|
ليلـة قرطاجيـة
بدر الدين شنن
الحوار المتمدن-العدد: 1081 - 2005 / 1 / 17 - 11:24
المحور:
الادب والفن
لم يكن يدري أحد من سكان حلق الواد الذين يطلون على قرطاج ، أن حدثاً هاما ً ، سيقع في تلك الليلة الصيفية الهادئة ، بين بقايا المدينة العريقة .. بين الأعمدة المتناثرة والجدران المبعثرة . ولم تثر بعض الظواهر الغريبة ، أي اهتمام لديهم . وإذا كان بعضهم قد حدس بشئ ، فإن هذا لم يعد’ الإحتمالات التي يسمح بها وعيهم الذي اعتاد عل المألوف من الأحداث ، وأسلموا أنفسهم لسبات النوم كأي ليلة أخرى . الاَ سيدي إدريس فقد اتجه حد سه باتخاه آخر ، وبعد أن تمدد في سريره وهم بالنوم ، خطر له ما أ سر له به جده ذات يوم وهما جالسين بين أعمدة التاريخ
لقد اقتربت ياإدريس .. حان موعدها . إن بقيت’ حياً نراقبها معـاً ، وإن قضيت’ تتابع ذلك وحدك
ما هذه التي اقترب موعدها ياجدي؟ إنها ليلة ليست كالليالي .. تأتي كل مائة عام .. ليلة تعود فيها الأرواح إلى قرطاج .. على الأرض التي وجدت عليها . إنها لحظة تتوحد فيها الأزمنة , ويتوقف التاريخ حائراً أمام السؤال .. أيبشر ,, أم ينذر؟ وماهي علاماتها ياجدي؟ سوادها حالك لاتخترقه الأبصار . وفي الأعالي تفرش المجرة الأنوار . ومن كل صوب تتطاير الشهب مثل فراش من نار والناس .. هل يدرك الناس ما يجري؟ لا إنهم لايدركون .. بل يتخوفون ويلوذون بالنوم . وعندما يجدون في اليوم التالي ، أن تغيراً ما قد حدث في المكان ، يلجؤون إلى الخرافات والأساطير في الشرح والتفسير فقط من يكتب له المجئ إلى هنا في تلك الليلة ، يتحقق له الكشف ، لكنه لايعود كما كان وقد أخبرني جدي ، أن جدنا الكبير مولاي عبد القادر هومن تحقق له الكشف . وبعد أن عاد صباح تلك الليلة ، لم يعرفوه بادئ الأمر ، فقد بدى أنه كبر مائة عام . وآثر بعد أن لقبوه بالمجنون . أن يعتزل الناس . وقبل أن يموت أسر لأكبر أولاده بما رأى ، وأوصاه بعدم البوح به لأحد .. إلاّلمن يثق به من اولاده أو أحفاده ، لعله يحظى بما حظي به من فضل . وبعد موته صار يجئ الناس في الأحلام .. ينصحهم ويردد عليهم ما كان يقول لهم . فندموا على معاملتهم السيئة له ، واعتبروه عالماً وولياً صالحاً ولماذا لقبوه بالمجنون ياجدي؟ لأنه كان يردد أمامهم عبارات وأقوال ، لم يجدوا فيها ، لسذاجة عقولهم ، ما يتعلق بشؤونهم وهمومهم .. كان يقول لهم وهو ينظر إليهم بعينين دامعتين ا شتروا الحياة بالموت .. فمن يعز عليه الموت يخسر الحياة لقد باعوا " عشتار " وباعوا قرطاج حذار من روما .. حذار من روما
ولما كانوا يضحكون منه ، ويقولون له : أية قرطاج ..؟ .. لقد ولى ذلك الزمن . كان رحمه الله يرعليهم بأبوة صادقة دائماً هناك روما وقرطاج .. دائماً هناك روما وقرطاج
حدق سيدي إدريس في الظلام عبر النافذة باتجاه الأطلال . وتذكر ما قاله جده في ذلك اليوم إن هذه الليلة لاتنكشف إلاّعلى قرطاجي يولد في اللحظة التي يبتلع فيها الحوت القمر .. ومجموع حساب حروف ا سمه وا سم أبيه وجده وجد جده يبلغ المائة
