أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع - ليث العبدويس - ذَبحَةٌ أَبَويّة














المزيد.....

ذَبحَةٌ أَبَويّة


ليث العبدويس

الحوار المتمدن-العدد: 3924 - 2012 / 11 / 27 - 21:12
المحور: الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
    


راحَ يَخُبُّ قُربيَ مُتقافِزاً كَعُصفورٍ مُستَثار، كَهُندُباء طوّحَتْ بِها الريحُ فَطافَتْ حُرّةً في نسيم الأصيل المُحمَر، رَميتُ بالصَحيفَةِ جانِباً كيما أُطلِقَ لِذِراعيّ السَراحَ لِتُطوّقانِ ذلكَ الكائِن الضاجّ تلقائيّة وَمُشاكَسة، رَفَعَ غُرّة شَعرِه الكُستَنائي لِتُشرِق أمامَ خَريفِ تَجاعيدي تِلك العُيون الاستوائيّة.
غَرَقتُ للحظتينِ في مُقلَتينِ كَبِركَتينِ مِنْ عَسَل، نَثَرَ في حِجْري عُلبَةَ ألوانِهِ وألعابِهِ كما تَنثُرُ شَجَرَةُ قيقَبٍ أوراقَها القُرمُزيّة، بارتِعاشِ البَلابُل المُبتَلّة، ثُمَّ شَحَنَ سِلاحَ براءَتَهُ بِتلكَ الذَخيرةِ الشَديدةِ التَعبير مُطلِقاً نَحوَ أسايَ ابتِسامَةً مِن ذلكَ النوعِ الذي لا قِبلَ لإنسانٍ بِهِ، فَكيفَ بأبْ؟ مَنْ مِنّا شعرَ يوماً انَّ ضِفَتيّ العُمُرِ تُجَسِرهُما ابتِسامة، مُجرّدُ ابتِسامة؟ وأنَّ رِحلَةَ الحياةِ قد تُوجَزُ في لِقاءٍ كَهرَبَتهُ عاطِفةٌ سامية؟
خَطَفَ قِطعةَ سُكّرٍ اَضَعُها عامِداً خارِجَ طَبقِ الشاي، مودِعاً ايّاها فَمَهُ الدَقيق، سَرقَها تارِكاً لي فُتاتَ المَرارةِ وشيئاً مِنْ شَذاهُ وَنذيراً بِذَبحَةٍ أَبويّة، ثُمّ اختَفى مُتقافِزاً كَغَزالٍ مَذعورٍ خَلفَ مَرجٍ صَغير لِتتلاشى مَعَهُ بُقعَةُ ضوءٍ حَدّدتْ مُنذُ انبلاجِها آخِرَ مَجال لِرؤيَتي مُعلِنةً أن كُلُّ ما عَداها لَم يَزِدْ عَنْ كَونِهِ مَحضَ زاويةٍ عَمياءَ موحِشة.
تأملتُ دُميَتَهُ الأثيرة، مَرّ زَمَنٌ كان فيهِ امتلاكُ دُميَةٍ ضَرباً مِنْ التَرَفِ، ولكن هل عَرَفَ أبي قَبلَ رَحيلِهِ أني لَمْ أكُن بِحاجَةٍ لِدُماهُ بَل لِدفءِ قُربي مِنْ يَداه؟ ولو قُدّر للدُميَةِ البَكماء أن تَنطُقَ لقالت: وَهل أنتُم سوى دُمىً وَعرائِسَ على مَسرَحِ الحَياة؟
يكتَشِفُ المَرءُ وَهوَ في الهَزيعِ الأخيرِ مِنْ حَياتِهِ وَنِهاية الذؤابَة الأخيرة مِنْ خيطِ العُمُرِ أنّهُ كانَ باستِمرار يَضحَكُ على ذِقنهِ إذْ ادّعى أنهُ يُمسِكُ بِتلابيبِ أولادِه، فالحَقُّ أن أطفالَنا يقبِضونَ على أخطرِ تَجمُعاتِ أعصابِنا، يُقيمونَ على أنقاضِ حيواتِنا جُمهوريّاتٍ يُنفى إليها كُلُّ الآباءِ الطَيبين، وهُناكَ على ناصيَتِها يَخطِفونَ رَحيقَ كُلّ السِنين ويرتَهنوننا عِندَ بواباتِهِم نَتسوّلُ مِنهُم رِضانا نَحنُ عَن ذَواتِنا، نَدفَعُ فِديَةَ عِتقِنا فادِحَةً جَسيمَة، فأي غَبيّ يُنجِبُ قَلَقَهُ السَرمَديّ الخاص؟
