أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع - مجدي عزالدين حسن - في نظرية المعرفة (3)















المزيد.....

في نظرية المعرفة (3)


مجدي عزالدين حسن

الحوار المتمدن-العدد: 3624 - 2012 / 1 / 31 - 11:57
المحور: الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
    


3/ حدود المعرفة:
إذا سلمنا بإمكانية المعرفة الإنسانية. تطرح نظرية المعرفة تساؤلها التالي: هل للمعرفة الإنسانية حدوداً يجب أن تقف عندها ولا تتعداها؟ أم أن معرفة الإنسان لا تحدّها حدود ؟ وعبر تاريخ الفلسفة كانت هناك إجابتين:
الأولى: هناك حدود تقف عندها معرفة الإنسان ولا تتعداها، بمعنى أن الإنسان ليس بوسعه معرفة كل شيء، فهناك موضوعات تتجاوز قدرته على المعرفة اليقينية.
الثانية: ليس ثمة حدود تقف عندها معرفة الإنسان، بل على العكس تماماً: العقل الإنساني قادر على الوصول إلى معرفة أي شيء يود معرفته. وفي السطور القادمة سنحاول أن نقدم نموذجين لهاتين الإجابتين:
3-1 إمانويل كانط I. Kant(1724-1804):
يمثل كانط العمود الفقري بالنسبة للفلسفة الحديثة، وحاول التوفيق بين المذهبين العقلي والتجريبي " وكان يهدف إلى التوفيق بين ذاتية (جورج باركلي)، بنظريتها القائلة إنه لا يوجد شيء ما عدا الأذهان وإدراكاتها، وبين تجريبية مفكرين مثل (جون لوك). فقد كان (لوك) يرى أن هناك عالماً كاملاً من المادة يوجد مستقلاً عن أذهاننا المدركة"
فندّت وانتقدت نظرية المعرفة الكانطية المبدأ القائل: بأن معرفة الإنسان لا تحدها حدود، وأن العقل الإنساني بوسعه أن يصل في معارفه اليقينية إلى مالا نهاية له، وأن بإمكانه تجاوز هذا العالم المحسوس ليصل في معارفه إلى ما وراء هذا العالم. لذلك نجد أن كانط في كتابه: (نقد العقل الخالص) قد كان الشغل الشاغل له يتمثل في البحث عن شروط المعرفة الإنسانية، وحدودها ومدى صحتها، فما الذي نستطيع أن نعرفه عن يقين؟ لقد كان ذلك سؤلاً أساسياً، ولم يكن من حق المرء أن يطرح أسئلة أخرى عن الواقع قبل أن يجيب عليه. و(كانط) هنا يتساءل عن قضية حدود المعرفة اليقينية، وقد أهتم بتبيان ووضع الحدود للنظر العقلي، وهو هنا يؤكد على أن للعقل الإنساني حدود لا يجب أن يتجاوزها حتى لا يخوض فيما لا يستطيع بصدده الوصول إلى أية معرفة يقينية، وخلف هذه الحدود لا يمكننا الإدعاء بأن حصيلة معرفتنا حقيقية ويقينية.
ولذلك فإننا يجب أن نفهم في ظل هذا السياق التقسيم الكانطي للعقل إلى: عقل نظري، وعقل عملي. وفي مقابل هذا التقسيم ميزّ (كانط) بين (الشيء كما يبدو لنا) وبين (الشيء في ذاته)، حيث جعل حدود العقل النظري مقيدة بحدود العالم الطبيعي المحسوس أو عالم (الأشياء كما تبدو لنا). ومن الناحية الأخرى جعل مهمة العقل العملي التسليم بموضوعات ما وراء العالم الطبيعي المحسوس، فموضوعات المعرفة المنتمية إلى عالم (الأشياء في ذاتها) لا يمكن للعقل النظري أن ينظر فيها لأنها تتعدى حدوده وبالتالي حدود المعرفة اليقينية، ولذلك يتوجب على العقل العملي أن يسلّم بهكذا نوعية من الموضوعات. وترى وجهة النظر الكانتية أن الذات العارفة ليس بوسعها معرفة "الشيء في ذاته" معرفة يقينية، ولكنها يمكنها معرفة (الشيء كما يبدو لنا) معرفة يقينية.