ولم لاأكون أنا في هذا الزمن من كتب له الكشف؟ ألا تقول جدتي حين تسأل عن عمري ، أنه ولد في الليلة التي ابتلع فيها الحوت القمر هكذا قال سيدي إدريس لنفسه .. ثم ا ستنفر حوا سه لعله يدرك المزيد وهو ممعنن في تداعيات الحدس والرمز وجد نفسه منطلقاً نحو الأطلال دون أن يدري كيف حصل ذلك . وخلال سيره ، غابت من على جانبي الطريق المباني والقصور والفنادق ، وحلت محلها شجيرات ومساحات عشبية وصخور ناهدة ، وشرعت أصوات تستفز أعصاب القلب ترافق خطواته .. أربكته بعمقها وإيقاعاتها .. ثم أرعبته حتى تبللت ثيابه بالعرق . وكلما اقترب من الأطلال كانت الأصوات تزداد وضوحاً ورهبة . كانت صرخات ألوف مؤلفة من الرعب من موت أفظع ما يكون الموت .. وأنين احتضار يائس .. وهسيس حرائق مهولة .. وارتطام أجسام هائلة تسقط من عل وتنهار .. تشبه انشطار الأرض حين يضرب زلزال جبار . اضطرب سيدي إدريس .. فكر .. راح يبحث عن المجهول حوله فلم ير شيئاً .ولما نظر إلى السماء .. أصابه الإنبهار . وتساءل بخوف وخشوع .. أهذه هي الليلة التي حدثني عنها الجد؟ هل كان منذ البدء يعرف أنني من كتب له الكشف؟ وقال في نفسه : لا هذا فوق طاقتي .. على أن أعود . لكنه شعر أنه موجه نحو الأطلال بفعل إرادة لاقدرة له على ردها . وأدرك أن الأمر لابد أن يتم ، شاء أم لم يشأ . وبشئ من التسليم والرغبة ، راح يتابع المسير ولما وصل إلى الأعمدة الأولى لم يلحظ شيئاً .. ليس هناك أحدا .. لاصوت .. لاضوء . وبذهول تام جلس على حجر كبير وأ سند رأ سه إلى عمود مكسور .. تنفس بعمق .. ا ستراح.. وراوده إحساس أن مايجري معه الآن ، إن هو إلاّ منعكس لأحاديث جده الدائمة عن قرطاج ، التي كان يسميها " العروس المستباحة الذبيحة " التي بادل السادة على شرفها وحياتها بالسراب .. وطمأن نفسه ، أن شيئاً ضاراً لن يحدث له
* * *
لقد جئت في الوقت المناسب ، أغمض عينيك حتى ترى أغمض إدريس عينيه مستسلماً دون أن يعرف مصدر الصوت . ولما أغمض عينيه ، فقد الإحساس بما كان ، صار في عالم آخر .. رأى نفسه أمام مشهد عجيب .. مشهد لم تقاربه حكايا الجد السالفة .. ولاتستطيع أ سطورة أن تصفه . لقد عادت الروح إلى قرطاج . إنتصبت الأعمدة .. نهضت الدور وتجمعت .. تحلقت القصور والدروب حول ساحة عظيمة يتصدرها هيكل عبادة مهيب .. وثمة جموع من الناس يلبسون ثياباً لم يشاهدها من قبل .. سيماؤهم تختلف عما يعرفه من الناس . ألاّ أنه لم يشعر نحوهم بالغربة .. بل أحس أنه واحد منهم .. ولد وترعرع بينهم .. تنير تجمعاتهم مشاعل معلقة على أعمدة ونيران متقدة في أجران حجرية ولما أكمل ا ستجلاء المشهد ، وجد أمامه رجلاً متوسط العمر ذا لحية سوداء جميلة ، بادره بالقول أنا قرطاجي مثلك .. ا سمي زيدون .. ولدت ومت في قرطاج . لكن أبي جاء من هناك .. من حيث تشرق الشمس . سأكون طوال الوقت معك . سوف ترى وتسمع دون أن ’ترى .. إلاّ حينما تنادى با سمك .. إذا سئلت فمن حقك أن تتكلم أو تصمت .. وإذا تكلمت فليكن ما تقوله نابعاً من القلب
