|
التأويل داخل حقل الإسلاميات (1)
مجدي عزالدين حسن
الحوار المتمدن-العدد: 3654 - 2012 / 3 / 1 - 15:59
المحور:
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
مقدمة: يمكننا القول بأن الحضارة العربية الإسلامية هي حضارة التأويل، وتاريخها هو تاريخ صراع وحوار وجدل التأويلات والتفاسير الدائر والمنشغل بالنص الديني الإسلامي، ممثلا ذلك في مصادره الأساسية القرآن الكريم والسنة النبوية الشريفة. لذلك اهتمت به كل الفرق والملل والنحل الإسلامية. إن النظرة المتأملة الفاحصة والدارسة للتراث العربي الإسلامي سواء أكان ذلك على مستوى دوائره العلمية وحقوله المعرفية المختلفة ( علم الكلام، الفقه وأصوله، علم التفسير، علم الحديث، الفلسفة الإسلامية، التصوف، اللغة،..الخ) أو على مستوى الفرق الإسلامية المختلفة يخرج بنتيجة مفادها أن النظرية التأويلية الإسلامية قد تعددت واتخذت صوراً مختلفة بتعدد الحقول المعرفية التي اشتغلت على النص وباختلاف الفرق الإسلامية نفسها مما يعني بدوره اختلاف منهجيات التناول والمنطلقات النظرية التي قامت الفرق الإسلامية بتطبيقها وبتوظيفها في عملية إنتاج المعنى والدلالة بخصوص النص الديني الإسلامي في شقيه القرآني والنبوي. نحن هنا نهدف إلى تلمس التأويل وقضاياه داخل حقل الإسلاميات من خلال تساؤلنا المركزي: هل بإمكاننا القول أن ثمة نظرية تأويلية داخل حقل الإسلاميات تعددت صورها واختلفت أشكالها عن بعضها البعض بتعدد واختلاف تيارات الفكر الإسلامي نفسها المشتغلة بهذا الحقل؟ بمعنى آخر هل ثمة أي أسس نظرية ومبادئ أولية ومنهجيات تناول قام الفكر الإسلامي بتطبيقها وبتوظيفها في عملية إنتاج المعنى والدلالة بخصوص النص الديني الإسلامي في شقيه القرآني والنبوي؟
وفي سبيل الإجابة عن هذا التساؤل، فلابد من الوقوف على التأويل وقضاياه داخل حقل الإسلاميات من خلال درس الإسهام المعرفي لبعض رواد وأعلام هذا الحقل في هذا المضمار، وتحديدا عند اثنين من أهم الأعلام في مضمار التأويل الإسلامي هما: أبو حامد الغزالي وأبو الوليد بن رشد.
هذه المهمة تطلبت منا معالجة مسألة (التأويل) والقضايا المتصلة بها: مفهومه وضرورته، صلاحيته وشروطه، مواضعه ومجالاته عند كليهما. واتبعنا في سبيل بلوغ هذا الهدف منهج تحليلي مقارن حيث سنقوم بتحليل الطريقة التي عولج بها التأويل وقضاياه عندهما، ومن ثم سنقارن أفكارهما ومفاهيمهما في هذا الشأن في ضوء معارف العصر ومن خلال الأفق التاريخي السابق واللاحق لهم، لتبيان مدى اتفاقهم واختلافهم، حتى نستبين قيمة إسهامهم الحقيقي في هذا المضمار. وفي سبيل إنجاز هذه المهمة، كان لابد من إطلالة سريعة للوقوف على التأويل وقضاياه داخل حقل الإسلاميات، محاولين في الآن ذاته تتبع تاريخ نشأة وتطور مصطلح التأويل داخل هذا الحقل. 1/ مفهوم التأويل في الكتاب: وردت كلمة (التأويل) في عدد من سور القرآن الكريم، سنقوم بذكرها هنا: قوله تعالى في سورة آل عمران:(7) :{ ... فأما الذين في قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله وما يعلم تأويله إلا الله والراسخون في العلم....}: يقول الغزالي هذه الآية " فيها قراءتان: قراءة من يقف على قوله: (إلا الله)، وقراءة من لا يقف عندها، وكلتا القراءتين حق. ويراد بالأولى المتشابه في نفسه الذي استأثر الله بعلم تأويله. ويراد بالثانية المتشابه الإضافي الذي يعرف الراسخون تفسيره، وهو تأويله" ونلاحظ هنا أن الإمام الغزالي يساوي من حيث الدلالة والمعنى بين مصطلحي التفسير والتأويل.
