|
البحث عن ملكوت الله (2)
وليد مهدي
الحوار المتمدن-العدد: 3572 - 2011 / 12 / 10 - 16:46
المحور:
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
(1)
في موضوعنا السابق كان مسار ما تقصيناه عن " نظرية " الملكوت الدينية هو وجود تاثير للنمط المعرفي الحضاري على صياغة النظرية حسب الزمان والمكان ..
فالامم التي يبدأ تاريخها باللغة وركائزها النحوية والبلاغية كمنظومة معرفة اولية ، اعتبرت الملكوت يبدأ بالكلمة ( كن فيكون ..) .. بدءاً من عصور التاريخ المكتوب في سومر وانتهاءً ببزوغ عصر النهضة في اوربا ..
اما الاغوار الاعمق ، كمثال الابورجينز في استراليا الذي ذكرناه ، والذي اعتبر خلق العالم إنما يبدأ بالاحلام أو ما اطلقنا عليه ( الخيال الخلاق ) ..
فهل يمكن اعتبارها اكثر تجرداً من تاثير الثقافة والبيئة لنتمكن بعدئذٍ اعتبارها اكثر الاطر المعرفية موضوعية في اقترابها من الملكوت الإلهي اذا ما كان هذا الملكوت موجوداً بالفعل ...؟؟
في موضوع اليوم ، سنحاول الإجابة على هذا التساؤل عبر بحث النموذج المعرفي الاقدم وعلاقته بواقع الوعي الإنساني ، فالوعي بالعالم المحيط سيكون هو مقياسنا في اختبار هذا النموذج ..
(2)
الفرق بين " الخلق " و " الخيال " هو ان الخلق ملموس و " الخيال " وهم غير ملموس .. لكننا في كثير من الاحلام نعتقد بان احلامنا الوهمية حقيقة حتى نستيقظ من النوم لنكتشف انها كانت اوهام !
نحن نقول بان حلمنا كان وهماً , او إن ما تخيلناه وهم بناءً على مقارنة " فضاء التخيل " وهو فضاء افتراضي virtual space مع الفضاء المدرك حسياً وهو فضاء حقيقي realistic space ...
لكن ، ماذا لو .. انتبهنا من نومنا في يومٍ من الايام فنكون فاقدين القدرة على تمييز الفضاء الحقيقي الذي تدركه الحواس ، بمعنى ، مالذي يحدث لو ( في الاعماق ) استمر الدماغ في نشاطه دون يقظة ..؟؟
بهذا المثال إنما نحاول تقريب ما بنيت على اساسه عقيدة الابورجينز من ان العالم انما ابتدأ بمرحلة الاحلام وهو ما يتطلب فرضية مسبقة تقول :
الوعي والعقل يمكن ان يكون ذو وجود مسبق في " كائنات " خارج الزمكان ، اي ليس بالضرورة ان يكون العقل حصرياً بالكائنات البشرية ذات اللحم والدم ..!
الآلهة لدى الابورجينز ، والإله الخالق في الشرق الاوسط وكذلك ملائكته ، من المفترض إنهم يمتلكون جميعاً العقل والوعي بتجرد عن الدماغ لانه واقع ضمن المنظومة التي خلقتها او خلقها الإلـه ..!
وبناءً على افتراض أن ما قبل الزمان والمكان كان هناك " وعي " او " عقل " حر مجرد عن الكينونة المادية ، اي الله اللامادي قبل ان يخلق المادة ، و كان قد " تخيل " وجود عالم مادي .. خليقة مادية .. بخياله فقط ، مثل آلهة الابورجينز ..
لو استغرق هذا " الإله " في حلمه ، هل يمكنه المقارنة بين الحلم كونه يحدث في فضاء افتراضي وبين واقع حقيقي محصور في فضاء حقيقي مادي لم يخلق بعد...!!؟؟
حين لا يكون هناك اي فضاء حقيقي محيط بهذا الخالق يمكن إدراكه بالحواس ، حين ذلك ، الخيال في ذهن الآلهة يكون حقيقة موضوعية ..
