|
قراءة في رواية (حلم جميل لسيدة الوهم الجميل)
جگر الريكاني
الحوار المتمدن-العدد: 3624 - 2012 / 1 / 31 - 09:11
المحور:
الادب والفن
أسبوعان من الزمن وأنا أتأنى وأستمتع بقراءة رواية (حلم جميل لسيدة الوهم الجميل) للروائية السورية –الأمريكية (أروى كاسو)، فرأيت نفسي أنجرف وراء الزخم الهائل من العواطف البشرية العارمة والأحساسيس الدفينة المنبثقة من مزيج من الحب العذري والحيرة القاتلة والخوف من المجهول، بينما تحاول بطلة القصة (إيفان) أن تصارع وهم الحب الذي خيًّم على حياتها الهادئة المستقرة بين أحضان زوج محب، ناجح، ومتفهم وفي كنف أسرة تجمعهما بابنتين في سن المراهقة، مشهودتين لهما بالتفوق وحسن التربية ولباقة التصرف. وتزداد وتيرة الأحداث حدة وتشابكا في الوقت الذي أستفحل فيه هذا الداء العضال على البطلة دون أن تتمكن (ليلى)، صديقتها المقربة في الغربة، أن تنقذها من براثن هذا الوحش الكاسر الذي بات يهز كيانها النفسي والعائلي والإجتماعي، وهي المنحدرة من عائلة أرستقراطية شرقية ذات حسب ونسب،وذلك منذ أن ألتقت بمعلم مدرسة إبنتها القريب الملامح من الثائر المعروف (تشي غيفارا). ذكرتني هذه الرواية برواية إنجليزية للكاتبة البريطانية Denis Robins بعنوان Shatter the Sky أصدرتها عام 1933، وهي تصف حالة متطرفة من الرومانسية الطاغية بين البطلة المتزوجة من جراح ناجح ووسيم يكن لها الحب والإحترام دون أن يدري كيف يداري مشاعرها وعواطفها كأنثى رقيقة محبة للموسيقى والجمال والطبيعة، والشقيق التوأم لخطيبها المتوفي جراء حادث سيارة مؤسف بعد قصة حب قصيرة لكن مليئة بالعواطف الجيَاشة والأحاسيس الراقية النابعة من تناغم روحي فريد، سرعان ما تجدد بعد لقائها بالتوأم الحي الذي ألتقت به أول مرة وهي تقضي شهر العسل مع زوجها في إسبانيا. الحيرة بين الوفاء الجسدي للزوج والإنجذاب الروحي نحو الحبيب هو ما يميز كلتا الرواتين، إلا أن البطلة في الرواية العربية تحب زوجها وتحترمه وتطاوعه جسديا وترفض خيانته أيما رفض، بل تظل تكرر أن ما تكنه نحو معلم أبنتها الشبيه بتشي غيفارا، ملهمها منذ أيام الطفولة، ما هي إلا حالة قدسية من الهالة والإجلال و التعظيم بما يسمو فوق الإدراك الجسدي المجرد وبما يقرب من حب المرء لنبي من الأنبياء أو قديس مبجل. هو حب قدسي عفيف، إذن، لا مجال فيه للزيغ والخيانة والشهوات العابرة، فنرى صاحبته تكتوي بحرقة النيران المتقدة داخلها، دون أن تجد ما يطفأ جذوتها أينما حلت وأرتحلت، فنراها تتردد بين بيتها والمقهى والمدرسة وبيت صديقتها دون جدوى، بل وحتى أحضان أمها في بلاد بعيدة لم تكن لتعطي دفئا أكثر من حرارة هذه النيران المستعرة في وجدانها. في حين، نرى البطلة في رواية روبنز تنجرف وراء عاطفتها، لتجد في أحضان حبيبها الجديد ما يبرد حرقة الحب الذي أعتمل في قلبها وهي لا تزال تقضي شهر العسل مع زوجها، وليأخذ عذابها منحى آخر، يتجلى بشعور مؤلم بخيانة زوجها الذي كان خير رفيق لها في الآونة الأخيرة، بعد وفاة خطيبها وأبيها خلال فترة وجيزة. وإن خلت الرواية من زمكانية الحدث، إلا أن الروائية أروى كاسو أبدعت في سرد روايتها معتمدة على المونولوج الباطني للشخصيتين المحورتين للرواية، إيفان وليلى، فكانت موفقة إلى حد كبير في سبر أغوار نفس المرأة وما يختلج فيها من مشاعر دفينة معقدة من الحب والإخلاص والإحترام والوحدة والحيرة والكبرياء، فنراها تصف البطلة في خضم الحالة الوجدانية التي عصفت بها كـ"حجر ثقيل