قوله تعالى في سورة النساء:(59):{ يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر ذلك خير وأحسن تأويلا} "قالوا : أحسن عاقبة ومصيرا. فالتأويل هنا تأويل فعلهم الذي هو الرد إلى الكتاب والسنة.
والتأويل في سورة يوسف: الآيات من سورة يوسف على التوالي 6- 21- 36- 37- 44- 45- 100- 101: قول يعقوب عليه السلام ليوسف:{ وكذلك يجتبيك ربك ويعلمك من تأويل الأحاديث}ـ{ وكذلك مكنا ليوسف في الأرض ولنعلمه من تأويل الأحاديث}ـ { ودخل معه السجن فتيان قال أحدهما إني أراني أعصر خمرا وقال الآخر إني أراني أحمل فوق رأسي خبزا تأكل الطير منه نبئنا بتأويله إنا نراك من المحسنين. قال لا يأتيكما طعام تُرزقانه إلا نبأتكما بتأويله قبل أن يأتيكما ذلكما مما علمني ربي}ـ وقول الملأ { قالوا أضغاث أحلام وما نحن بتأويل الأحلام بعالمين. وقال الذي نجا منهما وادكر بعد أمة أنا أنبئكم بتأويله فأرسلون} وقول يوسف لما دخل عليه أهله مصر{ ورفع أبويه على العرش وخروا له سجدا وقال يا أبت هذا تأويل رؤياي من قبل قد جعلها ربي حقا}ـ { رب قد آتيتني من الملك وعلمتني من تأويل الأحاديث} فالتأويل هنا تأويل أحاديث الرؤيا.
والتأويل في سورة الأعراف: من سورة الأعراف الآية: { هل ينظرون إلا تأويله يوم يأتي تأويله...}
وسورة يونس:{ بل كذبوا بما لم يحيطوا بعلمه ولما يأتهم تأويله...} فالتأويل هنا يشير إلى تأويل القرآن وكذلك في سورة آل عمران.
وقال تعالى في قصة موسى والعالم:{ قال هذا فراق بيني وبينك سأنبئك بتأويل ما لم تستطع عليه صبرا} إلى قوله: { وما فعلته عن أمري ذلك تأويل ما لم تسطع عليه صبرا }• الآيتان 82-87 من سورة الكهف فالتأويل هنا تأويل الأفعال التي فعلها العالم من خرق السفينة بغير إذن صاحبها ومن قتل الغلام ومن إقامة الجدار فهو تأويل عمل لا تأويل قول" " إن معنى (التأويل) هنا الكشف عن الدلالة الخفية للأفعال، وهذه الدلالة الخفية الباطنة لا تنكشف إلا من خلال (أفق) غير عادي هو (العلم اللدُنّي) الذي أوتيه العبد الصالح. ولا شك أن اعتراض (موسى) على هذه الأفعال لم يكن اعتراضا ناشئا عن (الجهل) بدلالتها جهلا مطبقا، فالجهل المطبق من شأنه ـ مع التسليم بعلم الآخر أن يؤدي إلى الصمت وانتظار (التأويل). لقد كان اعتراض موسى نابعا من (تأويل) هذه الأفعال بناء على (أفقه) الفكري وعلمه. ومن خلال هذا الأفق بدت له الأفعال قبيحة ـ إذا شئنا استخدام المصطلح الكلامي ـ حتى جاء (التأويل) النابع من أفق آخر وبيّن له حسنها" والباطنية يرون في إقامة الجدار وقتل الغلام وخرق السفينة " علما لدنيا هو في حقيقته أسمى من الشريعة كما يزعمون وإلا ما تكبد موسى مشقة السفر لينال علما هو يملك مثله أو أفضل منه" وهناك الآية (35) من سورة الإسراء:{ وأوفوا الكيل إذا كلتم وزنوا بالقسطاس المستقيم ذلك خير وأحسن تأويلا}. هذه هي كل آيات القرآن الكريم التي وردت فيها كلمة (تأويل)، والملاحظ أنها وردت سبع عشرة مرة، في حين وردت كلمة (تفسير) مرة واحدة فقط: وردت في قوله تعالى في سورة الفرقان الآية(23):{ولا يأتونك بمثل إلا جئناك بالحق وأحسن تفسيرا}، ودلالة هذا كما بين لنا نصر أبو زيد هي " أن كلمة (تأويل) كانت أكثر دورانا في اللغة بشكل عام ـ وفي النص بشكل خاص ـ من دوران كلمة (تفسير). ولعل السر وراء هذا الدوران أن (التأويل) كان مفهوما معروفا في الثقافة قبل الإسلام ارتبط بتفسير الأحلام أو (تأويل الأحاديث)" إن لفظ التأويل في القرآن الكريم يشير إلى العاقبة والمصير والمآل، أي عاقبة الأمر ومآله بمعنى ما يؤول الأمر إليه.