وأيُّ أبلَهٍ تُراهُ بِطيبٍ خاطِرٍ يُرَبّي في كَنَفِهِ جَيشاً مِنْ الهُمومِ؟ ليسَ سِوى الأنسانُ نَفسَه، أنا وأنتَ وَكُلُّ المَجانينِ والمَعتوهينَ ممنْ لا يَملِكونَ قِرشاً صَفيقاً أبيَضاً، وَمَنْ غيرُنا مِمنْ نَنتَعِلُ أحذيةً مَثقوبَةً ونعتَمِرُ قُبعاتٍ مَخرومَةً ونَتجلبَبُ بِمِعطَفٍ رَثّ تُعَشعِشُ في أديمِهِ البالي براغيثُ العَوَزِ وتَنفُرُ مِنهُ جُيوبٌ خاويةٌ تَصفِرُ فيها رياحُ كانونَ مُتأبِطينَ روايَةً تَنقُمُ على مائةِ عامٍ وعامٍ مِنَ العُزلَة، ثُمَّ في لَحظةِ استجابَةٍ لِفِطرةِ البَقاءِ قَرّرنا أن نُضيفَ للعالَمِ بَصْمَتَنا الحَيّة، أو لِنَقُل على سَبيلِ التَقريبِ ذلكَ القَرَفُ الصاخِبُ الجَميل.
هُم على ضَعفِهِم يَكتَنِزونَ خَلف جُلودِهِمُ الرَقيقةَ ألفَ إعصارٍ هائِج، لَديهم تِلكَ القُدرَةَ الغامِضة على تَركِنا مُتسَمّرينَ بين الشَهقَةِ والشَهقةِ التي تَليها، بينَ السَكتَةِ والأخرى الوَشيكَة، والغَريبُ أننا بأمسّ الحاجَةِ لِكُلّ خُطوَةٍ مَعجونَةٍ بالألَمِ في طَريقِ الآلامِ الموحِشِ الطَويل ذاك.
نحمِلُ على عواتِقِنا خَشَبَةً سَنُقتَلُ عَليها وإليها وَفيها وَمِنها وَنحنُ نُتمتِمُ بالشَهادَة، مُستَعدّين أنْ نَصنَعَ لَهُم مِنْ ألواحِ عُمُرِنا المُهترئِ فُلكاً وَمِنْ أحزانِنا دُسُراً وَمِنْ ضياءِ أعيُننا سِراجاً كيما تتهادى بِهِم سُفُنُ الأقدارِ في لُجّة اليَمّ، وَنحنُ –آباءُ الزَمَنِ العَنيدِ – نَجلِسُ القُرفُصاء في عَنبرِ الشَحن نوقِدُ شمعةً يَتراقَصُ لَهَبُها الشاحِبُ الضَئيلُ بينَ ابتهالٍ.. واحتِفال، كيلا يَحولَ بيننا الموجُ فَنكونَ مِنَ المُغرَقين.
وَلَدي، قَدْ تندو مِني عَليكَ في بَعض الأحايينِ قسوَةٌ أو تبدو جَفوةٌ أو تَتجَلّى غِلظة، ولكن هَل يَستَقيمُ الصُلبُ بِغير اللَهَب؟ وَهَل نستَمرئُ رِضابَ النَعيمِ بِغيرِ مُكابَدةِ النَصَب؟ وَهَل عَلِمَ أولادُنا اننا لا نَبكي غَيرَهُم وإن مَشّطونا بأمشاطِ الَحديدِ أو ضَربونا بِمَقامِعِ الحَديد، لأنَّ دُموعَ الرُجولَةِ ليسَ لَها ثَمنٌ؟ موعِدي مَعَكَ يا وَلَدي يومَ تُنجِبُ وَلَداً، فَعِندَها وَعِندَها فَقَط، سَتفهَمُ تِلكَ الأُحجية.