وبالتالي ، مفهوم " كن فيكون " الإسلامي يصبح اكثر سهولة حين نفسره وفق عقيدة الابورجينز هذه ، اذ لا حاجة لتوليد المادة من " عدم " كما يقول الفكر التوحيدي المؤطر بالمنطق السكولائي الارسطي ..
نحن اصلاً نعيش في العدم ..!
فكل العمليات الكونية هي في الحقيقة أوهام كبيرة .. وخيال خلاق في ذهن الخالق ..!!
نحن نعتقد بان الكون حقيقي ليس بوهمي لاننا نمتلك عقول شديدة الارتباط بوهم الخالق .. واقل ارتباطاً باوهامنا الشخصية ..!!
نحن نحسب الاوهام الشخصية اوهاماً لاننا نقارنها بالوهم الاعظم .. حلم الخالق .. والذي نسميه :
العالم الحقيقي
هو حقيقي بالنسبة لنا كموجودات واعية بذاتها ضمن " حلم الإله " ، لكنه في واقعه الموضوعي واقع معلوماتي لا مادي يدعى " الخيال " ..!
(( مع ان هذه المسالة قابلة للاخذ والرد والمناقشة وفيها مواطن ضعف كثيرة اهمها ان الخيال نفسه انعكاس عن " صورة حقيقية " ، فمن اين اتى الخالق بخياله ؟ من العدم ؟ ))
فحين يعقد هذا العقل المقارنة بين وهمه الذاتي ووهم الكون العظيم يصل إلى التسليم بان الوهم الكوني الجماعي واقع حقيقي بمقابل الوهم الفردي , علماً ان مفهوم " وهم " العالم كما هو معروف موجود في عقيدة الفيدا الهندية والذي يسمى بالمايا Maya والذي يعني ان العالم عبارة عن وهم وسمو الروح يكون بمسار تدرجي في التخلص من اوهام متداخلة ..
(3)
حتى اللحظة ، نحن فقط نحاول تقريب صورة مرحلة " الاحلام " التي سبقت خلق العالم لدى آلهة الابورجينز فالعالم انبثق من حلم ، بل هو الحلم نفسه ، حتى إن لدينا في العالم الإسلامي حكمة صوفية تقول :
الناسُ نيام إذا ماتوا .. انتبهوا !
والحقيقة ، ان الفكرة تتحول إلى :
الإنسانية برمتها تحلم بحلم جماعي " مشترك " وزعت فيه الادوار كما لو ان الحياة فيلم سينمائي ثلاثي الابعاد من يبدو فيه ميتاً هو في الحقيقة يتلاشى وراء الكواليس ويتخلى عن دوره فينتبه من نومه العميق في الحلم الجماعي ليصحوا و ( ربما ) يجد نفسه على سرير .. !
او في مكان تحيطه به مخلوقات غريبة .. او ربما بشرٌ مثله ، وبذلك يكون الفرق بين الوهم والحقيقة هو ان احلامنا الفردية اوهام داخل وهم كبير كنا نحسبه حقيقة اسمه الحياة ..!!
بالتالي ، مثل هذا التصور المطروح فعلياً في سلسلة افلام الماتركس matrix الهوليوودية ، ورغم خيالاته الجامحة ، إلا اننا يمكننا عده اكثر التصورات موضوعية .. وفق نموذج الابورجينز !
( وقد يفسر ربما لماذا لم تكتشف البشرية حتى اللحظة ماهية الوعي واين تختزن الذكريات رغم التطور الكبير في التكنولوجيا الرقمية .. ؟ )
يبدو ، استناداً لهذا النموذج النظري الافتراضي ، وكأن " الذاكرة " يتم تسجيلها في " فضاء ادراكي ما بعدي Meta-cognitive space " كانشطة وفعاليات فيزيولوجية تجري في عالم آخر ..
الاسئلة كثيرة تلك التي ستدور حول نتائج هذه الفرضية ومنها :
هل " الصحوة " في ذلك العالم تجعلنا نستفيق بعد الموت في عالم اكثر تطوراً من عالمنا بمستويات الإدراك والابعاد ، بمعنى هل نجد انفسنا في عالم ما قبل الفضاء – زمن ، اي في الفضاء الادراكي السابق لخلق العالم ، ما قبل الانفجار العظيم ..