ويورد الراغب الأصفهاني: " التأويل: الرجوع إلى الأصل، ومنه الموئل للموضع الذي يرجع إليه، وذلك رد الشيء إلى الغاية المرادة منه.
وقوله تعالى:}هل ينظرون إلا تأويله يوم يأتي تأويله{ الأعراف(53) أي: بيانه. وقوله تعالى:}ذلك خير وأحسن تأويلا{ النساء(59) قيل: أحسن معنى وترجمة"
ويورد السيد أحمد عبد الغفار في كتابه: (ظاهرة التأويل وصلتها باللغة) يورد دلالات ومعاني كلمة (التأويل) في معاجم اللغة المتقدمة، حيث أتت بمعنى: " المرجع والمصير: مأخوذ من آل يؤول إلى كذا أي صار إليه ورجع.... التغيير: آل جسم الرجل إذا نحف. وهاتان الدلالتان هما الغالبتان، وإن كانت الثانية لا تبعد عن الأولى كثيرا، ففي معنى التغيير الصيرورة والرجوع إلى كذا... الوضوح والظهور..... التفسير والتدبر: تفسير ما يؤول إليه الشيء تقول: تأولت في فلان الأمر أي تحريته"
2/ نشأة مصطلح التأويل وتطوره: مع الرسول عليه الصلاة والسلام وصحابته، بدا التأويل كوسيلة من وسائل الكشف عن المعنى، وظل مرادفا للتفسير الذي يتناول كتاب الله وسنة رسوله بالشرح والفهم. والجدير بالملاحظة هنا إن وظيفة التأويل آنذاك كانت مرتبطة بشرح وتوضيح ما غُمض من معنى، أما ما كان واضح المعنى والدلالة فلم يكن في حاجة للتأويل حيث كان الرسول عليه الصلاة والسلام وصحابته في صدر الإسلام " يدركون علاقة الألفاظ باللغة والقرآن والحديث، ويفسرون غريب القرآن، ويحتجون بالشعر واللغة، واشتهر منهم في هذا المضمار عبد الله بن عباس.... ومع هذا فقد كانت الحاجة تعوزهم إلى التأويل إذا اشتبه الأمر عليهم، وكانت الألفاظ الدينية تخفي وراءها شيئا يرغبون في معرفته. يقول القرطبي ـ في تفسيره ـ( روي عن رسول الله من حديث عائشة قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم" من حوسب يوم القيامة عُذِبَ" قالت: فقلت يا رسول الله أليس قد قال الله " فأما من أوتي كتابه بيمينه فسوف يحاسب حسابا يسيرا " فقال: ليس ذاك الحساب، إنما ذلك العرض".فأول كلمة الحساب بالعرض" وقد قال ابن عباس رضي الله عنهما: أنا من الراسخين في العلم الذين يعلمون تأويله، ولقد صدق رضي الله عنه، فإن النبي صلى الله عليه وسلم دعا له وقال: " اللهم فقهه في الدين وعلمه التأويل" رواه البخاري وغيره... وقد تواترت النقول عنه أنه تكلم في جميع معاني القرآن، ولم يقل عن آية إنها من التشابه الذي لا يعلم أحد تأويله إلا الله"
" وجاء في ضحى الإسلام ( عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أنه قال: حدثوا الناس بما يعرفون، أتريدون أن يُكذب الله ورسوله). وفي هذا دليل على أن النص الديني من كتاب وسنة له وجوه ظاهرة وباطنة يحدث الناس بما يوافقهم منها. فالباطن في النصوص الدينية هو الذي يعني هدف الشارع ومقصده، وهذه المقاصد لم يتوان أصحاب المعرفة منذ زمن الرسول عن بيانها وإظهارها ما دامت توافق اللغة والعقل والشرع، واجتماع القرائن التي تساند المعنى المقصود ويظهر ذلك في قول الرسول عليه الصلاة والسلام " القرآن ذلول ذو وجوه، فاحملوه على أحسن وجوهه" أخرجه أبو نعيم وغيره من حديث ابن عباس.
