - عبد الإله بلقزيز، في البدء كانت الثقافة، نحو وعي عربي متجدد بالمسألة الثقافية، أفريقيا للشرق، الدار البيضاء/ بيروت، 1998، ص 45. - المرجع نفسه، ص 46. - راجع: ?أ. مجموعة باحثين، ثقافة الطفل بين التغريب والأصالة، منشورات المجلس القومي للثقافة العربية، الرباط، 1998، (انظر: مصطفى حجازي، مفهوم الثقافة: خصائصها ووظائفها، ضمن كتاب: ص 27). ?ب. فاوبار محمد، في الثقافة الشعبية والحدث الاجتماعي، الفكر العربي (بيروت)، شتاء 1997، ص ص 84-88. - بلقزيز، في البدء كانت الثقافة، مرجع سبق ذكره، ص 91. - بلقزيز، القومية والعلمانية: الإيديولوجيا والتاريخ، دار الكلام، الرباط، 1989، ص 9. - بلقزيز، في البدء كانت الثقافة، مرجع سبق ذكره، ص 92. - المرجع نفسه، ص 46-47. - بسام بركة، الحدث الاجتماعي وذاكرة الشعوب، الفكر العربي (بيروت)، 1997، ص 71. - حول هذا الموضوع، راجع: د. محمد أركون، تاريخية الفكر العربي الإسلامي، مركز الإنماء القومي، بيروت، 1986. - بلقزيز، في البدء كانت الثقافة، مرجع سبق ذكره، ص 47. - زومتور، خلود الصوت، رسالة اليونسكو (القاهرة)، العدد 291، أغسطس1985، ص 4. - محسن مرزوق (محررًا)، فضاءات أهلية،، منظمة ألتايير، تونس، 1998، (انظر: سمير أمين، نحو نظرية للثقافة غير أوروبية التمركز، ص ص 143 - 145). - راجع: بلقزيز، أسئلة الفكر العربي المعاصر، دار الحوار للنشر والتوزيع، اللاذقية، 2001، ص 46. - رضوان السيد وعبد الإله بلقزيز، أزمة الفكر السياسي العربي، دار الفكر، دمشق، 2000، ص 82-83. - حول مسألة التبعية الذهنية، راجع: سيد البحراوي، التبعية الذهنية في النقد العربي الحديث، أدب ونقد (القاهرة)، أبريل 1994. - السيد وبلقزيز، مرجع سبق ذكره، ص 83-84. - روبرت تشامبرز، التنمية الريفية: وضع الأواخر أوائل، ترجمة: محجوب عمر، دلمون للنشر، نيقوسيا، 19990، ص ص 23-25. - مجيد رهناما، نحو رؤى جديدة: الحاجة إلى نماذج جديدة وإلى لغة جديدة، ورقة مقدمة إلى الدورة التدريبية المعنونة بـ "إشكاليات العولمة وثقافات الجنوب"، منظمة ألتايير (تونس)، منظمة إندا (المغرب)، الرباط، نوفمبر 1999. - عبد الحافظ، محتوى الشكل في الرواية المصرية؛ علاء الديب نموذجًا، فصول (القاهرة)، العدد 59، ربيع 3002، ص 286. - تشامبرز، مرجع سبق ذكره، 23. - رهناما، مرجع سبق ذكره. - المرجع نفسه. - جيرمي سيبروك، ضحايا التنمية: المقاومة والبدائل، ترجمة: فخري لبيب، المجلس الأعلى للثقافة، القاهرة، 2000، ص 11. - راجع: تشامبرز، مرجع سبق ذكره، ص 70. - سيبروك، مرجع سبق ذكره، ص 12. - إبراهيم العيسوي، التنمية في عالم متغير: دراسة في مفهوم التنمية ومؤشراتها، منتدى العالم الثالث، دار الشروق، القاهرة، 2000، ص 35، 36. - عبد الباسط عبد المعطي، توزيع الفقر في الثقافة المصرية، دار الثقافة الجديدة، القاهرة، 1979. - راجع: ?أ. جون لويس بوركهارت، العادات والتقاليد الشعبية من خلال الأمثال الشعبية في عهد محمد علي، ترجمة: إبراهيم أحمد شعلان، سلسلة الألف كتاب الثاني، الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة، 2000. ?ب. محمد سعيد أحمد زيدان، المثال الشارح: مدخل لتعليم التفلسف، سفير للإعلام والنشر، القاهرة، 2000. - فضاءات أهلية، مرجع سبق ذكره، (انظر: حسن زوال، الاقتصاد الجديد للأقاليم: منهجية التحليل بالمواقف، ص ص 240 - 287). - رهناما، مرجع سبق ذكره. - المرجع نفسه. - راجع: ?أ. جرامشي...، مرجع سبق ذكره (انظر: فيصل دراج، الثقافة الشعبية في سياسة جرامشي، ص ص 204-221). ?