ولذلك فإن (كانط) يرى أن لمعرفة العقل الإنساني ـ المعرفة اليقينية التي يمكن الوثوق بها والاطمئنان إليهاـ حدود معينة محصورة بحدود عالم (الشيء كما يبدو لنا). وأن العقل الإنساني لا يمكنه الذهاب أبعد من هذه الحدود، لأنه عاجز عن وضع يده على معرفة يقينية خارج حدود عالم (الشيء في ذاته). وباختصار يمكننا أن نلخص ونقول أن حسب وجهة النظر الكانطية فإن للمعرفة الإنسانية حدود، وليس باستطاعة الذات العارفة (العقل النظري) إدعاء المعرفة اليقينية خارج هذه الحدود المحصورة بحدود عالم (الأشياء كما تبدو لنا).
3-2 الفلسفة الحدسية والفلسفة الهيغلية:
من جهة أخرى نرى (هيغل) Hegelـ والذي وصل المذهب العقلي معه إلى أعلى صيغة له ـ قد هاجم " فلسفة كانط النقدية لكونها فصلت بين (ظاهر الشيء) و(الشيء في ذاته)، بين الأشياء كما نتعرف عليها بواسطة إحساساتنا، والأشياء كما هي في ذاتها، فجعلت العالم من نتاج الذات وطوقته بحدودها، إن هيغلHegel يرى أن الأشياء التي نعرفها معرفة عقلية ليس الظواهر وحسب، وإنما هي كذلك (الشيء في ذاته). وبعبارة أخرى ليس هناك (ظاهر الشيء) و(الشيء في ذاته) بل هناك وحدة صميمة بينهما، فالشيء هو هذا وذاك معاً، وهو قابل لأن يدرك بالعقل، هكذا في كليته".
هنا نلمس وجه الشبه بين موقف العقلاني (هيغل) وموقف الحدسي (هنري برغسون)، فكلاهما اتفق على رفض التمييز الكانطي ل(ظاهر الشيء) و(الشيء في ذاته). وكلاهما رأى أن بالإمكان التوصل إلى معرفة (الشيء في ذاته)، إلا أنهما اختلفا في وسيلة المعرفة التي توصلنا إلى هذه المعرفة. حيث قال (هيغل) بالعقل وقال (برغسون) بالحدس، حيث ترى الفلسفة الحدسية أن معرفة الإنسان لا تحدها حدود تقف عندها، وأن الذات العارفة بوسعها أن تصل في معارفها اليقينية إلى مالا نهاية لها، وأنها بإمكانها تجاوز هذا العالم المحسوس لتصل في معارفها اليقينية إلى ما وراء هذا العالم. وهو ما يقابل المبدأ الهيغلي الشهير الذي يلخص فلسفة (هيغل): " كل ما هو واقعي فهو عقلي، وكل ما هو عقلي فهو واقعي". وهذا معناه أن ليس هناك في الوجود شيء لا يقبل التفسير بالعقل، وأن كل ما يقبل التبرير العقلي فهو موجود ضرورة. ذلك أن وجود الشيء معناه صدوره عن سبب فاعل وسبب غائي وتعقل الشيء معناه إدراك سببه الفاعل والغائي. هذا من حيث المبدأ، أي من حيث المنطق وحده. يبقى بعد ذلك نقل هذا المبدأ من المستوى المنطقي إلى المستوى الواقعي حتى يمكن إقامة الدليل فعلاً على تطابق العقل مع نظام الطبيعة، أي على قابلية كل شيء في الكون للتبرير العقلي"
4/ معيار التصديق:
هنا قضية نظرية المعرفة تتمثل في السؤال: هل ثمة معيار نستطيع من خلاله أن نميز بين الصحيح والخاطئ على مستوى حصيلة معرفتنا؟ ما السبيل إلى أن نتيقن من أن ما نعرفه يمثل المعرفة اليقينية التي لا يرقى إليها الشك؟ سنأخذ نماذج لإجابات مختلفة قُدمت من قبل فلاسفة مختلفين:
4-1 الضمان الإلهي:
إن وجود الله عند الفيلسوف الفرنسي (ديكارت) Descartesهو الضمانة الصادقة التي تثبت صدق معارفنا المتعلقة بوجود العالم الخارجي، وإذا سألنا ديكارت: " هل الصور والأفكار( الموجودة في الذهن) مطابقة لموجودات حقيقة؟ لأجابنا: أن هذا شيئا لا نعلمه مباشرة وإنما نعلمه بالواسطة أي بفضل (الصدق الإلهي). فطالما أننا آمنا بالله وبوجوده، فمن غير الممكن أن تخدعنا الأفكار التي أودعها الله فينا، ومنها ميلنا إلى الاعتقاد بوجود هذا العالم الخارجي"