في زمن الرسول وصحابته، كان الرسول يؤول لهم ما استشكل عليهم من أمور، وبالتالي كان هو المفسر والمؤول للقول الإلهي، وكان قوله هو الحق والفصل بالنسبة لصحابته وتفسيره وتأويله هو اليقين الذي لا يشك فيه أحد، فهو لا ينطق عن الهوى ولذلك لم يكن هناك أدنى مشكلة وتحديدا فيما يتعلق بصلاحية التأويل.
لكن بعد وفاة الرسول عليه الصلاة والسلام وانقطاع الوحي، ظهرت مشكلة تفسير وتأويل النص الديني الإسلامي ممثلة في القرآن والسنة لغياب المرجعية الوحيدة للتفسير والتأويل الموثوق بها من قبل الصحابة، قد يعترض علينا قائل بقوله: نعم غاب الرسول عليه الصلاة والسلام عنا كجسد، إلا أن سنته ما زالت حية حاضرة من بعده، وقد يورد الحديث بما معناه:( إني قد تركت لكم ما أن تمسكتم به فلن تضلوا من بعدي: كتاب الله وسنة رسوله). قلت له: لم نختلف إذن! ـ وإن كان الرسول قد قال: اختلاف أمتي رحمة ـ فالنص السابق إذا تأولنه وقرأنا ما خلف سطوره وما سكت عنه، سنخرج بالتالي: لكي لا نضل من بعد الرسول عليه الصلاة والسلام، فيجب علينا إن نتمسك بكتاب الله وسنة رسوله. ولكي نتمسك بهما فلابد من فهمهما إذ أننا لا يمكننا أن نتمسك بشيء لا نفهمه، وسؤال الفهم ما هو إلا سؤال التأويل عينه. ولذلك فإن السؤال الغائب الحاضر الذي سكت عنه النص النبوي هو: بأي آليات أو طرائق نفهم؟ وهو بذلك سؤال عن التأويل ومعاييره و آلياته. ومن جهة أخرى المؤول الوحيد للقول الإلهي كان الرسول وبالتالي فقوله وتأوله هو الحق وهو الصواب لأنه نبي لا ينطق عن الهوى وإنما بوحي، لكن من بعده فليس ثمة نبي ولا رسول، يترتب على هذا القول: أنه ليس ثمة تأويل مقدس من بعد الرسول عليه الصلاة والسلام، لأنه التأويل في هذه الحالة لا يصدر عن مؤول مقدس وإنما من عقل إنساني ليس منزه عن الخطأ، ولذلك كان دعوة الرسول إلينا متمثلة في قوله عليه الصلاة والسلام ( القرآن ذلول ذو وجوه، فاحملوه على أحسن وجوهه) احملوه تعني أولوه على أحسن وجوهه، ولذلك فإن هذا القول النبوي يوضح لنا أن النص القرآني يحتمل عدة تأويلات ولذلك فمهمة التأويل ـ أي المهمة التي تقع على عاتق المؤول ـ هنا هي حمل النص وتأويله على أحسن وجوه فهمه. وهذا بدوره يثير مشكلة صلاحية التأويل ومعاييره: فكيف يتأتى لنا أن نعرف أننا قد حملناه على أحسن وجه؟! وبالتالي فإن صلاحية كل تأويل إنما تتوقف على ما يدعم به موقفه من حجج وبراهين وأدلة. وهذا هو بالضبط ما حدث بعد وفاة الرسول عليه السلام وتحديدا بعد خلافة سيدنا عثمان بن عفان رضي الله عنه. لأن بدايات ظهور الفرق الإسلامية المختلفة تعود لهذا التاريخ، ولسنا هنا في معرض الحديث عن ما حدث من انشقاق واختلاف آنذاك بين صحابة رسول الله عليه وعليهم السلام. ولكن حسبنا أن نشير إلى نتيجة هامة من نتائج هذا الصراع والمتمثلة في ظهور الفرق الإسلامية مثل: الخوارج والمرجئة والشيعة والمعتزلة والأشعرية. ونجد أن كل فرقة من هذه الفرق كانت ترى أنها الحق وما عداها الباطل بل وصل بهم الحال لأبعد من ذلك، فالمطالع لكتب التاريخ الإسلامي يجد " كل فرقة تكفر مخالفها وتنسبه إلى تكذيب الرسول عليه الصلاة والسلام، فالحنبلي يكفر الأشعري زاعما أنه كذب الرسول في إثبات الفوق لله تعالى وفي الاستواء على العرش، والأشعري يكفره زاعما أنه مشبه وكذّب الرسول في أنه ليس كمثله شيء، والأشعري يكفر المعتزلي زاعما أنه كذّب الرسول في جواز رؤية الله تعالى وفي إثبات العلم والقدرة والصفات له، والمعتزلي يكفر الأشعري زاعما أن إثبات الصفات تكفير للقدماء وتكذيب للرسول في التوحيد....