أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - دلور ميقري - ذكريات اللاذقية 9: المَسْغبة















المزيد.....

ذكريات اللاذقية 9: المَسْغبة


دلور ميقري

الحوار المتمدن-العدد: 3749 - 2012 / 6 / 5 - 09:25
المحور: الادب والفن
    




" أم فريد "؛ إنها المرأة الفتية، الفائقة الفتنة، المُتعيّن عليها وَهْب جَسَدِها لطالبي المُتعة لقاءَ ليرات قليلة أو حتى أغراض تافهة. زوجُها السكّير، المُتبطل، هوَ من دفعها إلى امتهان حِرْفة البغاء، المُمْتهِنة لكرامتها وانسانيّتها. من جهتي، كنتُ في أوج أعوام المراهقة، حينما عرَفتُ الوصال الجسَديّ بفضل هذه المرأة؛ وهيَ الأعوام، التي كانت قد اختصِرَتْ حينما وَصلتني دعوَة التبليغ للخدمة العسكرية، الالزامية. حُجْرَة الايجار، المَلموم تحت سقفها شمْلُ العائلة تلك، التعيسَة ( المُنحدرَة من علويي ريف اللاذقية )، كانت تقومُ في قسم مُنفصل من مَنزل آل " مرعي دقوري "، الكائن في أسفل زقاقنا. في عصر أحد أيام الخريف، كنتُ عائداً إلى البيت، حينما مَرَرْتُ من قدّام دكان " الكندَرْجي "؛ أو مُصلّح الأحذية. فما لبث الرّجلُ المُسنّ نوعاً، المُنهمكُ بعمَلِهِ، أن دعاني للدخول. ثمّ قالَ لي بلهجة أهل الساحل، المُميّزة: " عَلِمتُ من أحد أصدقائك، أنه تمّ فرزكَ إلى اللاذقية..؟ ".
بعدَ مرور شهرَيْن، تقريباً، على التحاقي بالخدمَة في تلك المدينة، سَنحَتْ لي الاجازة أن ألتقي مُجدداً مع جارنا ذاك؛ صاحب محلّ الأحذية. وها هوَ " أبو فريد "، ما غيرَه، يَنهضُ أيضاً لتحيَتي باحتفاءٍ ومودّة. في هذه المرّة، خرَجتُ من الدكان مُتأبطاً حذاءً أنيقاً، نسائياً ـ كأمانة يَتوَجّبُ توصيلها إلى أهل الكندرجي، حالَ عودتي إلى مدينة اللاذقية. من جهته، فإنّ " أبا فريد " طلبَ مني كذلك، وليسَ بدون احراج، أن أمرّ على مَسكنِهِ قبلَ سَفري، لكي يُحَمِّلني بدَوِره غرضاً ما إلى أهله المُقيمين في ضاحية المدينة. على أنني، لسَبَب من الأسباب، لم يتسن لي تحقيق رغبَة الرّجل. وكان على دورَة الفصول، المُعتادة، أن تتناهى إلى مُستهلّ الصّيف، حتى أجِدُني بمَحض المُصادفة وَجهاً لوَجه أمام شقيق " أم فريد "؛ الذي يَصغرها مُباشرة ً. هذا الشابُ الجميل، المُماثل لي عُمراً، سبقَ أن لمَحته أكثر من مرة حينما كان يَزور أخته في فترات مُتباعدَة. ثمّة، في شقة الصديق القديم، " ديب "، تعرّفت عن قرب إلى ذلك الشقيق. من جهته، كان " ديب " بالأصل من نصارى حمص، تقيم أسرته بالايجار في منزل بالحارَة تملكه ابنة عمّي. أما شقته الصغيرة هذه، المؤجرَة، فتقع في قلب مدينة اللاذقية. كان كلاهما، إذن، يَخدمُ في فرع المُخابرات العسكرية في المدينة، وبصفة رقيب مُتطوّع. ولا أتذكرُ، بدقة، نوع الحديث المُفتتح صفحة التعارف مع شقيق " أم فريد ". ذكرى هذه الأخيرة، ولا غرو، كانت بالمُقابل سبباً مُرجّحاً في مَبلغ الحَرَج، الفادح، الذي رأيتني فيه خلال سويعة اللقاء تلك.