#ليث_العبدويس (هاشتاغ)      



الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- الحَبلُ السُرّيُّ العَرَبي
- اعترافاتُ مُثقّف مُرتَزق
- الدخُولُ إلى صَبرا وشاتيلا
- إنْ عُرِفَتْ حَلَب... بَطُلَ العَجَب
- العَروسُ والكلاشينكوف
- وقائِعُ انتحار كاتبٍ غاضِب // ليث العبدويس
- نوري.. نوزاد.. وحُلُم الأكراد
- قِمّةُ بغداد.. الدُخولُ إلى الخارِج
- مملَكَةُ الأيمو
- في تأبينِ مُتسوّلة
- يوميّاتُ مَدينَةٍ مَذبوحة
- مُناجاةٌ القَمَرِ المُهَشّم
- إلى بَغدادَ دَمعي.. مَعَ التَحيّة
- السيّابُ لَمْ يَكُن رَكيكاً يا وَطني
- مُذكرات لاجئ سياسي 2
- مُذكّرات لاجئ سياسي
- نَحنُ.. والبَحرُ..وإسرائيل
- سوريا وَفَلسَفةُ الثُعبان المُقَدَّس
- رِسالةٌ إلى بشّار الأسَدْ
- وَقَفاتٌ عِندَ مُسلْسَلٍ مَمْنوع


المزيد.....




- في بيان موجز.. ترامب ينعي البابا فرنسيس
- إسرائيل تلغي تأشيرات 27 نائبا فرنسيًا على خلفية تصريحات ماكر ...
- -هناك فوضى تسود العالم، وليس ترامب المسؤول عنها- – نيويورك ت ...
- تقرير بريطاني: أغرب الأسماء الممنوعة للمواليد حول العالم
- دوغين: ترامب يخطو نحو الانسحاب الأحادي من النزاع الأوكراني ب ...
- عاصفة رملية هائلة تشل شمال المكسيك
- شاهد.. طائرات عسكرية صينية في أجواء مصر أثناء أول مناورات جو ...
- دمار في صنعاء بعد الغارات الجوية الأمريكية
- الأرجنتين تعلن الحداد أسبوعا على وفاة البابا فرنسيس
- كبرى المدن الروسية تقيم صلوات جنائزية على روح البابا فرنسيس ...


المزيد.....

- سور القرآن الكريم تحليل سوسيولوجي / محمود محمد رياض عبدالعال
- -تحولات ظاهرة التضامن الاجتماعي بالمجتمع القروي: التويزة نمو ... / ياسين احمادون وفاطمة البكاري
- المتعقرط - أربعون يوماً من الخلوة / حسنين آل دايخ
- حوار مع صديقي الشات (ج ب ت) / أحمد التاوتي
- قتل الأب عند دوستويفسكي / محمود الصباغ
- العلاقة التاريخية والمفاهيمية لترابط وتعاضد عالم الفيزياء وا ... / محمد احمد الغريب عبدربه
- تداولية المسؤولية الأخلاقية / زهير الخويلدي
- كتاب رينيه ديكارت، خطاب حول المنهج / زهير الخويلدي
- معالجة القضايا الاجتماعية بواسطة المقاربات العلمية / زهير الخويلدي
- الثقافة تحجب المعنى أومعضلة الترجمة في البلاد العربية الإسلا ... / قاسم المحبشي


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع - ليث العبدويس - ذَبحَةٌ أَبَويّة