فينكشف لك غلوّ هذه الفرق وإسرافها في تكفير بعضها بعضا" وهاهو ابن رشد يقول في ذات السياق: " فإن الناس قد اضطربوا في هذا المعنى، كل الاضطراب، في هذه الشريعة حتى حدثت فرق ضالة وأصناف مختلفة. كل واحد منهم يرى أنه على الشريعة الأولى، وأن من خالفه إما مبتدع وإما كافر مستباح الدم والمال. وهذا كله عدول عن مقصد الشارع. وسببه ما عرض لهم من الضلال عن فهم مقصد الشريعة... وكل هذه الطوائف قد اعتقدت في الله اعتقادات مختلفة، وصرفت كثيرا من ألفاظ الشرع عن ظاهرها إلى تأويلات نزّلوها على تلك الاعتقادات، وزعموا أنها الشريعة الأولى التي قُصد بالحمل عليها جميع الناس، وأن من زاغ عنها فهو إما كافر أو مبتدع" وبالتالي حاولت كل فرقة تأويل النص القرآني والنبوي بما يظهر لعامة المسلمين أنها الفرقة الناجية وبما يخدم مصالحها السياسية، كتأويل الرافضة في قولهم: " }تبت يدا أبى لهب{ هما أبو بكر وعمر و}لئن أشركت ليحبطن عملك{ أي بين أبى بكر وعلي في الخلافة و}إن الله يأمركم أن تذبحوا بقرة{ هي عائشة و}قاتلوا أئمة الكفر{ طلحة والزبير و}مرج البحرين{ علي وفاطمة و}اللؤلؤ والمرجان{ الحسن والحسين و}كل شيء أحصيناه في إمام مبين{ في علي بن أبى طالب و}عم يتساءلون عن النبأ العظيم{ علي بن أبى طالب و}إنما وليكم الله ورسوله والذين آمنوا الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة وهم راكعون{ هو علي ... وكذلك قوله }أولئك عليهم صلوات من ربهم ورحمة{ نزلت في علي لما أصيب بحمزة" وما من فرقة إلا ولها في كتاب الله حجة، وبالتالي فإن التأويل هنا أُستخدم كسلاح وكأداة فيما كان دائراً من صراع سياسي اجتماعي آنذاك، وخاصة أن أول قضية تم الاختلاف والجدل بشأنها بين هذه الفرق كانت قضية الإمامة!ـ وفي هذه القضية يمكن أن نرجع ونؤرخ لها ابتداء من اجتماع سقيفة بني ساعدة حيث اجتمع المهاجرون والأنصار ودار بينهم نقاش حول من يخلف الرسول عليه الصلاة والسلام ومن هو الأحق بها بعد وفاة الرسول، وهل تكون الإمامة أو الخلافة بالنص والتعيين؟ أم تكون كنتاج لاتفاق المسلمين واختيارهم؟ أي تكون بالبيعة والشورى، وهل يجمع الخليفة بين السلطتين الزمنية والروحية؟ ..الخ. ولذلك فإن الخلاف حول قضية الإمامة والصراع الذي ارتبط بها كان من أهم الأسباب التي أدت إلى نشوء الفرق الإسلامية فالشيعة مثلاً هم الذين رأوا أحقية علي بن أبي طالب بالخلافة أكثر من غيره من الصحابة، في حين يرى الخوارج ـ وهم الذين خرجوا على علي بن أبي طالب حينما أرتضى واقعة التحكيم ـ " أن الخلافة ليست من أركان الدين وللمسلمين أن يعيشوا من غير خليفة وحسبهم كتاب الله وسنة رسوله ليفصلا بينهم، وإذا كان لا بد من خليفة فليس من الضروري أن يكون من بيت علي أو يكون من قريش، بل يصح أن يكون أي فرد من المسلمين مهما كان ولو كان عبدا حبشيا إذا كان صالحا للخلافة... وإذا اختير فليس يصح منه أن يتنازل... والخوارج يرون مع هذا أن عزل الإمام واجب وحربه فرض على كل مسلم إذا صار جائرا ولهذا حاربوا عليا حين ضل في رأيهم بقبوله التحكيم وحاربوا معاوية أيضا" وبالإضافة إلى قضية الإمامة أو مشكلة الخلافة نجد أن معظم القضايا والمشكلات التي تباينت واختلفت حولها تأويلات الفرق والمذاهب الإسلامية تتمحور حول قضايا: التسيير والتخيير وقد عرفت أيضا بمشكلة القضاء والقدر والتي تمحورت حول السؤال هل الإنسان مسير أم مخير؟ حيث تفرعت منها عدة اتجاهات فالاتجاه الذي ذهب إلى أن الأفعال كلها لله عرف باسم الجبرية في مقابل القدرية التي تبنت الرأي القائل بأن الإنسان خالق قدره خيره وشره.