" أينَ بوز الكلب؟.. ليسَ من شيمَته تفويت هكذا مُناسبَة "، تساءلَ بعضُ الأصدقاء فيما بينهم وهم يُتابعون بنظراتٍ مَحْمومة، شبِقَة، الحضورَ الأنثويّ المُشارك في الرّقص. هذه، كانت المرة الثانية، التي تشهَدُ فيها قرية " بسنادا " زيارتي لها، خلال أوّل صيفٍ أقضيه هنا. أما المَدعو " بوز الكلب "، فقد كان أحد المُجندين في قسم الشئون الفنية بمقرّ اللواء، مُختصاً بتنجيد مقاعد السيارات. لقبُهُ هذا، المَشنوع، كان تحريفاً لكنيَته الغريبة، المُحالة بنفسها إلى اسم نوع من الحيوانات، الأليفة؛ وهيَ كنية مَشهورة، على كلّ حال، في حيّ " الصالحية " الدمشقيّ. وإذن كنتُ، بدَوري، أتنقلُ ببصري في أنقاء روضة الأجساد تلك، البهيّة، المُكتسي بعضها بمَلبس النوم، الشفيف، عندما حط على غرّة فوق هيئة صاحبنا؛ شقيق " أم فريد ". كان عندئذٍ يُوجّه بحماس تنظيمَ الدبكة، المُتحلّق فيها أهالي القرية من الجنسَيْن بمناسبة عُرْس. فما أن لمَحَني هذا، حتى سارع إلى تحيّتي بلطف، داعياً إيايَ من ثمّ إلى المُشاركة في الرقص. في واقع الحال، فإنّ مثل هكذا لقاء لم يكُ غير مُتوَقَع تماماً. وكان الشابّ يوميء نحوَ الحَفل، رداً على اشارةٍ تحثه على العودة، فإذا بإحدى الفتيات تنفصلُ عن الآخرين لتتجه نحونا: " إنه فلان؛ من جيران ابنة عمّك، المُقيمة ثمة في الشام.. "، قالَ الرقيبُ المتطوّع للفتاة تلك، المُتألقة بالحُسْن. كانت في الأثناء ترمُقني مُتبسّمة عن أسنان نضيدة، ناصعة، وبما يُوحي أنها تعرفني من قبل.
***
لكأننا شخصيّاتٌ في إحدى روايات دستويفسكي، العظمى؛ شخصيات، شاءَ خالقها أن يَجمعها، وفق قانون المُصادفة، في المكان والزمن، المُحدّدَيْن، فيَجعلها تتجاورُ في ذات المَسكن أو تلتقي في نفس الشارع؛ لكي تشارك، معاً، في المَلهاة الانسانية، المَحبوكة بعناية. على ذلك، فإنّ المُفاجأة الثانية، المُقدّر لها أن تذهلني خلل ذاك اليوم، الصيفيّ؛ تمَثلتْ في كون أسرة عمّ " أم فريد " مُتجاورة مع أسرة صاحب حجرة الايجار، المُقيم فيها صديقنا، صاحب النعت المَشنوع. عرفتُ ذلك في الحال، لأنني سبق ولمَحتُ " ابنة العمّ " تلك أكثر من مرة، وهيَ جالسة في مَدخل المنزل المُجاور، المُترامي على تلّ مُرتفع مُغطى بالأشجار المُثمرة والحرجيّة: " هذه الجارَة، الفرْفورَة، لا ترفع عينيها عنك.. "، قالَ لي المُجند الحلبيّ في يوم سالف، غامزاً بعينه الجائعة. إنه بنفسِهِ جارٌ لصديقنا " بوز الكلب "، يقيمُ هناك في إحدى الغرفتيْن المُتشكل منهما ذلك القسم من المَنزل، المَنذور للايجار. في هذه الحالة، كنتُ مُتفهماً سببَ عدم وجود مطبخ، أو حمّام، في خدمَة الحُجرَتيْن اللتيْن يقيمُ فيهما النزلاء. المرحاضُ حَسْب، كان مُشتركاً بين قسمَيْ المَنزل.
