|
حياة ميت
حامد حمودي عباس
الحوار المتمدن-العدد: 3861 - 2012 / 9 / 25 - 17:54
المحور:
الادب والفن
البيت كان يعج بالحركة .. فالجميع يستعد لإحياء مراسم الدفن .. أم حمزه تظهر في وسط المشهد ، ممددة على سرير حديدي حرصوا على أن يكون بمحاذاة الجدار ، في فضاء حديقة بدت عليها علامات التردي نتيجة عدم الاهتمام .. بنات أم حمزه السته ، كن حاضرات وقد تركن بيوتهن وأزواجهن حرصا منهن على حضور النهاية .. الاطفال هم فقط من وجد فسحة من اللهو فراحوا يثيرون ضجيجا في المكان ، وقد يتعرض أحدهم للطمة عابرة فيمسحها بذقنه دون أي ردة فعل .. شجرة التوت الضخمه تضلل سرير أم حمزه .. وثمة مجموعة من الدجاج يسرح في المكان وسط حراسة ديك ضخم ، عرف عنه بانه شرس ، لا يسمح لأي معتد قد يقترب من عرائسه .. نعيمه .. الابنة الكبرى للعائلة ، مشغولة باعداد ألجمر في صحن من المعدن ، كي تحرق البخور لوالدتها المريضه .. البخور يطرد النحس ، ومن يقترب من لحظات الموت ينفعه البخور كي يستريح .. جنان هي الابنة الاصغر ، راحت تحوم في فضاء المنزل بأردافها المكتنزة ، حاملة أقداح الماء المبرد ، لتوزعه على من تصادفه أمامها دون ان تظهر عليها علامات التعب .. كل شيء هنا يوحي بأن ميتا سيحمل في أية لحظة الى مثواه الاخير .. - اشتريت هذا اليوم قطعة من الارض في مقبرة المدينه ، كي أحفر فيها قبرا لوالدتي . أسرها حمزه في أذني وهو يتمايل فخرا .. شعرت بقشعريرة تسري في جسدي وأنا أسمع إيذانا بالموت وبهذه الطريقة الفجه .. المرأة لازالت على قيد الحياة ، وقد كنت حينما أزورها في كل مره ، ترفع رأسها عن الوسادة مرحبة بي ، وتبدأ وبصوتها الضعيف تستذكر معي أحداث وعيناها معا .. لقد كانت تسند رأسها على ذراعها لتبدو أكثر قدرة على الاستمرار بالحياة .. ومع هذا كله ، قد تأتيها احدى بناتها على حين غره ، لتسألها وبكل وقاحه وغباء ، مشيرة لي : - أمي .. هل تعرفين هذا ؟ .. فأوبخها لتفهم بأن ما تقوله سيزيد العجوز شعورا باليأس .. الجميع يستغربون من وضع أمهم حينما أكون أنا بجانبها .. ما لها ياترى لا ترقد بسلام كما هي دائما بانتظار ملك الموت ؟ .. انها دائما تبدو مكورة الجسم على سريرها ، تتحدث بالأيماء كما يريد لها الاخرون .. أليست هي ميتة لا محاله ؟ .. ألم يتم تحضير قبرها وقد أخبروها بذلك ليلة أمس ، فأشارت لهم بنقلها الى مكان القبر وهي حية ، لتراه وتتفحص لحدها بعناية ؟ .. كادوا ان يفعلوا ذلك لولا ثورتي عليهم واستنكاري فعلهم لو حدث .. لقد كنت حينما أدخل بيت ام حمزه لزيارتها كونها قريبة لي ، أحاول تنبيهها بصوت عالي ، فاغني أي مقطع يخطر ببالي من أغنية قديمه .. أدور أمامها على ارض الحديقة المتهالكة ، أهز أكتافي وقدمي في دبكة لا تخضع لترانيم أي سلم موسيقي .. ألوح بذراعي في الهواء متحمسا لأيصال مشاعر الحياة للمرأة المسجاة أمامي .. فتتحرك ببطيء ، تفتح عينيها الذابلتين .. تبتسم .. ترفع رأسها لتسنده بذراعها النحيفه .. تدعوني للاقتراب منها .. أسحب يدها لاقبلها بحنان مبالغ فيه .. وأبدء باستذكار أحداث كانت لها فيها دور البطوله .. - أتذكرين حينما ثار المرحوم أبا حمزه ، كي يرغمك على النوم بمعيته على سرير الخشب ، في حين كنت تتحججين بوجودي ضيفا عندكم ؟ .. كم كان يومها متحمسا لذلك اللقاء الحميم . تسري مسحة من لون أحمر على وجنتيها ، لتختلط بشحوب وجهها الميال الى الخدر بفعل طول وقت النوم رغما عنها .. قالت وكفها المغطى بعروق زرقاء تمتد بهدوء لتلامس كفي ، فأبالغ في ضمها لأشعرها بالأمل .. - نعم أتذكر ..