وتباينت التأويلات أيضا حول مشكلة الذات والصفات حيث تنازعوا " في مسائل الصفات إذا صنف بعضهم في إبطال التأويل أو ذم التأويل أو قال بعضهم آيات الصفات لا تؤول وقال الآخر: بل يجب تأويلها وقال الثالث: بل التأويل جائز يفعل عند المصلحة ويترك عند المصلحة أو يصلح للعلماء دون غيرهم إلى غير ذلك من المقالات والتنازع" واختلفت التأويلات فتطرف بعضها في إثبات الصفات والأخذ بحرفيتها كما جاءت في القرآن من (يد) و(عين) و(وجه)..الخ{ ما منعك أن تسجد لما خلقت بيدي } { بل يداه مبسوطتان ينفق كيف يشاء } . { ويبقى وجه ربك ذو الجلال والإكرام } . { يريدون وجهه } { ولتصنع على عيني } - إلى أمثال ذلك، حتى وصلوا إلى التشبيه والتجسيم وهم من عرفوا بالمشبهة والمجسمة والحشوية في مقابل من غالوا في تأويلها فانتهوا إلى التعطيل وإلى نفي الصفات وهم من عرفوا بالمعطلة. واختلفوا أيضا في مرتكب الكبيرة هل هو مؤمن أم كافر؟ فمثلا الخوارج رأوا أن مرتكب الكبيرة كافر، في حين أن الكبيرة عند المرجئة لا تضر مع الإيمان، وقالت المعتزلة أنه ليس بكافر ولا مؤمن وإنما هو بمنزلة بين المنزلتين (فاسق). هذه نماذج قليلة لمشاكل وقضايا قصدنا من المرور السريع عليها تبيان مدى ارتباطها بالتأويل وتباين فهمه عند الفرق الإسلامية. فالعقل الإسلامي حاول مواكبة أحداث الحياة المتجددة التي لا تقف عند حد، والنصوص محدودة، فكان لا بد من إيجاد مصدر ثالث بعد القرآن والسنة يمد الفكر الإسلامي بحلول للمشاكل والوقائع المستجدة على الواقع الإسلامي آنذاك. فكان أن تولد الرأي بإشكاله المتعددة، والتأويل مدار نشاط الرأي، الأمر الذي يظهر بوضوح في تعدد اتجاهات الفرق الإسلامية وما ارتبط بها من صراعات سياسية ودينية، مما أدى بدوره إلى الخلافات، وتباين الآراء وتصارعها، وكثرت بذلك الفرق والنحل، ونشبت المعارك الكلامية والفقهية، ولم يكن النص الديني الإسلامي ممثلا في القرآن والسنة بمعزل عن تلك المعارك، بل كان التأويل هو الأداة الأساسية التي توسلتها كل فرقة في نصرة مذهبها وتبيان مدى موافقته ومطابقته للنص، وخير مثال لذلك فرق الباطنية التي رأت أن " لظواهر القرآن والأخبار بواطن تجري في الظواهر مجرى اللب من القشر، وأنها بصورها توهم عند الجهال الأغبياء صورا جلية وهي عند العقلاء الأذكياء رموزا وإشارات إلى حقائق خفية، وأن من تقاعس عقله عن الغوص على الخفايا والأسرار والبواطن والأغوار وقنع بظواهرها مسارعا إلى الاغترار كان تحت الأواصر والأغلال" و" كان من رأيهم أن كل ما ورد من الظواهر في التكاليف والحشر والنشر والأمور الإلهية كلها أمثلة ورموز إلى بواطن،.... والطهور هو التبري والتنظف من اعتقاد كل مذهب سوى مبايعة الإمام. والصيام هو الإمساك عن كشف السر. والكعبة هي النبي، والباب علي، والصفا هو النبي والمروة علي،..والطواف بالبيت سبعا هو الطواف بمحمد إلى تمام الأئمة السبعة،...وإبليس وأدم عبارة عن أبى بكر وعلي، إذ أُمر أبو بكر بالسجود لعلي والطاعة له فأبى وأستكبر، والدجال زعموا أنه أبو بكر، وكان أعور إذ لم يبصر إلا بعين الظاهر دون عين الباطن، ويأجوج ومأجوج هم أهل الظاهر" وهؤلاء كان نظرهم في المعنى أسبق من نظرهم في اللفظ وسبب ذلك يرجع كما بيّن ابن تيمية في أنهم بشكل مسبق" اعتقدوا معاني ثم أرادوا حمل ألفاظ القرآن عليها (...) من غير نظر إلى المتكلم بالقرآن والمنزل عليه والمخاطب به في الأولون راعوا المعنى الذي رأوه من غير نظر إلى ما تستحقه ألفاظ القرآن من الدلالة والبيان"