يتدحرج بإنسياب هرموني متناسق نحو قاع مجهول" تارة، وكـ"عصفة فارغة في مهب الريح" تارة أخرى، بينما هي تتصرف بلا وعي ووجدان، كما لو كانت "منومة مغناطيسيا" فتذعن لأوامر المنوِّم وتبرز له مفاتنها الروحية دونما رادع أو رقيب، بل أمعنت الكاتبة في إبراز قدراتها الوصفية العالية بأن تعمدت في وصف كل من وما حول البطلة من أشخاص وجماد، فنراها تجري مقارنة جميلة بين الرسائل التي حاولت أن تناجي بها قديسها الجديد وهي في أحد مقاهي المدينة (التي يخيل للقارئ أنها تقع في أمريكا) والماء المنحدر أمام المقهى من حيث الرقة في الملمس ولكن القوة في المحتوى والمتانة في الأواصر التي تنطوي عليها، ومن ثم بين دموعها المسالة وهي ترمي بأخر رسالة أبتلعها الماء الجاري أمام مكان جلوسها في المقهى، فهي وإن دلت على ضعف في النفس، إلا أنها من ذات القوة والمتانة التي تتصف بها هذه المياه وهي تشق طريقها بعمق في أديم الأرض، أو الرسائل التي تحمل أصدق المشاعر القابعة بعمق النفس البشرية. وهكذا يجد القارئ نفسه مجبرا أحيانا على مشاطرة البطلة جزءا من عذابها وكفاحها، وهي تٌطارد من قبل هذه الأفكار الجنونية المولودة من رحم الوهم، والتي تنهال عليها كما الحشرات وهي تنقَضُّ على قطعة من الحلوى اللذيذة، فما تلبث أن تعيد الكرَّة كلما أُبعدت، بينما في أحايين أخرى يجد القارئ نفسه مضطرا إلى التصرف كطبيب تطاوعه نفسه إلى وصف دواء ناجع من شأنه أن يخفف من وطأة الألم على هذه الكائنة الرقيقة الرازحة تحت هذا الكم من الهم والكدر- ولكن مع الوضع في الإعتبار أن الدواء قد يسبب تأثيرات سلبية أخطر من الداء أحيانا! إنه لمن النادر حقا أن نتلقى هكذا جرعة من الأحاسيس البشرية المتناغمة تارة والمتناقضة تارة في عمل روائي واحد كتلك التي زخرت بها رواية (حلم غريب لسيدة الوهم الجميل)!
#جگر_الريكاني (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
العراق العظيم الذي لا يقدر أن يصدر جواز مرور لمواطنيه
المزيد.....
-
الفرقة الشعبية الكويتية.. تاريخ حافل يوثّق بكتاب جديد
-
فنانة من سويسرا تواجه تحديات التكنولوجيا في عالم الواقع الاف
...
-
تفرنوت.. قصة خبز أمازيغي مغربي يعد على حجارة الوادي
-
دائرة الثقافة والإعلام المركزي لحزب الوحدة الشعبية تنظم ندوة
...
-
Yal? Capk?n?.. مسلسل الطائر الرفراف الحلقة 88 مترجمة قصة عشق
...
-
الشاعر الأوزبكي شمشاد عبد اللهيف.. كيف قاوم الاستعمار الثقاف
...
-
نقط تحت الصفر
-
غزة.. الموسيقى لمواجهة الحرب والنزوح
-
يَدٌ.. بخُطوطٍ ضَالة
-
انطباعاتٌ بروليتارية عن أغانٍ أرستقراطية
المزيد.....
-
تجربة الميج 21 الأولي لفاطمة ياسين
/ محمد دوير
-
مذكرات -آل پاتشينو- عن -العرّاب-
/ جلال نعيم
-
التجريب والتأسيس في مسرح السيد حافظ
/ عبد الكريم برشيد
-
مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة
/ د. أمل درويش
-
التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب
...
/ حسين علوان حسين
-
التجريب في الرواية والمسرح عند السيد حافظ في عيون كتاب ونقا
...
/ نواف يونس وآخرون
-
دلالة المفارقات الموضوعاتية في أعمال السيد حافظ الروائية - و
...
/ نادية سعدوني
-
المرأة بين التسلط والقهر في مسرح الطفل للسيد حافظ وآخرين
/ د. راندا حلمى السعيد
-
سراب مختلف ألوانه
/ خالد علي سليفاني
-
جماليات الكتابة المسرحية الموجهة للطفل في مسرحية سندس للسيد
...
/ أمال قندوز - فاطنة بوكركب
المزيد.....
|