وإذن، ما أن وَلجتُ خلل المَدخل، عائداً من الحفل المُشتعل، حتى لاقاني وجهٌ مُمتقعٌ كليّة: " ربّاااه.. لوْ أنكَ بكّرتَ في الحضور دقائق فقط؛ لكنتَ قد رأيتَ العجَبَ "، قال لي صديقي الصالحانيّ وكان مُرتعشاً مُرتعداً، يوَصْوصُ بعينيه إلى الناحيَة الأخرى. ثمّة، كان يقومُ البابُ القديم، غير المُستعمل بعدُ، لحمّام أصحاب البيت. وبالرغم من انعدام حَماستي، فإنّ " بوز الكلب " ما لبث أن راحَ يقصّ عليّ بالتفصيل وقائعَ تلصصِهِ على بنات المالك، اللواتي كنّ بحَسَب روايَته يُمارسن نزواتهنّ في المَكان المَنذور للعريّ الأبهىّ. أجل، في عين المكان، المُحَتم عليهن سلوان مَسغبَة الجسَد والروح سواءً بسواء.
وإذن، سأطلبُ لنفسي العذرَ، ولا مَراء، إذا ما اعتقدّتُ بأنّ الحَوَل البسيط في عينيّ صديقنا هذا ( أو " حولة الحُسْن " كما تعرَّفُ شعبياً )، إنما تأتى بسبب خصلة التلصص، المَطبوعة في خلق صاحبهما. ولكن، على العموم، فإنّ صديقي الصالحاني كان لا يَتميّز بعيب ما، في قسماته أو بدنه؛ اللهمّ إلا ما يُمكن ملاحظته من صَلع، خفيفٍ، في مقدّمة رأسه ذي الشعر الفاتح اللون. من ناحية أخرى ( وهذا ربما ما يُدهشُ المَرء )، كان صاحبُنا على خلق مُستقيم؛ أو قويم، باللغة الدينية. ففضلاً عن أمانته وشهامته، فإنه لم يكُ مُضطراً للكذب إلا في حالاتٍ هيّنة، ونادرة على أيّ حال. ولأنه كذلك، كان لا بدّ من أن يَحوز ثقة زملائه ورؤسائه على حدّ سواء. ومن حُسْن الفأل، أنّ مُعلّمَهُ المُنتمي لبلدة الرئيس، " القرداحة "، كان من أفضلَ ضباط سريّة المقرّ، من ناحية أخلاقه المَشهودة بعفة اليَد والتواضع والتسامح.
من جهتي، كنتُ شاهداً ذات يوم على الكيفية التي يَتعاملُ فيها ذاك النقيبُ مع مرؤوسيه في قسم الشؤون الفنية. إذ كان يَتجادلُ مع أحد المُجندين، العنيدين، حدّ أنه كادَ أن يَستعطفه بالدموع. هذا المُجند، ويُدعى " قادو " وهوَ من المحافظة الشرقية، كان عندئذٍ يَرفضُ قطعياً الشروع في تصليح سيارة نائب قائد اللواء: " لقد وَعَدَني قبلاً باجازة طويلة، ثمّ أخلفَ في وَعدِهِ. وأنا حلفتُ وقتذاك، بشرَفي، ألا أمدّ يدي مرة أخرى إلى عرَبَته ". وبما أنّ " قادو " كان في ذلك الوقت قد أوغلَ في الاحتياط كثيراً، فإنه أصبحَ ذا خلقٍ مُتهوّر. وها هوَ مُعلّمُهُ المُباشر، المُساعدُ الأول، يَحلف أيضاً اليمين قدّام النقيب في يوم آخر: " سيّدي، إذا لم تعاقب ذلكَ الكرديّ، الكسول، فأقسمُ بشرفي لأحلق شعر رأسي على الصفر ". في اليوم التالي، على الأثر، ظهَرَ المساعدُ على المَلأ برأسِهِ، الحليق تماماً، أثناء الاجتماع الصباحيّ. إذ ذاك، وفيما كانت المَراتبُ كلّها مُتأهّبة لترديد الهتاف المُمَجِّد لرسالة الأمة العربية، إذا بعاصفةٍ جامِحَة تمُرّ مُخترقة ً المَكان: " خوديووو.. "، صَرَخ " قادو " بأعلى صوته وهوَ مُمتطٍ دراجته النارية، مُناشداً اسمَ الربّ بلغته الأمّ.
