أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - كتابات ساخرة - حسين علوان حسين - حنقبازية سوق الصفافير















المزيد.....

حنقبازية سوق الصفافير


حسين علوان حسين
أديب و أستاذ جامعي

(Hussain Alwan Hussain)


الحوار المتمدن-العدد: 3618 - 2012 / 1 / 25 - 19:25
المحور: كتابات ساخرة
    


كان يا ما كان ببغداد في قديم الزمان سوق عامر للصفافير ، يعج بمحال مئات العمال و الحرفيين و النقاشين المجدين و المجتهدين ، ممن يمضون كل نهاراتهم حادبين منغمسين في صهر و شق الصفائح المعدنية الصفراء و طرقها و تلميعها و نقشها و الترويج لها و بيعها . كان السوق خلية نحل لا يعكر نشاطها سوى ثلاثة من التنابلة الحنقبازيين ممن يمضون نهاراتهم ليس بالعمل و الإنتاج كالآخرين ، بل في الضحك على ذقون بعضهم البعض ، و على "أهل الصنف" ، و حتى على زبائن السوق و المستطرقين ، عبر تدبير المقالب الحنقبازية القذرة لهم ، و تنفيذها بكل إصرار و ترصد و استمراء . و لقد أوتي كل واحد منهم عقلاً شيطانياً يتفتق يومياً عن فخ جهنمي جديد ، أشد قذارة من سابقه الأريب . و تكتسب خططهم قوة أكبر على نحو خاص عندما ينسقون و يعملون مجتمعين . فمثلاً ، كانوا يوقعون بالبسطاء من السابلة الغافلين عبر ثقب ورقة نقدية من فئة الخمسة و العشرين ديناراً بالإبرة ، و ربطها بخيط ناعم طويل يمسك بطرفه الثاني أحدهم : (العقيد) ، و هو جالس داخل محله الكبير ؛ فيما يقف الثاني (الرائد) على مبعدة عشرة أمتار من المحل و هو يتفرس في هيئات السابلة ؛ و يلزم الثالث (المقدم) باب المحل و هو يمسك الورقة النقدية المشدود داخل جيبه . و ما أن يلحظ الرائد أحد المشاة ممن تلوح عليهم سيماء البلاهة أو الغفلة ، حتى يعطي الإشارة لصاحبه المقدم ؛ فيقوم هذا بإخراج الورقة النقدية المربوطة بخيط ، و يضعها بخفة أمام الأنظار على درب الضحية الماشية ، ثم ينسحب بسرعة إلى ركن مخفي كائن عند باب المحل . و ما أن تقع عين الماشي على الورقة النقدية ، فيهم بالتقاطها ، حتى يؤشر المقدم للعقيد بإصبعه ، فيجر الأخير الخيط مسافة قدمين . و عندها يواصل الماشي ملاحقة الورقة النقدية التي تحاول الهروب من قبضته ، و يتابع المقدم إشاراته ، و العقيد سحوباته ، حتى يدخل الضحية المحل . عندها يلج المقدم و الرائد المحل ، و يغلقان بابه الحديدي ، ثم يقفلانه بالمفتاح ، و يستفرد الشياطين الثلاثة بالضحية ، و يتهمونها بالسرقة . فإذا كانت الضحية ذكراً ، لا يخرج هذا من المحل إلا و قد أفرغت كل جيوبه من المال . أما إذا كانت الضحية أنثى ، فلا تخرج إلا و قد أفرغ الثلاثة سموم مالاتهم في كل المتاح من جيوبها .
و من مقالبهم ، حفر حفرة مستطيلة بطول قدمين أمام المحل ، و ملؤها بالجيف الشديد السيولة ، و من ثم إكساؤها بطبقة خفيفة جداً من التراب كي تكتسب مظهراً مطابقاً لبقية الشارع الترابي ، و وضع صفيحة من القصدير أمامها . و حال مجيء الضحية المستهدفة ، ترفع الصفيحة ، فتطأ أرجل الضحية الحفرة ، و تكتسي بالنجاسة . عندها يتقدم المقدم و الرائد من الضحية ، و يبديان أسفهما لما أصابها ، و يدعوانها للدخول للمحل للإغتسال . و ما أن تبتلع الضحية الطعم ، و تخلع ملابسها ، حتى ينتفون ريشها قبل أن تخرج و هي تنطق بأخلص آيات الشكر و الإمتنان لهم .
و في الأوقات التي تكون فيها جيوبهم متخمة بالغنائم ، يذهب الثلاثة للمطعم معاً لتناول تشريب اللحم المشفوع بأكبر كمية من الفجل و البصل . بعدها يلعبون القمار فيما بينهم حول من يستخرج أقوى الضراط و أطوله وسط السوق . و كان العقيد يقمرهم في أغلب هذه السباقات بفضل كرشه العامر الغامر ؛ ينافسه المقدم أحياناً بفضل صماخه الضامر الطامر . أما الرائد ذو الفم الفاغر الواغر ، فقد كان دائم التكبد لأفدح الخسائر . و غالباً ما تنتهي حفلات القمار هذه بنزالات مفتوحة من المصارعة الحرة غير المقيدة بين الثلاثة أولاً ، و بينهم و بين بقية أصحاب المحال و المارة بعدئذ . و لا تنتهي إلا بعد نتف ريش هذه الضحية أو تلك .
عيل صبر الصفارين من أفعال الغدارين الثلاثة ، فتجمعوا و ذهبوا إلى شيخ السوق يشكون أليه جرائمهم الدنيئة ، رغم معرفتهم بأن هذا الشيخ ليس أقل سفالة منهم . و لكون الحنقبازية الثلاثة كانوا من أصحابه ، و من المعجبين بدناءاته و تسلكاته ، فقد إكتفى الشيخ بطردهم من محلاته ، و نفيهم سوية إلى مقهى السوق ، و الذي أصبح يعرف بـ "مقهى الحنقبازية" . هناك أتخذ الثلاثة لهم تكية ، و بدأوا ببيع السبح و المحابس و الحروز ، و الإشتغال بقراءة البخت و الفال ، و ضرب التخت بالرمال . كما افتتحوا دورات لتدريب العباد على أصول السفاد و الطراد بتقديس الجماد . و سرعان ما أصبح لهم الكثير من المريدين و المؤيدين من المخدوعين و المنافقين .
