|
خلق العالم 2- المغزى
نعيم إيليا
الحوار المتمدن-العدد: 3700 - 2012 / 4 / 16 - 19:36
المحور:
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
في الملحوظة السابقة من (خلق العالم) أنّ العالم، في تصور أكثر الفلاسفة حتى الإلهيين منهم، أزليّ غير مخلوق. ولهؤلاء الفلاسفة في توكيد ذلك حجج عقلية كثيرة، ألمحنا إلى أبرزها في تلك الملحوظة على نحو خاطف، واكتفينا بالتلميح لشيوعها وكثرة تداولها. إنّ فكرة أزلية العالم، تستدعي بالضرورة التفكير بالغاية منه. ولكنّ هذه الفكرة، وإن كانت قادرة على حلّ معضلات متعلقة بالعالم: مثل معضلة وجود الخالق، تبدو غير قادرة على إيجاد حلّ لمشكلة (الغاية) من وجود هذا العالم، بل إنها لتبدو عاجزة عن إيجاد حلّ لمشكلة الغاية من الحياة؛ التي هي جزء من العالم الكلي اللامحدود. ما هي الغاية من وجود العالم؟ ما هي الغاية من الحياة؟ إنها لمعضلة حقاً! ولسوف تشغل العقلَ مذ يبدأ العقل يعي ذاته، ولسوف ينقسم العقل البشري إزاءها إلى اثنين: فمن عقل رأى للعالم والحياة غاية، ومن عقل لا يرى لهما غاية. فالعقل الذي رأى للعالم غاية، حدَّ غايته في الكمال (التطور) أو الجمال، أو الانتظام والاتساق. وحدَّ الغاية من الحياة في الخير، أو اللذة، أو الإبداع، أو ما شاكل ذلك. والعقل الذي لم ير للعالم غاية، لم ير فيه غير المادة المصمتة والحركة الأبدية. ولم ير في الحياة تبعاً لذلك، مغزىً أو غاية. هذان هما التياران العقليان اللذان يتجاذبان معضلة الغاية – وقد أهملنا ما يدعى بالتيار اللاأدريّ؛ لأنه لا يخلو من أن يميل إلى هذا التيار مرة، وإلى ذاك التيار مرة - ففي أيِّ واحد منهما تتمثّل الحقيقة؟: في مقالة لها بعنوان (تأملات في الحياة)، عبّرت الكاتبة السيدة فؤادة العراقية [1] عن اهتمامها بهذه المعضلة، فقالت: ((المتفائل والمبتهج بحياته، يرى دائمآ ضوءاً غير موجود، ولكنه يريد أن يراه ويعيش في الوهم؛ وهم حياة لم يخترها بإرادته، وهذه بدورها مهزلة الحياة حيث لا يوجد بيننا من اختار حياته. فكرتُ؛ فاستنتجت أن هذه الدنيا أحقر من أن نفكر بها؛ لأن مقاييسها ضاعت وسط زحام رهيب.. فكل شيء زائل إلا الزوال، فإنه لا يزول. وكل حي مصيره الموت إلا الموت، فإنه لا يموت. بديهيات لكنها غريبة وغير مقبوله لنا، فما معنى حياتنا إذا كانت بديهياتها غير مقبولة؟ إن كل طرقنا قصيرة، ما دامت تؤدي إلى الموت: ما نفع الكلام؟ وما نفع البحث؟ وما نفع كل ما نفعله وهو في النهايه زائل؟ أعلم أن الموضوع غير مجد، وأعلم أن الجميع يعلم بتفاصيله، ويعلم أن ليس من حل له ولا من بديل، ولكنه التفكير، ونحن مرغمون على التفكير، حتى لو كان عقيماً. حياتنا صدفة لا نستطيع حساب حجمها لضآلتها.. إنها صدفة من عدد لا نهاية له من الصدف...)). ومع أن قولها هذا مقصور على الغاية من الحياة، فإنه يحمل في داخله تصوراً عن مغزى العالم الكليّ أيضاً، يستنتج منه أن العالم يفتقد المعنى، ما دامت الحياة تفتقده. ولكنها في مقالة أخرى بعنوان (حول الموت والآخرة) لن ترى الحياة زائلة فانية خاوية من المعنى، فهناك الخلود، الذي يسعى الإنسان إليه بالإنجاب وتوريث الجينات والأفكار إلى الأجيال المتعاقبة: ((فالإنسان لا يموت، طالما ترك وراءه بصمة تذكر. وهو غالباً ما يترك هذه البصمة سواء كانت فكرة مؤثرة أو أبناء باقين وراءه. أما الموت فللجسد فقط؛ فالجسد فان لا محالة ..)). ويضيف السيد طلعت ميشو (الحكيم البابلي) إلى الحياة معاني أخر، تتفق مع النزعة (الإبيكورية) أشهرها: المتعة والسعادة، وذلك حين يتحدث عن حياة الناس في الغرب، مقارناً إياها بحياة الناس في الشرق: ((ولهذا تعجبنا حياة الغرب المبنية