***
على ذلك، يُمكن القولُ بأنّ مَهْجَعَ قسم الشؤون الفنية، الخاص بالأفراد، كان أفضلَ مكانٍ ملائم لسهرات المُناوبَة. ذات ليلةٍ من ليالي الشتاء، كنتُ هناك أتابعُ لعبة الوَرَق، فيما أقداح الشاي الساخنة، اللذيذة، تتنقلُ من يَدٍ إلى يَد. ثمّة، كان " بوز الكلب " ما يفتأ مُنفعلاً إثرَ مَشادة مع أحد زملائه. هذا الأخير، كان مُجنداً قصيرَ القامَة، ينتمي لإحدى القرى التركمانية في المُحافظة. مَبعث المشادة، كما فهمتُ، كان مُحالاً إلى صباح اليوم ذاته، حينما صرَخ التركمانيّ بأعلى صوته مُشيّعاً زميله المُستقل عرَبَة المَبيت، المُتأهبة للانطلاق إلى المدينة: " بوووز الكلب.. ". فردّ عليه الآخرُ ساخطاً، في غمرة قهقهة الحاضرين: " بوز الكلب بفرج أمّكَ ". وإذن، ما أن مَضتْ ساعة أخرى، حتى كان غطيط المُجند ذاك، المُناكد، يَتصاعدُ من السرير الفوقاني؛ هوَ المُبكّر للفراش بسبب نوبَة الحراسة الليلية، المُنتظرَة. عند ذلك، تسلق خصمُهُ السريرَ المُحاذي، ثمّ انتصبَ فوق رأسه مُخاطباً الحضورَ: " انظروا ماذا سأفعل بهذا التركماني، المُضحك، ذي الشارب الثخين والمَعقوف الطرَفيْن.. "، قالها بنبرَة خبيثة ثمّ أخرجَ ذكرَهُ ودَسّه بسرعة في فم الآخر، الفاغر. في الوَهلة التالية، كان على ذلكَ النائم المسكين أن يفيقَ مثلَ ذئبٍ جريح، لكي يُطاردَ " بوزَ الكلب " بإصرار حتى مَدخل المُعسكر؛ أين تمّ صدّه وتهدئته من لدن الحَرَس.
قلنا، أنّ " بوز الكلب " كان مَهووساً بالتلصص على الحُرُمات، العَصيّة. بيْدَ أنّ ذلكَ، كما سأعاينهُ بنفسي، لم يَكُ كلَّ شيءٍ. في أحَد أيام مُبتدأ الصيف نفسه، كنتُ وإياهُ في الحافلة الصغيرة ( الميكرو باص )، في الطريق إلى " بسنادا "؛ التي لا تبعُد سوى بضعة كيلو متر عن مركز المدينة. ما أن وَلجنا الحافلة، حتى اتجه هوَ من فوره إلى صدر المكان. جلسنا إذن ثمّة، في غمرَة العطور الأنثويّة، العَبقة، المُنبعثة من فتاتيْن جالسَتيْن في المَقعد الذي يُدْبِرُ بظهرهِ لمَجلسنا. كنتُ مُلتصقاً بالنافذة، أرسلُ بصري خللها إلى المناظر الخلابة، المُتتابعة، لريف هذه المدينة، الساحر. لحظات أخرى، وعليّ كان أن أتنبّه لحرَكة صديقنا، الجنونية: كان يَنزلقُ رويداً في مَقعدِهِ، حتى التصقتْ رُكبتاه بمؤخرة إحدى الفتاتيْن. بعدئذٍ، ووَسط دَهشتي، ورُعبي بالخصوص، ألحقَ " بوز الكلب " حافِرَهُ بذلكَ المَكان، المُحرّم، مُبتدهاً مكامِنَه بملامَسَة من الأصابع، الشبقة. الفتاة، المَعنيّة، توقفتْ فجأة عن الحديث، ثمّ راحت تتململُ بدَوْرها مُلقية ً نظراتٍ مَليّة إلى المناظر الخارجية، وفي آن واحد، لمَحاتٍ مُواربَة إلى الجهة التي رأيتني مُندسّاً فيها بلا حَوْل. وإذ لم يَرعو، الأخرقُ، بهَمَساتي المُحَذرة، فإنني ما لبثتُ أن أمسكتُ بشعر رأسه أشدّهُ بحركة حانقة، قانطة. لحُسْن الحظ، أنّ تلك الفتاة ( وكانت كما بدا من مَظهرها، طالبة ً جامعيّة ) استطاعتْ ضبط نفسها حتى نهاية الرّحلة؛ والتي بَدَتْ لي آنذاك كأنها بلا نهاية.