لنفهم هناك ، بان الفيزياء والانفجار العظيم والجسيمات النووية كلها " اوهام " رقمية تمت بها برمجة " العقل الكوني " المسؤول عن جعل البشرية تشترك بعمومها في ذلك الحلم الجماعي ..؟؟
من الغريب حقاً ، إن هناك اليوم نظرية تؤمن بهذا !
انها نظرية الميكانيك الرقمي التي طورها عدة فيزيائيين عبر العالم ومنهم ستيفن وولفرام ، والتي تقول ان هذا العالم مجرد " معادلات " رياضية رقمية مبرمجة في حاسوب كوني عملاق توحي لنا بالمظهر الحسي انها حقيقية , لكن لا شيء من هذا موجود ..!
الحاسوب العملاق هذا ، هو " ذهن الله " المجرد عن مادة وفق النموذج الابورجينزي ..!!
(4)
في حقيقة الامر ، هذه فرضية .. وهي ترى بان لا جدوى من دراسة " المادة " في الفيزياء والتعمق بها بعيداً لاجل معرفة من اين جئنا وإلى اين نحن سائرون ..
ربما دراسة الفيزياء بصيغتها الحالية مفيدة لقهر الطبيعة وتطوير حياتنا ضمن فضاءها ..
لكن فيما يتعلق بالوعي والروح والملكوت الإلهي ، ربما لن تجدي نفعاً باساليبها وادواتها ابداً ..
قد نكون بحاجة إلى " علم جديد " ما بعد الفيزياء ، لانها في النهاية علاقات رقمية واوضح الادلة عليها هي اننا كلما غصنا عميقاً كلما تعقدت العلاقات الرقمية ما وراء الكمية حتى تكون هي للبرمجة اقرب منها إلى " قوانين ثابتة " ..
الفيزياء ترسم العالم ضمن حدود ، نحن بحاجة ربما إلى علم يتجاوز هذه الحدود يصل بنا إلى امكانية اننا بعد الموت نصحو في " عالمٍ آخر " لا يمكننا تصوره او تخيله ابداً الآن ..!!
لكن ، ومن زاوية نظر ثانية ، ماذا لو كان وعينا وادراكنا يحملان بعضاً من ملامح هذا العالم ؟
مثل المشتركات التي اخبرتنا عنها الديانات ، ماذا لو كانت الاديان رسائل مختلفة من " مخلوقات " مختلفة من ذلك العالم ، او تم تفسيرها تفسيرات مختلفة تتفق وطبيعة الثقافة والواقع الاجتماعي في زمان ومكان محدد لامة من الأمم ..؟؟
هل يمكننا البحث في كل التراث الروحي للجنس البشري ما يمكنه ان يرشدنا إلى حقيقة وماهية ذلك العالم ؟
من هو جبرائيل ( يسمى الروح القدس ) ... ومن هو عزازيل ( الشيطان ) .. ومن هو " الله " ..؟؟
سنحاول الاقتراب من إجابة لهذه الاسئلة في الموضوع القادم ، لكن قبل ان اختم موضوع اليوم احب ان انوه بان فرضية الفضاء الافتراضي الجمعي الذي نحسه حقيقة .. يمكننا تلخيصها بالآتي :
( النوم الجماعي هو واقعنا الحياتي الذي نسميه العالم الحقيقي ، والموت هو صحوة من سبات الحياة الوهمية في عالم اقرب للحقيقة )
هذه الفرضية يمكنها ان تتناقض مع فكرة ملك الموت وكونه يقبض " الارواح " بحربة من نور وحربة من نار ، ومنكر ونكير وعذاب القبر .. إلخ ..
وهي امور تحتاج إلى اعادة تفسير و " تنقية " من الواقع الثقافي البيئي الذي ربما تسربت هذه الصور منه ، قد تكون هذه ايضاً هي :
اوهام جمعية مشتركة .. لان هناك في اعماقنا اصل مشترك موحد للجنس البشري يتمثل في بنية المنظومة العصبية خاصة والجينية عامة إضافة لتاريخ فيه العديد من المشتركات ..
مع ذلك ، هذا لا يمنع من البحث في ماهية " النظام المشترك " الذي تدور حوله الاعتقادات بالعالم الآخر ..