وبدأت أمام الهيكل الشامخ طقوس أضاءت لحظات الإفتراق بين الحياة والموت .. بين الوجود والعدم . وكثقت الحدث . كل شئ كان يتحرك حتى الحجارة .. كل يتكلم باللفظ والإشارة . لكن ما سجلته الذاكرة لم يكن إلاّ صوراً ورموزاً تتداخل فيها الأزمنة والناس والدماء . ومن شدة تسارعها وعنفها ، فقد سيدي إدريس توازنه .. ابيض شعره .. ووهن قلبه , وأحس أن وزراً فظيعاً قد حط فوق صدره
* * *
جندي جريح قال لزميله قبيل الطعنات القاتلة كان ينبغي ألاّ نستسلم
رجل من العامة يكلم نفسه وهو يهم بالهرب مع الجموع المذعورة كان ينبغي ألاّ نصدق روما
أحدهم يبدوأنه من السادة أمام سيدة تبدو في مقام ملكة .. يبرر ويفسر وهو يرتعد من الخوف كان الأمر بالنسبة لنا حرب أو حياة .. نقاتل ونقتل أو نتمتع بمباهج الدنيا
رجل بلباس عسكري يرد بحزم بل كان أمامنا خيارات كثيرة
أحدهم يقول وأنت ياهاني بعل قل كلمتك عنما ا ستسلمنا لسلامهم ذبحنا
* * *
والآن حدثنا ياإدريس.. ماذا يفعل سادة هذا الزمان من أجل قرطاج ؟ هكذا وجه زيدون السؤال إلى سيدي إدريس دون مقدمات . فوجئ سيدي إدريس .. ماذا سيقول لأرواح القرطاجيين التي تنتظر منذ إثنتي وعشرين مائة عام أن تسمع البشرى بعودة قرطاج كما كانت أم الدنيا وتاجها . تردد .. أرتج عليه وآثر حزيناً الصمت .. أيقول لهم إنهم يدعون السياح ليتفرجوا عليها .. ويغنون ويرقصون على جراحها ليجمعوا الأموال ؟
عاد زيدون وسأل ألا يفكرون بإعادة بنائها ؟ ظل إدريس صامتاً , لم يطاوعه قلبه أن يقول شيئاً عن ا ستمرا ر الأحوال السائدة المماثلة لتلك التي دمرت قرطاج ، لكن دموعه خذلته .. تقاطرت من عينيه .. حاول أن يعقلها بجفنيه .. لكن العبرة تعانقت مع العبرة ، وانقلب الوجوم إلى هرج ولغط حتى علا صوت زيدون سائلاً ورومـا..؟ .. رد إدريس متألمـاً ما زالت روما تبتزنا .. تخدعنا .. تحاصرنا تهاجمنا .. وأكثر من بوبيوس متغطرس يخترق الأبواب
وبصوت جماعي جنائزي رتل الحاضرون السؤال هل يعني هذا أن الآفاق موصدة بأقفال الشر ..وأن علينا أن نحترق ونتيه أزمنة أخرى ؟
حاول سيدي إدريس أن يقول شيئاً .. أن يشير إلى نوافذ ضوء واعدة .. أن يحكي لهم عن السواعد الأبية .. هناك حيث تشرق الشمس ، التي تتحدى النار وتصارع المحال بمحال اصعب ا ستحالة ، وتفتح الآفاق بآيات نادرة من البطولة .. بالحجارة والبطولة والبسالة . لكنه لم يستطع . ففي أقل من ومضة غاب كل ما كان حوله . وصحا ليجد أفق الشرق مصبوغاً بلون الدم . نهض وسار .. على غير هدى .. تتخبط .. تتعثر أقدامه بأقدامه . وفي رأ سه .. في مخيلته أ سئلة لاتحصى دون جواب . ورويداً رويداً انزاح شئ ثقيل عن قلبه .. ووجد نفسه حراً طليقاً من كل شئ .. وترك لنفسه العنان