والخلاصة اتساع ميدان التأويل وتعدد مناحيه وخاصة بعد أن اندلعت شرارة الفتنة الكبرى واتسعت رقعة الدولة الإسلامية وتطورت حياة المسلمين واتسعت الفتوحات، وانفتح المسلمون على غيرهم من الشعوب والثقافات والأديان، وجرت المناظرات حيث أستخدم التأويل وخاصة في علم الكلام كأداة للدفاع عن سلامة العقيدة في المواجهة الفكرية لأعداء الإسلام. وكان أن اكتملت ظاهرة التأويل وأصبح مصطلحا يعمل على صرف المعنى الظاهر من اللفظ إلى معنى محتمل يعضده دليل. وقد كان للتأويل دورا في كل البيئات الفكرية: ففي بيئة المفسرين كان أداة لسبر أغوار النص الديني. وفي بيئة المتكلمين كان مصطلح التأويل المحور الذي دارت عليه اختلافاتهم، سواء كانوا معتزلة أم شيعة، أم غير ذلك من الفرق الإسلامية. وفي بيئة الفقهاء عمل التأويل على توسيع آفاق النص حتى يستغرق متجدد أحداث الحياة، كما عمل على التوفيق بين الآراء والنصوص التي تشعر بالتعارض والتناقض. وفي بيئة الفلاسفة جعلوا من التأويل وسيلة للتوفيق بين العقل والشرع. ويجدر بنا التنويه هنا إلى أن التأويل في معناه الاصطلاحي (صرف اللفظ عن ظاهره إلى معنى آخر) لم يرد في المعاجم اللغوية المتقدمة وإنما هو من نتاج العصور المتأخرة. حيث نجد أن كلمة التأويل في جميع استعمالاتها في المعاجم اللغوية المتقدمة (المعاجم اللغوية المتقدمة: منها معجم تهذيب اللغة لصاحبه أبو منصور محمد بن أحمد الأزهري المتوفى 370هجرية/ معجم مقاييس اللغة لصاحبه أبو الحسن أحمد بن فارس بن زكريا المتوفى 395هجرية/ معجم الصحاح (تاج اللغة وصحاح العربية) لصاحبه إسماعيل بن حماد الجوهري المتوفى393هجرية) تفيد معنى المرجع والمصير والعاقبة. أما التأويل بمعناه الاصطلاحي(صرف اللفظ عن ظاهره إلى معنى آخر) فقد ظهر جليا في المعاجم اللغوية المتأخرة مثل لسان العرب لابن منظور(ت 711هـ) وتاج العروس للزبيدي( ت 1205هـ). على أننا يمكن أن نؤرخ للبداية الفعلية لظهور التأويل في معناه الاصطلاحي ابتداء من القرن الرابع الهجري، فابتداء من هذا التاريخ شاع استخدام التأويل بمعناه الاصطلاحي عند كل المشتغلين بالنص الديني من مفسرين ومحدثين وفقهاء ومتكلمين وفلاسفة. فالتأويل " في كلام كثير من المفسرين، كابن جرير ونحوه، يريدون به تفسير الكلام وبيان معناه، سواء وافق ظاهره أو خالف، وهذا اصطلاح معروف، وهذا التأويل كالتفسير، يحمد حقه ويرد باطله." و" التأويل في كلام المتأخرين من الفقهاء والمتكلمين، هو حرف اللفظ عن الاحتمال الراجح إلى الاحتمال المرجوح لدلالة توجب ذلك. وهذا هو التأويل الذي تنازع الناس فيه... فالتأويل الصحيح منه الذي يوافق ما دلت عليه نصوص الكتاب والسنة، وما خالف ذلك فهو التأويل الفاسد. ويجب أن يُعلم أن المعنى الفاسد.. ليس هو ظاهر النص ولا مقتضاه، وأن من فُهم ذلك منه فهو لقصور فهمه، ونقص علمه" وبالتالي فإن " التأويل في عرف المتأخرين من المتفقهة والمتكلمة والمحدثة والمتصوفة ونحوهم هو صرف اللفظ عن المعنى الراجح إلى المعنى المرجوح لدليل يقترن به"
