خالد قنوت
الحوار المتمدن-العدد: 3758 - 2012 / 6 / 14 - 10:24
المحور:
مواضيع وابحاث سياسية
منذ أن وضعته في قفصه الجديد و أنا أحس بعقدة الذنب , و دائماً ما أجد في نفسي الأعذار فهو صغير و لا يمكنه الدفاع عن نقسه أمام رياح الشمال العاتية , و لا أمام الأعداء المحيطين به , إضافة لذلك فهو أضعف من يجد زاده , أما ملكاته العقلية فهو بالنسبة لي ليس سوى طائر أخرق لن يخلق ليصبح مع التطور صقراً ... كثيرة هي المبررات ومع كل صباح أجد الأسباب و أعجب بكينونتي و أنظر طويلاً إلى المرآة الكبيرة ذات الإطار المرصع و أقول يا للإعجاز كيف يكون العالم بدوني ؟ هل لهذا الزمان معناً لو لم تلدني أمي ؟
كنت أضع له الطعام و الماء كما يحلو لي , رغم أني لطالما نسيت , و مرات عديدة نسيته تحت أشعة الشمس في صيفنا الحار لكنه لم يمت ! ومع إطلالات كل فجر أستيقظ على تغريده الآسر , أسبح بحمده تعالى و اشكره على عطاياه و على ما سخره لنا .
إنه ملكي رغم أن الحرية من عطايا الخالق , لكن يبدو أننا ورثنا مع الزمن صفات الحرية و العبودية و صار كل منا في موقعه , أنا اعتدت على غنائه و عبوديته , وفي تقديري أنه اعتاد على فقدان حريته و الدليل أنه ما زال يغرد ..
صحيح أني لم أفهم لغته يوماً و لم أحاول لكن صوته عندي له مدلول واحد و هو الغناء , فرحاً كان أم عذاباً .
* * *
ساعات الضجر أخذت معظم أيامي التي صارت روتيناً قاتلاً , فكلٍ يمشي كما أشتهي , العصافير تغرد و كلابي تقوم بما أطلب منها بالإيماء .
لقد تعبت كثيراً حتى دانت الأمور لي , فقد كان عصفوراً مشاكساً , كان يغرد أكثر مما ينبغي , وكان تغريده يقض مضجعي , كان أسيداً في مسامعي و أشواكاً في حلقي , لكن بعد أن قبضت عليه و أدخلته هذا القفص صار طيعاً معطاءً و صار تغريده يطربني مع قهوة الصباح .
دربت كلابي على غرائزي و متطلباتي , كانوا جاهزين كما لو أنهم موجودين منذ التاريخ . كان عواؤهم يمنحني القوة و السلطة , و في حضرتي تلتصق بطونهم بالأرض , لم أطلب منهم كل هذا لكني أحسست بعبقريتي الفذة و قدراتي الدفينة ,
في بعض الأحيان كنت أرتل كلماتٍ , لم أفهمها نفسي حتى الآن , لا معنى لها فكانوا يلعقون حذائي حباً و إعجاباً . إنهم يخافون من نسائم الهواء علي , و من ريش الحمام , ومن أي ازدحام , يمزقون كل من تسول نفسه الضرر أو النيل مني , أصبحوا في غرفة نومي و صاروا سوراً دوني العالم .
أحبهم و أكرههم في نفس الوقت , فأنا أعرف خفاياهم واحداً واحداً , و تحت جناح سلطتي كل أمورهم مباحة لهم .
* * *
حديقتي جنة الله على الأرض , جلبت زهوراً من ما وراء المحيط , فأنا بطبعي أحب كل ما هو نادر و غالٍ هنا و لا أحب أن يقتني الآخرون ما أقتني .
بحيرات الماء على مد النظر , فقد استجررت مياهها من كل البلاد و من كل الأفواه فأنا أعشق خريرها .
من كثرة الأشياء , لا تتسع ذاكرتي لما أغنيت جنتي الصغيرة من طموحاتي .
جلبت بعض الحيوانات النادرة كنوع من التجديد و الإثارة , لا أذكر أسماءها لكني دفعت الكثير فيها .
من بين تلك الحيوانات أحضرت قطاً لم يذكروا لي من أين ؟ لم يكن مثل كل القطط ,كان بلا مواء و لا معالم , يأكل حتى لم ينتهي , عيناه كلها لؤم و غدر , لم يعجبني لكن تذلُله لي يغفر له ذلك .
كان يجلس بحذائي خانعاً , ساكناً إلا أذناه اللتان ما انفكتا تلاحقان الأصوات و الهمسات و صداها
* * *
الملل يدعوني لتغير الأشكال و الألوان و الأصوات , أحسست جنتي مقبرة أمام عالم متجدد اقتحمته الفضائيات و الأخبار المنقولة حيةً . لم أستطع تحصين مملكتي منها , فبت أخاف أن يتجاوزني الزمن.
