|
الجنادرية والروح الجامعة
عبد الحسين شعبان
الحوار المتمدن-العدد: 3655 - 2012 / 3 / 2 - 23:07
المحور:
الادب والفن
الجنادرية والروح الجامعة عبد الحسين شعبان باحث ومفكر عربي كلّما حلّ موسم الجنادرية، كان الحديث عن مبادرة بلغ عمرها 27 عاماً، لاجتماع مفتوح لنخب متجددة من المثقفين العرب. ومن الإنصاف القول أن مبادرة خادم الحرمين إكتسبت روحاً جامعة بفعل الديناميكية التي امتاز بها عبد العزيز التويجري مهندس فكرة المهرجان، الذي استطاع بحكم كونه مفكراً منفتحاً أن يتعايش ويتجاور بين الأضداد وأحياناً أن يكون جسراً للتواصل والتفاعل، ولعله كان يجد في التماثل والتطابق سكونيةً وخمولاً، في حين كان يرى في الاختلاف والتنوّع جدلاً وحيوية، وصولاً إلى الحقيقة التي ظلّت هاجسه دائماً. كان التويجري يجد في الفلسفة والتاريخ والأدب سبيلاً للتعبير عمّا يريده من الحاضر والسياسي بشكل خاص، فيكتب بروح الفيلسوف والفلسفة تأمل وحكمة، ويروي بمنظور التاريخ وهو عبرةٌ ودروسٌ، بما فيه مراوغاته على حد تعبير هيغل، ويتحدث بلغة الأديب، بأناقة كلماته وجمالية صوره، تلك التي يستمدها من فضاء الصحراء وأفقها المفتوحة وألوانها المتنوّعة، وكان في كل ذلك كان بالغ المعنى وعميق الدلالة. وإذا كانت المبادرة كأي شيء جديد قد يبدو "مغامرة"، لاسيما عندما تبدو غريبة إزاء الساكن والمألوف والمتكرر من الأمور، الاّ أنها وهي الجديدة وكيما تصبح سائدة، مائزة ورائزة بعد حين،فهي تحتاج إلى بيئة خصبة وواقع مزدهر وإرادة لا غنى عنها لمواجهة التحديات. وهكذا كانت الجنادرية وهي تخطو خطوتها الأولى تحدّياً ووعداً يحتاج إلى برهان، وقد اختبرها العديد من المثقفين العرب، الذين كان بعضهم على حساسية غير قليلة حتى لا ينطوي الأمر على نوع من النفاق أو الإزدواجية أو الاستثمار غير البريء، لكن التجربة واستمرار سقف النقد ظلّ عالياً وكما هو معتاد، سواءً كان نقداً عاماً أو نقداً في المحافل والمجالس الخاصة دون مجاملة أو مداهنة، ولكن بحرص ومسؤولية، وتلك وظيفة المثقف الناقد، أو ما يطلق عليه المفكر الإيطالي أنطونيو غرامشي " المثقف العضوي". أعرف أعداداً من المثقفين الذين اقتربوا من الجنادرية عبر بوابة التويجري الثقافية، وظلّوا محافظين على توجهاتهم الفكرية، فقد كان صدره رحباً في التعامل مع مختلف الآراء والأفكار، وعلى حد تعبير الناقد رجاء النقاش كان يتلقى الاختلاف بمساحة كبيرة، حتى كسب إلى صفّه المئات ممن كانوا يعارضونه ويبتعدون عن رؤيته الفكرية بمسافات طويلة. وحسبي هنا أن أشير إلى كتاب المفكر حسن العلوي الذي أطلق على التويجري صفة "الروح الجامعة"، ولم أجد تعبيراً أكثر انطباقاً على التويجري من هذا التعبير البليغ والعميق وهو الروح الجامعة، فقد جمع الفلسفة والتاريخ والأدب والثقافة والسياسة في هارموني، حتى وإن بدا متناقضاً، لكنه كان متكاملاً وجدلياً بتعارضاته. ولأن روح التويجري جامعة، فقد "اجتمع إلى مجلسه الدهاة والعصاة والمؤمنون، الموالون لحكوماتهم والمعارضون، اليساريون منهم واليمنيون"، على حد تعبير العلوي، ومع بساطته ووضوحه وشفافيته، لكن المرء يحتار أحياناً كيف يصنّفه؟ حيث ظل عصياً على التصنيف أو الإختزال ويبدو أن من العبث التفكير في ذلك، لأنه من الصعوبة بمكان اكتشاف شخصيته المركّبة المتداخلة المتراكبة المتخالقة الشديدة الاشتباك، في حين تبدو في غاية البساطة والعفوية واليقين والوضوح. لعب التويجري أدواراً مختلفة، ابتداءً من صحبته ومرافقته لمؤسس المملكة وملوكها الستة، لكنه في الوقت نفسه كان مع المجتمع بتكويناته المختلفة يجمع قبائله ويقابل تناقضاته بروح الوحدة، جامعاً بين السياسة بتضاداتها المختلفة، وبين أهل الدولة وأهل الرأي عربياً وإسلامياً