ويعلق (جون لويس) على هذا القول الديكارتي قائلاً: " إن الحل الذي يقدمه ديكارت حل سخيف، لا يستحق أن نضعه محل اعتبار. أنه يقول أنه ما دمنا نؤمن بوجود الله...، فإن الله لن يسمح أن نضلل، ومن هنا استطعنا أن نفترض أن هناك عالماً حقيقياً يوازي تلك الأفكار الواضحة التي تعبر عنه. والواقع أن هذا الكلام ليس حلاً للمسألة" فماذا عن الذي لا يؤمن بوجود الله؟! وحقيقة هذه أسخف حجة قدمها (ديكارت) للخروج من مأزق الثنائية المنفصلة عن بعضها حيث نجده قد " جعل الفكر والمادة جوهرين مختلفين" وفي سبيل تجاوز هذا المأزق " لجأ إلى الربط بينهما، إلى الإرادة الإلهية: فقوانين الطبيعة مساوقة بل مطابقة لقوانين العقل، لأن الله جعلها كذلك. وهكذا يعود (ديكارت) إلى تقرير المطابقة التامة بين قوانين العقل وقوانين الطبيعة ...، ... بإقحام الإرادة الإلهية إقحاماً يراد به حل المشاكل المنطقية التي تطرحها ثنائية الفكر والامتداد.
4-2 النظرية التصويرية للواقع:
سلمت حركة التحليل المنطقي اللغوي ـ وبخاصة عند فتجنشتين Wittgenstein (1889-1951) حيث كان مؤلفه (رسالة منطقية فلسفية)، المؤلف الأكثر شهرة له، بمثابة رسالة مقدسة لهذه الحركة ـ " بالمبدأ الرياضي باعتباره نموذج لأفضل صورة لأي نظرية في المعرفة، وتهدف هذه الحركة إلى تمثيل مجمل المعرفة الإنسانية في نظام وضعي منطقي حيث يشتق فيه كل شيء بواسطة تعريفات واضحة وقواعد للاستدلال"
" الرسالة وضعت نظرية عامة عن اللغة في علاقتها مع العالم الخارجي. وهي أعطت إجابة للسؤال الكانتي: كيف تكون اللغة والفكر ممكنين؟" فاللغة في مقابل العالم الخارجي، القضية في مقابل الواقعة، اللفظ/الكلمة في مقابل الشيء. إذن تركيب اللغة في مقابل تركيب العالم: فمما تتكون اللغة؟
اللغة تتكون من مجموعة من القضايا. والقضية بدورها تتكون من مجموعة من الألفاظ، التي تدخل مع بعضها البعض في علاقة، لتنتج لنا معنى القضية. والقضية حتى تكون صادقة، فلابد أن تتطابق مع الواقعة الخارجية التي تُخبر عنها. فإذا مثلت الواقعة كما هي، تكون بالتالي قضية صادقة. أما إذا لم تعبّر القضية عن الواقعة الخارجية كما هي، عندئذ تكون قضية كاذبة. وبالتالي فإن " الفيلسوف التحليلي، يهتم بالبناء الداخلي للغة، أو بتركيبها المنطقي، وهو يهتم أيضا بالطريقة التي ترتبط بها اللغة بالعالم، وكيف (تدل) الكلمات وإلى ماذا (تشير)، وكيف يمكن أن يكون للقضايا معنى، وما هي شروط صدقها." هنا، تصير اللغة صورة من الواقع بحيث يمكن أن نحكم عليها بالصدق إذا كان كل جزء من أجزاء هذه الصورة يطابق الواقع الذي "تمثله" هذه الصورة. وهو ما أسماه فتجنشتين ب(الرسم) " ولكي نكشف عما إذا كان الرسم صادقاً أو كاذباً يلزم أن نقارنه بالوجود الخارجي، فالرسم وحده لا يكشف لنا عما إذا كان صادقاً أو كاذباً، ومن ثم فليس هنالك رسم صادق صدقاً أولياً، فالعبارة لا يمكن أن تكون صادقة أو كاذبة إلا إذا قارناها بالوجود" وبالتالي ينبغي أن يكون للقضية اللغوية مقابل مادي ملموس في العالم وهذا المقابل المادي هو الفيصل للحكم على صدق هذه القضية أو كذبها. فقضية مثل (الله موجود, الطاولة موجودة ): من خلال التجربة يمكن أن أحدد هل هناك طاولة موجودة في الحجرة أم لا؟ ويمكن استدعاء أي عدد من الناس لمشاهدة هذه التجربة, وبالتالي القضية: (الله موجود) والقضية: (الله غير موجود) تصبح قضايا خالية من المعنى، لأنها لا تقبل التحقيق ولا نستطيع التعامل معها بالوسائط الحسية ولا تقبل الإجراء الحسي. وبالتالي نجد أن طبيعة المشكلات الزائفة لا تقبل الحسم الموضوعي.