لقد صنعت التاريخ قصداً و من غير قصد , و بعلمي و بغير علمي وثقته .
حذفت منه ما كان , و أدخلت فيه ما أردت .
غيرت التضاريس , أزلت ما أزلت , و بنيت ما بنيت .
سميت الأماكن بأسمائي , فصارت كل الأماكن اسمي و صارت هذه الجنة مقرونة باسمي . كنت استشير البعض , و لكني لم أعد بحاجة لأي استشارة , فأنا بحرٌ في كل الأمور و العلوم , فلماذا أضيع وقتي في متاهات الجدل ؟
لا حاجة لدراسة المتناهيات و لا قانون الاحتمالات , فكل الطرق تنتهي أمام قدمي, قانون الصدفة يُختصر بحدث وجودي .
* * *
الكل يحسدني , و الكل يسعى دون جدوى لتقليد ما فعلت , فالهدوء و السكون إحدى مزايا جنتي , كل ما حدث و يحدث عند الآخرين قد تجاوزته هنا , عرضت على الجميع تجربتي لكن قصر نظرهم و انشغالهم بأمور ثانوية بالنسبة لي حال دون اتخاذها مثلاً و قدوة .
أنا على قدر كبير من الثقة بأن أطماع الجوار ليس لها حدود , لكني دائماً لهم جميعاً بالمرصاد , و لن أفرط بأي ذرة من ذهبي و ثروتي .
إنها حقيقة دامغة و على القريب و البعيد أن يعيها , فأنا في طبعي لا أسكت عن حقوقي .
* * *
الطبيعة الإنسانية لغز حقيقي , فلم أتوقف يوماً عن التفكير بها , و لطالما استرسلت في تصور ردود الأفعال .
في غمرة مللي و اشمئزازي من هذه الوجوه , و من هذا الموت الزمني , صار للتجديد و بعض من التغيير صدىً في أعماقي .
بدأت بتغيير الأثاث , بنيت امتدادات لقصوري , تخلصت من بعض كلابي , لكن المتعة لم تطرق جدياً كنه حياتي , جلت بأنظاري هنا و هناك , قطفت كل الورود , قلعت الكثير من الأشجار , سددت مداخل أوكار النمل , حرقت دود الأرض , و لكن عبثاً .
* * *
تناولت فنجان القهوة كان مراً أكثر من أي وقت مضى , وضعت قطع السكر لكن المرار لم يتغير , حتى في السكر وصلت الخيانة ؟.
بدأ العصفور وصلة غنائه الصباحية ولأول مرة أحسست بمرارة غنائه , عندها أدركت بفطرتي الحاذقة أن مؤامرة تحاك ضدي , وأن الأمور اختمرت في رحم التغيير , و أن عقد سلطتي لن يقف عند مرارة سكر قهوتي , عندها و كعادتي قررت أن أخطو الخطوة الأولى و أن آخذ فعل المبادرة .
فكرت كثيراً بهذه الخطوة و أدركت أني غيرت الأشكال و الألوان و لكني لم أفكر في تغيير الأصوات .
كانت وصلات غنائه محفورة بذاكرتي , و مع مرور الزمن حفظتها و أوقاتها و كيف تنتهي بذاك الصوت المتردد المتعب .
أحضرت قفصاً يشتهيه الملوك , كان واسعاً صحياً , قضبانه من المعدن المطلي بالذهب ,و زينت زواياه بالأعشاب و الخضرة و بعض التسالي المحددة .
مرت أيام لكن الحال دون تغيير و كأن رفضاً صامتاً سلمياً جعل ذاك الطائر سيد الموقف , أصبح سلبياً تجاه أي شيء , تحول إلى آلة غبية , إلى شبح مسالم إلى حد البلاهة , حتى تحركاته صارت كأي لعبة مربوطة بنابض الحركة , نفس الحركات , ذات النغمات ...
وأخيراً كان لا بد مما لا بد منه , سأفتح أبواب هذا القفص اللعين , بل سأكسرها و أمنحه تلك المنحة الإلهية فأنا بحاجة لطيور تحلق في فضائي و تحط على أغصان أشجاري و تبني علاقاتها الغرامية في أعشاش تصنعها من حشائش سهول مزارعي و تأكل من فتات خبزي .
لا شيء يمنع ؟ فكل الأمور ضمن السيطرة .
عندما بدأت بفتح باب القفص راودتني أحداث الماضي , تاريخ من النضال حتى وصلت لهذا الزمن المرصع بنجوم الأمان و السكون . لكن على المرء متابعة التغيرات و الصرعات العالمية عن الحرية و إلا فإن الآخرين سيلفظونه خارج لعبتهم و حساباتهم المعقدة .