أيامُنا في الرَوْضة تلك، أينَ مأوى الحَسناوات، شاءَتْ ألا تستمرّ إلى ما بعدَ شهر أغسطس / آب؛ الذي يُدعى مَحلياً بـ " طبّاخ العنب والتين ". في ثنايا هذه الأيام، الجَميلة، كنتُ قد طوّرتُ نوعاً من العلاقة العاطفية، المَحضة، مع ابنة عمّ الرقيب المُتطوّع: اسمُها، " زهراءُ "، كان مُتطابقاً مع لون بشرتها، الزهريّة. عيناها الكبيرتان، كان سَوادُهُما مُحاطاً بإطار من حَوَر، مُتناعس. بالمُقابل فإنّ بدَنها الناعِمَ، المُعافى، كان هوَ سبب أرق لياليّ، المُعَذّب. ثمّة، على المُرتفع المُشرف على حجرة الايجار، أعتدّتُ رؤية " زهراء " وهيَ تنتصبُ بقوامها الفارع، المُمتليء، وفي يَدَيْها أحد كتب البكالوريا، الأدبية. إنها تتقدّم لتلك الشهادة، للمرّة الثانية، بعدما سبقَ وخابَ أمَلها بالفرع العلميّ. وبما أنني كنتُ أيضاً أهمّ بإعادة امتحان البكالوريا ( على أمل الانتساب لكلية الفنون الجميلة )، فلم يَكُ هناك أفضل من هذه السانحة، لكي أتبادل الحديث مع الحسناء. بيْدَ أنّ صاعقة ً، داهِمَة، عليها كان أن تتنزل على شهر الخير، وكانت ثمارُهُ ما تفتأ غير ناضجةٍ بعدُ.
***
" لن يكون بوسْعنا، مِن الآن فصاعداً، الذهابَ إلى بسنادا "، خاطبني ذلكَ الأخرَقُ بلهجةٍ فيها ما فيها من الحَرَج والشعور بالذنب. ولمّا كنتُ قد أفقتُ بعدُ من وَهلة البغتة، الأولى، حينما بدأ " بوز الكلب " في قصّ تفاصيل آخر مُغامراتِهِ في تلك الضاحيَة، الساحِرَة. وعلى أيّ حال، فإنّ هكذا نهاية لم تكُ غير متوقعة: لقد ضُبِط المُتلصصُ بالجُرْم المَشهود ( كما يُقال عادة ً في مثل هذه القضايا )، في مساء اليوم الفائت؛ أين كنتُ مناوباً في المُعسكر. ابنُ صاحب الدار، كان على ما يبدو قد أخذ بمُراقبة الآخر، وعن بُعْدٍ مُناسب، إلى حين أن أذنتْ اللحظة الحاسمَة. هذا الفتى، الذي يَصغرنا سناً بقليل، كنتُ قد التقيتُ معه ذاتَ مرّة. هناك، في حجرة الايجار الأخرى، التي يَتعهّدها المُجند الحلبيّ، سبق لي ان استمعتُ بضجَر إلى تبجّح ذاك الفتى في ما لا يعلمُهُ إلا خالقهُ. وإذن، كان أمْراً فرْطاً احتياطُ " بوز الكلب " وحَذرُهُ: أثناء طقس الاغتسال، الأنثويّ، المعْتمِلُ صَخبُهُ في حجرَة الحمّام، يكون هوَ حائماً حولَ برميل المياه، مُتسلّحاً بكوز المرحاض للمفاجآت غير المَرْغوبة.
" ماذا دهاكَ، يا أخ؟.. لقد كنتُ أهمّ بإملاء هذا الإناء لحاجتي الخاصّة "، قالَ مُتصنعاً نبرَة البراءة بمواجهة " الأخ "، المُقتحِمَ على غرّة بقعة التلصص. غيرَ أن تلك الحيلة، في آخر المَطاف، لم تجدِ شيئاً. من جهتي، فإنّ هذه التجربة، المُخجلة ولا شك، جعلتني أحْجِمُ عن المُشاركة في السكنى مع أيّ من الأفراد، المُجندين. بعد شهر، أو نحوَه، دعاني صديقي " كريم "، الرقيبُ المُجند، إلى تقاسم حجرةٍ في بناء حديث، يقومُ في منطقة " المَشروع ". ولأوّل مرّة، مذ حلولي في اللاذقية، أتمتعُ بالسكنى في شقةٍ مَفروشة بأناقة، فضلاً عن مطبخها وحمّامها، المُجَهَزيْن بأرقى الوسائل. ثمّة، كان يَنزلُ أيضاً طلابٌ يَنحدرون من مَحافظة أدلب، يَشغلون ثلاث غرف. في أحد أيام الخريف، وفيما كنتُ خارجاً من المَطبخ، إذا بي أفاجأ بدخول أفراد من المخابرات العسكرية إلى الشقة. كانوا عندئذٍ يُحيطون بواحدٍ من أولئك الطلبَة، وما لبثوا أن أمروه بفتح باب حجرته. فما أن صرتُ داخل غرفتي، حتى أطلّ أحدُ العناصر الأمنية لكي يبدأ بطرح بعض الأسئلة، وعلى سبيل الدردشة. عند ذلك، سألته بدَوري ما إذا كان يَعرف الرقيبَ المُتطوّع، " ديب ". وإذ أبدى سرورَهُ، لأنني صديق قديم لزميلهم هذا، فقد ثنيتُ بسؤال آخر يَتعلّق بسبب توقيف ذلك الطالب الجامعيّ. فأجابني وهوَ يَتضاحك بخفة: " إنه شخصٌ مُنحرف. هذه هيَ المرة الثالثة، التي يُضبط فيها وهوَ يتحرّشُ بالفتيات على الكورنيش أو في الحافلة العموميّة ". إذ ذاك، تفكّرتُ في شيءٍ من القلق بصاحبنا الصالحانيّ، الأخرق؛ هوَ من يُعدّ " مُحتَرِفاً " في هكذا مَجال.
لم أمكث في تلك الشقة، الجديدة، أكثرَ من شهرين. طبعُ شريكي في الحجرة، الصّعب، كان المُشْكِل هنا. إلا أننا، على أيّ حال، تفارقنا على ودّ. فما لبث " كريم " أن وافق بحماس على عَرْض زميله، اللدود؛ الموجّه السياسي، القادم من جبال الكرد: إنّ " عارف " هذا، كان في حينه قد قصّ عليّ، أولاً بأول، تفاصيلَ علاقته المُلتبَسَة مع امرأة ريفيّة؛ مَعروفة باسم " أم سليمان "، مُقيمة مع وحيدها، الفتيّ، في احدى حارات المدينة القديمة. كلاهما، المرأة والرقيب، كان مُستأجراً ثمّة في البناء العتيق، شبه المُتداعي، والمُكوّن من دورَيْن. ما أن أدركَ موجّهُنا السياسي سرَّ الفتيات، المُتبرّجات بشكل مُبالغ فيه، واللواتي كن دائبات على الحضور إلى شقة جارتِهِ تلك، حتى قبِلَ بسرور مهمّة تدريس ابنها مواد الشهادة الاعدادية. لاحقاً، دُعيتُ إلى زيارة حجرة الصديقيْن، لأدهَشَ ولا غرو من حالة الصفاء، السائدة بينهما. فما أن غادر " عارفُ " الغرفة، في طريقه إلى الدور الأرضيّ، حتى بصقَ الآخرُ في إثره: " تفوو.. إنه يُضاجع تلك البقرة، العلويّة، دونما أن يخجل من ابنها، الأطول منه قامة ً.. "، هتفَ بقرَف. بيْدَ أنه، وقد استعادَ رواءَهُ ، ما عتمَ أن حدّثني عن مُضاجعته لإحدى فتيات " أم سليمان "، مُقابلَ مَبلغٍ ماليّ ليسَ بالجَسيم.. بالنسبة لمَوْردنا العسكريّ، طبعاً. وقالَ أنّ " البنتَ " هيَ أصلاً من احدى القرى التركمانية، سبق وفرّتْ مع أحدهم إلى مدينة " انطاكية ". ويبدو أنها عادَتْ من هناك لوَحدها، كي تجدَ نفسها من ثمّ في رعاية تلك " البقرة ". حينما كان صديقي، المَلولُ، يَتكلّم بشيء من الشفقة عن فتاة تجربته الجنسية، الأولى، فإنني استعدّتُ على الفور صورة " أم فريد "، الفاتنة.
[email protected]