#مجدي_عزالدين_حسن (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
كيف يجب أن نتعاطى مع النص الديني الإسلامي؟ (1)
-
الطريق إلى الحقيقة: سؤال المنهج
-
الوجود البشري والحقيقة (6)
-
الحقيقة أم التأويل: التساؤل بشأن (حقيقية) الحقيقة(5)
-
تفكيكية جاك دريدا: نقل سؤال الحقيقة إلى مجال التأويل (4)
-
الحقيقة لا تمثل الواقع الخارجي بل مفهومه، مراجعات فلسفية في
...
-
مراجعات فلسفية في مفهوم الحقيقة (2)
-
مراجعات فلسفية في مفهوم الحقيقة (1)
-
العقل الإسلامي المعاصر: إلى أين؟
-
في نظرية المعرفة: خلاصة ونتائج
-
في نظرية المعرفة (6)
-
في نظرية المعرفة (5)
-
في نظرية المعرفة (4)
-
في نظرية المعرفة (3)
-
في نظرية المعرفة (2)
-
في نظرية المعرفة (1)
-
الثورة وثقافة الديمقراطية في الفقه السياسي الإسلامي: جدلية ا
...
-
الثورة وثقافة الديمقراطية في الفقه السياسي الإسلامي: جدلية ا
...
-
الثورة وثقافة الديمقراطية في الفقه السياسي الإسلامي: جدلية ا
...
-
الثورة وثقافة الديمقراطية في الفقه السياسي الإسلامي: جدلية ا
...
المزيد.....
-
تحليل: رسالة وراء استخدام روسيا المحتمل لصاروخ باليستي عابر
...
-
قرية في إيطاليا تعرض منازل بدولار واحد للأمريكيين الغاضبين م
...
-
ضوء أخضر أمريكي لإسرائيل لمواصلة المجازر في غزة؟
-
صحيفة الوطن : فرنسا تخسر سوق الجزائر لصادراتها من القمح اللي
...
-
غارات إسرائيلية دامية تسفر عن عشرات القتلى في قطاع غزة
-
فيديو يظهر اللحظات الأولى بعد قصف إسرائيلي على مدينة تدمر ال
...
-
-ذا ناشيونال إنترست-: مناورة -أتاكمس- لبايدن يمكن أن تنفجر ف
...
-
الكرملين: بوتين بحث هاتفيا مع رئيس الوزراء العراقي التوتر في
...
-
صور جديدة للشمس بدقة عالية
-
موسكو: قاعدة الدفاع الصاروخي الأمريكية في بولندا أصبحت على ق
...
المزيد.....
-
كتاب رينيه ديكارت، خطاب حول المنهج
/ زهير الخويلدي
-
معالجة القضايا الاجتماعية بواسطة المقاربات العلمية
/ زهير الخويلدي
-
الثقافة تحجب المعنى أومعضلة الترجمة في البلاد العربية الإسلا
...
/ قاسم المحبشي
-
الفلسفة القديمة وفلسفة العصور الوسطى ( الاقطاعية )والفلسفة ا
...
/ غازي الصوراني
-
حقوق الإنسان من سقراط إلى ماركس
/ محمد الهلالي
-
حقوق الإنسان من منظور نقدي
/ محمد الهلالي وخديجة رياضي
-
فلسفات تسائل حياتنا
/ محمد الهلالي
-
المُعاناة، المَعنى، العِناية/ مقالة ضد تبرير الشر
/ ياسين الحاج صالح
-
الحلم جنين الواقع -الجزء التاسع
/ كريمة سلام
-
سيغموند فرويد ، يهودية الأنوار : وفاء - مبهم - و - جوهري -
/ الحسن علاج
المزيد.....
|