تناهت أخبار نجاحات الثلاثة لشيخ السوق ، فأحس بالغيرة منهم ، و قرر طردهم من التكية . عندها سارع الثلاثة السمسرة لحسابه ، و تجنيد كل مهاراتهم في خدمة أسبابه ، و حتى حين ؛ و هم يتحينون كل الفرص للإيقاع به ، و التخلص من سطوته عليهم .
و في أحد أيام الشتاء القارص ، مر بالسوق ذئب غريب مدجج بالأسلحة الفتاكة ، و هو يركب بغلة ، على رأس قطيع من البغال القوية و الشديدة المراس من ذوات البأس الشديد . رآه الحنقبازية الثلاثة ، فاهتبلوها فرصة لا تعوض ، و رددوا بصوت واحد : الآن أو أبداً . أسرعوا إليه ، و سجدوا له ، و بالغوا بتبجيله و تقبيل يديه و رجليه ، و أدخلوه التكية . هناك قرأوا له الفال ، و أنبأوه مبتهجين :
- مكتوب عليك في الكتاب - يا مولانا - أن تفتح سوق الصفافير الآن ، فيدخل أسمك تاريخ المساخير . و بما أنك لست الأول ، فلتكن على الأقل : الفاتح الأخير .
كان الذئب الغريب مفترساً شرساً ، إبتلاه الله بمس من الجنون الوراثي ، و بالجوع المستديم . و لكنه حتى عند شبعه ، فقد إعتاد جندلة قطعان كاملة من الفرائس في كل الغابات التي يطأها لمجرد التسلية ليس إلا . و مع أنه لم يفهم معنى كلمتي : " الصفافير و المساخير " ، و لكن جنونه زين له – وسط ضجيج المطارق في السوق – أن يصدق فرية كونهما لا يمكن أن تشيران إلا إلى غنيمة دسمة يسيل لها اللعاب ، و إلى مأثرة كبيرة مفعمة بآيات الشرف العظيم ، و إلى تسلية مبتكرة تبهج القلب و تطرد الكآبة و الملل عن الروح . عندها ، أسرع بامتطاء بغلته ، و أردف الحنقبازية الثلاثة خلفه على بغاله ، و زحف بموكبه اللجب وسط السوق مطلقاً كل نيرانه – و هو يخبط خبط عشواء و يقتل يمنة و يسرة كل من يراه أمامه – حتى بلغ مكان شيخ السوق ، الذي وجده يقف وحيداً رافع اليدين فوق السور . هناك ، أشّر الذئب للحنقبازية الثلاثة ، فجعل هؤلاء بغلاتهم تطيح بشيخهم من على السور ركلاً و هم يشتمونه بتشف مريض . و إزاء صنيعهم الشجاع هذا ، فقد نصب الذئب الحنقبازية الثلاثة شيوخاً على السوق .
حالما استلم الحنقبازية الثلاثة المشيخة في السوق ، حتى راحوا يتغنمون بكل شيء ، و ينتهكون كل محظور ؛ و يصدرون القوانين التي تشرعن كل جريمة ، و تستبيح كل المحرمات . كما و أقاموا محاكم نصبوا عليها قضاة أميين لا يحكمون إلا لمصلحة سيدهم الحنقباز وفقاً لـروح تلك "القوانين" . و أعد كل واحد منهم ترسانة ضخمة من الأسلحة الفتاكة تحسباً لمقالب غرمائه و شركاءه : ألغام من الخراء ، و عبوات من الفساء ، و أشرطة من العواء ، و براميل سوداء من الطلاء بالجراء ، و مخازن عطنة للتكبيس و التخييس . و راح كل واحد منهما يتفنن في التلويح لأقوى منافسيه و شركائه بضروب التهديد و الوعيد و العقاب الشديد من "الإنقلاب" عليه . و كلما احتاجوا للتموين بين الحين و الحين ، كلما عقدوا بينهم هدنة وقتية ، بغية جباية ما يمكن جبايته من الخرجية . فيستدعون جماهير الصفارين ، و يجمعون منهم بالترغيب و الترهيب المال الوفير لتجهيزهم بأحسن الكهرباء و الماء و الطعام ، و لبناء أرقى المدارس و الجامعات و المستشفيات و العمارات و المتنزهات و القنوات . و ما أن تمتلئ جيوبهم بالغنائم المجموعة من أفواه القطيع الأطرش ، حتى ينفرط عقد الهدنة بين الثلاثة ، و تتعالى وسط السوق صرخات العواء ، و تنتشر روائح عبوات الخراء و الفساء ، و تنتثر أشلاء الأجساد في إنفلاقات المفخخات و الناسفات . و يسألونهم : "إلا هل امتلأتم ؟" فيردون : "ألا هل من مزيد ؟" و يسألونهم : "إلى متى تبقون هكذا في غيكم سادرين ؟" فيجيبون : "إلى أبد الآبدين ما دام الناس في سوق الصفافير قابعين ." و للتدليل على صحة كلامهم ، يتناوب الواحد تلو الآخر على اعتلاء المنبر بالترتيب ، فيسأل كل واحد منهم الناس المتجمهرين حوله : "ألست أنا قائدكم الأوحد ؟ " فيجيبه المساطيل : "أي نعم ! إنّا نشهد لكم بهذا يا إبن الأكرمين ، و رب العالمين ". أما بالنسبة للصفارين ، فما انفك هؤلاء بقرعهم و بؤسهم متسربلين ، و آذانهم مختومة لا تسمع ضربات معاول الناهبين . و هكذا تراهم و هم يمضون كل سني عمرهم بدعوة ربهم متضرعين بخشوع كل المتقين ، و على خلاف كل العاجزين : "عسى الله أن يقصم ظهر الحنقبازيين ؛ و إنشاء الله يأتينا الفرج المبين ؛ فنصير برحمته على الخنازير متقدمين . آمين يا رب العالمين ."