الموضوع القادم سنبحث فيه تحليلاً مفصلاً للملكوت الإلهي حسب اديان التوحيد وإمكانية اعادة تفسيره في ضوء معطيات علمية حديثة مثل نظرية الميكانيك الرقمي لوولفرام ، أو التسليم بوجود " عالم آخر " مختلف كلياً عن عالمنا كونه يمكن ان يتالف من خمسة ابعاد نعيش به بعد الموت ، وسبق وناقشناه في موضوع فيزياء العالم الآخر ، سنعيد تبسيطه ما استطعنا ونناقش في ضوءه امكانية وجود ملكوت كوني يكون المصدر الاساس الذي جاء منه عالمنا المادي المحسوس ..
****
يتبع
#وليد_مهدي (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
البحث عن ملكوت الله (1)
-
من يقود الحرب الامبريالية ؟ آل الصباح وشل الانجلوسكسونية اُن
...
-
الوعي الثقافي الإنساني من ديكارت إلى ما بعد الماركسية
-
الروحانية و العقل Spirituality and Mind
-
الانوثة والروحانية Femininity and spirituality
-
النبوة و العقلانية Prophecies and Rationality
-
ثوار النيتو .. غرهم في - اميركا - الغرور
-
وحيٌ من جهة موسكو ! تجربتي مع الزمن
-
التاسع من اكتوبر
-
متى ستنتهي الرأسمالية ؟
-
العلم ورؤية في مستقبل الحضارة ..
-
القومية والنجم الثقافي الإسلامي الجامع
-
اغتيلَ المهدي .. وصح النوم يا وطن !
-
فيزياء العالم الآخر - ج 2
-
فيزياء العالم الآخر - ج 1
-
ملامح من فيزياء العالم المنطوي Implicate World
-
عالم ما بعد الموت و علم الفيزياء
-
الوجود قبل خلق العالم رؤية لفيزياء جديدة
-
روحانية الهرم وروحانية الكعبة
-
بالماركسيةِ العلميةِ يُعرفُ الرجال !
المزيد.....
-
الجمهوريون يحذرون.. جلسات استماع مات غيتز قد تكون أسوأ من -ج
...
-
روسيا تطلق أول صاروخ باليستي عابر للقارات على أوكرانيا منذ ب
...
-
للمرة السابعة في عام.. ثوران بركان في شبه جزيرة ريكيانيس بآي
...
-
ميقاتي: مصرّون رغم الظروف على إحياء ذكرى الاستقلال
-
الدفاع الروسية تعلن القضاء على 150 عسكريا أوكرانيا في كورسك
...
-
السيسي يوجه رسالة من مقر القيادة الاستراتجية للجيش
-
موسكو تعلن انتهاء موسم الملاحة النهرية لهذا العام
-
هنغاريا تنشر نظام دفاع جوي على الحدود مع أوكرانيا بعد قرار ب
...
-
سوريا .. علماء الآثار يكتشفون أقدم أبجدية في مقبرة قديمة (صو
...
-
إسرائيل.. إصدار لائحة اتهام ضد المتحدث باسم مكتب نتنياهو بتس
...
المزيد.....
-
كتاب رينيه ديكارت، خطاب حول المنهج
/ زهير الخويلدي
-
معالجة القضايا الاجتماعية بواسطة المقاربات العلمية
/ زهير الخويلدي
-
الثقافة تحجب المعنى أومعضلة الترجمة في البلاد العربية الإسلا
...
/ قاسم المحبشي
-
الفلسفة القديمة وفلسفة العصور الوسطى ( الاقطاعية )والفلسفة ا
...
/ غازي الصوراني
-
حقوق الإنسان من سقراط إلى ماركس
/ محمد الهلالي
-
حقوق الإنسان من منظور نقدي
/ محمد الهلالي وخديجة رياضي
-
فلسفات تسائل حياتنا
/ محمد الهلالي
-
المُعاناة، المَعنى، العِناية/ مقالة ضد تبرير الشر
/ ياسين الحاج صالح
-
الحلم جنين الواقع -الجزء التاسع
/ كريمة سلام
-
سيغموند فرويد ، يهودية الأنوار : وفاء - مبهم - و - جوهري -
/ الحسن علاج
المزيد.....
|