على العقل والحرية الشخصية وفهم المغزى الحقيقي الأصيل من هذه الحياة القصيرة الواحدة التي ليس بعدها حياة أخرى كما يدعي الخزعبلاتيون من عبيد الدين والمقدس. الغربيون يعرفون حقائق الحياة أكثر من الشرقيين... ويُريدون أن يتمتعوا بأكبر وقت ممكن من حياتهم ووقتهم بكل حرية وسعادة وأوكسجين فكري لإدامة الفرح والإنعتاق من كل سخافات التخلف الإجتماعي...)). وفي مجال المقارنة أيضاً، يؤكد السيد عبد الرضا حمد جاسم، أن الغربيين أدركوا من معاني الحياة الصدقَ والحبَّ: (( لم يتعبهم الشك ومراقبه الآخرين؛ لأنهم لا يفكرون بإضاعة الوقت بالترهات، لذلك ترينهم مرتاحين يقولون ما يريدون ولا يطمعون بما يملك الغير؛ لأنهم يملكون أثمن الأشياء: الحب والصدق)) غير أن السيدة ليندا كبرييل، ستتصور للحياة غاية تتجاوز في خطورتها الغاية التي تصورتها فؤادة العراقية والبابلي والجاسم؛ إنها بناء العالم يبنيه جيلٌ لجيل، وقد صاغتها في إطار الواجب الأخلاقي: ((الحياة لا معنى لها، لو أمضيناها بلا هدف... الحياة مضحكة لو عشناها لأهداف ضحلة، ولم نفكر أن نجعل العالم أفضل للأجبال التالية. على كل إنسان كل يوم قبل أن ينام، أن يقيم جرداً لأفعال ذلك اليوم: ماذا قدم ؟ وماذا جنى؟ وكيف شارك؟ وأن يفكر لغده بنفس الأسئلة بصيغة المستقبل، ولا بأس ببعض التشاؤم شرط ألا ترجح كفته، وإلا فقدنا صانع الحلم : التفاؤل)). أما السيد سامي لبيب، فله عناية خاصة بهذه القضية، تفوق عناية الآخرين ممن ذكرناهم، وقد خصَّها بأكثر من حديث ومقالة. ولكن منطلقه إليها لم يكن البحث الفلسفي المجرد، وإنما الطعن على أشدّ المعتقدات رسوخاً في الأديان؛ وهو الاعتقاد، لدى المتدينين، بأن الغاية من الحياة، إنما هي العبادة والخلود في الفردوس أو الاتحاد بالأول، يقول: ((فى مقال لى بعنوان (الدنيا ريشة فى هوا) من سلسلة مقالات (لماذا يؤمنون وكيف يعتقدون) أثرت قضية مهمة تنطلق من أن الإنسان يخلق معنى وغاية فى عالم بلا معنى. فأسطورة الجنة والجحيم، لا تقف عند حد طلب الخلود والبقاء واللذة، ولكنها فى عمقها تحاول أن تعطي معنى للحياة والوجود؛ هو أننا كيانات مختلفة ومتميزة فلسنا دودة تسحقها الأقدام أو ريشة تذروها الرياح...)). ويقول في مكان آخر شارحاً: ((الغاية التى أعنيها هى عدم وجود هدف تم التخطيط والتدبير له من قوى عاقلة ذات إرادة وشخصية؛ أى أن الوجود والحياة، ليس هناك من أعد لهما لهدف وغاية في نفسه.. بل نحن من نضع الهدف والغاية للأشياء حتى يكون لها معنى. نحن نخلق الغاية، ونجعل للوجود معنى: فنتحمس لقضية ما حتى لو كانت بسيطة، نتعاطف مع أشياء، نحب الجمال والفن، نشغل أنفسنا، نمارس حياتنا كبشر، ولكن يبقى أننا لا نعيش وهم الغاية ونستسلم له كما يفعل المؤمنون فنحن ندرك جيداً أننا نخلق المعنى لنمارس الحياة...)). بيد أن قوله بأن الإنسان يخلق المعنى، ويضفيه على حياته وعلى العالم – وهو قول كثير من الفلاسفة أمثال نيتشه وألبير كامو - لا يقدم حلاً للمعضلة؛ فهو، إما أنه حين يدعي أن الإنسان يخلق معنى للحياة، يتصور العدم؛ لأن الخلق لا يكون إلا من العدم، والعدم محال. وعلى هذا، فكيف له أن يدعي مثلاً أنّ معنى اللذة مختلق!؟ هل كانت اللذة غير موجودة فخلقها الإنسان، ثم أضافها إلى حياته؟ وإما أنه ينظر إلى المعضلة بعين الإنسان الواعي المتطور، مع أنّ الحياة والعالم كانا موجودين قبل أن يوجد الإنسان ويتطور؛ مما يعني أن هذه النظرة إنسانية بحتة قاصرة عن فهم المغزى الحقيقي للحياة والعالم. فلو استطعنا أن نستبعد بخيالنا الإنسانَ من مشهد الحياة، فماذا يحدث؟ هل ينتفي المغزى من الحياة والعالم بالإضافة إلى الكائنات الأخرى، أو بالإضافة إلى العالم ذاته؟ ماذا عن الفيلة، والدلافين، والفئران، والحشرات والخلايا؟ هل الغاية من وجودها هي اللذة أو الخلود، أو البناء، أو ... كما هو عند الإنسان؟ وماذا عن العالم الذي لا يعقل في نظرنا ولا يحس ؟ أليس له من غاية؟ فإذا لم تكن له من غاية كما يزعم طائفة من الفلاسفة والعلماء، فلماذا هو موجود إذاً؟ وإن كان له مغزى، فما هو المغزى من وجود هذا المغزى؟ ربما بدت هذه التساؤلات حائرة عصيّة، وقد يعجز العلم عن الإجابة عنها، غير أن الفلسفة لا تعدم الجواب عنها: فإذا كنا لا نستطيع أن نتصور الحياة أو وجود الكائنات من دون أن يكون لوجود هذه الكائنات مغزى، ولا نستطيع أن نتصور العالم الكلي من دون غاية؛ لأنّ الغاية متى انتفت، انتفى وجود الكائنات والعالم؛ فإنّ الغاية من وجود العالم، لن تكون شيئاً آخر غير وجوده. إن الوجود هو غاية الوجود. _____________________________________________
[1] استعنت بآراء الزميلات الكاتبات والزملاء الكتاب، ولم أستعن بآراء الفلاسفة والعلماء؛ لأن آراء هؤلاء لا تكاد تزيد عما جاء لدى الزملاء حول هذه المسألة.
#نعيم_إيليا (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
خلق العالم
-
إيميل من صديقته السورية
-
في ضيافة يعقوب ابراهامي
-
ماركسيٌّ بل مسلم والحمد لله
-
سامي لبيب تحت المطرقة
-
المنهج القسري في أطروحة فؤاد النمري (الرسالات السماوية)
-
الإباحية في أدب النساء العربيات
-
الحوار المتمدن يسهم في التحريض على المسيحيين في بلاد الشام
-
ما جاء على وزن الذهان من مقالة السيد حسقيل قوجمان
-
حملة الأريب على سامي بن لبيب
-
رسالة الطعن في النساء
-
الحقيقة بين التلجلج واللجاجة
-
الأستاذ حسين علوان متلجلجاً داخل شرك المنطق
-
شامل عبد العزيز بين أحضان المسيحية
-
سامي لبيب والرصافي خلف قضبان الوعي
-
ضد عبد القادر أنيس وفاتن واصل
-
إلى الأستاذ جواد البشيتي. ردٌّ على ردّ
-
بؤس الفلسفة الماركسية (6)
-
بؤس الفلسفة الماركسية (5)
-
بؤس الفلسفة الماركسية (4)
المزيد.....
-
قرية زراعية عمرها 300 سنة.. لِمَ يعود إليها سكانها بعد هجرها
...
-
فيديو حصري من زاوية جديدة يوثق لحظة تصادم الطائرتين في واشنط
...
-
حزب -القوات اللبنانية- يطالب الحكومة بالتوضيح بعد مسيّرة -حز
...
-
قنبلة داعش الموقوتة تهدد بالفوضى في الشرق الأوسط - التلغراف
...
-
أبو عبيدة يعلن أسماء الرهائن الإسرائيليين المتوقع الإفراج عن
...
-
اتفاق الهدنة: إسرائيل وحماس تتبادلان قوائم المقرر إطلاق سراح
...
-
بعد تمرير خطة اللجوء.. هل انكسر -الجدار الناري- عن اليمين ال
...
-
أيقونة معمارية شاهدة على التاريخ.. العزبة القيصرية -إيزمائيل
...
-
بالفيديو والصور.. موجة ثلوج غير مسبوقة تشهدها بعض المدن الجز
...
-
الرئيس الجورجي: دول غربية ضغطت علينا للوقوف ضد روسيا في نزاع
...
المزيد.....
-
حوار مع صديقي الشات (ج ب ت)
/ أحمد التاوتي
-
قتل الأب عند دوستويفسكي
/ محمود الصباغ
-
العلاقة التاريخية والمفاهيمية لترابط وتعاضد عالم الفيزياء وا
...
/ محمد احمد الغريب عبدربه
-
تداولية المسؤولية الأخلاقية
/ زهير الخويلدي
-
كتاب رينيه ديكارت، خطاب حول المنهج
/ زهير الخويلدي
-
معالجة القضايا الاجتماعية بواسطة المقاربات العلمية
/ زهير الخويلدي
-
الثقافة تحجب المعنى أومعضلة الترجمة في البلاد العربية الإسلا
...
/ قاسم المحبشي
-
الفلسفة القديمة وفلسفة العصور الوسطى ( الاقطاعية )والفلسفة ا
...
/ غازي الصوراني
-
حقوق الإنسان من سقراط إلى ماركس
/ محمد الهلالي
-
حقوق الإنسان من منظور نقدي
/ محمد الهلالي وخديجة رياضي
المزيد.....
|