ب. عصام فوزي، آليات الهيمنة والمقاومة في الخطاب الشعبي، المرجع نفسه، ص ص 240-355. - بلقزيز، العولمة والممانعة، منشورات رمسيس، الرباط، 1996، ص 66. - لمزيد من التفاصيل حول جهود منظمة اليونسكو - منذ خمسينيات القرن العشرين – في مضمار حماية المأثورات الشعبية من فيض التقدم التكنولوجي، وربطها بعمليات التنمية في العالم الثالث، راجع: رشدي صالح، الفولكلور والتنمية، عالم الفكر (الكويت)، يناير– فبراير- مارس 1967، ص ص 9 – 37. - منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلم والثقافة (اليونسكو)، المؤتمر الدولي الحكومي للسياسات الثقافية من أجل التنمية، ستكهولهم، 30 مارس – 2 أبريل 1998. - لمزيد من التفاصيل حول قضايا الألسنة واللهجات، راجع: كليفورد فايل، اللغات الوطنية والذاتية الثقافية، رسالة اليونسكو (طبعة القاهرة)، يوليو 1983، ص 6-7. - حول فنون الأداء الشعبية، راجع: ?أ. محمد حافظ دياب، إبداعية الأداء في السيرة الشعبية، سلسلة مكتبة الدراسات الشعبية، الهيئة العامة لقصور الثقافة، القاهرة، 1996. ?ب. عبد الحافظ، سيرة بني هلال في محافظة أسيوط؛ دراسة ميدانية، رسالة ماجستير مخطوطة، قسم اللغة العربية، كلية الآداب، جامعة القاهرة، 2004. - زومتور، خلود الصوت، مرجع سبق ذكره، ص 8. - انظر المراجع الأساسية في هذا المضمار: ?أ. محمد الجوهري (وآخرون)، الدراسة العلمية للمعتقدات الشعبية، دار الكتاب للتوزيع، القاهرة، 1978. ?ب. يان فانسينا، المأثورات الشفاهية، ترجمة وتقديم: أحمد علي مرسي، دار الثقافة، القاهرة، 1991. ?ج. زينب شاهين، الإثنومثيودولوجيا: رؤية جديدة لدراسة المجتمع، مركز التنمية البشرية والمعلومات، القاهرة، 1987. ?د. ديفيد هينج، التاريخ الشفهي، ترجمة: ميلاد المقرحي، مركز دراسة جهاد الليبيين ضد الغزو الإيطالي، طرابلس، 19991. هـ. محمد حافظ دياب، إبداعية الأداء في السيرة الشعبية، الجزء الثاني، الهيئة العامة لقصور الثقافة، القاهرة، 1996.
#محمد_حسن_عبد_الحافظ (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
حرية الشفاهي ؛ حرية المكتوب
المزيد.....
-
الأمن الأردني يعلن مقتل مطلق النار في منطقة الرابية بعمان
-
ارتفاع ضحايا الغارات الإسرائيلية على لبنان وإطلاق مسيّرة بات
...
-
إغلاق الطرق المؤدية للسفارة الإسرائيلية بعمّان بعد إطلاق نار
...
-
قمة المناخ -كوب29-.. اتفاق بـ 300 مليار دولار وسط انتقادات
-
دوي طلقات قرب سفارة إسرائيل في عمان.. والأمن الأردني يطوق مح
...
-
كوب 29.. التوصل إلى اتفاق بقيمة 300 مليار دولار لمواجهة تداع
...
-
-كوب 29-.. تخصيص 300 مليار دولار سنويا للدول الفقيرة لمواجهة
...
-
مدفيديف: لم نخطط لزيادة طويلة الأجل في الإنفاق العسكري في ظل
...
-
القوات الروسية تشن هجوما على بلدة رازدولنوي في جمهورية دونيت
...
-
الخارجية: روسيا لن تضع عراقيل أمام حذف -طالبان- من قائمة الت
...
المزيد.....
-
المجلد الثامن عشر - دراسات ومقالات - منشورة عام 2021
/ غازي الصوراني
-
المجلد السابع عشر - دراسات ومقالات- منشورة عام 2020
/ غازي الصوراني
-
المجلد السادس عشر " دراسات ومقالات" منشورة بين عامي 2015 و
...
/ غازي الصوراني
-
دراسات ومقالات في الفكر والسياسة والاقتصاد والمجتمع - المجلد
...
/ غازي الصوراني
-
تداخل الاجناس الأدبية في رواية قهوة سادة للكاتب السيد حافظ
/ غنية ولهي- - - سمية حملاوي
-
دراسة تحليلية نقدية لأزمة منظمة التحرير الفلسطينية
/ سعيد الوجاني
-
، كتاب مذكرات السيد حافظ بين عبقرية الإبداع وتهميش الواقع ال
...
/ ياسر جابر الجمَّال
-
الجماعة السياسية- في بناء أو تأسيس جماعة سياسية
/ خالد فارس
-
دفاعاً عن النظرية الماركسية - الجزء الثاني
/ فلاح أمين الرهيمي
-
.سياسة الأزمة : حوارات وتأملات في سياسات تونسية .
/ فريد العليبي .
المزيد.....
|