إذن لابد أن تكون كل علامة لغوية مستخدمة تقبل التحقيق وتشير إلي واقع مادي موجود في الواقع الخارجي.
في نفس الاتجاه سارت الوضعية المنطقية Logical Positivism أو التجريبية المنطقية: إن " المشكلة الرئيسية في التجريبية المنطقية هي: ما الذي يجعل العبارة المعرفية أي الجملة الإخبارية ذات معنى؟ وكيف نحدد معناها، أو كيف نتحقق من ادعائها كونها واقعية"
" لقد ذهب الوضعيون المناطقة،...، فنظروا إلى قضايا الميتافيزيقا التي تصاغ في عبارات تنطوي على كلمات من قبيل: العدم، والماهية، والجوهر..، على أنها لغو بلا معنى. فمثل هذه العبارات لا تقول شيئا عن الواقع يمكن التحقق منه عن طريق المشاهدة أو التجربة، كما أنها لا تقول لنا شيئا يمكن التحقق منه عن طريق المنطق. فالتحليل المنطقي للغة عندهم يظهر لنا أن القضايا ذات المعنى التي يمكن التحقق من صدقها أو كذبها عن طريق الرجوع إلى الواقع (ونموذجها قضايا العلوم الطبيعية)، أو تكون قضايا تحليلية نتحقق من صدقها أو كذبها بمراجعة اتساقها صورياً أو منطقياً (ونموذجها قضايا المنطق والرياضيات)"
إذن، الوضعية المنطقية تقوم أساساً على مبدأ التحقق، ووفقا لهذا المبدأ فإن القضية لا تكون صادقة إلا إذا كانت قابلة للتحقق تجريبياً، ومن هنا نجد أن الوضعية المنطقية ـ على غرار (فتجنشتين) في نظريته التصويرية للواقع ـ قد قسمت القضايا إلى نوعين:
أ/ قضايا ذات معنى: وهي القضايا القابلة لمبدأ التحقق، وبالتالي هناك إمكانية لمعرفة مدى صدقها، بمعنى آخر: تنقسم القضايا ذات المعنى إلى قسمين:
- قضايا صادقة: القضية الصادقة هي التي تتطابق مع واقعة خارجية.
- قضايا كاذبة: القضية الكاذبة بالرغم من أنها تحمل معنى، إلا أنها لا تتطابق مع واقعة خارجية.
فقولنا مثلاً أن: الكتاب فوق المنضدة، فبإمكاننا التحقق من ما تُخبر به هذه القضية في الواقع التجريبي. فإذا وجدنا فعلاً الكتاب فوق المنضدة، كانت القضية قضية صادقة. إما إذا وجدنا الكتاب في أية وضعية أخرى مغايرة للوضعية المذكورة في القضية، تصبح القضية قضية كاذبة.
والوضعية المنطقية بذلك حصرت القضايا ذات المعنى في القضايا التجريبية( قضايا العلم الطبيعي) والقضايا التحليلية( قضايا المنطق والرياضيات).
ب/ قضايا خالية من المعنى: المقصود بها كل القضايا التي تقع خارج دائرة التجريب وخارج دائرة القضايا التحليلية، وهي في نظر الوضعية المنطقية، تلك القضايا التي لا تقبل بطبيعتها الخضوع لمبدأ التحقق، وبالتالي لا يمكن الحكم بشأنها سواء بصدقها أو بكذبها. ويدخل في إطار مثل هذه القضايا: قضايا الميتافيزيقا، الدين، الأخلاق، الشعر،...الخ.
وما نريد قوله أن مدارس التحليل اللغوي والوضعية المنطقية بُنيت في مجمل أفكارها وفق التصور التقليدي للفيزياء وأُسست على المفهوم التقليدي للحقيقة باعتبارها مطابقة ما بين اللغة أو الفكر من جهة والواقع من الجهة الأخرى.وهذا هو السبب في انتهائها في الراهن المعاصر إذ أن هذا المنظور يرى أن معظم القضايا والأسئلة التي كُتبت عن أمور فلسفية ليست كاذبة، بل هي خالية من المعنى. وبالتالي ما له معنى مقصور ومحدود بدائرة ما هو موجود فعلاً وما هو قابل للتحقيق والتجربة. ولذلك فإن مثل هذا المنظور يرى أن معظم قضايا ومشكلات النوع البشري ليست في حقيقتها مشكلات على الإطلاق.
4-3 نظرية الصدق عند البراغماتية:
ارتبطت نشأة الفلسفة البراغماتية وتطورها بالمجتمع الأمريكي، ومن أبرز فلاسفتها: تشارلز بيرسCharles Pierce(1839-1914)، وليم جيمسW. James(1841-1910)، جون ديوىJohn Dewey (1859-1952).
مع هذه الفلسفة " لا يهم مصدر الفكرة بل نتيجتها، ولا تبحث البراغماتية عن بداية المعتقد، بل نهايته وما الذي يحدثه في حياتنا العملية من نتائج وآثار؟ ذلك هو معيار الصدق الذي ينطبق على جميع الأفكار وعلى جميع المعتقدات بغير استثناء"
نفهم من ذلك أن المعيار الذي يُحدد على أساسه صدق فكرة معينة عند الفيلسوف البراغماتي، إنما يتحدد بالمردود الذي تحدثه الفكرة في الواقع العملي. وبالتالي فإن معيار صدق المعرفة هنا، إنما يتحدد بالنتائج والآثار التي تنتج من تطبيق هذه المعرفة على أرض الواقع. فإن كانت هذه النتائج مفيدة لنا في حياتنا، كانت بالتالي الفكرة صادقة. أما إذا كانت نتائج الفكرة غير نافعة لنا، فبالتالي سنحكم على هذه الفكرة باعتبارها خاطئة.
وواضح هنا أن الصدق ليس غاية في حد ذاته وإنما هو وسيلة لجلب منفعة، وبالتالي فأننا " لكي نتأكد من وضوح أي فكرة علينا أن ننظر في الآثار والنتائج العملية التي تحققها في الواقع سواء كانت هذه النتائج مباشرة أو غير مباشرة" فإذا أردنا مثلاً أن نحدد هل فكرة وجود الله فكرة صادقة أم لا؟ فينبغي لنا حسب المنهج البراغماتي، أن نتساءل عن النتائج العملية والآثار التي تتحقق من خلال الاعتقاد بأن الله موجود. فإذا وجدنا أن النتائج العملية لهذه الفكرة مفيدة لنا في حياتنا العملية، فعندئذ نقول أن فكرة أن الله موجود فكرة صحيحة وصادقة. وفي المقابل إذا وجدنا أن النتائج العملية المترتبة على هذه الفكرة غير نافعة وغير مفيدة، فعندئذ نقول أن هذه الفكرة فكرة غير صحيحة وغير صادقة.
ونفس المنهج طبقه وليم جيمس(1842-1910م) في قضية الاعتقاد في الله، وتوصل إلى أن " الاعتقاد في الله يحقق لدى المؤمن قدراً عظيماً من الراحة والسكينة ومن ثم التفاؤل بشأن المستقبل، بينما نجد أن هذه الراحة والطمأنينة والسكينة والتفاؤل مفقودة لدى غير المؤمن. وهذا الأثر العملي الذي يحدثه الإيمان لدى المؤمن أبلغ دليل على صدق الأفكار الإيمانية"
وإذا ترددنا بين صحة فكرتين (أ) و(ب) مثلاً، فإن جيمس يتساءل عن "الفارق العملي" الذي يحدث إذا كانت الفكرة (أ) صحيحة بدلا من (ب). وما الذي يحدث إذا كانت الفكرة (ب) صحيحة بدلاً من (أ)؟ أما إذا اكتشفنا أن لا فارق عملي بمعنى أن الفكرتان من الناحية العملية ومن ناحية النتائج متساويتان فعندئذ يصبح أي نزاع ينشأ بشأن هاتان الفكرتان مجرد جدل عقيم لا فائدة من وراءه، ولا يمكن الوصول فيه إلى حلول نهائية ويقينية.
وواضح هنا أن "جيمس" كان يقصد الجدال الطويل بين الاتجاهين التجريبي والمثالي حول بعض القضايا الميتافيزيقية مثل: أيهما أسبق في الوجود المادة أم الوعي؟ هل العالم واحد أم متعدد؟ هل الإنسان مسير أم مخير؟ هل هذا العالم نتاج لالتقاء ذرات أم نتاج للصدفة أم أنه من خلق الله؟ ويقول جيمس في هذا الصدد أننا إذا قلنا بأن العالم نتاج للصدفة أو أنه نتاج لالتقاء ذرات ..الخ، فإن ذلك لا يغير من حقيقة أنه موجود فعلاً.
وأخيراً نقول أن ما غاب عن فلاسفة البراغماتية هو " أنه إذا سلمنا معهم بأن (الحقيقي) نافع على نحو ما، فإنه من المستحيل التسليم بأن (المنفعة) هي الأساس في تعريفنا للحقيقة، لأن (الحقيقي) يكون (نافعاً) لأنه (حقيقي) وليس العكس"