- ما هذا ؟ .. ماذا تريدون أن تفعلوه ؟ صحت بأحد ابنائها وهو يحمل عبوة من الاوكسجين على كتفه ، ومعه احدى البنات تحمل خرطوما ليكمموا به العجوز .. استرسلت هي بحديثها معي وكأنها تشعرني بعدم حاجتها لغير الاوكسجين الطبيعي .. وكان من المفيد جدا لي ولها ، أن يحمل من في المنزل إحتراما لكلمتي ، فاستطعت إزاحتهم عنها وبحزم . كلفت زوجتي باعداد أي طعام سائل لكي تتغذى من خلاله المريضه .. فهم يعلنون بانها تعرض عن أي شيء يقدمونه لها ، وكانت فعلا لا تأكل لكونها بعرفهم ميته .. وهل الاموات يأكلون ؟؟ .. كنت أتحرك بكل أجزائي وأنا أحاول إطعامها حساء من الرز واللبن وحسب طلبها .. هاهي تأكل أيها البجم .. ألا ترون كيف تتقبل الطعام أيها الرعاع ؟! .. ألم يخبركم طبيب من الذين تترددون عليهم كل اسبوع لعرضها عليه ، بأنها يجب ان تتغذى لتقاوم ؟ .. وكان الجواب واحد ، وهو ان الطبيب أوحى لهم بموتها المحقق ، وان عليهم اعادتها لسريرها والدعوة لها بالرحمه .
كنت وأنا ألاطف العجوز ، أشعر بخيبة المصير اذا لم يتاح لي الهروب من هذا العالم المسكون بملامح الموت .. هل ياترى سيجهزون لي قبرا قبل وفاتي ؟ .. هل سيلبون يومها رغبتي بالتمعن في شكل لحدي ؟ .. أللعنه .. إنه ضيق على ما يبدو .. وذلك التراب المعفر برطوبة المناخ ، هل سيستعملونه في ردم القبر وجسدي مسجى فيه ؟ .. لطالما تردد بأن أفاعي ضخمة ستهاجم الكفار من الأموات حال مغادرة المشيعين ، وبأن عيون البشر ستطالها ديدان ضخمة لتفتتها بين أسنانها الحاده ، هل للديدان أسنان ؟ .. قد تكون ديدان القبور من نوع خاص ، خلق لقضم عيون المذنبين .. ووجدتني أمسح عيوني بمنديل من ورق ، وكياني يصيح .. أليس من الظلم أن يجري قصاص على متهم قبل محاكمته ؟ .. كيف لعيوني المطلية بالزرقة المصحوبة بلون الحناء كما تصفها ابنتي دائما ، أن تذوب تحت رحى الفناء ، وبهذه الطريقة البشعه ؟ .. ما معنى أن يخرج الناس عراة حفاة يوم ينفخ في الصور ، اذا كانت الافاعي والديدان تسلط عليهم عذاب الله قبل موعد الحشر الأعظم ؟ .. إنه خلل في دقة ميزان العدل الألاهي ، لو صدقت منابر الوعظ القائلة بعذاب البرزخ ..