وعالمياً، حيث كان بيته ملتقى مفتوحاً للاجتماع والاختلاف بين المجموع والفرد، وفي الوقت نفسه ملتقى الاستقطابات والاصطفافات لشخصيات دولية متباعدة ومتناقضة. ظل التويجري صديقاً حميماً ووفياً للمتنبي الذي شاطره الفلسفة، أما المعرّي فقد كان زميلاً له يتنافس معه على الحكمة والعدل، وفي كل ذلك كان السؤال ملازماً له، وستدوم لديه الأسئلة سؤالاً فوق سؤال وسؤالاً يغري آخر، دون نهايات ودون إجابات، سوى أسئلة جديدة لموضوعات جديدة، وهو ما أسماه الكاتب والباحث عبدالله الغذامي بثقافة الأسئلة الغائبة عن فكرنا المعاصر. وإذا كان التويجري سياسياً بامتياز فهو ينفي عنه هذه التهمة ، مثلما يرفض أن يعتبر نفسه مؤرخاً أو صانع حدث أو شاهداً عليه، ولعل تواضعه ذاك يريد منه فسحة خاصة من حريته مع نفسه فكثيراً ما كان يقول " على مسؤوليتي الشخصية". وبقدر كونه مطّلعاً على التراث، فقد كان مطلعاً على الثقافة المعاصرة، وليس غريباً أن يكون اسم المهرجان الجنادرية للتراث والثقافة، وذلك متابعة للمتغيّرات والتطورات على ساحة الفكر والسياسة والثقافة والأدب. وإذا كان ثمت ملاحظات طبعت الجنادرية بطابعها، فهي تلك الروح الجامعة التي زرعها التويجري في ثنايا هذا الحدث الثقافي. الملاحظة الأولى هي أن التويجري لم يكن مقيماً في التاريخ، بل كان يعيش في الحاضر ويتطلع إلى المستقبل، بل أن جزءًا من تفكيره كان يعيش للمستقبل وبقدر تمسكه بالأصول والتراث، فقد كان يمتاز بالفكر المنفتح والمتفتح، ويسعى للتواصل الحضاري والتفاعل الثقافي، خصوصاً بانفتاحه على العالم وعلى الأفكار والتيارات السياسية والدينية المعاصرة. الملاحظة الثانية لم يكن التويجري يبحث في بطون الكتب أو يتوقف عند النصوص بجمود أو قدسية، بل كان يخضع كل شيء لسياقه التاريخي والاجتماعي، ولمنهجه التاريخاني- السسيولوجي وكان يسعى للاعتماد على الفهم الاجتماعي للنص سواءً كان فكرياً أو سياسياً أو دينياً، وإذا كان شديد الاهتمام بالبناء اللغوي، فإنه في الوقت نفسه كان حريصاً على جمال المعنى وعمقه، وكأنه يريد من الناس لا استيعاب القرآن والسنّة المحمدية فحسب، بل معرفة أسباب النزول وحجية الظهور، وذلك بالكشف عن الواقعية الاجتماعية للنص وفق صدوره، ومتابعة ذلك في الأزمان اللاحقة.. أي العلاقة بين النص وحركة الواقع والقصيدة والوضع الاجتماعي. الملاحظة الثالثة امتياز التويجري بالديناميكية الفكرية وذلك بوضع الجدل الفكري في موقع الصدارة التي يستحقها، وفي ذلك نوع من الجهاد المركّب، جهاد مع النفس، ومع القريب، ومع الآخر (الغير)، وهو جهاد متنوّع ومتعدّد الوجوه، وكأن الجهاد الفكري هو الاختيار والمآل، وفي الوقت نفسه فهو ساحة المنازلة كجزء من مشروعه الفكري – الفلسفي- لبناء الدولة: جهاد مع النفس ومع الدولة ومع المجتمع، من أجل الانسان، حيث كان يدرك أهمية وحيوية هذا المدخل وقدرته في توظيف الأدوات المناسبة بحيث يستطيع تقديم الفكرة بعيداً عن التلقين والاستنساخ، ولهذا ابتعد عن اسلوب الاجترار أو التقليد واتّجه صوب الإبداع والتجديد، مستلهما فكرة أصيلة قال بها الامام الشافعي: من أصاب فله حسنتان ومن أخطأ فله حسنة الاجتهاد. والملاحظة الرابعة هي اطلاعه على الفكر الآخر والدين الآخر والمذهب الآخر والانسان الآخر، ولم يكتب في تهويمات أو تعميمات أو أحكام مسبقة، بل كتب بعد دراسة وتأن وبأسلوب حواري، وعن طريق الأسئلة حيث تتوالد الحجة بعد الأخرى والسؤال بعد السؤال، وهكذا يظل الأفق مفتوحاً، والمعرفة بحرٌ لا قرار له ولا ضفاف، ولهذا لم يلتجئ التويجري إلى إصدار الأحكام، بقدر ما كان يسعى لتسليط الأضواء وكأنه يقدّم الفكرة، بطبق من فضة ولا يريد بها أن تفرض، بقدر ما كان يريد طرح أسئلة جديدة بخصوصها. الملاحظة