#حسين_علوان_حسين (هاشتاغ)       Hussain_Alwan_Hussain#          



الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- ليس في الأمر غرابة
- إجوبة مختصرة على أسئلة مهمة
- ملحمة السادة العميديين في الكفل عام 1983
- هل نسي رافد ؟
- ريما أم عظام
- ليلة زيارة الموتى للمقابر
- القتل و الإبتزاز و الدفن : مجرد تجارة ، ليس إلا
- رجع الوجع / الحلقة الأخيرة للرواية / 20
- رجع الوجع / رواية بحلقات / 19
- رجع الوجع / رواية بحلقات / 18
- رجع الوجع / رواية بحلقات / 17
- رجع الوجع / رواية بحلقات / 16
- رجع الوجع / رواية بحلقات / 15
- رجع الوجع / رواية بحلقات / 14
- رجع الوجع / رواية بحلقات / 13
- رجع الوجع / رواية بحلقات / 12
- رجع الوجع / رواية بحلقات / 11
- رجع الوجع / رواية بحلقات / 10
- رجع الوجع / رواية بحلقات / 9
- رجع الوجع / رواية بحلقات / 8


المزيد.....




- -المعرض الدولي للنشر والكتاب- بالرباط ينطلق الخميس بمشاركة ع ...
- اللغة العربية في طريقها الى مدارس نيشوبينغ كلغة حديثة
- بين الرواية الرسمية وإنكار الإخوان.. مغردون: ماذا يحدث بالأر ...
- المؤرخ الإسرائيلي توم سيغيف: الصهيونية كانت خطأ منذ البداية ...
- دول عربية تحظر فيلما بطلته إسرائيلية
- دول عربية تحظر فيلما بطلته الإسرائيلية
- عن -الأمالي-.. قراءة في المسار والخط!
- فلورنس بيو تُلح على السماح لها بقفزة جريئة في فيلم -Thunderb ...
- مصر.. تأييد لإلزام مطرب المهرجانات حسن شاكوش بدفع نفقة لطليق ...
- مصممة زي محمد رمضان المثير للجدل في مهرجان -كوتشيلا- ترد على ...


المزيد.....

- فوقوا بقى .. الخرافات بالهبل والعبيط / سامى لبيب
- وَيُسَمُّوْنَهَا «كورُونا»، وَيُسَمُّوْنَهُ «كورُونا» (3-4) ... / غياث المرزوق
- التقنية والحداثة من منظور مدرسة فرانكفو رت / محمد فشفاشي
- سَلَامُ ليَـــــالِيك / مزوار محمد سعيد
- سور الأزبكية : مقامة أدبية / ماجد هاشم كيلاني
- مقامات الكيلاني / ماجد هاشم كيلاني
- االمجد للأرانب : إشارات الإغراء بالثقافة العربية والإرهاب / سامي عبدالعال
- تخاريف / أيمن زهري
- البنطلون لأ / خالد ابوعليو
- مشاركة المرأة العراقية في سوق العمل / نبيل جعفر عبد الرضا و مروة عبد الرحيم


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - كتابات ساخرة - حسين علوان حسين - حنقبازية سوق الصفافير