#دلور_ميقري (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)

الكاتب-ة لايسمح بالتعليق على هذا الموضوع


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- ذكريات اللاذقية 8: الجَماعة
- ذكريات اللاذقية 7: المُسخَرون
- ذكريات اللاذقية 6: بهاليل وأبالسة
- ذكريات اللاذقية 5: مَراتب وحجّاب
- ذكريات اللاذقية 4: الطريقُ الخَطِر
- ذكريات اللاذقية 3: مدير الندوة
- أوديب على أبواب دمشق
- حكاية كتاب 3: التجربة
- حكاية كتاب 2: الرّحلة
- حكاية كتاب: الاكتشاف
- طيورُ الظلام: اسلامٌ مُسيّس وفساد سلطويّ
- فيلمُ الغموض والغرابة
- أسمَهان 2012؛ لحنٌ لم يَتمّ
- الفعلُ الشعبيّ في فيلم رَيا وسُكينة
- المطبخ التركي
- مُريدو المَسجد
- ذكريات اللاذقية 2: جبل الأكراد
- أدونيس؛ مفرد بصيغة الطائفة
- أنا القائد الكاريزمي
- دبّوس السلطان


المزيد.....




- حكاية الشتاء.. خريف عمر الروائي بول أوستر
- فنان عراقي هاجر وطنه المسرح وجد وطنه في مسرح ستوكهولم
- بالسينمات.. فيلم ولاد رزق 3 القاضية بطولة أحمد رزق وآسر ياسي ...
- فعالية أيام الثقافة الإماراتية تقام في العاصمة الروسية موسكو
- الدورة الـ19 من مهرجان موازين.. نجوم الغناء يتألقون بالمغرب ...
- ألف مبروك: خطوات الاستعلام عن نتيجة الدبلومات الفنية 2024 في ...
- توقيع ديوان - رفيق الروح - للشاعرة أفنان جولاني في القدس
- من -سقط الزند- إلى -اللزوميات-.. أبو العلاء المعري فيلسوف ال ...
- “احــداث قوية” مسلسل صلاح الدين الجزء الثاني الحلقات كاملة م ...
- فيلم -ثلاثة عمالقة- يتصدر إيرادات شباك التذاكر الروسي


المزيد.....

- خواطر الشيطان / عدنان رضوان
- إتقان الذات / عدنان رضوان
- الكتابة المسرحية للأطفال بين الواقع والتجريب أعمال السيد ... / الويزة جبابلية
- تمثلات التجريب في المسرح العربي : السيد حافظ أنموذجاً / عبدالستار عبد ثابت البيضاني
- الصراع الدرامى فى مسرح السيد حافظ التجريبى مسرحية بوابة الم ... / محمد السيد عبدالعاطي دحريجة
- سأُحاولُكِ مرَّة أُخرى/ ديوان / ريتا عودة
- أنا جنونُكَ--- مجموعة قصصيّة / ريتا عودة
- صحيفة -روسيا الأدبية- تنشر بحث: -بوشكين العربي- باللغة الروس ... / شاهر أحمد نصر
- حكايات أحفادي- قصص قصيرة جدا / السيد حافظ
- غرائبية العتبات النصية في مسرواية "حتى يطمئن قلبي": السيد حا ... / مروة محمد أبواليزيد


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - دلور ميقري - ذكريات اللاذقية 9: المَسْغبة