كسرت الأبواب و انتظرت طويلا ً . جن جنونه , لم أتخيل يوما ً أني سأشهد هذا المنظر , كان يرفرف بجناحيه , صوته كان صفير سنديانة عتيقة ذابلة في مهب ريح .
توقعت خوفه و شكوكه بوجودي فتركت له المكان و انزويت بعيداً أنتظر ثمار عملي الجديد و المبتكر .
وقف طويلاً أمام عتبة باب قفصه المكسور , تنهد مرات و مرات ذيله لم يتوقف , صوته بدأ متعالياً صداحاً , كان زئيرا , كان زفيراً .
و انطلق .. صفق بجناحيه ثم علا , رويداً رويداً ثم بدت الأمور أعقد و أصعب .
خانته قوة جسمه و جناحيه , و بدأ يتهاوى , حاول مجدداً , علا قليلاً ثم سقط أرضاً , أصبح طيرانه صراعاً مع حصى الأرض و سال دمه على حواف جناحيه. ترددت في اتخاذ قرار سريع و مناسب , أردته أن يجتاز التجربة الصعبة كما يترك الأب ولده للتجربة كي يصلب عوده , لكن الحدث أخذ منحاً مأساوياً فقد تخضب ريشه بدمه فلم أعد اذكر لونه الأساسي , وكما يحن الأب و يرق قلبه توجهت إلى طائري المسكين لأعيده إلى قفصه .
و مع الخطوة الأولى كان الخطر أكبر من أي حسابات , قفز ذاك القط المقيت و كأن عمره انتظار لمثل هذه اللحظة . كل تلك البلادة تحولت فجأة إلى طاقةٍ ملتهبةٍ
من القفزات . تحولت خطوتي الأولى إلى وثبات و مع تحولي إلى مجرد جب للأطعمة و الملذات و الأرصدة , اشتبكت قدماي بنسائم الهواء و طرحت أرضاً , صاب الخدر أطرافي .
أثار المنظر شهية كلابي و أصابت رائحة الدماء جنونها , فانطلقت إلى ساحة الوغى , و كلمح البصر تحول الطائر المنهك إلى أشلاء بين أنياب القط و الكلاب المجتمعة .
بدت كوحوش كاسرة و لأول مرة أصاب الفزع مني . أين تلك البراءة و كل ذاك الخنوع و الذل السابق ؟
لملمت بعضي و جاهدت حتى عدت واقفاً و نظرت فيها تلك النظرة التي قتلت بها خصومي سابقاً , عندها وقف الزمن إجلالاً , و صمتت الأنياب عن صريرها .
أصاب الغضب مني , و أدركت أن زلزالاً أصاب مملكتي و لا بد من اتخاذ الموقف المناسب . صرخت كسبع أصابت الضباع منه و ضربت الأرض فاهتزت الأركان و سقطت الأشجار صرعى .
تلونت السماء بلون البرق و الدم وأعطت الأشياء سبباً حقيقياً للتحطم و السقوط .
دانت الأمور بوقتها و عادت كأن شيئاً لم يحدث إلا من رائحة الفريسة الممزقة في الأفواه , و زحفت الكلاب على بطونها ذليلة ً .
نظرت حولي , خراب .. خراب ..
كل ذاك البناء , كل تلك الأحلام تتكسر في لحظات , كل ذاك الحب تحول إلى حقد و كراهية , كل ذاك السكون كان وقوداً ينتظر عود ثقابٍ تافه وأي عود و أي خسارة ذاك الطائر المسكين .
أدركت أن هناك أشياء تنكسر لمرة واحدة , و بعدها ينقلب الحلم إلى حسرة مرة ,
يصبح الندم عنواناً للدقائق و الساعات , و لتصير كل الأصوات نواحاً و عواء .
في غمرة هذه الصحوة أدركت أن لكل الأشياء أثمانها و أن الأثمان ليست دائماً دراهم و دنانير , و أن الأشياء العظيمة و القيمة ثمناً هو دماء تراق على مذبحها ,
و أن الحرية ليست حقل تجارب للعابثين و المصابين بجنون العظمة .
إن الحرية انتحار عندما تنمح هبة , و هي سعيٌ للعبودية و الخراب عندما تمح فوراً دون ظروف موضوعية صحية .
أصابني دوار و كأن حماً عصفت بي . درت و دارت بي الجهات , أمسكت بعضي و أسندتها إلى أطلال شجرة قريبة , تلفت في كل ما حولي و حاولت جاهداً فلم أجد ذاك القط , فقد صار أثراً بعد عين .
انتهت في 30/3/2001
#خالد_قنوت (هاشتاغ)
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