الخامسة لم يكتب التويجري للسعوديين، وإنما كان يفكر بقارئ أبعد، ليس عربياً فحسب، بل أنه كوني أيضاً، إنساناً آخر وظل حريصاً في التوجه إلى عموم المسلمين، دون أن ينسى النخب للتقريب والبحث في المشتركات وما هو جامع، حيث تحرّك في فضاء لا حدود له واتخذت رؤيته بعداً عربياًُ وإسلامياً، متجاوزاً الدائرة السعودية إلى دائرة عربية وإسلامية أوسع وصولاً للدائرة الإنسانية، حيث أصبح العالم كلّه والإنسان أينما كان مداه وأفقه. الملاحظة السادسة كان التويجري حريصاً أن يخاطب غير المسلمين أيضاً، واكتسب ذلك من خلال لقاءاته بعشرات ومئات المسؤولين والمثقفين، متدينين وغير متدينين، يساريين ويمينيين، من خلال نظرة سمحة للاسلام وللأديان الأخرى وللسياسات والمناهج، لاسيما إيمانه بقيم التسامح. كل ذلك كان التويجري يطرحه من خلال تأملات وأسئلة هي محور منهجه الفكري التي اتّسم بتواضع جم حتى ليتبدى من خلاله وكأنه تلميذ في حلقة درس، يستصغر شأنه وهو الكبير، ليشعر الآخر بعلو شأنه، وهو تواضع الحليم الكبير بعلمه، الباحث عن المزيد من المعرفة حسب الشاعر يحيى السماوي في كتابه " التويجري.. أدب الرسائل" وتلكم هي روح الجنادرية وجوهر رسالتها الجامعة للتراث والثقافة. نشرت في صحيفة الرواد اللبنانية، 27/2/2012
#عبد_الحسين_شعبان (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
العدالة الانتقالية وخصوصيات المنطقة العربية
-
العدالة الانتقالية: مقاربات عربية للتجربة الدولية!
-
كلام في ثقافة التغيير!
-
الهوِيّة الوطنية والربيع العربي
-
الربيع العربي منظور إليه استشراقياً
-
فريضة التسامح وجدلية القطيعة والتواصل!
-
مصير الإمام موسى الصدر: متى خاتمة الأحزان؟
-
التواصل والقطيعة في فريضة التسامح
-
مقهى وروّاد ومدينة: ذاكرة المكان ونستولوجيا التاريخ!
-
العنف واللاعنف في الربيع العربي
-
محنة العراق بين الديمقراطية والحرية
-
الربيع العربي وردّ الاعتبار إلى السياسة
-
تعويم الدستور العراقي
-
إشكاليات ما بعد الربيع العربي
-
الشيخوخة
-
اللحظة الثورية وربيع التغيير
-
الإسلاميون والعلمانيون
-
ماذا بعد الربيع: العرب والجوار والعالم؟
-
الانسحاب الأميركي من العراق.. من الأقوى؟
-
ليبيا من الثورة إلى الدولة
المزيد.....
-
-كأنك يا أبو زيد ما غزيت-.. فنانون سجلوا حضورهم في دمشق وغاد
...
-
أطفالهم لا يتحدثون العربية.. سوريون عائدون من تركيا يواجهون
...
-
بين القنابل والكتب.. آثار الحرب على الطلاب اللبنانيين
-
بعد جماهير بايرن ميونخ.. هجوم جديد على الخليفي بـ-اللغة العر
...
-
دراسة: الأطفال يتعلمون اللغة في وقت أبكر مما كنا نعتقد
-
-الخرطوم-..فيلم وثائقي يرصد معاناة الحرب في السودان
-
-الشارقة للفنون- تعلن الفائزين بمنحة إنتاج الأفلام القصيرة
-
فيلم -الحائط الرابع-: القوة السامية للفن في زمن الحرب
-
أول ناد غنائي للرجال فقط في تونس يعالج الضغوط بالموسيقى
-
إصدارات جديدة للكاتب العراقي مجيد الكفائي
المزيد.....
-
مختارات من الشعر العربي المعاصر كتاب كامل
/ كاظم حسن سعيد
-
نظرات نقدية في تجربة السيد حافظ الإبداعية 111
/ مصطفى رمضاني
-
جحيم المعتقلات في العراق كتاب كامل
/ كاظم حسن سعيد
-
رضاب سام
/ سجاد حسن عواد
-
اللغة الشعرية في رواية كابتشينو ل السيد حافظ - 110
/ وردة عطابي - إشراق عماري
-
تجربة الميج 21 الأولي لفاطمة ياسين
/ محمد دوير
-
مذكرات -آل پاتشينو- عن -العرّاب-
/ جلال نعيم
-
التجريب والتأسيس في مسرح السيد حافظ
/ عبد الكريم برشيد
-
مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة
/ د. أمل درويش
-
التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب
...
/ حسين علوان حسين
المزيد.....
|