ولما سألوا عنه قال راع بين قرطاج وبوسعيد .. لقد مر بي البارحة عجوز قوي كالشباب . ولما طلبت منه أن يستريح بعض الوقت قال : لاوقت الآن للراحة وبعد سير ساعة عل الأقدام من سيدي بوسعيد ، قالت إمراة عجوز تجلس تحت شجرة كبيرة لقد رأيت سيدي إدريس بين النوم واليقظة ، يركب حصاناً كبيراً طائراً في السماء وقال سائق شاحنة يشرب قهوة في محطة للوقود في الطريق إلى تونس بعد أن صعد إلى جانبي سألته إلى أين ..قال : إلى حيث تشرق الشمس
#بدر_الدين_شنن (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
أحرار جزيرة العرب .. نحن معكم
-
الجمرة
-
أزمة الزعامة السياسية في سورية
-
ياعمال العالم اتحدوا
-
إضاءات على عام 2004
-
كل عام وأنتم بخير
-
آخـر زمن ..
-
ماذا بعد الرقم - 137 - في سورية؟
-
لهفي
-
صيرورة
-
تضامناً . . مع المعتقلين الأكراد
-
الصحافة الالكترونية .. والحوار المتمدن
-
حين لاوطن
-
مازال هناك المزيد
-
لن نقول وداعاً
-
الحوار والهدف
-
حين يفقد الحوار الإحترام
-
صرخات الهامس في - مثلث الاستبداد المقنن
-
من أجل أن يستمر الحلم
-
بالونات اختبار .. دمقرطة الاستبداد
المزيد.....
-
من باريس إلى عمّان .. -النجمات- معرض يحتفي برائدات الفن والم
...
-
الإعلان عن النسخة الثالثة من «ملتقى تعبير الأدبي» في دبي
-
ندوة خاصة حول جائزة الشيخ حمد للترجمة في معرض الكويت الدولي
...
-
حفل ختام النسخة الخامسة عشرة من مهرجان العين للكتاب
-
مش هتقدر تغمض عينيك “تردد قناة روتانا سينما الجديد 2025” ..
...
-
مش هتقدر تبطل ضحك “تردد قناة ميلودي أفلام 2025” .. تعرض أفلا
...
-
وفاة الأديب الجنوب أفريقي بريتنباخ المناهض لنظام الفصل العنص
...
-
شاهد إضاءة شجرة عيد الميلاد العملاقة في لشبونة ومليونا مصباح
...
-
فيينا تضيف معرض مشترك للفنانين سعدون والعزاوي
-
قدّم -دقوا على الخشب- وعمل مع سيد مكاوي.. رحيل الفنان السوري
...
المزيد.....
-
التجريب والتأسيس في مسرح السيد حافظ
/ عبد الكريم برشيد
-
مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة
/ د. أمل درويش
-
التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب
...
/ حسين علوان حسين
-
التجريب في الرواية والمسرح عند السيد حافظ في عيون كتاب ونقا
...
/ نواف يونس وآخرون
-
دلالة المفارقات الموضوعاتية في أعمال السيد حافظ الروائية - و
...
/ نادية سعدوني
-
المرأة بين التسلط والقهر في مسرح الطفل للسيد حافظ وآخرين
/ د. راندا حلمى السعيد
-
سراب مختلف ألوانه
/ خالد علي سليفاني
-
جماليات الكتابة المسرحية الموجهة للطفل في مسرحية سندس للسيد
...
/ أمال قندوز - فاطنة بوكركب
-
السيد حافظ أيقونة دراما الطفل
/ د. أحمد محمود أحمد سعيد
-
اللغة الشعرية فى مسرح الطفل عند السيد حافظ
/ صبرينة نصري نجود نصري
المزيد.....
|