#مجدي_عزالدين_حسن (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- في نظرية المعرفة (2)
- في نظرية المعرفة (1)
- الثورة وثقافة الديمقراطية في الفقه السياسي الإسلامي: جدلية ا ...
- الثورة وثقافة الديمقراطية في الفقه السياسي الإسلامي: جدلية ا ...
- الثورة وثقافة الديمقراطية في الفقه السياسي الإسلامي: جدلية ا ...
- الثورة وثقافة الديمقراطية في الفقه السياسي الإسلامي: جدلية ا ...
- الثورة وثقافة الديمقراطية في الفقه السياسي الإسلامي: جدلية ا ...
- الفلسفة وسؤال النهضة والحرية والتنوير الغائب في العالم العرب ...


المزيد.....




- الأنشطة الموازية للخطة التعليمية.. أي مهارات يكتسبها التلامي ...
- -من سيناديني ماما الآن؟-.. أم فلسطينية تودّع أطفالها الثلاثة ...
- اختبار سمع عن بُعد للمقيمين في الأراضي الفلسطينية
- تجدد الغارات على الضاحية الجنوبية لبيروت، ومقتل إسرائيلي بعد ...
- صواريخ بعيدة المدى.. تصعيد جديد في الحرب الروسية الأوكرانية ...
- الدفاع المدني بغزة: 412 من عناصرنا بين قتيل ومصاب ومعتقل وتد ...
- هجوم إسرائيلي على مصر بسبب الحوثيين
- الدفاع الصينية: على واشنطن الإسراع في تصحيح أخطائها
- إدارة بايدن -تشطب- ديونا مستحقة على كييف.. وترسل لها ألغاما ...
- كيف تعرف ما إذا كنت مراقبًا من خلال كاميرا هاتفك؟


المزيد.....

- كتاب رينيه ديكارت، خطاب حول المنهج / زهير الخويلدي
- معالجة القضايا الاجتماعية بواسطة المقاربات العلمية / زهير الخويلدي
- الثقافة تحجب المعنى أومعضلة الترجمة في البلاد العربية الإسلا ... / قاسم المحبشي
- الفلسفة القديمة وفلسفة العصور الوسطى ( الاقطاعية )والفلسفة ا ... / غازي الصوراني
- حقوق الإنسان من سقراط إلى ماركس / محمد الهلالي
- حقوق الإنسان من منظور نقدي / محمد الهلالي وخديجة رياضي
- فلسفات تسائل حياتنا / محمد الهلالي
- المُعاناة، المَعنى، العِناية/ مقالة ضد تبرير الشر / ياسين الحاج صالح
- الحلم جنين الواقع -الجزء التاسع / كريمة سلام
- سيغموند فرويد ، يهودية الأنوار : وفاء - مبهم - و - جوهري - / الحسن علاج


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع - مجدي عزالدين حسن - في نظرية المعرفة (3)