شعرت العجوز ، وأنا بجانبها ، أنها راغبة بتناول قطعة من الحلوى .. فقالتها لي همسا .. وحين سمعتها إحدى بناتها وكانت قريبة مني .. صاحت مولولة وبصوت يزاحمه النحيب .. - لقد أشتهت أمي حلوى على غير عادتها .. وهذا معناه أنها اقتربت من الموت .. هكذا يشتهي ألأحياء قبل موتهم بلحظات .. هاج الجميع .. وغزى فضاء المنزل عويل تهتز له فرائص الأصحاء قبل المرضى .. فقمت من مكاني ، متحفزا للقتال .. إنها لحظة الحرب على من وضع سنن لتشييع الموتى بالبكاء واشاعة روح الخوف بين الناس .. لم أستطع بوثبتي أن أرد الصراخ الى حناجر الثكلى .. فانسحبت صوب العجوز لحمايتها من دعوات الموت .. فلم أفلح .. لأنها حققت آمال المحيطين بها في أن تغادر هذا العالم لا لشيء ، إلا لإقامة سرادق العزاء على عجل .
#حامد_حمودي_عباس (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
عيون وخيال ..
-
عند نهاية حافات الرأفه
-
حول طريقة النشر في الحوار المتمدن
-
سفر بلا حقيبه
-
جلسة حوار مع الاستاذ محمد حسين يونس
-
نحن .. وفن الحركة الى الأمام .
-
تسقط السياسه .. عاشت الرياضه
-
الكتابة في الفراغ ...
-
سم العنكبوت
-
خيارات السياسة العربية .. وفشل التجربه
-
خلجات من طرف واحد
-
وصمة عار
-
صوت غاضب من القاع
-
أيها المصريون .. لا تخذلوا بلادكم ، واعبروا المحن بسلام .. (
...
-
خواطر غير سياسيه
-
هجرة الريف الى المدينه .. وما آلت اليه من خراب
-
الطبقة العاملة العراقية ، وتراجع دورها التاريخي
-
زمني توقف هنا في ليلة واحده
-
قول في الماء العربي
-
حال المرأة العربية .. بين الوهم والواقع
المزيد.....
-
-الهوية الوطنية الإماراتية: بين ثوابت الماضي ومعايير الحاضر-
...
-
بعد سقوط الأسد.. نقابة الفنانين السوريين تعيد -الزملاء المفص
...
-
عــرض مسلسل البراعم الحمراء الحلقة 31 مترجمة قصة عشق
-
بالتزامن مع اختيار بغداد عاصمة للسياحة العربية.. العراق يقرر
...
-
كيف غيّر التيك توك شكل السينما في العالم؟ ريتا تجيب
-
المتحف الوطني بسلطنة عمان يستضيف فعاليات ثقافية لنشر اللغة ا
...
-
الكاتب والشاعر عيسى الشيخ حسن.. الرواية لعبة انتقال ولهذا جا
...
-
“تعالوا شوفوا سوسو أم المشاكل” استقبل الآن تردد قناة كراميش
...
-
بإشارة قوية الأفلام الأجنبية والهندية الآن على تردد قناة برو
...
-
سوريا.. فنانون ومنتجون يدعون إلى وقف العمل بقوانين نقابة الف
...
المزيد.....
-
تجربة الميج 21 الأولي لفاطمة ياسين
/ محمد دوير
-
مذكرات -آل پاتشينو- عن -العرّاب-
/ جلال نعيم
-
التجريب والتأسيس في مسرح السيد حافظ
/ عبد الكريم برشيد
-
مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة
/ د. أمل درويش
-
التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب
...
/ حسين علوان حسين
-
التجريب في الرواية والمسرح عند السيد حافظ في عيون كتاب ونقا
...
/ نواف يونس وآخرون
-
دلالة المفارقات الموضوعاتية في أعمال السيد حافظ الروائية - و
...
/ نادية سعدوني
-
المرأة بين التسلط والقهر في مسرح الطفل للسيد حافظ وآخرين
/ د. راندا حلمى السعيد
-
سراب مختلف ألوانه
/ خالد علي سليفاني
-
جماليات الكتابة المسرحية الموجهة للطفل في مسرحية سندس للسيد
...
/ أمال قندوز - فاطنة بوكركب
المزيد.....
|